تنتسب الصياغة النظرية لمفهوم قصيدة النثر العربية الى افق الاحتكاك بالآخر، الى المثاقفة والترجمة واعادة تشكيل المفاهيم النظرية في ضوء التجارب الشعرية الجديدة التي ارادت التخلص من ثقل الموروث وضغط عمود الشعر العربي، وعلى الرغم من مرور ما يزيد على ثلث قرن على ظهور التجارب الشعرية الأولى لقصيدة النثر العربية على صفحات مجلة " شعر" الا ان التأصيل النظري لهذا الشكل الشعري لا يزال ضعيفا بسبب عدم حسم الجدل حول شعرية قصيدة النثر وامكانية عدها شكلا من اشكال الكتابة الشعرية العربية مثلها مثل قصيدة التفعيلة التي استطاعت انتزاع اعتراف الذائقة الشعرية بعد ان حققت اعترافا نقديا بها. والحقيقة ان قصيدة النثر قد استطاعت خلال العقدين الاخيرين ان تنتزع الاعتراف النقدي بها لكنها لم تستطع اختراق حصن الذائقة الشعرية العربية التي مازالت تفصل فصلا تاما بين حقلي الشعر والنثر مستندة في فصلها هذا الى ضرورة وجود ايقاع وزني تستطيع الاذن التعرف عليه والتمتع بترديد صداه في الشعر واذا لحنا نعثر على كثير من قصائد التفعيلة في مناهج تدريس الادب في المدارس الثانوية ، وكذلك في مناهج تدريس الادب في الجامعات العربية ، فان قصيدة النثر لم تستطع حسب علمي ان تخترق قلعة التعليم الثانوي، وربما قلعة التعليم الجامعي في الكثير من الجامعات العربية . ويشير هذا الغياب الى عدم تحصيل اعتراف الذائقة السائدة وتواصل الشكوك حول امكانية انتساب قصيدة النثر الى عالم الابداع الشعري.
ان تخلص قصيدة النثر من شرط الوزن والموسيقى يقف حائلا دون استقبال الذائقة السائدة لهذا الشكل الشعري وتقبله كواحد من الروافد الجديدة في نهر الشعر العربي. ومع ذلك فقد استطاعت قصيدة النثر، بما انجزه جيل الحمسينات(1) الشعر العربي وما انجزه شعراء جدد ظهروا في السبعينات والثمانينات ، ان تكون لنفسها مجموعات قرائية تتذوقها بصفتها شعرا مثلها مثل قصيدة التفعيلة والقصيدة العمودية . ولكن هذا الانجاز الذي استطاعت قصيدة النثر تحقيقه خلال العقدين الاخيرين لا يعني ان الجدل قد حسم على الصعيد النقدي لصالح التحاقها بكتاب الشعر العربي، ولا يعني ان الذائقة الشعرية السائدة سوف تتخلص من شكوكها قريبا وتعلن قبولها لهذا الشكل الشعري في مناهج دراسة الادب في الجامعة والمدارس الثانوية .
ولعلنا لهذا السبب نجد انفسنا مدفوعين الى التأكيد على مشروعية قصيدة النثر العربية من خلال القاء الضوء على النماذج المشرقة من هذه القصيدة لتوسيع دائرة قرائها، والتأثير على الرأي العام السائد بين طلبة الجامعات والمدارس الثانوية بان هذا اللون من الكتابة لا ينتمي ال حقل الكتابة الشعرية بل هو نثر فني بالاساس . ان منجز قصيدة النثر بحاجة الى تسليط ضوء النقد عليه لتقريبه من الذائقة الشعرية وتوسيع دائرة قرائه .
-1-
لكن قبل الخوض في القراءة النصية لبعض نماذج قصيدة النثر اريد ان اجمل بعض النقاش الذي دار حول قصيدة النثر منطلقا من اطروحة سوزان بيرنار في كتابها "قصيدة النثر من بودلير الى ايامنا"، الصادر عام 1959 والذي أثرت الافكار الواردة فيه تأثيرا عميقا على شعراء قصيدة النثر العربية .
ترى سوزان بيرنار ان "الشعر يرتبط بحكم اصوله بالموسيقى ومن ثم بفكرة الوزن . ولكن ايقاع الجملة وعلاقات النغمات بالمعاني، والقوة المثيرة للكلمات ، والحد الغامض للايحاء الذي يضاف لمحتواها الواضح المحض ، والصور انما هي مستقلة عن الشكل المنظوم شعرا(3) ويتركز مشروع بيرنار في استحداث مفهوم للشعر انطلاقا من نماذج قصيدة النثر الفرنسية نفسها. وما يهمنا في مشروع الناقدة الفرنسية هو ان ظروف الرفض التي مرت بها قصيدة النثر الاوروبية تتكرر في العربية استنادا الى مبدأ الضرورة الوزنية في الشعر. وهي تعلن في العبارة التي اقتبسناها اعلاه ارتباط الشعر بالموسيقى واهمال العناصر الاخرى التي تحقق الشعرية ، من ايقاع الجملة والقوة الايمائية للكلام والصور الشعرية ، لصالح النظم الشعري. ان ما كان يجعل الشعر شعرا هو الوزن والموسيقى الخارجية التي تميزها الاذن . وبسبب هذا التصور الضيق لمفهوم الشعرية اخذ الشعراء في اوروبا وامريكا يعيدون النظر في مبدأ الشعرية نفسه ، واصبح الشاعر "يرفض وسائل الرقي الآلية جدا للشعر الموزون المقفى، ويطلب "مفاتن " اكثر دقة من الكلمات نفسها ومن التوافقات السرية بين المعنى والصوت ، وبين الفكرة والايقاع ، وبين التجربة الشعرية واللغة التي تترجمها". (ص :67) ونتيجة لبحث الشاعر عن مكونات أخرى للشعرية ولدت قصيدة النثر "من تمرد على قوانين علم العروض _واحيانا على القواعد المعتادة للغة"(ص : 20).
نتوصل مع سوزان بيرنار الى ان قصيدة النشر الاوروبية قد احدثت انشقاقا في مفهوم الشعرية . لقد تمردت على الوزن والقافية واعتمدت شروطا أخرى لتحقيق الشعرية . وتتمثل هذه الشروط الجديدة ، التي اراد الشاعر التعويض بها عن شرطي الوزن والقافية ، بالوحدة والمجانية والايجاز ( ص:23-ص24) وفي موضع آخر تجمل بيرنار هذا الشروط واصفة اياها هذه المرة بانها "كلية التأثير والمجانية والكثافة" (س : 151). وتعني بيرنار بالوحدة "الوحدة العضوية". فمهما كانت " القصيدة معقدة وحرة في مظهرها فان عليها ان تكون وحدة واحدة ، وعالما مغلقا، خشية ان تفقد صفتها كقصيدة ". اما بالمجانية فتعني انه "ليس للقصيدة اية غاية بيانية او سردية خارج ذاتهاد" واذا استخدمت القصيدة "عناصر سردية وصفية ، فذلك بشرط تسميتها و"تشغيلها" في مجموع ولاغراض شعرية بحتة ". ان فكرة "اللازمنية " وعدم تطور القصيدة الى هدف بعينه وعدم عرضها سلسلة افعال او افكار، هي المحددات الرئيسية لشعرية قصيدة النثر من وجهة نظر
بيرنار.
ويضاف الى هذه الشروط شرط اساسي هو "الايجاز"، فقصيدة النثر، حسب الناقدة الفرنسية "يجب ان تتلاف الاستطراد في الوعظ الخلقي (…) كما عليها ان تتلافى التفصيلات التفسيرية ". ويمكن رد فكرة "كلية التأثير"، التي تضيفها بيرنار في موضع أخر من كتابها، الى اد غار الن بو الذي طالب في كلامه على الشعر والقصة القصيرة بوحدة الانطباع وكلية التأثير قائلا انه أدلا وجود للقصيدة الطويلة ، والمقصود بالقصيدة الطويلة هو تناقض حاد في المصطلحات ". اما الكثافة ، التي طالبت بها بيرنار شاعر قصيدة النثر، فانها تعني الايجاز والقدرة على الاشعاع ولا نهائية الايحاءات
(ص: 151).
لكن هذه الشروط التي توردها بيرنار معيارا لقصائد النثر تظل شروطا غامضة شديدة النسبية لا تمتلك صرامة المعايير الشكلية الكلاسيكية التي تربط مفهوم الشعر بالوزن والايقاع الموسيقي. ويمكن لبعض الانواع الادبية الاخرى ان تشارك قصيدة النثر في شروط الوحدة العضوية والايجاز واللازمنية (القصة القصيرة التي تقترب في بعض نماذجها من الشعر). ولعل نسبية الشروط التي وضعتها بيرنار هو الذي يدفعها الى الحديث عن الارادة الفوضوية الكامنة في اصل قصيدة النثر مما يفسر ،اتعدد اشكالها"، ويفسر "الصعوبة التي يواجهها المرء في تحديد هويتها ومعالمها".
(ص :17) ثمة قوتان متعاكستان تشدان قصيدة النثر "ميل الى الانتظام ، الى الكمال الشكلي ، وميل الى الحرية والتشوش الفوضوي ايضا". (ص : 79) وتوضيحا للفكرة الجوهرية الاخيرة تقول بيرنار ان "الشروط العضوية لقصيدة النثر مضاعفة : فهي الشكل الشعري لفوضوية محررة في صراع مع القيود الشكلية – وكذلك نتيجة لارادة تنظيم فني يسمح لها ان تتخذ شكلا وتصبح كائنا موضوعا فنيا".(279)
تمدنا سوزان بيرنار من ثم بالمهاد النظري الذي استندت اليه قصيدة النثر الاوروبية ، والامريكية ، وهي ايضا تمدنا بالفكر النظري الذي ارتكز اليه شاعر قصيدة النثر العربية في نهاية الخمسينات والستينات . ونحن نعثر في تنظيرات ادونيس وانسي الحاج في مجلة "شعر" على افكار سوزان
بيرنار معادة الصياغة في مواضع كثيرة من كتابات ادونيس النظرية حول الشعر وقصيدة النثر، وكذلك في مقدمة انسي الحاج ، او بيانه النظري لمجموعته الشعرية "لن " التي مثلت بحسب أدونيس وقوفا مع اللحظة الحرجة والحاسمه (3) ، يتساءل أنسي الحاج في مقدمة "لن "، عن المفارقة التي تولدها تسمية قصيدة النثر بافتراض ان الشعر والنثر نقيضان قائلا: "هل يمكن ان يخرج من النثر قصيدة ؟ (…) طبيعة النثر مرسلة ، واهدافه اخبارية او برهانية . انه ذو هدف زمني، وطبيعة القصيدة شيء ضد. القصيدة عالم مغلق ، مكتف بنفسه ، ذو وحدة كلية التأثير، ولا غاية زمنية للقصيدة ، النثر سرد، والشعر توتر، والقصيدة اقتصاد في جميع وسائل التعبير. النثر يتوجه الى شي ء، يخاطب وكل سلاح خطابي قابل له ، النثر يقيم علاقته بالآخر على جسور من المباشرة ، والتوسع ، والاستطراد، والشرح ، والدوران ، والاجتهاد الواعي – بمعناه العريض – ويلجأ الى كل وسيلة في الكتابة للاقناع . الشعر يترك هذه المشاغل : الوعظ والاخبار والحجة والبرهان ، ليسبق(4).
بهذا التصور الرؤيوي لـ"قصيدة النثر" يحدد انسي الحاج الاساس الذي يميز قصيدة النثر عن النثر المكتوب لغايات الاقناع والبرهان والاخبار عاملا على تقديم تمييز يصلح للتفريق بين الانواع الشعرية والانواع النثرية بعامة دون ان يشير الى الاساس اللغوي للتمييز بين النثر والشعر. لكنه يتسا؟ل في موضع آخر من مقدمته : "هل من المعقول ان نبني على النثر قصيدة ولا نستخدم ادوات النثر؟ الجواب ان قصيدة النثر قد تلجأ الى ادوات النثر من سرد واستطراد ووصف ولكن ، كما تقول سوزان بيرنار، "شرط ان ترفع منها وتجعلها "تعمل " في مجموع ولغايات شعرية ليس الا" وهذا يعني ان السرد والوصف يفقدان في قصيدة النثر غايتهما الزمنية ."(ص : 19) ان تنظير انسي الحاج لقصيدة النثر يظل رؤيوي الطابع قائما على حدس الميزات التي تفرق هذا الشكل الشعري عن غيره ، وهو يقول :"في كل قصيدة نثر تلتقي دفعة فوضوية هدامة ، وقوة تنظيم هندسي ". (ص :17)، ومن "الجمع بين الفوضوية لجهة ، والتنظيم الفني لجهة أخرى ،هن الوحدة بين النقيضين تنفجر ديناميكية قصيدة النثر الخاصة ". (ص : 20) لكن ما هي هذه الدفعة الفوضوية الهدامة ، واية قوة تنظيم هندسي يقصد، وعلى اي اساس يقيم الشاعر تصوراته ؟
من الواضح عبر مقابلة الافكار الواردة في مقدمة " لن " بالافكار الواردة في كتاب سوزان بيرنار "قصيدة النثر من بودلير الى ايامنا" ان انسي يترجم عبارات الناقدة الفرنسية او يعيد صياغتها للتعبير عن رؤيته لمفهوم قصيدة النثر. لا جديد في كلام انسي الحاج عن الاسس النظرية لمفهوم قصيدة النثر سوى الشحنة الحماسية والرغبة في الهدم واعادة بناء مفهوم الشعر والقصيدة في نظرية الانواع الادبية العربية . وعلينا ان نشير هنا الى ان حماسة انسي ورغبته العارمة في كتابة قصيدة جديدة لا تتوافق مع منجزه الشعري. انه يكتب قصائد متمردة تتخلص من الايقاع الوزني، وتخرب قواعد اللغة وتطعم الفصحى بالعامية وتنتهك المواضعات الاخلاقية السائدة ، ولكنها سواء في " لن " او في "الرأس المقطوع " ما استطاعت ان تنجز نصا شعريا كبيرا كما فعل ادونيس مثلا. وما يعد انجازا في شعر انسي الحاج تحقق بعد ذلك بسنوات في مجموعتيه الشعريتين التاليتين : "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" و" ماذا فعلت بالذهب ، ماذا صنعت بالوردة " اللتين ترجعان صدى "نشيد الانشاد" واللغة الانجيلية بعامة .
من رؤية انسي الحدسية نفسها ينطلق ادونيس . وهو في "مقدمة للشعر العربي"، ينفى شرط الوزن عن القصيدة عادا اياه تحديدا خارجيا سطحيا(5) قائلا: ان "طريقة استخدام اللفة مقياس اساسي مباشر في التمييز بين الشعر والنثر. فحيث نحيد باللفة عن طريقتها العادية في التعبيرو الدلالة ، ونضيف الى طاقتها خصائص الاثارة والمفاجأة والدهشة ، يكون ما نكتبه شعرا . والصورة من اهم العناصر في هذا المقياس ، فاينما ظهرت الصورة تظهر معها حالة جديدة وغير عادية من استخدام اللغة ". (ص :112_ 113) لكن ادونيس ، رغم الاساس الاستعمال للغة الذي يستند اليه للتمييز بين الشعر والنثر يعود بين حين وآخر لتقديم تصورات رؤيوية حول قصيدة النثر. فهو يقول ان "في قصيدة النثر (…) موسيقى. لكنها ليست موسيقى الخضوع للايقاعات القديمة . بل هي موسيقى الاستجابة لايقاع تجاربنا وحياتنا الجديدة _ وهو ايقاع يتجدد كل لحظة ."
(ص :116) ويرجع هذا التردد بين تقديم تفسير لفري لمفهوم الشعر، يستند الى الدلالة والصورة وتقديم وتأويلات رؤيوية الطابع ، الى الصراع الذي خاضته قصيدة النثر على صفحات مجلة "شعر" والمجابهة المعقدة التي دخلها هذا الشكل الشعري الجديد.
ان تردد المنظرين لقصيدة النثر في نسبتها الى الجذر الاوروبي – الامريكي وطرح تأويلات خاصة بوجود هذا النوع في الكتابة العربية قد جعل ادونيس يقر بالجذر الاوروبي _ الامريكي ويشير في الوقت نفسه الى التراث الصوفي العربي بوصفه منبعا للاستفهام تستطيع قصيدة النثر العربية ان تجد فيه سندا ومجالا للتعرف والاقتداء والاغتراف من هذه التجربة الشديدة الفنى. ومن هنا يقر ادونيس ان قصيدة النثر هي "نتيجة لتطور تعبيري في الكتابة الادبية الامريكية _ الاوروبية "(6) لكن ذلك لا يعني ان هذه القصيدة بلا جذر عربي، ففي التراث الصوفي يجد الشاعر العربي أدان الشعر لا ينحصر في الوزن ، وان طرق التعبير في هذه الكتابات ، وطرق استخدام اللغة هي جوهريا، شعرية ، وان كانت غير موزونة (7) ويستند ادونيس ، على عكس انسي الحاج ، الى النظرية الشعرية العربية لمجابهة جبهة معارضة قصيدة النثر. ومن ثم يمكن عده اول من حاولوا التأسيس لمشروعية قصيدة النثر. انه يرى ان تحديد شعرية الشعر بالوزن / القافية اخذ يضطرب منذ القرن العاشر الميلادي خصوصا في الدفاع النقدي الذي قام به ابوبكر الصولي انتصارا لشعرية ابي تمام ، وفي آراء عبدا لقاهر الجر جاني. فقد نشأ ميل الى التشكيك في ان يكون الوزن والقافية مقياسا للتمييز بين الشعر والنثر. وتقسيم المعنى عند الجر جاني الى نوعين : تخييلي وعقلي ، دليل بارز. فحيث يكون النص قائما على المعنى الثاني لا يكون شعرا ، وان جاء موزونا مقفى.
(المصدر السابق . ص : 11)
وهكذا نجد ادونيس يزاوج بين تصورين لقصيدة النثر العربية: الاول يرى ان جذرها اوربي ، وانها نشأت بفعل احتكاك الشعراء الطليعين العرب بمنجر بودلير ورامبو وسان كون بيرس ولوثريامون ووالت ويتمان. والثاني يحاول ان يؤسس مشروعية هذه القصيدة بالعودة الى تقعيدات نظرية الشعر العربية باسمى تطوراتها واكثرها تحديدا لهوية الشعر ومفهوم الشعرية في عمل حازم القرطاجني وعبد القاهر الجرجاني . وينبثق من التصور الثاني محاولة للنظر الى النثر الصوفي العربي بوصفه شعرا يمكن قياس قصيدة النثر عليه وعدها تطورا من تطوراته. صحيح ان العامل المحرض لنشوء قصيدة النثر العربية كان المثاقفة والاحتكاك بانجازات قصيدة النثر الاوروبية – الامريكية . وكذلك نظرية قصيدة النثر كما طرحتها سوزان بيرنار، ولكن وجود منجز عربي ، ألحق خطأ بحقل النثر، يشجع الشاعر والناقد العربيين على اعادة النظر في التراث لتوفير سند لشكل شعري يلقى هجوما عنيفا من قبل قلاع التقليد الشعري. ويفتح ادونيس ميدانا ينيا بالامكانيات لتحليل قصيدة النشر العربية بربطه هذه القصيدة بالنثر الصوفي.
اما كمال خير بك فيشير في كتابه المميز عن حركة الحداثة العربية الى ان قصيدة النثر قد اتاحت لاعضاء تجمع "شعر" ان يعاينوا امتيازات التحرر من الوزن والقافية . وهو يرى ان قصيدة النثر استطاعت ويفعل "روح التصميم الحداثي" لحركة " شعر"- ان تنال (…) حق الاقامة في مدينة الشعر: وقد منح هذا الحق للاعمال المشحونة بالصور والعناصر الجمالية – كنتاج محمد الماغوط وادونيس – بنحو اسهل مما منح للاعمال التي تفضل "تقنية الصدمة والتأثير" على الجمالية الشعرية ، كما هي الحال في اعمال توفيق صايغ وجبرا ابراهيم جبرا وانسي الحاج وابراهيم شكر الله وحتى يوسف الخال .(8) وهو لا يغفل عن تقديم اشارة كبيرة الاهمية الى طبيعة تشكيل قصيدة النثر لدى محمد الماغوط . فقد دللت تجربة الماغوط لاعضاء التجمع ان الامتيازات التي عاينوها في نتاجات الشعراء الغربيين "قابلة للتحقق على يد الشاعر العربي، اذا توصل هذا الشاعر الى التعويض عن غياب الوزن والقافية بالتركيز على عناصر جالية أخرى تميز فن الشعر. من هنا نبع هذا التمرد الحاسم على التعريف الكلاسيكي الذي يرى في الوزن والقافية شرطين لا غنى عنهما في الشعر، وكما لو´ كانا العنصرين الاساسيين اللذين يميزانه عن النثر".(ص :93)
بناء على التصور السابق يحاول خير بك ان يحلل قصيدة للماغوط تحليلا ايقاعيا مكتثنفا فيها "كتلا" ايقاعية متناسبة بدرجة أو بأخرى، حسب تعبيره ، وهو يعتقد ان الشاعر يفكر بإرادة واعية في إعطاء نصه مسحة موسيقية منتظمة . (ص 297 _ ص 298) كما انه يشير الى ان ايقاعية القصيدة لا تتحقق بمعزل عن طريقة الالقاء ويلتحق هذا التصور لقصيدة النثر، او لقصيدة الماغوط على الاقل ، بفهم نبري للعروض العربي.(9) ونحن نعلم ان طريقة الالقاء تتحكم في النبر وتعطي الشعر في اللغات النبرية (استنادا الى التشديد على مقاطع بعينها وعدم التشديد على مقاطع اخري) انتظامه الايقاعي.
لقد أحببت أن أورد هذه الملاحظة المهمة التي يعلق بها خير بك على شعر الماغوط بسبب محاولته غير الناجحة للايحاء بوجود ايقاع منتظم في بعض قصائد النثر العربية . لكن ذلك التصور الاشكالي يعيدنا الى نقطة البدء الأولى لانه يحرف التقعيد النظري لقصيدة النثر عن وجهته الصحيحة ، اذ ان شعرية قصيدة النثر تتحقق خارج اطار الانتظام الوزني او الايقاعي. وكمال خيربك نفسه يقرر في موضع آخر من كتابه ان "الإبتعاد الكبير عن المنطق الجمالي التقليدي" (ص : 365) قد كان في اساس شخصية قصيدة النثر وطوحاتها.
في المقابل يحاول لحمال ابو ديب ان يقيم تصورا نسبيا لشعرية الشعر، تصورا يقوم على التعويض عما يغيب من عناصر الشعرية . يقول ابو ديب : "يبدو في تاريخ الشعر العربي بشكل خاص ان طغيان الانتظام الوزني في الشعر يرافقه انحسار للصورة الشعرية عنه . وطما خف طغيان الانتظام الوزني ازداد بروز الصورة الشعرية في النصوص المنتجة .(10) وبناء على ذلك يستنتج ابو ديب ان "نسبة ورود الصورة الشعرية في قصيدة النثر أعلى بمرات من ورودها في شعر التفعيلة ". لكن ابو ديب لا يقرر ان الصورة الشعرية هي العامل المحدد لشعرية قصيدة النثر، بل يجعلها عاملا اساسيا لا يقل اهمية عن الانتظام الوزني في قصيدة التفعيلة . ومع ذلك فان تحديد شعرية قصيدة النثر يندرج في تعريف ابو ديب للشعر وشعرية الشعر في اطار نظريته في الفجوة – مسافة التوتر(11)
حيث يرى ان قصيدة النثر تحلق فجوة – مسافة توتر بين عناصرها المختلفة مؤسسه بذلك شعريتها.(12)
في السياق نفسه يبين صلاح فضل ان قصيدة النثر تعتمد "الجمع بين الاجراءات المتناقضة ؟ اي انها تعتمد اساسا على فكرة التضاد، وتقوم على قانون التعويض الشعري(13) وسبق لنا ان بينا وجهة نظر كمال ابو ديب حول فكرة التعويض البنيوي حيث تزداد نسبة ورودالصورة الشعرية في غياب الايقاع الوزني.
ان تركيز كل من كمال ابو ديب وصلاح فضل على قدرة الصورة الشعرية على تعويض غياب الايقاع الوزني، والقافية كذلك ، يجعل من الصورة المكون الرئيسي في شعرية قصيدة النثر. لكن الصور الشعرية مبثوثة في الرواية والقصة القصيرة والمقالة ، ولربما في السينما والمسرح ، كما ان وجود الصورة الشعرية في نص بعينه لا يجعل من ذلك النص نصا شعريا ، لا يحوله الى قصيدة .
ولعل هذه الاشكالية المعقدة التي تضعنا قصيدة النثر بإزائها هي التي تجعل حاتم المكر، في ملاحظاته حول قصيدة النثر ، يشدد على علاقة القاريء بالنص الشعري قائلا ان قصيدة النثر هي قصيدة قراءة تخاطب عبر الجسد الورقي عيني القارىء لا اذنيه : وهي تخاطب معرفته الكتابية لا الشفافية ، وهذا يرتب مزايد كثيرة منها استثمار الورقة للتوصيل دون الالحاح على الوسائل الشفافية بقافية الوزن او الصيغ او القوالب اللغوية الشفافية . لذا فهي تستغل البياض مثلا لتوصيل الاحساس بالزمن ، وعلامات الترقيم لفرض توصيل الانفعال ، وهذا ما لا ين لنص أخر ان يستثمره وهو واقع تحت هيمنة الوزن والقافية واللغة الشعرية النمطية (14).
ان قصيدة النثر اذن مدفوعة باتجاه استثمار كل ما يعوضها عن العناصر السماعية التي تتوافر عليها قصيدة الوزن ، والالتجاء الى تكثيف توليد الصور والاهتمام بالشكل الطباعي للقصيدة واعتماد لفة المفارقة ، والاعتماد على ما تسميه سوزان بيرنار ،اجمالية الحد الادنى"(15). ولقد رأينا في استعراضنا السابق كيف ان التخلي عن الوزن ، والايقاع الوزني بعامة ، يخلق بلبلة في نظرية الشعر العربية ويلجىء الباحثين في شعرية قصيدة النثر الى البحث عن معايير أخرى غير الوزن للوقوف على سر قصيدة النثر الداخلي . وقد اشارت سوزان بيرنار في كتابها المرجعي ، الذي عرضنا لبعض افكاره حول قصيدة النثر، الى تأثير الترجمات في نشوء قصيدة النثر الفرنسية ، اذ اثبتت الترجمة ان نقل الشعر بلغة النثر لا يجعل القاريء يخرج الشعر المترجم من دائرة النوع الشعري. ان ما يخسره الشعر في الترجمة يبقي على عناصر أخرى تجعلنا نقرأ القصيدة المترجمة بوصفها شعرا. ولا يتصل ذلك بمعرفتنا ان النص المترجم كان موزونا في الاصل ، او بمفهوم القصد والنية كذلك ، بل انه يعود الى ما يظل متوافرا في القصيدة من عناصر لم تخسرها في الترجمة . وما ينطبق على قصيدة النثر الفرنسية ينطبق على قصيدة النثر العربية التي اشرنا من قبل الى ان الترجمة كانت في اساس ظهورها في الشعر العربي، اذ بتأثير الترجمات ، وكذلك عبر الاحتكاك المباشر بقصائد النثر الاوروبية والامريكية ، ومن خلال الاطلاع على اطروحة سوزان بيرنار د،قصيدة النثر من بودلير الى أيامنا"، اكتسبت قصيدة النثر العربية شكلها.
ثمة عناصر تجمل القارىء يميز شعرية قصيدة النثر بعيدا عن الوزن وايقاعاته . واذا كان العديد من القراء العرب لا يستطيعون ان يقيموا جسورا من الفهم مع هذا الشكل الجديد من اشكال الكتابة الشعرية العربية فان ذلك يعود الى رسوخ الذائقة التقليدية وثقل الموروث الشعري. وسوف نتبين في قراءتنا لبعض النماذج التي انتجها بعض شعراء السبعينات والعقدين اللاحقين كيف تؤسس قصيدة النشر شعريتها.
-2-
يعمل عباس بيضون في شعره على ابتداع صور تغلب عليها الغرابة رغم انه يستقي المادة التي تتكون منها صوره من الحياة اليومية والاشياء الاعتيادية ، مما يجعل التواصل مع عالمه الشعري صعبا على القارىء العادي الذي تربت ذائقته الشعرية على التعبير الواضح والصور التي يسهل عليه اسنادها الى مراجعها الواقعية . وسنختار من شعر عباس بيضون ما يسهل علينا تأويله والوقوف على دلالاته . في قصيدة "الضوء"(16) : ثمة اشتغال على صورة الضوء الذي يرفو الكون ، يخيطا ويفضح في الوقت نفسه كوامنه .
الضوء الذي تكرر الاف المرات
كغرزة في ثوب
والذي ينير داخل الاحذية والممرات
كما ينير عيون النساء
الضوء الذي ينكسر مع حركة اليد، ويلف
مع النول ،ويعوم
على المجلى
والذي يدور في الصيوان ،ويرتفع
على عمود الملابس،وينتقل
على درجات الرفوف
كانه يرفو زوايا البيت
بالا للانية جلستها المطبخية
للاطار الفضي سهوه المعدني
للمسموح المعلقة عظام قصة
انه يدخل من ثقوب القبعة القديمة
بدون ان يزيح الظل الرمادي
ويدخل الى المخدع
في هيئة النوم
يذكرنا توزيع الأسطر الشعرية السابقة بما أشار اليه حاتم المكر من اعتماد قصيدة النثر على توزيع أسطرها واستثمارها البياض على الصفحة لتوصيل الاحساس بالزمن ، أو الحركة . ان عباس بيضون يوزع الكلام في قصيدته بحيث يستطيع القاريء متابعة حركة الضوء في المكان .الضوء يدور في المكان كنول كإبرة تخيط الموجودات الى بعضها بعضا ويعطي للموجودات شكلها اذ يسلط نوره عليها. ان حضور الضوء متكرر، أبدي، وحركته تخترق كل شيء وتفضح الكوامن والمدهش في صورة الضوء هو ربطه بالابرة والمغزل ، تعبيرا عن فعل الرفو أو الخياطة أو وصل الاشياء ببعضها، ثمة في هذه الاستعارة البعيدة بعدان دلاليان : الضوء الذي يشبه الخيط المتكرر (كغرزة في ثوب يرفو زوايا البيت ) وهي صورة تدل على الاستمرار والتواصل والضوء الذي يخترق ويفضح وينير ما هو مظلم ومخبأ ومتوار عن الأنظار ويتكامل هذان البعدان الدلاليان في صفة الضوء الذي يعطي للأشياء شكلها اذ ينيرها (باذلا للاناء المعدني جلسته المطبخية )، وهيئتها اذ يعوم فوقها. ان صورة الضوء في هذه القصيدة لا تستنفد رغم كثافة التعبير والايجاز ووحدة الانطباع والتأثير التي تقع عليها ولا يقلل من عمق هذه الصورة غموضها والظلال الدلالية التي تولدها، ولا هدفيتها، ان الشاعر يتأمل البعد الوجودي للضوء الذي يعوم فوق الكائنات ويصنع للملابس حكاية ويفضح ما يخفي مبقيا على الظلال الرمادية التي تلقي بثقلها على الأشياء. ويمكن للقاريء أن يوسع هذه الأبعاد الدلالية ويلقي المزيد من "الضوء" عليها في إشارة دالة على الأعماق التي لا تستنفد لمثل هذه الصورة ، وعلى الفيض الدلالي لعلاقتها الداخلية . وفي الحفر على هذه العلاقات يستطيع القاريء أن يدرك العمق البنيوي لقصيدة النثر في بعض نماذجها الفنية الناضجة .
ان الصورة ، كما لا حظنا هي المكون الرئيسي لشعرية القصيدة لكن الشاعر لا يكتفي بتوسيع الأبعاد الدلالية للصورة وتعميقها وخلق امتدادات لها فيما يتولد من صور وظلال للصور، بل إنه يستعمل توزيع الأسطر على بياض الصفحة كتقنية اضافية تعمق دلالة القصيدة وتجعل القاريء يتواصل مع القصيدة ككيان نابض يرده بالعين مثلما يدركه بالفكر.
سأنتقل الآن الى نموذج آخر من نماذج قصيدة النثر العربية الجديدة اخترته من مجموعة سركون بولص الأخيرة . "تحولات الرجل العادي –(17) "تعتمد المفارقة لاظهار التناقض والتشديد على حالة الانفصام التي يعيشها المتكلم في القصيدة .
أنا في النهار رجل عادي
يؤدي واجباته العادية دون أن يشتكي
كأي خروف في القطيع لكنني في الليل
نسر يعتلي الهضبة
وفريستي ترتاح تحت مجالبي
يصنع سركون بولص من الكلام التقريري، من الوصف البارد لحياة رجل يشبه نفسه بأنه خروف في القطيع ، قصيدة لكن القصيدة لا تكتمل الا في المفارقة ، ان الوصف هنا يوظف لغايات شعرية حيث يولد التناقض بين الحالتين الموصوفتين العادي عنصر المفارقة الذي تقوم عليه شعرية النص ونحن نلاحظ في الكثير من نماذج قصيدة النثر ان شعريتها تستند بصورة أساسية الى المفارقة الى ادراكنا ما يجهله المتكلم في قصيدة سركون بولص "تحولات الرجل العادي".
في قصيدة قصيرة أخرى من المجموعات نفسها "ضياء" (ص : 82) تكمن شعرية النص في كثافة الصور الشعرية والاستعارات في الايجاز الشديد في التعبير عن فكرة الماضي المخاتل ، المختفي وراء الحجب ، والاشارة في الوقت نفسه الى قدرة الراوي في القصيدة على ادراك ما يخفيه الماضي عنه وراء تلك الحجب .
تخفي ضياءك عني
وراء ستائر لا تحصى أيها الماضي
لكنني أعرف أين دفنت اللؤلؤة وكيف بنيت من
حولها
المدينة
ان القصيدة السابقة تعد مثالا شائعا لما يسمى قصيدة التوقيعات ، القصيدة شديدة القصر التي تقول بكلماتها القليلة الكثير، وتفصح في سطورها التي لا تتجاوز في عددها أصابع اليد الواحدة عن رؤية شديدة الكثافة للوجود والتجربة ويقترب هذا الشكل من أشكال الكتابة الشعرية من الهايكو الياباني الذي يتألف من ثلاثة سطور شعرية تعبر عن فكرة واحدة أو حالة شعورية محددة ، أو أنها تورد وحيدة مفردة وهو شكل يناسب قصيدة النثر بسبب كثافته وايجازه ووحدة الانطباع والتأثير التي يولدها.
ويمكن العثور على مثال آخر يستفيد من هذا الشكل في شعر سيف الرحبي في قصيدة بعنوان "شبه – (18) حيث يختم الشاعر السطور الشعرية الأربعة بضربة مفاجئة تترك انطباعا حادا غير متوقع لدى القاريء. وهي كما يتضح من سريها الآخيرين تشير في مرجعيتها الى قصة "أهل الكهف " للدلالة على العيش في قرون سالفة وعدم الانتماء الى القرن العشرين .
لم نعد نشبه هذا البحر
ولا هذه الارض
يبدو أن قرونا مرت بزواحفها
ونحن نيام
يكتب صلاح فائق بالطريقة نفسها مقاطع شديدة القصر تنتظم في نص طويل يضع له عنوانا عاما يفسر بؤرة انبثاق النص أو الحالة العامة التي حرضت الشاعر على الكتابة . ونحن نعثر على هذا النمط من أنماط قصيدة النثر في معظم مجموعاته الشعرية . من نص بعنوان "ومضات –(19) أمثل بالمقطع التالي :
لسببواحد أكتب
أن أروي لحيواناتي
أساطير هذا الكوكب المدنس (ص 27)
تمثل أسطورة الثلاثة السابقة بناء قصيدة الهايكو بصورة نموذجية بغض النظر عن كون الشاعر قصد ,الى ذلك أم لا يقصد فالمهم في هذا السياق هو أن السطور الثلاثة تنقل تجربة شعورية محددة وتعبر بأقل الكلمات عن هذه التجربة الشورية لكاتب يائس من هذا العالم الأرضي المدنس ويضفي الغموض الدلالي لهذه السطور الشعرية شحنة دافقة من الايحاءات والظلال التي توسع بؤرة النص وتعمق أبعاده ومعانيه .
وفي نص آخر بعنوان "لآليء" توفر السطور الأربعة التالية صورة التقطتها عين كاميرا:
في الأعالي صقر حائر
فاردا جناحية يحدث في الواديان
لا شجرة لا بيت لا فريسة لا شيء
سوى ظل واسع لجناحين يتحركان(ص71)
هذه الصورة الثابتة رغم الكلام على جناحين يتحركان ذات ظلال دلالية شديدة الايحاء. إلا انها تعبير عن الوحدة في الأعالي عن التجربة العبثية التي يكابدها الانسان (الكاتب ؟ الشاعر؟ الفنان ) ومحن الشعور بالضياع والحيرة في صحراء العيش المقفرة ان الصورة التي ترسمها السطور الأربعة تعبير شديد الدلالة على تمكن عدد من شعراء قصيدة النثر من تحقيق أكبر قدر من الكثافة والاختزال في شعرهم والتخلي عن ترهل بنية القصيدة وتوليد الصور المجانية للتفطية على فقر الرؤية ونضوب الخيال وافتقاد القدرة هل تنظيم القصيدة واعطائها شكلا متماسكا.
هناك نموذج آخر من نماذج الاعتماد على المفارقة ، حيث يقود الشاعر الى مفارقة الموقف معصوب العينين لتسطع في الضربة النهائية للقصيدة حقيقة المشهد المغايرة لما أوحت به السطور الشعرية السابقة على السطر الختامي للقصيدة . ويمكن لنا اذن نمثل على ذلك بقصيدة "الحانكه – (20)"لنوري الجراح التي تصور من زاوية نظر المتكلم في القصيدة مشهد الصاعدين والنازلين الى الحافلة بينما يظل المتكلم ملازما مقعده منتظرا نفاذ الضوء من كوة تنفتح فيما تحوكه الحائكة العمياء.
الجميع ينزل ويذهب
ينزل ويذهب
حتى الذين صعدوا
نزلوا وذهبوا
الا أنا
لا أنزل ولاأذهب
لا أصعد ولاأنزل
باق
على المقد
بأطراف تكسرات من الجرجة
أتأمل الحائكة العمياء
مستغرقة
الى أن ينفذ النور من جدار حياكتها.
تتوفر القصيدة السابقة على صورتين متقابلتين : صورة الراكب الذي يلازم مقعده في الحافلة يصعد الصاعدون وينزل النازلون وهو باق لا يتزحزح من مكانه وصورة الحائكتة العمياء التي ينتظرالراكب أن يتفذ النور من خلال ما تحوكه .وتعكس الصوتان أبدية الانتظار وعبثيتنه في تعبير مستحيل عن وصول غودو الذي لا يصل ان نوري الجراح يكتب قصيدة تعتمد تفاصيل الحياة اليومية ولكنه يبني من هذه التفاصيل صيغة الحلم أو الكابوس في زمن الانتظار الطويل وتيبس الأطراف على مقاعد الحافلات التي تروح وتجيء، وتروح وتجيء في المدن الغريبة .
كل التجارب في هذا العالم يمكن التعبير عنها في قصيدة النثر، وكل أنواع الصور معروضة في قصائد النمر الجديدة من الصور السوريالية سديدة الغموض ، كما رأينا في عمل صلاح فائق ، الى الاستعارات الحسية الكميرة التي يسهل على القاريء التعرف على مرجعياتها الواقعية وتأويلها في قصيدة "فجأة عميقا عارما "(21) يقوم وليد خازندار بوصف المنظر الداخلي لغرفة وموجوداتها الكراسي والكنزة المفرودة لتجف على رخا النافذة ونبات البنفسج المحتمي بالجدار ، والغيم البادي من خلال زجاج النافذة ، كل شيء يوحي بغياب المرأة عن غرفتها ولكن سطور القصيدة الاخيرة تصور فجأة حضور المرأة في الممر وغيابها العميق العارم الذي يرن وقعا داخل الانا التي تقوم بوصف المشهد.
غرفتها الفارغة
كرسي أسود جلد الى اليمين
كرسي أسود جلد الى اليسار
كنزة سوداء خضراء
ملومة
مستهامة
على رخام النافذة
لا شيء:غرفتها الفارغة
لا رياح
لانأمة
البنفسج لائذ بالجدار،
والغيم يوغل خلف الزجاج في الزرقة الغامضة
فجأة…
وقع خفيض ناعم في الممر
فجأة…
عميقا عارما
يملأ الغرفة
غيابها.
ان هذا النوع من القصائد يستند في شعريته على المفارقة ولكنه يعمل على تعميق المفارقة من خلال التشديد على حسية المشهد وايهام القاريء بواقعية ما يصفه لكي تكون لحظة سطوع المفارقة شديدة الوقع على القاريء. بدون هذه التقنيات يمكن أن تسقط قصيدة النثر في لأ الرتابة والنثريته وتفقد تماسكا ووحدتها الداخلية وقوة الانطباع الذي يراد منها أن تحدثه في نفس القاريء وقد استطاع شعراء قصيدة النثر في العقدين الاخيرين أن يخلصوا قصيدتهم من الذهنية البارزة التيكانت تسيطر في قصائد توفيق صايغ وجبرا ابراهيم جبرا وانسي الحاج وذلك من خلال تمكنهم من استعمال أسلوب "تقنية الصدمة والتأثير" دون لفت انتباه القاريء الى البعد الذهني لهذه التقنية.
ثمة تنويعات أخرى في اطار قصيدة النثر. ان استخدام المادة اليومية وتفاصيل العيش يأخذ منحى فانتازيا احيانا كابوسيا احيانا اخرى. ونحن نعثر في شعر امجد ناصر على قصائد تجدل المادة اليومية بالغريب والفانتازي في قصيدة "قمصان – (22) " يبدو المشهد الشعري وكأنه تأملات حول القمصان تداعيات حول القمصان ووظائفها لكن الحديث عن القمصان يبدو في النهاية مجرد وسيلة للتعبير عن خسارات الكائن وهزائمه، وسيلة لتفريغ الاحباطات وتعاسات الليل التي تسفر عن وجهها في الصباحات الطالقة على الخاسرين .
في كل صباح
ننهض من احلامنا المغتالة
وعلى افواهنا أحماض الليالي،
وثمة في الشفتين
رغبات مهزومة ، واخر الكلام
نهرع الى الأدراج والمشاجب،
وبحركات ملولة
نبعثر الثياب اليابسة
بحثا عن قميص مناسب
ان الشاعر يعمل في السطور الأخيرة للقصيدة على ادخال المشهد الشعري في بؤرة الغريب والفانتازي في عملية تحويل للطبيعة وتبادل لوظائف اللابس والملبوس بمعنى أنسنة الأشياء الجامدة لخلق احساس من الألفة المنتقدة في الحياة اليومية التي ترد الاشارة اليها من خلال القمصان .
سأختم هذه الاشارات الى نماذج من قصائد النثر التي يكتبها جيل السبعينات والثمانينات في الشعر العربي بقصيدة لزكريا محمد بعنوان "الوطواط –
(23)" وهي تنتمي الى نوع القصائد التي تستخدم الوصف والسرد وتوظفهما لأحداث صدمة في وعي القاريء من خلال ما يحدث في السطر الأخير من القصيدة :
بعد أن يغفو الاطفال
وترقد الزوجة
ويثبت لي أذنا فأر
وتصير يداي جناحين لحميين
واخرج من النافذة
وطواطا ضخما يحلق فوق البيوت
فوق السيل
فوق النهر المحروق
ألوك خلاص مواليد العتمة والخوف
أطفيء الشمعة
وأنكش الكابوس
صاخا في هذا الليل
طيرا بلا ريش ولامنقار
ان القصيدة السابقة مثال واضح على قصائد تعتمد الغريب والفانتازي للتعبير عن الكابوس وزكريا محمد، على عكس أمجد ناصر يمسخ الكائنات يحول الكائن الانساني الى وطواط . ان مراحل التحول ، أو المسخ تندرج من التحاق المتكلم بالكائنات الأرضية الزاحفة الى طيور الظلام تعبيرا عن انفجار المكبوت والصورة الشيطانية للكائن ، ونحن نعثر في القصيدة على ما يميط اللثام عن هذه البعد الشيطاني في عملية المسخ (ألوك خلاص مواليد العتمة والخوف ) وشعرية القصيدة 0ترتكز بالأساس الى هذا البعد الخفي في عالمها الداخلي الى صور التحول وكثافة الصور المعبرة عن هذا التحول ، الى الادهاش والغرابة ، الى الضربة النهائية في نص يجسد قمة اليأس والعجز عن مدافعة التحول الى مسخ يطوف في الظلام فوق البيوت والأنهار المحروقة يلوك لحم العتمة .
-3-
من النماذج السابقة لقصيدة النثر، تلك التي عرضنا لها بالتحليل والاشارة نتبين كيف أن بالامكان التحقق من شعرية قصيدة النثر الجديدة استنادا الى بعض النظريات التي لخصناها في هذه المقالة . ان معايير الايجاز والمجانية واللازمنية والكثافة والوحدة توفر أدوات تمكننا من مقاربة قصائد النثر. لكن تلك المعايير لا تكفي وحدها لفهم كيفية بناء قصيدة النثر شعريتها، والحل في رأيي يكمن في استخلاص معايير الشعرية التي تتوافر عليها القصائد من قراءتها والتعرف على رؤيتها للعالم والوقوع على طريقة بناشها موادها.
وفي نهاية هذه المقالة أريد أن أشير أن اختياري لقصائد قصيرة لتحليلها لا يعني أنها هي النموذج الوحيد الشائع في قصيدة النثر العربية . ثمة عدد كبير من النصوص اللافتة التي تعتمد النمو والتركيب والامتداد، ولكن التعرض لها في بحث قصير نسبيا يخل بصورتها ويلجئنا الى الاجتزاء واعتماد أسلوب الطمس واشاحة البصر عن مسائل أساسية لا يمكن تفصيل الحديث حولها بسبب السرعة والرغبة في الوصول الى نتائج بحث يمزح بين أسلوب العرض النظري والقراءة التطبيقية التي تلتقط المكونات الفعلية والمفاصل الأساسية في النصوص الشعرية للبرهنة في النهاية على الحضور العميق لعناصر الشعرية في قصيدة النثر.
الهوامش:
1- ويمثل المنجز الرئيسي لشعراء هذه المرحلة بقصائد النثر التي كتبها محمد الماغوط وادونيس.
2- سوزان بيرنار قصيدة النثر: من بودلير الى أيامنا ترجمة: د. زهير مجيد مغامس… دار المأمون ، بغداد،1993،ص:16.
3- "أن نعلم، نصرح. في مجموعتك صراخ يفتح باب الرعب" "يسرطن العافية". صحيح أن الصراخ قلما يكون وسيلة الشعر، لكنه في هذه اللحظة من تاريخنا قدر نفسي يحكمنا.ومن يوقظ النيام المخدرين قد لا يكفيه الصراخ وحده . هكذا تقربنا مجموعتك الشعرية من الوقوف وجها لوجه ، مع اللحظة الحرجة أو قل الحاسمة ، في تاريخنا الشعري. وبهذه المجموعة اذن ، يزداد اتجاهنا صوب ما يجب أن نتجه اليه ، في الشعر والفكر. "من رسالة الى انسي الحاج تعليقا على صدور ديوانه " لن " . انظر أدونيس ، زمن الشعر، دار العودة بيروت ، الطبعة الثانية ، 1978ص 226
4- انسي الحاج مقدمة ديوانه " لن " ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتبرزيه ، بيروت ، الطبعة الثانية ، 1983، ص 9.
5 – أدونيس مقدمة للشعر العربي..، دار العودة بيروت الطبعة الرابعة 1983. ص 112.
6- أدونيس فاتحة لنهايات القرن .. دار العودة بيروت 1980 ، ص 316.
7- أدونيس سياسة الشعر، دار الآداب بيروت 1985، ص 76.
8- كمال خير بك حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر: دراسة حول الاطار الاجتماعي الثقافي للاتجاهات والبنى الأدبية .. المشرق للطباعة والنشر بيروت 1982، ص 355.
9- لا يشدد كمال خير بك على فبرية الشعر العربي حيث أن الأساس العروقي لايقاع البيت في القصيدة العربية شيء مؤكد لديه ولذلك فهو يستنتج أن دور النبر تعويضي غالبا ويقتصر على التقوية .
انظر تحليله لأبيات من الشعر العربي ص 409- 428، وكذلك ملاحظته ص 331 في "حركة الحداثة ".
10- كمال أبو ديب في الشعرية ..مؤسسة الأبحاث العربية بيروت 1987، ص 91.
11- يعرف أبو ديب مفهوم الفجوة _ مسافة التوتر بأنه "الفضاء الذي ينشأ من اقحام مكونات للوجود، أو للغة أو لأي عناصر تنتمي الى ما يسميه ياكوبسون "نظام الترميز" في سياق تقوم فيه بينها علاقات ذات بعدين متميزين ، فهي 1- علاقات تقدم باعتبارها طبيعة نابهة من الخصائص والوظائف العادية للمكونات المذكورة ومنظمة في بنية لغوية تمتلك صفة الطبيعية والالفة لكنها 2- علاقات تصكك خصيمة اللاتجانس أو اللاطبيعية : اي أن العلاقات هي تحديدا لا متجانسة لكنها في السياق الذي تقدم فيه تتطوح في صيغة المتجانس " المصدر السابق ص 26
12- انظر تحليل أبو ديب قصيدة أدونيس "فارس الكلمات الغريبة " المصدر السابق ص – 116-122.
13- د.صلاح تضل أساليب الشعريتة المعاصرة .. دار الآداب بيروت 1995، ص 219.
14- حاتم المكر ، ما لا تؤديه الصفة المقتربات اللسانية والأسلوبية والشعرية .. دار كتابات بيروت 1993، ص 93.
15- تقول سوزان بيرنار عن "جمالية الحد الأدنى" انها "سوف تكون (…) القاعدة في قصيدة النثر وفي قصيدة الشعر وسوف يعيد الشعراء تركيب عالم غريب مختلف سنشعر فيه بالغربة كما لو كنا مسافرين على كوكب آخر باستخدام المواد الاعتيادية جدا والحقائق اليومية وكلمات الايام العادية والأشياء المبتذلة . على الشعر الا يتدفق من جمال التعبير قدر تدفقه من صيغة الرؤية "قصيدة النثر…، ص 218_ 219.
تضيء العبارة السابقة شديدة النفاذ في رأيي معظم ما يكتب الآن من قصائد نثر في العربية . فرؤية الشاعر هي التي تضفي الوحدة على ما يكتبه من شعر، وليس الوزن أو الايقاع الداخلي الذي حاول بعض النقاد أن يستكشفوه في قصيدة النثر، ان التنوع الهائل في عالم قصيدة النثر يجعل اكتشاف القوانين الداخلية لكل قصيدة عملا الزاميا لأن لكل قصيدة شكها وانتظامها الداخلي .
16- عباس بيضون الوقت بجرعات كبيرة ..دارالفارابي بيروت 1982ص 13.
17- سركون بولص ، حامل الفانوس في ليل الذئاب .. منشورات الجمل كولونيا – 1996 ص67.
18- سيف الرحبي، جبال ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت 1996، ص
19 – صلاح فائق أعوام .. منشورات الجمل كولونيا 1993 ص 16 .
20- نوري الجراح مجاراة الصوت ورجل تذكاري. . المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت الطبعة الثانية 1995 ص 3 2.
ا 2- وليدخازندار أفعال مضارعة . .دار ابن رشد بيروت 1986 ص 41.
22- أمجد ناصر أثر العابر مختارات شعرية . . دار شرقيات القاهرة 1995 ص 51 .
23 – زكريا محمد الجواد يجتاز أسكدار. . دار السراة لندن 1994 ص 48.
فخري صالح (ناقد من الاردن)