تلفتُ الرواية المعاصرةُ نَظرَ النقد الروائي وتستفزه بما تبلوره نصوصها من إمكانيات رحبة في العمل على اللغة والكتابة والتخييل، كما أن النهج الجمالي المختلف الذي تقترحه على صعيد الشكل يسهم في إعتاق القراءة من سطوة الأرشيف النقدي المستقر والثابت المنطوي على حججه وأدلته البرهانية التي يغدو بموجبها النص مجرد موضوع يثبته الناقد باستمرار كي يتأكد له إثبات ذاته باستمرار(1). وبخلاف هذه القراءة الاختزالية السائدة التي تفوتُ على النقد اكتناه عالم الدلالات الثقافية الغني الذي يمتح منه التخييل، تدفع جماليات الرواية المعاصرة القارئ إلى البحث والتفكير في فرضيات جديدة لقراءة منجزها الفني، وتعميق الفهم ليس فقط بالأسئلة التي لا تكفّ عن طرحها حول الإنسان والعالم، وإنما كذلك، بالطريقة التي تبني بها تلك الأسئلة والمرجعيات التي تحفر فيها بحثا عما يسند التصاقها بشواغل الحقبة الزمنية المعاصرة، والتباساتها وتوتراتها التي تقذف بالإنسان عاريا في عالم يبدو كما لو أنه لم يعد يتسع سوى لصورة واحدة، مما يفقد الإنسان البوصلة، ويولد لديه الإحساس بالضياع والفقدان والتردد.
ومن هذه الزاوية، تتعينُ الرواية المعاصرة بالظواهر التي تبزغ فيها، كما لو أنها تؤسّس لشرعية جمالية يتعذر فهمها من دون وضعها في مقابل الشرعية التي أسستها الرواية التقليدية بمغايراتها المختلفة على مدى ثلاثة قرون، أي منذ سيرفانتس إلى العقدين الأخيرين من القرن الماضي. ويتمثل هذا الاختلاف الذي يعطي للرواية المعاصرة خصوصيتها في نهوضها بدور وسيط. وفي هذا السياق، يرى الناقد الفرنسي جون بسيير(Jean Bessière) أن التفكير في الرواية كوسيط، ينبّهنا إلى مبدأين أساسيين: يشير الأول إلى أن الرواية تتشكل بوصفها إعادة تناول وتركيب لمجموعة من الخطابات والتمثلات الاجتماعية. ومن هنا فهي الوسيط الذي تمرّ عبره تلك الخطابات والتمثلات الاجتماعية. كما أنها تجعل من كل هذه المعطيات، علامات أو مؤشرات تسمح للقارئ ببلورة أشكال من التعيين. فالرواية إذا وسيط، بمعنى أنها تسمح للقارئ ببناء، أو إعادة بناء شبكة من الرموز والقراءات المختلفة لقراء مختلفين(2)”. إن إمكانيات التعيين هاته، لا تنفصل عن لعبة التوسط، وعما تعرضه علينا الرواية وتدعونا لقراءته من مقاصد تخصّ الآخرين. وبهذا المعنى، تتعين الرواية كما لو أن وظيفتها تتمثل في قول كل شيء. إنها تشقّ صدرها لاحتضان كل العلامات التي أبصرها الكاتب عبر تجربته الجمالية. ومن ثم يغدو هذا الذي تستوحيه الرواية، ليس دالا فقط على التفاوض الخلاق بين المتخيل والواقع، وإنما يتعين كذلك بوصفه الموقع الحميم، والملجأ الأفضل للذاتية.
على هذا الأساس، تتناول هذه الدراسة رواية “شهوة الترجمان” (المركز الثقافي العربي، بيروت-الدار البيضاء، 2015) في الحساسية الفنية والجمالية التي تصدر عنها، وكذلك في الرؤية الإنسانية التي ترسم ملامحها الأساسية من خلال مغامرة سردية أو رومانيسك (romanesque) يحفل باللغات والثقافات والأصوات والصور. ونعتبر أن شربل داغر في هذا النص الرّوائي الجميل والممتع، يحفر أثرا عميقا في النهج الأسلوبي والخطابي الذي تقترحه الرواية العربية المعاصرة، وكذلك الرواية العالمية، في عالم ما بعد كولونيالي، يشغل كتابه هاجس البحث عن الفرجات والخلال التي تتيح للثقافات والهويات أن تستبدل بسرديات التفاوض والاعتماد المتبادل، سرديات التوتر والتنافر والتضاد، من دون أن تتفرد ثقافة ما بالحقيقة أو باحتكار إنتاج الرموز.
أولا: الكتابة والاختلاف
لماذا الكتابة عبر الثقافات والحدود؟ كيف نفهم اشتغال الرواية المعاصرة على “الهجنة”، وتمثيل التجربة الحية خارج السياق الذي ينتمي إليه المؤلف؟ ما الذي يعيّن الرواية المعاصرة بوصفها محاولة لفهم الإنسان من خلال تبئير السرد على عمليات بنائه لنفسه بما يمكنه من أن يواشج – بتعبير هيجل- بين “شعر القلب” و”نثر العلاقات الاجتماعية”؟ هل بالإمكان الحديث عن دور حقيقي للثقافات والرموز في ترسيخ هذا النمط من الكتابة التي تحتفي بالهُويات، بشكل يوفر موقعا للإفصاح عن المشترك بينها؟ وماذا ستكون الخيارات الجمالية لهذه العملية؟
للإجابة على هذه الأسئلة التي لا تخصّ فقط الرواية التي ندرسها، وإنما تتصل كذلك بنصوص روائية عربية عديدة صدرت خلال العشرية الأخيرة، نرى من الضروري والأهم دفع التفكير في الرواية إلى مواقع أبعد من تلك التي ظل النقد يدور في فلكها، وبما يسمح للنص الروائي أن يظهر للقراءة في تعدديته واختلافه، وفي تمنّعه على السبر النهائي. فالنقد، في وجه أساسي من وجوهه، مثل الأدب، نشاط ذو علاقة معقدة بالعالم الذي ينتج فيه وبالنصوص التي يقوم بدراستها(3). وفي هذا السياق يمكن الإشارة، تبعا لهذا النص، إلى ثلاثة محددات أساسية تعطي لهذا التفكير الأهمية والرّاهنية:
1- إننا أمام نص روائي جديد ومختلف، يحتفي بقوة بالتنوع الثقافي وبالتحرّك عبر الحدود، إلى الحدّ الذي يصير فيه هذا التعدد مدخلا أساسيا لفهم التجارب والأحداث والمواقف التي يتعرّض لها بطل الرواية الذي يخوض تجارب يشوبها التعقيد والتناقض والالتباس، كما تتعرّض لها الشخصيات الأخرى التي تؤثث عوالم هذا النص. بدءا بالبروفسور الفرنسي جلبير الذي قاده البحث الأركيولوجي إلى قرية لبنانية، ليتعرّف على أليس راعية القطيع، ويعيش معها تجربة انخطاف وتعلّق انتهت به إلى الهروب والعودة إلى ستراسبورغ متهما بالقتل سنة1961. مرورا بابنته فيرا، أو دانييلا الرّاهبة المتمرّدة أو كريستين الطالبة أو فضيلة التونسية. إذن لا يتعلّق الأمر بحبكة تقليدية أو إعادة تمثيل لعلاقة عاطفية بين مثقف من الشرق ونساء غربيات، بشكل يجلى تصادم القيم والمفاهيم والرؤى بين الحضارتين. كلا، ففي هذه الرواية تبدو هوية البطل المركزي مركبة، تشكلها الخبرات والتجارب المتداخلة التي تتحدى كل المزاعم الرامية إلى ترسيخ هوية مكتملة أو ناجزة. وإذا كان سؤال الهوية يشغل مساحة مهمة في السرد، فإن هذا الحضور لا يكتسب الطابع الإشكالي من خلال دلالات القلق والغرابة وفقدان البوصلة، بل من خلال تحدّي المقولات الاختزالية والمزاعم المرتبطة بفكرة الأصل والنقاء.
2- إن العوالم التي تشيدها الرواية، سواء تحدثنا عن العوالم الخاصة والحميمية، مما يتعلق بالشخصيات مفرّدة، أو العوالم العمومية التي يشتغل فيها الحوار والتفاعل على نطاق واسع، كما يحدث في المحاضرات التي كان جهاد يقدمها لطلبته حول الترجمة في قسم الدراسات الشرقية بجامعة ستراسبورغ، والتي استند فيها إلى البحث الذي كلّف نفسه القيام به حول موضوع: ترجمة أنطون غالان لألف ليلة وليلة بين سياسة النقل وسياسة التأليف. هذه العوالم يتشكل أساسها من العلامات والرموز الثقافية التي يبدعها الإنسان، ويفصح من خلالها عن كينونته. فأغلب شخصيات الرواية يسكنها هذا الهاجس بمستويات مختلفة: جهاد الذي يضطلع بالسرد بضمير المتكلم، والبروفسور الذي تخضع هويته وسيرته الذاتية لإعادة التركيب من خلال عملية تفحص وتمحيص دقيقتين لما خلفه من أوراق ووثائق ومؤلفات، وكذلك كريستين ودانييلا وفيرا وفضيلة. وبما أن هذه الشخصيات تنتمي إلى ثقافات مختلفة، وخلفيات دينية متباينة، فإن العلاقات الرابطة بينها تولد أفقا أرحب من حالات الاعتماد المتبادل بين هذه الثقافات بعيدا عن مقولات التصلب والانغلاق والرؤية الأحادية. وهذا ما يتيح تلمّس رسالة الرواية المعاصرة، بخصوص التنوع الثقافي والهويات المركبة التي تتغذى من بعضها البعض، وتتواصل فيما بينها بشكل يؤكد أهمية الخبرات المكتسبة عبر الزمن، في تشكيلها وإثرائها وإعطائها أبعادا جديدة. ويمكن أن نستشف هذا بوضوح في نهاية الرواية لما عاد جهاد إلى بيروت، ليس فقط عندما أخذ في تقييم التجربة التي عاشها بستراسبورغ، وإنما كذلك من خلال التواصل الذي هيأه بين فيرا وأليس الراعية التي أحبها والدها قبل أن يتزوج من والدتها. وهكذا يتولّد إدراك مختلف للذات والآخر.
بهذا المعنى، نعتبر أن أهمية الكتابة وفعاليتها عند شربل داغر تتمثل في كونها تنوطُ بالأدب وظيفة “الشفيع” بل “المخلّص”. وبذلك “تتجاوز المقصد التعليمي الرامي إلى تكوين الفرد المواطن أو المجتمع، إلى مقصد ألصق بالذات: أن تكشف للإنسان ذاته، وعلى الأخص في قوامه الأنطلوجي وتجذره الماورائي خارج أنشوطة الزمن، فإن خالط تلك الوظيفة بعد تعليمي ما فإنه يتجلى في حثّه على السعي إلى زمن نبوي، لا بدّ أن يكون منطلقه في الآن والهنا”(4).
3- إن هذا الخط الجمالي الذي تحفره الرّواية، وتعمّق أثرها فيه، يترسّخ في التجربة الروائية العربية في كثير من الأعمال الروائية التي ظهرت خلال العشرية الأخيرة، يشغل كتابها هاجس البحث في الثقافات والهويات بشكل يبرز تعددها وتغايرها وتكاملها. ولتقديم أمثلة على هذه الأعمال التي أتيح لي متابعتها، يمكن الإشارة إلى روايات الكاتب العراقي نجم والي، خاصة “ملائكة الجنوب” (2009) و”بغداد مارلبورو”(2012)، كذلك رواية “أصل وفصل” (2009) للكاتبة الفلسطينية سحر خليفة، و”تغريدة البجعة” (2007) للروائي المصري مكاوي سعيد، و”مديح الكراهية” (2008) للروائي خالد خليفة، ورواية “كتاب الأمير”(2005) لواسيني الأعرج. وفي المغرب نجد أمثلة كثيرة لكتاب وكاتبات يشتغلون على هذه الجماليات، وسأكتفي بذكر نصين اثنين هما: “هذا الأندلسي” (2007) لسالم حميش، و”تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية” (2013) لعبد الرحيم حبيبي. ومن المعلوم أن هذا التوجه ليس حكرا على الرواية العربية، وإنما هو قلق وهاجس أساس في الرواية العالمية المعاصرة، تولّد من وضع لم تعد فيه السياسات الأصلية (أو الكلية) ممكنة لفترة من الزمن، كما يقول الناقد الأمريكي فريديرك جيمسن. وإذ تشهد القدرة العاكسة لسياسات الأصل والتصلب والانغلاق فقدان الميزة والأهمية، تبرز، بحسب هومي بابا، سياسات للاختلاف الاجتماعي والثقافي لا تطلق أية مزاعم ذاتية(5).
من هنا يتبين أن الرواية العربية المعاصرة التي تتخلق من رحم الحيوات المزدوجة التي تعاش في العالم ما بعد الكولونيالي، عالم الأسفار والهجرات وإقامات الشتات، تستدعي على مستوى القراءة الانطلاق من فرضيات تنبثق من شواغل هذه الرّواية، أي سرديات الشروط الحدية التي تكتنف الثقافات والفروع المعرفية(6). بما يكشف عن مساهمة الرواية في ترسيخ الانفتاح على الإنسانية الجامعة. وهنا تضطلع الثقافة والأسفار والحب والفن والترجمة والأدب بأدوار شديدة الأهمية، ليس فقط على مستوى رسوخها في متخيل النص وطبيعة مقترحاته الجمالية، وإنما كذلك على مستوى الوظيفة النقدية التي يضطلع بها، أي ما تدعوه، دراسات ما بعد الكولونيالية بـ الردّ بالكتابة(7).
ثانيا: عوالم وشخصيات إشكالية
لكي يأخذ القارئ فكرة عن العوالم التي تقترحها رواية شهوة الترجمان، نرى من الضروري أن نقدم تلخيصا مركزا لمتنها الحكائي. يتكون هذا النص من سبعة فصول تحمل، على التوالي، العناوين التالية: قتيل في غابة الأرز، عراك في جسد واحد، ليالي الأنس في فيينا، الترجمان قيد الامتحان، أكواز صنوبر للبروفسور، شهرزاد تنهي ليلتها الأخيرة، سكايب بين فيرا وأليس. والملاحظ أن هذه الفصول تحمل إلى الرواية تعددا على مستوى الأصوات والحكايات والتجارب، رغم أن ما يهيمنُ عليها هو صوت البطل الذي يسرد بضمير المتكلم. وعلى هذا الأساس، ليست الرواية مونولوجية أحادية، بل هي متعددة الأصوات واللغات والخطابات، كما أن المؤلف يمنح الشخصيات حرية كاملة في التحرّك والتفكير والسلوك، وهذا ما يعطيها الأهمية، ليس فقط لجهة اضطلاعها بأدوار أساسية في الرواية، وإنما كذلك لجهة كلامها الذي يشخص وضعها الاجتماعي والثقافي. ولقد شدد ميخائيل باختين في تنظيره اللماح للرواية، وفي درسه لروايات دوستويفسكي، على أهمية البطل وكلامه. ليس لأن البطل يجسّد سمات محددة على المستوى الفردي، وإنما لأنه يمثل وجهة نظر عن العالم وعن نفسه بالذات، أي بوصفه موقفا فكريا، وتقويما يتخذه إنسان تجاه نفسه بالذات وتجاه الواقع الذي يحيطه(8).
تتناول الرواية إذن يوميات جهاد بمدينة ستراسبورغ الفرنسية التي حلّ بها في إطار مهمة علمية بوصفه أستاذا محاضرا وباحثا يعد عملا علميا حول ترجمة أنطون غالان لكتاب ألف ليلة وليلة. وتبدأ أحداث الرواية في ارتياد أفق التعقيد والالتباس والغرابة عندما وضعت إدارة الجامعة رهن إشارة الباحث مكتبا لواحد من أهم أشهر أساتذتها الذي رحل أشهرا قليلة قبل التحاق جهاد بهذه الجامعة. وهو ما سيشكل مصدر قلق وعدم ارتياح بالنسبة لكثيرين، ومنهم فيرا ابنة هذا الأستاذ التي طالبت إدارة الجامعة بحقها في المكتبة الخاصة التي تركها والدها. وبما أن المكتب ليس مرتبا بالشكل الذي يسمح بجرد ومعرفة كل محتوياته، فقد طلبت إدارة الجامعة من الأستاذ أن يختار من طلبته من يقوم بمهمة ترتيب وفهرسة محتويات هذه المكتبة مقابل تعويض مادي. وهكذا اختارت الطالبة كريستين القيام بهذا العمل دون مقابل، وذلك حتى تستفيد من مكتبة البروفيسور في إعداد بحثها بوصفها طالبة في شعبة الدراسات الشرقية. في هذا السياق، تنفتح الرواية على السيرة الحياتية اللغزية للبروفسور الفرنسي جلبير منذ أن عثرت كريستين على أوراق يعترف فيها بارتكابه جريمة قتل. وهذا ما هيأ المجال لبدء عمليات إعادة تقييم المكانة التي حظي بها البروفسور، ولو أن الأمر اقتصر على الطالبة وابنته فيرا. وما يهمّ هاهنا ليس فقط احتضان الرواية للأوراق والنصوص التي كتبها هذا البروفسور، حيث تتم عملية تأويلا ضافية وعميقة من داخل الرواية، تعكس الحدود الفاصلة الواصلة بين الثقافات والتجارب والأحداث واللغات، وإنما كذلك شكل الرواية البوليسية الذي يتجلّى في البحث والتدقيق الذي يطال المرحلة الغامضة من مقام البروفسور بلبنان.
تنفتح تجربة جهاد بستراسبورغ على تجارب عاطفية متوترة، وعلاقات إنسانية إضافية. دانييلا الرّاهبة وكريستين الطالبة وفيرا المثلية وفضيلة التونسية. نساء مختلفات يثرين ويعمّقن تجربة البطل، ويقذفن به في مناطق داجية ومتوترة، تمثل عائقا، مما يفرض على البطل تجاوز محتّماته. هكذا تضفي التجربة العاطفية والعقلية ظلالا قوية من التذويت على لغة جهاد، وتدفعه إلى الاحتماء بالأدب لفهم الغرابة المقلقة التي تحفّ به. وهنا يستعيد البطل مقاطع من رواية التربية العاطفية لفلوبير، إذ يضع ما يعيشه في مرآة فريديريك مورو بطل هذه الرواية. وعندما ندرك أن فريديريك وجهاد يشتركان في الوجهة التي قصداها لاستكمال التكوين العلمي، الأول قصد باريس والثاني حلّ بستراسبورغ، وكذلك النساء العديدات اللواتي يعبرن وجودهما دون أن يضاهي حضورهن ما تمثله ماري أرنو بالنسبة لبطل التربية العاطفية أو دانييلا الراهبة المتمرّدة بالنسبة لجهاد، يتبيّن لنا أن العلاقة الحوارية بين النصين لا تشتغل فقط وفق فعالية التناص، بل تتجاوز ذلك إلى الإلماع للحدود والمواقع البينية والتمفصلات التي تقرّب وتبعّد بين البطلين. إذ من خلال هذه العلاقات التي تتمنع على الاختزال والسبر النهائي، يحقق البطلان تكونهما العاطفي والعقلي، الذي يتجه شيئا فشيئا صوب تفكك الأوهام وانجلائها. وبهذا المعنى تأخذ رواية شهوة الترجمان أبعادَ ودلالات رواية التكون (roman d’apprentissage) في إظهارها عملية تكون الإنسان بدرجات شتى، وبأنماط معينة في مختلف حقبات حياته(9).
تنشأ داخل الرواية علاقات عديدة، وأسفار مختلفة، تتيح للبطل التعرّف على الثراء الثقافي الإنساني. هذه العلاقات، بما يتولد عنها من مستويات التفاعل والتواصل، لا توفر فقط موقعا للإفصاح عن الثقافة الفنية للبطل أو لشخصيات أخرى في الرواية كدانييلا، وإنما تتيح كذلك منفذا لتمرير خطاب نقدي حول المجتمع العربي والإسلامي الذي تستبد به ثقافة التصلب والانغلاق والقتل. فعندما ارتاد البطل فضاءات العبادة في فيينا أثناء الرحلة التي قام بها بدعوة من دانييلا، لاحظ تجاور المصلين والسياح والرحالة في نوع من التعايش والتسامح، ما دفعه إلى القول: “كيف لي أن أعود من فضاءات التعايش هذه إلى بلاد يقتلون فيها بحدّ السيف وباسم الدين”(10).
إذا كانت الرواية تنتهي بعودة جهاد إلى بيروت، فإن هذه النهاية تتكشّف عن مسارات جديدة ومعقدة. ذلك أن البحث في أرشيف البروفسور لم يغلق بالنسبة لجهاد. فقد ظلت بياضات كثيرة تستفزه وتحرضه على ملئها، وهذا ما قام به من خلال البحث عن أليس الراعية التي أحبها البروفسور، وفرّ بسبب انكشاف علاقته بها، هاربا ومتهما بالقتل. وإذ يعيد جهاد ترتيب هذه العلاقات من منظورات أخرى، وعلى مسافة من ستراسبورغ، تبرز في رواية أليس للحكاية التي عاشتها في السّر مع الأستاذ الفرنسي جلبير علامات إنسانية كثيرة، تضيف إلى رصيده وتبدد ما كاد يعصف برمزيته. لكن ما يهم ها هنا هو التداخل والتماهي بين تجربة جهاد وتجربة البروفسور، من حيث إن كل واحد منهما قادته ظروف البحث إلى فضاء الآخر. فلقد قادت خطى الفيلسوف رينان جلبير إلى القرية اللبنانية التي لا تبعد كثيرا عن المنطقة التي نشأ فيها جهاد، كما قادت ألف ليلة وليلة جهادا إلى الجامعة التي رسّخ فيها البروفسور مكانته وشخصيته العلمية حتى أضحى من أهمّ رموزها.
(البقية بموقع المجلة على الانترنت)
لنقل إن هذه التقاطعات تظهر العالم الواسع والمتعدد الأرجاء، قرية صغيرة تتوقف ديمومة الحياة فيها على ما يبذله البشر من جهد من أجل التعرّف على بعضهم البعض. وبهذا المعنى تمثل هذه الرواية دعما قويا لذلك الأدب المتنامي الذي يعود في جذوره إلى ما أنجزه أمين الريحاني. ويلخص الناقد سعد البازعي أهم خطوطه في كونه يتيح مساءلة الذات من خلال مرآة الآخر سياسيا وثقافيا واجتماعيا، مثلما يتيح مساءلة الآخر نفسه من خلال مرآة الذات أيضا بالاقتراب الشديد منه. هذا مع العلم أن ثنائية الذات والآخر تتعرّض هي الأخرى للمساءلة حين يتعلق الأمر بأشخاص أو حالات يتماهى فيها المغترب مع الثقافة والمجتمع الذي نزح إليه تماهيا قد يكون محدودا ومتوترا لكنّه يحقق قدرا لا بأس به من النجاح، الأمر الذي يؤدي إلى نشوء رمادية أو برزخية تتداخل فيها هويتان أو أكثر11.
ثالثا: دلالية العنوان
يتبيّن من خلال هذا الوصف للرواية، أن عملا سيميائيا يتمّ داخلها، وهذا ما يؤشر عليه العنوان الذي اختاره شربل داغر لروايته. فـ “شهوة الترجمان” من العناوين التي تحضّ عند القراءة والتأويل على استدعاء تصورات محددة حول الترجمة، بوصفها نقلا ليس للغات فحسب، وإنما للمشاعر والأفكار والسلوكات والمواقف والرؤى. ويمكن الإحالة ها هنا على ديوان ابن عربي “ترجمان الأشواق”، كما يفيدنا رومان جاكبسون عندما يتحدث عن La traduction intersémiotique في فهم الدلالات التي يتخذها العنوان في هذه الرواية، ومنها دلالة استضافة الثقافات واللغات والرموز والأجساد، أي كل ما يقدم للإنسان أكثر من منظور لفهم ذاته والآخرين من حوله. وهكذا توفر الترجمة باعتبارها تأويلا فائض قوة للبطل يمكنه من اختراق النص، بالمعنى الواسع للنص، بحثا عن لغة خالصة تتجاوز حدود اللغات12. وعندما نصل عنوان الرواية وإشكاليتها بسياق المرحلة المعاصرة التي تقرع فيها طبول الحرب بين الثقافات والحضارات والأديان، كأن قلب العالم لم يعد يتسع إلا لصورة واحدة للحضارة، فهي التي تستحق البقاء دون غيرها، تبدو الرواية، التي تجترح إمكانات لفهم الذوات والهويات بالتعدد لا بالمشابهة أو التطابق، واسعة القلب، كقلب الإنسان، تسع كل الثقافات، وتنساب بين التخوم، بين البرازخ، من أجل رؤية كل الآخرين في رؤيتهم.
يمكن أن نتلمّس هذه الدلالة من ملفوظ كريستين عندما سألها الأستاذ جهاد لماذا اختارت الترجمة كاختصاص. فقالت له: “لعلك تعرف، من دون شك، أن ما تقوله أنت عن التداخل والالتباس بين الترجمان والمؤلف في شخصه، في عمله، لا يعدو كونه صيغة أخرى لتناول جديد، مفاجئ، لمسألة الترجمة، بوصفها مسألة في الهوية…لوبيز تتحدث عن التباس الذكوري والنسوي في جسد كلّ واحد منا، وأنت تتحدث عن التباس العلاقة الكتابية بين نقلها وتأليفها بالأحرى13”.
على هذا النحو تتفرع دلالات “شهوة الترجمان” لتحيلنا الى تجربة الكتابة عند شربل داغر، بما هي تحقق أو محصلة وعي إبداعي لا يفصل بين لذة الكتابة ولذة التفكير والتأمل فيها. وبما أن الروائي يرتاد أفق هذه الحساسية الإبداعية المختلفة التي لا توجد إلا في التمرد على الحدود والفواصل بين الأجناس والثقافات واللغات، فإن النص الذي يكتبه يتعامل معه كجسد ينطوي على جاذبية إيروتيكية وثقافية. لهذا يتعين السفر والحبّ والترجمة والفن والجمال داخل الرواية بوصفها رموزا تفجر الشهوة التي تصطرع داخل وجدان جهاد. وما يعمّق هذه الدلالة هو إقحام الأدب والفن في عالم المحكي، وكأن شربل داغر ليخلصنا من عالم السرد بطريقة أفضل، يجرّنا إلى التفكير في الفن والأدب والترجمة. وبما أن الترجمة هي مجال التفاعل والتجاذب بين مواقع القوة والسيطرة من جهة والمقاومة من جهة أخرى، فإنها تمثل ها هنا تكثيفا للرواية ووظيفتها، ذلك النوع الملتبس الذي ينفر دائما من الحدود، وينجذب إلى استضافة المتعدد والمختلف واللامرئي. وعندما يختبرها الروائي بهذا الشكل، سواء على مستوى المفهوم والتصور، أو على مستوى الممارسة، فإنه لا يتصل فقط، على صعيد جماليات الرواية، بالمرحلة التاريخية التي ينتمي إليها، وإنما يعيد كذلك بناء حقيقته الاجتماعية.
بهذا المعنى لا يساعدنا العنوان فقط على إيجاد مسارب تسعف في فهم واستيعاب تلك الصور الذاتية متغيرة الشكل التي تحملها أغلب شخصيات الرواية. إذ ما من شيء أقدر على تمكينها من فهم ذواتها سوى هذا الاختلاف الفريد من نوعه، وإنما يمكننا كذلك من الاقتراب من دلالات وأبعاد استضافة السجلات الفنية والنقدية والجمالية ضمن التخييل.
رابعا: بين التخييل الذاتي والسيرة الروائية
تعرّف السرديات الرواية بأنها محكي طويل مكتوب نثرا. ومعلوم أن هذا التعريف البسيط يضمر أسئلة عديدة، لا يمكن حصرها في ذلك الموقع الذي يتعين بوصفه الحدّ الذي يبدأ انطلاقا منه ما يمكن أن يعتبر محكيا طويلا، وإنما تتجاوز ذلك إلى ما يتعلّق بتميز الرواية عن النصوص السردية المكتوبة شعرا مثل الملاحم القديمة. لكن الرواية تتميز بعناصر أخرى تعطيها خصوصيتها، غير الطول الذي يجعلها على مسافة معينة من القصة القصيرة والنثر الذي يفرّقها عن الشعر، ومن ذلك عنصر التخييل. فالقارئ عندما يقرأ الرواية يتعرّف على مغامرة مختلقة، تتحرك أحداثها وشخصياتها في فضاء الأخيلة السردية المحضة حتى عندما تحكي أحداثا واقعية تتعلّق بحياة المؤلف. لهذا لا تنفصل الرواية عن التخييل، لأن المغامرة التي ترويها تقع في صميم التوقّعات التي تمنحها لنا الرواية، وكذلك التصورات التي يتلقاها القارئ في ضوئها. ويمكن أن نلاحظ أن عناصر كثيرة من هذا التعريف تنطبق على هذه الرواية، خاصة عنصر المغامرة، مغامرة الحب التي يمكن قراءتها بوصفها دعوة لاستكشاف عوالم مختلفة انطلاقا من تجارب الشخصيات ومصائرها، وهذا ما يجعل من هذه الرواية عالما بحد ذاته. لقد تساءل الروائي الإنجليزي إدوارد مورغان فورستر لماذا تسرد الروايات كثيرا من مغامرات الحب؟ أما جوابه، فقد تمثل أولا في كون الحب يشكل موضوعا لتحليلات وتأملات لا تنتهي، وثانيا لأنه، بحد ذاته، يمثل عالما تاما أو قائما بذاته.
وعندما نستحضر إلى جانب هذا كله، ما تصدر عنه الرّواية المعاصرة من اهتمام بالكتابة يخرج نصوصها من دائرة التبعية لمواضعات الجنس الأدبي المهيمن، وهذا ما يهيئ المجال لظهور أجناس ثانوية كثيرة تندرج في إطارها، لعلّ أكثرها شيوعا بين الكتّاب التخييل الذاتي ورواية السيرة الذاتية، وهما جنسان فرعيان يمظهران بأشكال مختلفة ذلك التقاطع بين التخييل في دلالته على الحكاية المختلقة، والذاتي الذي يعني أن هذه الحكاية تتعلّق بي شخصيا، حتى وإن كان المؤلف يفضل نفي هذا التطابق أو يمتنع على الأقل عن تأكيده14. عندما نستحضر هذا الفهم، تبرز لنا تلك المساحة التي تنزاح بالقراءة تجاه رواية السيرة الذاتية التي تحمل سمة التأريخ للشخص من خلال استعادة مرحلة معينة من حياته الخاصة بدلا من التحرّك في فضاء المتخيل والذي على أساسه تنهض الرّواية بمفهومها الأدبي. إننا نستند في بناء هذا التصور لقرائن نصية عديدة، رغم أن البطل لا يطابق اسمه اسم المؤلف. غير أن هناك عناصر يتقاسمانها، وتكتسي دلالة أكثر من خلال السرد الاستعادي بضمير المتكلم. ونعتبر أن من بين هذه القواسم، الخلفية الدينية والمعرفة العالمة بالفن والأدب والترجمة، والاهتمامات الأكاديمية والبيداغوجية وكذلك الانتماء الوطني. وإذا أضفنا إلى هذا كله أن اسم المؤلف شربل داغر يذكر في ثنايا السرد عندما يسأل طالب جزائري أستاذه اللبناني عما إذا كان يعرف أستاذا في جامعة البلمند سبق أن نشر بحثا حول ألف ليلة في مجلة محكّمة15، تتبدى لنا العلامات الواصلة بين جهاد والمؤلف الواقعي.
في نفس السياق نلاحظ أن ثمة تكثيفا لأحداث ووقائع عاشها جهاد يستعيدها لأنها تكتسي أكثر من دلالة بالنسبة له، فهي لا تتعلق فقط بإعادة بناء هويته السردية، وإنما لاكتشاف مناطق داجية وعميقة في ذاته. ولعلّ ما يفرض الحاجة لإخضاع حياة الفرد للكتابة والتخييل بالنسبة لجهاد، يتمثل في إدراكه استحالة إعادة تركيب نفسه كما كان يحصل له، عندما كانت والدته تبعثر المواد البلاستيكية المختلفة أمام ناظريه وتدعوه لتأليفها من جديد. “فانصرافي إلى استعادة المشاهد السريعة المتوترة، الصادمة، مشهدا مشهدا، لقطة لقطة، أو مثل الصور المتباطئة عن قصد في الفيلم السينمائي، لا يتيح لي تفكيكها، أو تجزئتها مثل ذرّات من حياة. فأنا ما كنت أستعرضها، وأقدم على تفريعها أو تقطيعها، بقدر ما كنت أتمدد فيها، أو أتيه، أو أحنق، أو أندم. لم أكن متضايقا مما عشت، ولا حانقا على أيامي، وإنما انفتحت أمامي مهاو عميقة وسحيقة في نفسي بمجرد أن خرجت من ستراسبورغ”16. هكذا نلمس وعيا عميقا لدى جهاد بأن حياة الفرد تتمنع على الضبط وإعادة التركيب. مما يتولد معه الشعور بالحاجة إلى الاستعانة بأدوات أخرى قد تقرب الفرد من فهم ما عاشه. والكتابة والتخييل هما من أهمّ هذه الأدوات التي تتيح للكاتب أن يؤسس علاقة مختلفة بماضيه يعيد بها نسجه عبر الكلمات والأخيلة والرموز. وفي هذا السيّاق يكتسب السؤال حول تجنيس هذا النص الروائي الملاءمة، ليس من أجل إثبات التطابق أو التراسل بين الشخصية الأساسية في الرواية والمؤلف الواقعي، لأن هذا التطابق يغدو شيئا عاديا إذا ما أدركنا أن البطل يلمع إلى كينونته التي تلامس أكثر من علامة دالة عليها في الشخصيات التي تقاطع مصيره بمصائرها، عندما يحيل على قول فلوبير: “مدام بوفاري هي أنا”، وإنما في تلمس الوظيفة التوسطية التي تنهض بها الكتابة، وهي تمزج بين الأنواع، بهدف استكشاف منظورات مختلفة للإفصاح عن توترات العلاقة بين الإنسان والعالم. وهكذا لا تمثل رواية السيرة الذاتية فقط أفقا لإضفاء التخييل على التجربة الحية، واستكشاف المجهول الذي يسكنها، وإنما تتيح إعادة بنائها في إطار هوية سردية، تمكن الفرد من أن يتلمّس هويته فيما يرويه، وهذا هو المعنى الذي نجده عند بول ريكور17.
خامسا: البناء الميتاسردي ومتاهات الكتابة
لا تتّبع الرّواية مسارا خطيا، رغم أن السارد يستعيد فيها محطات من تجربة عيش وعمل بستراسبورغ، بل تعتمد المزج والتداخل بين الأزمنة، وهو ما أتاح للكاتب وصل روايته بالأسئلة العميقة التي تشغل المجتمع العربي والإسلامي في الوقت الرّاهن. وهنا يمكن أن نلاحظ وجود مستويين من الخطاب النقدي يحضران بشكل متفاوت. من جهة، نجد الخطاب السياسي الذي يتقصّى أعطاب النخبة السياسية في المجتمع اللبناني دون أن يشغل ذلك مساحة واضحة من فضاء الرواية النصي، هذا بالرّغم من أن الأحداث والتجارب التي تكتبها الرواية تنتمي إلى زمن الربيع العربي. والبطل في إعراضه عن السياسة حتى لا يصاب بأية أزمة قد تفقده تذوق الحياة والانتماء إلى مجراها، يصدر عن رؤية للعالم تستبدل باستعادة الحميمية المفقودة عبر السفر والحب والصداقة والجمال والكتابة، الإخفاق السياسي في المجتمعات العربية. وفي هذا السياق، يمكن فهم التذويت المكثف من خلال الصوت الفردي المميز ممثلا ليس فقط بشخصية البطل، وإنما كذلك بالشخصيات الأخرى، التي تستعيد عبر كلامها الذات الفردية المغيبة إما بسبب المعتقدات الدينية (دانييلا الراهبة) أو الأنساق الثقافية والتقاليد الاجتماعية والنزعة الذكورية (كريستين، فضيلة، فيرا). ومن جهة ثانية، يَحضرُ خطاب النقد الأدبي والجمالي الذي يشغل حيزا بارزا في الرواية، إذ نتعرّف من خلاله على ملامح الرؤية النقدية العميقة التي يمتلكها الأستاذ جهاد حول نظرية الترجمة وسياساتها. وهذا ما يجعل من التساؤل عن وظيفة الخطاب النقدي حول الترجمة مسألة أساسية لفهم الإضافة التي يقدمها البناء الميتاسردي لمقصدية الرواية ودلالاتها. فالأستاذ يبدو في تعليقاته ومناقشاته دارسا متفحصا ليوميات أنطوان غالان حول مقامه بتركيا، ما مكنه من الوصول إلى قناعة مفادها أن غالان لم يكن مترجما وحسب، بل كاتبا ومؤلفا تحولت الحكايات الشفوية بقوة قلمه وخبرته وخياله إلى مادة سردية نهلت مما كتب سابقا. وهذه الميتا لغة (métalangage) حول الترجمة، تفترع أمام القارئ منفذا لا لتأويل عنوان الرواية وحسب، انطلاقا مما يحيل على شهوة المترجم نحو ما يتجاوز اللغة إلى ما يحيط بها، ليس نقلا فقط وإنما تأليفا كذلك، بل وكذلك لفهم الحدود والفرجات الفاصلة والواصلة، بين السارد بضمير المتكلم، وشهرزاد التي تتحمل وظيفة السّرد في الحكايات العربية.
في هذا السياق، لا تنشأ العلاقة المتداخلة والمتوترة بين بطلة ألف ليلة وليلة وجهاد فقط من كون السارد المعاصر الذي ينطلق من خلفية كتابية، مغايرة لتقاليد السرد القديم، يدرك أنه لا يمكن أن يؤمّن للعوالم التي يعرضها العبور السلس إلى القارئ، إذا لم يستزرع في المتخيل الأسئلة التي لا نكفّ عن طرحها، والكلمات التي لا نفتأ نبحث عنها، وإنما كذلك من كونهما ينشران عينات من تجربتيهما الحياتية في الروايات والتجارب التي امتحناها، فنهضا بتركيب مسروداتهما من موقع مختلف. وعندما نضيف إلى هذا كلّه، أن جهادا يبدو مولعا بالحكايات وسير الأشخاص، وهو يصرح بذلك، فإنه يبدو هنا بمثابة المماثل أو النديد لشهرزاد التي جعلت بدورها من هذا الولع المرآة التي رآى فيها شهريار حكايته الخاصة. وبهذا المعنى، ندرك أن ما يقرّب بين شهرزاد وجهاد يتمثل في أن كلا منهما أبصر بطريقته الخاصة تلك “القوة العلاجية” للسّرد التي تحدث عنها عبد الفتاح كيليطو18 في قراءته لليالي. فجهاد يتكون، فتتحطم الحجب التي تحول دون إدراكه العميق لنفسه وللعالم الذي يسكن فيه، كلما توغل عميقا في حكايات وسير الشخصيات التي تعرّف عليها. لكأنه يرمم بذلك كله سيرته الخاصة.
إن فهم البناء الميتاسردي بوصفه تنويعا وتمثلا لما بعد الحداثة في الرواية، وخرقا مقصودا لبنية الرواية التقليدية وطريقتها الخطية في السرد، يدلّ كذلك على “نزعة الانفلات من القيود والقوانين والأعراف والتمركزات الأصولية والعرقية في الرواية الحديثة”19. والملاحظ أن هذا البناء يتعمق في هذه الرواية، بالإضافة إلى ما ذكرنا، من خلال البحث الذي يعيد فيه السارد تركيب حيوات عديدة، سعيا لفهمها، سواء تعلق الأمر بيوميات مترجم ألف ليلة وليلة التي يعاد تأويلها في الرواية بما يقود ليس فقط إلى فهم علاقة المترجم بنص الليالي، وإنما كذلك، إلى التفكير بشكل مغاير في حضور ألف ليلة وليلة في الرواية، وما يستدعيه ذلك الحضور من دلالات وأبعاد ثقافية وجمالية، أو بالنسبة للبحث في سيرة البروفسور اعتمادا على الأوراق والمستندات التي تركها، وكذلك الشخصيات التي أثرت في مساره، مثل أليس. ومن المعلوم أن هالات الغموض والالتباس التي أضفاها الكاتب على هذه الشخصية تستدرج القارئ إلى فخّ السرد. لهذا نعتبر أن الشكل الفني الذي يميز هذه الرواية، في إحالته على نسق إبداعي واختيار فكري، وتموقف من العالم، يكتسي أبعادا مهمة لما يتيح من إمكانيات لفهم الدور المنوط بالرواية بوصفها نتيجة تصور ووعي مغايرين بصدد الكتابة ووظيفتها، سواء بالنسبة للكاتب الذي ينتجها أو بالنسبة للنقد الذي يجعل من الرواية موضوعا للدرس والبحث. وهذا ما يفرض التعامل معها بنوع من التبصر والتريث في تأويل صيغ اشتغال مكوناتها السردية، ودورها في تشييد عالم روائي مختلف “يتحلى بمنسوب عال من الملموسية التخييلية التي تمكن القراءة من التماهي مع ذوات وحيوات، انفعالات وارتجاجات، أحلام واستيهامات، مواقف وأفكار تعد من صميم ما نسميه عالما واقعيا20.
خاتمة
من كلّ ما تقدم نخلص إلى أن رواية “شهوة الترجمان” للكاتب اللبناني شربل داغر تزخر بمقومات فنية عديدة، تكشف ما تنهض عليه الكتابة من عمق ونباهة في الاشتغال على اللغة وآليات السرد، والسعي لتأسيس عوالم ممكنة تقرّب القارئ من تجارب الشخصيات ومواقفها إزاء العالم الخارجي والصراعات والخيارات التي تحفل بها الرواية. ومن الواضح أن هذا المسعى الجمالي الذي تقترحه الرواية، لا يمكن تلقيه بوصفه تجاوزا للحساسية السائدة والأساليب الاعتيادية في السرد وحسب، بل بوصفه، كذلك، بحثا عن جماليات جديدة تستمد الكثير من مرتكزاتها من الآداب والثقافات المختلفة التي يغترف الروائي من معينها. لكأن الرواية بهذا النهج الكتابي، ترسّخ دلالات الانفتاح على التجربة الإنسانية الشاملة الحية، وعلى منجزها الجمالي والإبداعي الكوني. وبهذا المعنى يمكن فهم الهويات المختلفة للشخصيات وما تتعرض له من ضروب التحول في الزمن، وكذلك المرجعيات الثقافية والفنية التي تستدعيها الرواية، وتعمّق من خلالها وظيفة التخييل وعلاقته بالمرجع.
وإذ تكشف الرواية عن تنوع الخيارات الجمالية التي تستثمرها على مستوى اللغة والتخييل، والسرد وبناء الشخصيات، وعن قدرة على طرح إشكاليات ثقافية وأسئلة مهمة تتعلّق بالكتابة في السرد، فإنها تتعيّن، في تقديرنا، لحظة نوعية في مسار الرواية العربية المعاصرة، في سياق ما بعد كولونيالي، تتجه فيه السّرديات الكلية والنهائية إلى التفكك والتواري، ما يفتح المجال، أمام من هم ضمن الحداثة وعلى هامشها، لاجتراج زمنيات جديدة للترجمة الثقافية تردّ على الحاضر الملتبس المليء بالتناقضات، كما تدخل الجدة إلى العالم، وتقاوم نزعات التصلب والانغلاق فيه. ومعلوم أن هذا المعنى الذي يتشكل نتاجا لتداخل فعل القراءة والكتابة من داخل النص الروائي، يصعب تأويله دون العودة إلى النصوص المقروءة داخل الحكاية: (ألف ليلة وليلة، يوميات أنطون غالان، نصوص كافكا، فلوبير، بورخيس، رامبو…) لكأن شربل داغر ينبّهنا إلى أن ما من شيء أقدر على التمكين من فهم الذات واختراق ظلمتها سوى الكتابة. وبهذا الحوار الذي يقيمه الكاتب بين الثقافات والآداب والفنون في نصّه الروائي، لا يرفع الحواجز بين الأجناس الأدبية وحسب، بل يرسّخ كذلك مفهوم الحداثة في النص وفي الحياة21.
1 – حسام نايل: دروس في التفكيك، الإنسان والعدمية في الأدب المعاصر، دار التنوير، بيروت2014، ص28.
2 – Jean bessière, Le roman contemporain ou la problématicité du monde, coll, L’interrogation philosophique, Editions puf, Paris2010, page60-61.
3 – كمال أبو ديب: الواحد/ المتعدد البنية المعرفية والعلاقة بين النص والعالم، مجلة فصول، المجلد الخامس عشر، العدد الثاني، صيف1996، ص41.
4 – بطرس الحلّاق: جبران حداثة عربية: ذات تتكون وأدب يتجدد، ترجمة إياس الحسن وجمال شحيد، المنظمة العربية للترجمة، بيروت2013، ص39.
5 – هومي بابا: موقع الثقافة، ترجمة ثائر ديب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء2006، ص371.
6 – المرجع نفسه، ص359.
7 – يمكن الإشارة في هذا السياق إلى: بيل أشكروفت(محرر): الرد بالكتابة، النظرية والتطبيق في آداب المستعمرات القديمة، ترجمة شهرت العالم، المنظمة العربية للترجمة، بيروت2006.
8 – ميخائيل باختين: شعرية دوستويفسكي، ترجمة جميل نصيف التكريتي، مراجعة حياة شرارة، دار توبقال، المغرب1986، ص65.
9 – بطرس الحلّاق: المرجع السابق نفسه، ص45.
10 – شهوة الترجمان، ص128.
11 – سعد البازعي: مشاغل النص واشتغال القراءة، دار طوى للثقافة والنشر، لندن2014، ص33.
12 – من مقدمة ريتا خاطر للترجمة العربية لكتاب: كريستيان دوميه: جنوح الفلاسفة الشعري، ترجمة ريتا خاطر، المنظمة العربية للترجمة، بيروت2013، ص9.
13 – شهوة الترجمان، ص276.
14 – محمد القاضي(مشرف): معجم السرديات، (مادة: رواية السيرة الذاتية)، الرابطة الدولية للناشرين المستقلين، تونس2010، ص218.
15 – شهوة الترجمان، ص168.
16 – شهوة الترجمان، ص337.
17 – بول ريكور: الذات عينها كآخر، ترجمة جورج زيناتي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت2005.
18 – عبد الفتاح كيليطو: العين والإبرة، ترجمة مصطفى النحال، مراجعة محمد برادة، دار الفنك، الدار البيضاء1996، ص38.
19 – فاضل ثامر: المبنى الميتا- سردي في الرواية، دار المدى للثقافة والنشر، بيروت2013، ص7.
20 – بنعيسى بوحمالة: أيتام سومة، في شعرية حسب الشيخ جعفر، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء2009، ص61.
21 – عبد الجليل ناظم(تنسيق): عبد الفتاح كيليطو متاهات الكتابة، دار توبقال، الدار البيضاء2013، ص170.
إدريس الخضراوي