“الحياة حفلٌ راقص مليء بالصخب، ولكنك لا تستطيع أن تُنهيه متى تشاء، إنّك لا تملكُ الحق في ذلك لأنّك لست مدعوا أصلا”، حول هذه الكلمات الخطيرة تدور أحداث رواية “القناص” للكاتب المقدوني بلايز مينيفسكي، ترجمة ريم داوود، والصادرة عن العربي للنشر والتوزيع، قصة حياة كاملة، غزيرة الأحداث، مُتداخلة ومتشابكة، تنجزُ أحداثها في تسع ثوانٍ، هذا الزمن الذي يحتاجه قنَّاص جيد لكي يُحدد هدفه بدقة، ويصوِّب بندقيته، ثم يُطلق رصاصته القاتلة.
بطلا هذه الرواية هما كونستانتين، أديب شاب ترك عالم الأدب والكتابة وانطلق إلى جبهة الموت ليدفن فيها آلامه وحياته الماضية، ودورنيتا قنَّاصة جميلة، حياتها لم تكن مثالية وكان أول من قتلته هو زوجها. كل تلك الأحداث وتلك العبثية لا يربط بينها إلا تلك الوقفة الصامدة والتي تبدو لنا أبدية لهذين الخصمين اللذين ينتميان لجماعتين، لا يُسمي الكاتب انتماءاتهما السياسية، ولكن يمكن للقارئ أن يُدرك شيئا من التفاصيل الصغيرة عنها، فهو لا يفصح لنا بأكثر من جمل من هذا القبيل: “جماعتي وجماعتك”.
كل تلك الأحداث العاصفة تجتهدُ لتصنع تاريخا لـ كونستانتين، الرجل المدجج بالسلاح، كما تحاولُ الإجابة عن هذا السؤال: “ما الذي يُحول الكاتب الموهوب إلى قاتل!”، وأمام غزارة ذكريات كونستانتين وتسارعها يواجهنا سؤال آخر: “ما الذي يؤخر الموت، لماذا لا يُطلق هو أو هي النار وننتهي”. وفي مكان آخر من الرواية تُجيب دورنيتا: “ربما لأنّ من حق كل شخص أن يمتلك الحق في معرفة أنّه موشك على الموت”. ولهذا يكرُّ كونستانتين شريط حياته في تسع ثوانٍ، تماما كما تذهب بعض معتقداتنا إلى أنّ أحدنا يستعيد ذكرياته كاملة في لحظة الموت.
ورغم أنّ قصة كونستانتين أخذت مُتسعا هائلا ليحكي تاريخ حياته المُتشابك إلا أنّ دورنيتا وعبر صفحات قليلة للغاية حسمت أمورا شتى: “أنا لستُ ما تصورته أنت عني”. كانت دورنيتا تنفي كل تصورات كونستانتين الجاهزة عنها لتكتب قصتها الخاصة بها.
إنها قصة كونستانتين، الذي انتحر أبواه وذهبا مع ملاكهما الصغير “أينجل”، ابنهما الذي توفي وهو في الخامسة من عمره بعد أن انتظرا طويلا ميلاده، فلم يحتملا العيش بدونه، بينما احتملا ترك كونستانتين بمفرده في الحياة برفقة جده وجدته. لاحقا يكتشف أنهما ليسا والداه أصلا. لقد زرع ذلك فيه رغبات انتقامية، “تملكتني رغبة بتدمير الآخرين، كان انتحار أقرب الناس إليّ كافيا لينتزع من روحي أي استعداد للأسى أو البهجة”. لقد كان ينوي أن يكتب شيئا ما عن الحب، ولكن الرواية وخلال كتابتها بدأت تتحول إلى عمل عن الأثر، أو الندبة التي يحملها في قلبه.
لقد أراد كونستانتين أن يُصبح مشهورا لأنّ المشاهير يفقدون المبالاة بالناس ويتعاملون معهم على أنّهم نملٌ حول أحذيتهم، ولقد اصبح كاتبا مشهورا بسبب روايته “العلامة”، ثم جاء ناقد وقال: “إنّها خليط من عدة أطباق شهية، وضعها هذا الشخص في صحن كبير واحد، دون أن يعي أنّها لن تصنع بالضرورة وجبة لذيذة”. وهكذا فشلت الرواية بعد نجاحها الصاخب، وفي نفس لحظة انهياره تلك يذهب إلى الحرب لينضم إلى الجيش. وعندما تساءل: “لماذا نحتاج إلى الحروب؟”، قال القائد: “لأنّها الشيء الوحيد القادر على توحيدنا. كل أمر عداها يؤدي إلى الفرقة. ولذا لا نستطيع العيش دون حروب”.
كان يفكر بالانتحار ولكن “هوت هيد هوك” حسم الأمر ووضع بندقية بين يديه، ليصبح لموته معنى. أو ربما لأن “هوت هيد هوك” قال: “لا خير في كتاباتك إن لم تمر بتجارب حياتية قويه، ما جدوى الكتابة الخيالية!، فالعمل الأدبي لن يُخلد اسمك إلا بعد أن تمر بأعظم تحدٍ في حياتك، بعد أن تضطر لمواجهة الموت. فالروايات العظيمة تولد من فهمنا للموت..”. كانت أمّه تقول أيضا وعلى الدوام: “عليك أن تكون طبيبا أو جنرالا حتى يهابك الناس ويقدروك، فإن لم يخافك الناس فلن يحترموك أبدا”. بينما درس كونستانتين في ورشة كتابة في آيوا الأمريكية. أشياء من قبيل: “عليك أن تضع غطاءً خياليا على الأمور الأكثر واقعية، وتضيف جانبا واقعيا للأشياء الخيالية إلى أن يفشل القارئ في تمييز الحقائق من الأكاذيب”. فالحقيقة هي ما تكتبه أنت بشكل جيد.
يُشركنا في درس الكتابة، وكأننا نكتبُ معه. إنّها نصائح استاذ الكتابة ستيف ليبتوف. تلك التي يُصغي لبعضها ويخترق بعضها الآخر، إلى أن نكتشف في الأخير أنّ: “الأمر بأكمله كذبة، كنتُ أسرد عليك روايتي التي استعرتُ أحداثها من كل ما استطعتُ وضع يدي عليه، وكل ما طاف بخيالي، لتبدو حقيقية وواقعية”. وأنت تقرأ، لا تعرف أين تبدأ الحقيقة وأين يقف الخيال في هذه الرواية، “لكن ليست لدينا مشكلة مع الخيال، لدينا مشاكل مع الواقع وحسب. كيف يُمكننا جعل الواقع قابلا للتصديق؟”. فالموهبة التي نمتلكها لا تعدو أحيانا أن تكون أكثر من عقاب.
بينما دورنيتا لم تكن تريد أن تكون أكثر من راقصة باليه، ولكنها تزوجت إرهابيا وقتلته، وأوهمت الجميع أنّ الجماعة الأخرى قتلته، وأنّها ستقتلهم انتقاما له. إنّها حقا ليست كما يتصور الآخرون عنها. هذه الرواية تضع الحب والحرب على درجة واحدة ومتساوية تماما، وكأن بإمكان أحدهما أن يؤدي للآخر، تكشف أيضا أنّ: “جوهر الحياة هو أن تحتفظ بالذكريات المشتركة مع الآخرين”. فالذكريات هي التي تُعينك عندما يتبدد معنى الأشياء من حولك.
تبدأ الرواية من هذا الإهداء، من هذه الأغنية المقدونية التي تُرددها الخالة فلورا: “تركتُ فيك علامة يا ديسبينا، حتى لا تنسيني أبدا/ مرّت ثلاثة أعوام/ ونسيتيني..”، وتظل الرواية تُراوغ الاحتمالات طوال الوقت لتترك علامة لا تُمحى، حتى وإن لم تختلف العلامة كثيرا عن الأثر الذي يُمكن أن تتركه فراشة.
من يموت في هذه الرواية يتحول إلى فراشة، ولا ندري إن كان في الثقافة المقدونية دلالة ما للفراشة، هذه الصغيرة سريعة السحق، صاحبة العمر القصير، ما الذي يجعل وجودها مُلحا في قصة الحب والحرب هذه .”فأرواحُ الفتيان التُعساء في الحب تتحول إلى فراشات”. هنالك علاقة أيضا بين شكل الحياة والموت إنّهما لا ينفصلان، بل إنّ الحياة تقترح شكل الموت، تقترح نوعه، “لكن حين تنتهي الإثارة لا تبقى إلا الأخطاء”. وبطريقة أو أخرى يُدرك كونستانتين أنّه كان يعيش في الجانب الخطأ من الحياة!
في هذه الرواية تعجز حقا عن تحديد الحقائق من الأكاذيب، لكل قصة فيها أكثر من وجهة نظر واحدة، أكثر من نهاية وأكثر من موت، “فالأدب يمنحك فرصة للتزوير دون تعريض نفسك للاتهامات أو العقاب”. أغلب الشخصيات ممتلئة بالأسئلة، وتنتهي مصائرها بنهايات عجيبة. كلها ذهبت إلى موت غامض.. على سبيل المثال كان الجد يتساءل: “هل سأموت داخل تلك السنوات الستين التي لم أمتلكها أم داخل الأيام الثلاثة التي امتلكتها”، فلا أحد منا يمكنه امتلاك أيامه في الحرب، ولكن وبكل بساطة يمكننا أن نمتلك أيامنا في الحب ووجود العائلة. بلوسوم كانت معلمة كونستانتين وقد علمته الأدب والروايات، وكانت جدة بلوسوم واسمها “ماشا” خادمة للكاتب الشهير تولستوي. كانت أمّ بلوسوم تعيش في كتب تولستوي كأنها حقيقة مطلقة لدرجة أنّها كانت تستحضر شخصياته إلى الحياة، وعندما قرأت أم بلوسوم في مذكرات تولستوي: “قابلتُ ماشا بالصدفة اليوم، ومنحتُ زوجها حصانا”، عصفت تلك الجملة اليتيمة بكيان الأمّ ودفعتها إلى مصير غامض، والأكثر غرابة أنّها ماتت تحت عجلات حصان.
الهروب لا يوصل الشخصيات إلا إلى الحرب أو الموت. الأب سيلينتيوس هرب من الدير ومن ذكرياته والتحق بالجيش. هوت هيد هوك الذي أفرغ محتويات حقيبته المدرسية يوما في النهر، ولم يعد للمدرسة، فمرّت حياته بتحولات عاصفة. واختلفت الحكايات التي مات بسببها “أبراهام” والذي لم يكن ليحب حكاية “مدام بوفاري” وخياناتها يوما ما. بلوسوم التي تعيش في الروايات وجدوا جثتها محشورة بين جذور صفصافة تحت الجسر، ووجدوا صعوبة في فك أصابعها الملتفة بإحكام حول أحد أغصان الشجرة. انتحر أجاثون الأب الحقيقي لكونستانتين، شنق نفسه في شجرة كرز، وقد كتب لابنه الذي لم يعرفه يوما: “ستشهدُ حادثا غريبا، حاول أن تُغير أحداث القصة، طالما أمامك مُتسع من الوقت لذلك”. لقد شنق نفسه لأنّه لا يملك إمكانية لتغيير قانون الحياة، بينما الكتابة وحدها من تستطيع ذلك على الدوام.
الرهان دائما على الكاتب، لأنّ الانسان العادي لا يستطيع إحداث التغيير كما هو حال الكاتب. ففي الفن ليس مهما أن تقول الحقيقة أو تؤلف الخيال المهم هو الإقناع، لأن “الإقناع هو جوهر الفن”. بلوسوم على سبيل المثال تجد الحقيقة في الكتب أكثر منطقية وعقلانية من الوقائع اليومية، “بعض الناس يعيشون ضمن أكذوبة ولكن كل كِتاب يقوم على الأكاذيب غير المقنعة يفشلُ فشلا ذريعا”.
هذه الرواية تؤكد على أنّ الكلمات خطيرة كالرصاص، “إنّها حياتي يادورنيتا، قصتي التي احكيها لك. وأنا انتظر ضغطة اصبعك على الزناد”.
هامش
الكاتب بلايز مينيفسكي، وهو روائي مقدوني شهير، وُلِدَ عام 1961، يكتب الرواية، والمسرح، والسيناريو، ومن أعماله رواية “كان يجب أن نلتقط صورة لنا قبل أن نبدأ في كره بعض”، و”قصة عن الطرف الثالث”، وهذه الرواية “القنَّاص”.
هدى حمد