محمد خضير
(ردهة مستشفى، في الليل. ضوء خافت، ينقطع مرارًا خلال العرض، قبل ظهور أحد الكراسيّ. أسرّة مصفوفة على جانبي ممرّ يسَع لمرور كرسيّ متحرّك. الأسرّة مشغولة بأجساد مغطّاة، هامدة، ما عدا جريحين يجلسان متقابلين على سريريهما في نهاية الردهة، نصف عاريين، كلاهما بذراع مبتورة، ملفوفة بضماد، تخرج من طرف بطانية حول جسد كلّ منهما)
الجريح 1: الوقت تجاوز منتصف الليل. ألن يحدث شيء؟
الجريح 2: لا حركة بعد. لم يبدأ العرض. سيأتون كالعادة.
ج 1: تأخّروا عن موعدهم. الهدوء مخيف. أيبيّتون أمراً لنا؟
ج 2: لا شيء يخيفنا بعد اليوم. أتتوقّع قطع اليد الأخرى؟
ج 1: أوه… تخيفني هذه العروض أكثر مع استمرار بقائنا في المستشفى. أتعرف مكانها؟
ج 2: لا. المدينة ملأى بالمستشفيات. لكن هذه أكثرها انعزالًا. هي مشرحة خاصة كما أظنّ.
ج 1: ماذا تعني بمشرحة؟ هل يحتفظون بنا للمساومة؟ مساومة أعضائنا بالحرية؟ أتوجد حراسة على الردهة؟ أيخشَون فرارَنا؟
ج 2: (لا يجيب. ينقطع الضوء عن الردهة برهة، ثم يعود)
ج 1: تأخر ظهور الكراسي. أتظنّهم يتنصّتون على حديثنا؟
ج 2: يتناولون عشاءهم. يدخنون آخرَ سجائرهم. يُفرِغون أمعاءهم قبل أن يتحرّكوا.. يتجهّزون للعرض برويّة وهدوء..
ج 1: أبدأت تُمطِر؟ الرائحة الغريبة تعود مع سقوط المطر.
ج 2: لا أشمّ غير رائحة المطهِّرات. لك حاسة شديدة التوتر.
ج 1: أشمّ رائحة جلود الكراسي. يسقط المطر فتهيج الرائحة.. لِمَ لا يعلّقون ساعات في ردهات المستشفى؟ أتظنّهم نصبوا ميكروفونات تنصُّت، كاميرات خفيّة؟ (يتلفّت حوله، يرفع نظرَه للسقف) الرائحة تأتي من تلك الثقوب؟
ج 2 (يرفع رأسه) أيّة ثقوب؟ لا أرى شيئًا غريبًا.
ج 1: (يومئ برأسه) تلك. كيف سنومئ إلى مكان ما لو قُطعِت اليد الثانية؟ هل نتمكن من التدخين؟
ج2: هاهاها.. تخيَّلْ واصغِ.. لا شيء مخيف.. إنّها فتحات تهوية وحسب. لِمَ يراقبون أشخاصًا جرحى؟
ج 1: هاهاها.. نعم.. معك حقّ.. ما اسم طبيبنا الجرّاح؟ صاحب الوجه الأبرص؟
ج 2: باروخ.
ج 1: اسم غريب.. كلدانيّ؟ وذلك الممرّض العجوز، ما اسمه؟
ج 2: صاروخ (يضحكان)
ج 1: بجدّ هل تعرف أسماءهم، أولئك الذين يبعثون بالكراسيّ نحونا كلّ ليلة؟
ج 2: اسم الممرّض العجوز شالوخ. أسماء قديمة تناسب عروض مستشفى أو مشرحة أو مسلخ أو ملجأ يُدار منذ القِدَم.
ج 1: كما قلتَ. لا شيء مخيف بعد الليلة.. أتسمع عصف الرياح؟
ج 2: أسمعُه. لكنّ الجوّ معتدل في الردهة. مناسب جدًا. أتُدخن لفافة؟
ج 1: لننتظر انتهاء العرض. أخشى إنزال عقوبة غير متوقعة بنا لأي فعلٍ نأتيه.. أتظنّهم يسلّوننا بهذه العروض الـ… ماذا تسميها؟
ج 2: عصف الرياح.. اللعنة الكلدانية.. الوباء الشرير.. سمِّها كما ترغب.
ج 1: لا شيء مخيف كما تقول.. كان أبي يتنبأ بالعواصف. كان يقول إنّها تدفع السُّفن أسرع من دفع محرّك بخاريّ لها. ما اسم النهر الذي يمرّ بقريتكم؟
ج 2: كركوش.
ج 1: ليلة الأسماء الغريبة. أتعرف شيئًا؟ حين تتخيّل السّفنَ تدفعها الرياح بجنون، تتداعى في رأسك أغربُ الأسماء. السراكيل الذين احتفروا الأنهر. القادة الذين يدفعون بالجنود للقتال. حفّارو الخنادق تحت جنح الظلام.. إنّي أتخيّل مثلك.. هاهاها.. أتسمع حركة؟
ج 2: دواليب كرسيّ.
ج 1: ها هو ذا كرسيّنا الأول يقترب.
ج 2: في الوقت المحدَّد. ألم أقلْ لك إنّهم يستعدّون لعرض أمتع من عروض الليالي السابقة؟
(كرسي مُدَولَب خالٍ يدرُج بطيئًا في الممرّ، قادمًا من طرف الردهة شبه المظلم، يقترب تحت نظر الجريحين. يتوقف بين سريريهما برهة ثم يعود أدراجه بالبطء نفسه)
ج 1: مناوبة مَن أرسلتْ هذا الكرسي؟
ج 2: ومَن غيره؟ باروخ. المناوِب الأزلي.
ج 1: أو صاحبه الممرض شالوخ.. إنهم يستعرضون قوّتهم الأزلية كما قلت.
ج 2: جاء الكرسي الثاني. ترتيب متلاحق.
(بعد انقطاع قصير للضوء، يتقدّم في الممرّ كرسيّ خالٍ آخر، ثم ينسحب بدواليبه الأربعة بعد بلوغه منتصف الردهة)
ج 1: أخشى أنّهم غيّروا إيقاعَ الليلة السابقة. الكراسيّ تتدافع بلا مهلة تفصل بينها.. أخشى انفجار الوضع.
ج 2: لعبة متقنة. تسلية إجبارية.
ج 1: بل عرض صامت كجنازة.
ج 2: سيتكلّمون في النهاية. لا بد من نهاية للعرض. استرخِ ولا تعبأ بما يجري يا صديقي العجول.
ج 1: هناك مكبّر صوت في الردهة كما قلت لك.
ج 2: لا تكترث بما يقولون، لو تكلّموا. لكنّهم سيتكلمون.
ج 1: أنا هادئ كما ترى. سأحدّثك عن أبي. بُتِرت قدمُ أبي بسبب غرغرينا السُّكري.. بترٌ وراثيّ. هاهاها.. أتعرف؟ أبي كان شاعرًا. هذا قبل أن تنتابه رؤى العواصف التي تدفع السُّفن. أنت تفهم هذه النَّوبات. ابن كركوش. هاهاها.
ج 2: كركوش نهر رائق. السباحة في مياهه تشبه العوم في خليج بحريّ.
ج 1: يا إلهي! ذكّرتني بالبحر. بأبي ومئات المبتورين. اسبحْ. اسبحْ مثل وزّة. يا إلهي! هذا الشيء يجعلني أنتحب مثلهم، المبتورين حولنا في الردهة. يتظاهرون بالنوم. كم هم ساكنون كدُمى ملفوفة لا تنبس بحرف.. لكنّهم ينتحبون بصمت.. يا للسكون! أحنُّ لسكون الأنهار قبل أن نلقي بأجسادنا إليها.. أشتاق لنهر كنهركم..
ج 2: لا تحزن. تستطيع أن تعوم بيدٍ واحدة.
ج 1: حقًا؟ أأتمكن من الاندفاع مثل صاروخ، الاسم الكلداني الذي يرسل الكراسي مع باروخ؟ كم جَهِلَ أبي الطيّب بأسماء أيامنا هذه! لكنّه قال اسبحْ يا بنيّ، اسبحْ مثل وزّة!
ج 2: أبوك شاعر مدمِّر.
ج 1: نعم. أنظرْه يتقدّم نحونا مثل شراع مزّقتْه الرياح.
(ينقطع الضوء لحظة، ثم يندفع نحوهما كرسيّ ثالث خال، لا يلبث أن يستدير ويدرُج مهتزًا بحمولته غير المرئية)
ج 1: إنّه غاضب كعادته. أرأيتَ الكرسيّ يضيق باحتمال الأمر الصادر له ويكاد يقذف بصاحبه غير المرئي؟
ج 2: أنظر. جاء صديقنا المصوِّر.
(يقترب كرسيّ رابع ثم يعود كسابقيه مُسرعًا، تتوامضُ منه أضواء كاميرا محمولة كبيرة، مربوطة عليه)
ج 1: التقطَ الكرسيّ صُورًا لنا. لِمَن تراه ينقل الصُور؟ أتظنّ إدارة المستشفى تُرسِله للتجسّس على أوضاعنا؟ الأطباء الجرّاحون هنا، أم أنّ جهة أخرى تهتمّ لأمرنا؟
ج 2: نعم. هناك من يؤرشّف رقودَنا في المستشفى. أنظرْ وانتظرْ. أعرِفُ عن خفايا هذا العرض أكثر مما تعرفه أنت.
ج 1: نعم. قلتَ لي مرّة إنّك كاتب مسرحيّ أو إنّك كنت ممثّلًا في عروض خاصة.
ج 2: كاتب مسرحيات ذات فصلٍ واحد. أحبّ كتابة هذا النوع من العروض القصيرة. مونولوجات ممثّلٍ محبوس في غرفةٍ محدودة أو قبو تحت الأرض. لا شيء يفلت من المشاهدة اللصيقة، الأنفاس المكبوتة في الصدور، الشهقات. كان واحدًا من عروضي عن مصوِّر مُقيَّد إلى كرسيّ، مهمته تصوير ما حوله من لوحات معلّقة على الجدران.. لوحات تعذيب سجناء، جرحى حرب، جثث مكدسة في مستشفى أو مشرحة أو ملجأ.. عالم داخل عالم.. غرفة داخل غرفة.
ج 1: يا له من عالم مخادع! كأننا نشاهد فصولًا من أحلامنا، متحفًا بمئات الصور للأذرع المقطوعة، للأشرعة الممزقة.. دعيني أنتحب على صدرك أيتها الأصداف.. كلاك كلاك كلاك..
ج 2: عجبًا. أبوك أورثَكَ قولَ الشعر. اهدأ قليلًا. رحّب بصاحبنا الخطيب.
(كرسيّ مدفوع بعاصفة من التصفيق، ينتهي بينهما، ثم يقفل راجعًا بضجيج دواليبه المهتزّة، وسط فسحة ظلام قصيرة)
ج 1: أتصدّق هذا؟ هناك من يتحدّث عن دعاية انتخابية، شراء أصوات الناخبين. أترانا نتعرّض لمكيدة ما؟
ج 2: لا أعلم. لكنّهم يتحدّثون بأنّ إصابتنا كانت بسبب مكيدة.
ج 1: مكائد. كمائن. خرائب. أنا خائف ممّا تنقله الكراسيّ، أيها الأقطع.
ج 2: خفّف من غلوائك. هدّئ من روعك.
ج 1: أتوافقني بأنّ عرض الليلة لن ينتهي بسلام؟
ج 2: لا أوافقك. إنّهم في كلّ أحوال العرض لا يبلغون الشأوَ الذي بلغه أبوك الشاعر. لو كان حيًّا بيننا اليوم لابتكر عروضًا مسرحية قصيرة كعروض مستشفانا.
ج 1: فضّلَ أبي العروضَ الوسيعة، عروضَ البحر.
ج 2: ذاك زمنٌ مضى.. زمنُ السفر والترحال والاكتشاف. عروضُ اليوم أكثر اختناقًا بالجدران الصمّ والكراسيّ التي تشبه الخوازيق لضيق مقعدها وصلابته.. كراسيّ تفلت من حشواتها الجلدية قضبانٌ كالخوازيق.
ج 1: والنظّارة مُسمَّرون عليها لا يتحرّكون.. مشهد مخيف.. أقصدُ لا شيء مخيفًا في هذه العروض حتى الآن.
ج 2: سترى ما يناسب شاعريتك الموروثة من أبيك. عروض الغرفة التي هرب منها في عصر الأغنيات البحرية..
(كرسيّ يتقدّم بثقلٍ كبير، كتلة محمَّلة بالمسامير والخوازيق المتماسكة، ما أن يصل قريبًا من سريريهما، حتى يستدير ويختفي متمهلًا من حيث أتى)
ج 1: أخشى نهايةَ العرض. مع أنّي لا أتوقّع شيئًا أكثر رعبًا من الخوازيق الفالتة من الكراسي، إلا أنّي أتنبأ بمفاجأة غير متوقعة، بنهاية مخيفة.
ج 2: لكلّ عرض نهاية. عرض متعة أو عرض قسوة، يديره هؤلاء الأطباء القدماء.
ج1: لكن لِمَ هؤلاء المرضى لا يعبأون مثلنا بمقدم الكراسي؟ هاجس يُنبِئني بأنّ أحدًا لن يُسعِفنا هذه المرّة. مُسعِف لا يفهم لغتَنا ولا يعلم بتضحياتنا. إنهم صمّ كالجدران..
ج 2: دعكَ من المبالغة. كلّ شيء محسوب، كصورةٍ تظهر للعيان تدريجيًا في استوديو تحميض قديم.
ج 1: هذا ما أعنيه أنا نفسي، أن تُقطَّع أوصالُنا ليلةً بعد ليلة في هذا المستشفى.
ج 2: ستحين الفرصة.. فرصتنا بشكل من الأشكال أو صورة من الصور..
(يظهر ممرض الرَّدهة -شالوخ- دافعًا كرسيًّا محمّلًا ببذلات عسكرية مرقَّطة، مرتَّبة. يقف قربهما ويضع بذلة على سرير كل منهما، ثم ينصرف بتمهل، صافرًا لحنًا بشفتيه)
ج 1: ما لهذا الممرّض يتجاهل وجودَنا؟ أردتُ سؤاله عن عرض الكراسي المختلف، هذه الليلة، لكنّه لوى كرسيّه وانسابَ كثعبان. أتظنّه جزءًا من هذا الشيء.. الشيء الذي أكره أن أسميه؟
ج 2: عصف الرياح، الروح الشريرة للخرائب الكلدانية.. على أيّ حال، إنّه يؤدي واجبه.
ج 1: بالطبع إنه يؤدي واجبه. جاءنا بملابس جديدة. أترغب في العودة إلى هناك حقًا؟
ج 2: سنقرّر ذلك فيما بعد.
ج 1: لماذا نؤجل المواجهة؟ سيعود شالوخ ويسلّمنا تجهيزات الحرب الأخرى.. أو سيقطع لنا اليدَ الثانية.. علينا الإفصاح عن هواجسنا.. هاجسك حول عروض الغرف الضيقة والجدران الصمّ وخوازيق الكراسي.. وهواجسي أيضًا عن السباحة والسُّفن.
ج 2: سيحين الوقت.. أنظر ماذا يخبئ لنا الأطباء الآن.
(يظهر كرسيُّ المسامير والخوازيق ثانية، ويقترب في الممرّ منهما بهدير يصكّ الآذان، تتبعه مجموعة متمهِّلة، خالية إلا من القضبان البارزة من المقاعد، ثم تنسحب جميعها ويعود الهدوء للردهة)
ج 1: أرأيت الموكب المسلّح؟ لن تمرّ الليلة بسلام. لن تنقطع الكراسيّ. أتعتقد النوم ممكنًا مع صوت الدواليب؟ ما لأصحابنا لا يسمعون؟
ج 2: حاول أن تستلقي وتدفن رأسك تحت الغطاء مثلهم. أتستطيع؟
ج 1: لا أستطيع.. ما الغاية بنظرك من هذا العرض المجنون ليلة بعد ليلة؟ أتراه ينتهي فننعَمُ بساعةِ منام؟
ج 2: لا أعرف. سنعتاد الأمر. لا شيء يخيفنا.
ج 1: هل من مهرب؟
ج 2: لا مهرب.
(يعود ممرّض الردهة شالوخ ويقف في وسط الممر، تحت ضوء مسلَّط على رأسه. يتهيأ للكلام بعد فترة صمت)
الممرّض: أتوقّعُ ما ستسألاني عنه، فأنتما الجريحان اليقِظان الوحيدان في الردهة، اللذان أزعجَكما اقتحامُ الكراسي عزلتَكما. تأسف المستشفى لهذا العرض الذي لا دخل لها في منعه أو تأجيله. أعرف أنّه شيء تحدّثتما عنه طويلًا. شيء تحسبانه مزعجًا جداً. لكنّي أبشرّكما بأنّ المستشفى تلقّت إخطارًا بإنهاء العرض. كان هذا ضروريًا في الليالي السابقة، أمّا بعد الليلة فسيُعاد نشرُ الكراسي المتحرّكة خارج المستشفى. وإذا أردتما الحقيقة، فالكراسيّ بدأت بدخول المدينة فعلًا. هاتفَني الدكتور باروخ وأخبرني بأنّ طلائع الكراسيّ تتمركّز في ساحة التمثال الكبير. خرج طبيبُنا في نزهة قصيرة لاستنشاق الهواء، وهناك تلقّى اتصالًا على هاتفه النقّال، من جهةٍ ما، بسحب الكراسي من المستشفى؛ يحتاجونها في مكان في الخارج. قال إنّ عددها سيتزايد في الليالي القادمة حتى تحتلّ الشوارع كلّها. اطمئنّا. هذه ليست النهاية، ثمة نهايات محتمَلة كما قال الطبيب باروخ، لكنّ واحدة منها لن تمسَّكما بسوء. تصبحان بسلام.
(الضوء يخفت تدريجيًا، فتغرق الردهة في عتمة شفيفة، مع انصراف الممرّض. يُسمع صوت المطر وصفير الرياح يخنقان الدواليب التي تغادر المستشفى).