يكاد يكون كتاب الشاعر عبد اللطيف اللعبي ” شاعر يمر” (دار ورد، ترجمة: روز مخاوف، 2010) كتابا في كل شيء، وعن كل شيء يشغل شاعرا فاضت ذاكرته بكل التجارب والمدن والأشخاص والرفاق الذين عبروا إلى ضفاف الأبدية. لكن قارئ الكتاب يدرك في الأخير أن بطل هذا الكتاب _اليوميات هو القرن العشرون، الذي بخلاف كل القرون، كان مسرحا حيا لجميع معارك التحرر. يبدأ اللعبي كتابة يومياته بتاريخ 20 أكتوبر 2007، المفكر الفرنسي “جبل كيبل” أيضا بدأ كتابة يومياته “يوميات حرب الشرق”(غاليمار 2002) في شهر أكتوبر، فهل أكتوبر هو شهر كتابة اليوميات؟ وينتهي اللعبي من التاريخ الدقيق ليوميات باليوم والشهر في شهر ديسمبر، أي ابتداء من الصفحة 35 ليبدأ رحلة أخرى في سكب محتويات الذاكرة. وبذلك نستطيع أن نقول إنه عندما وقفت اليوميات بدأت السيرة الذاتية. ولكل شكله ورهانه. فاليوميات لا تراهن على قارئ، بل هي حميمية، مستورة بحجاب سميك، فيما السيرة الذاتية هي مجموعة تجارب يريد أن يقتسمها الكاتب مع القارئ، هي “حصيلة الأيام”، حسب تعبير “إيزابيل إلييندي”. ألم يقل غابرييل غارسيا ماركيز عن الحياة إننا “نعيشها لنرويها”، في أشهر سيرة ذاتية في القرن الحادي والعشرون أمتع فيها “غابو” قراءه بألمع سرد استرجاعي. لكن يبدو ان اللعبي، خلافا للتقليد، أراد ليومياته أن تنشر بين الناس، والدليل على ذلك هو صوغها اللغوي الرفيع، وعنايتها الفائقة بالتصوير والتحليل واستخلاص النتائج. والأهم من ذلك كله هو وفاء اللعبي لروح النقد التي لا تكتمل إلا بالمقارنات. ففي يومية 25 أكتوبر مثلا يسجل وقائع رحلته الخاطفة إلى اللوكسمبورج من خلال دعوة وجهها إليه الشاعر “جان بوتانت” ليحل ضيفا على المجلة الأسبوعية”لوجودي” ( الخميس) لإلقاء محاضرة في موضوع “أوروبا كمبتغى”، والتميز الذي يطبع الدعوة هو أنها وجهت لشاعر من خارج أوروبا، عربي الجنسية، فرنسي اللسان ويعرف أوروبا، عوض دعوة الخبراء والسياسيين المرموقين الذين يحتكرون الكلام في مثل هذه القضايا. ولم يتردد اللعبي في الحكم على اللقاء الذي جمعه بجمهور أوروبي يتحدث وهو مدعم بالحجج العقلانية “مجردا من تقلبات المزاج التي تواجهني في لقاءاتي مع الجمهور في الجانب الآخر من المتوسط، وفي المغرب على الأخص”( ص.14). وقد كان ذلك كافيا بالنسبة للشاعر أن يمتدح أخلاقيات الحوار الصادق التي يفتقدها في العالم العربي.
لابد لكاتب اليوميات أن يقف أمام سؤال الزمن، وتحديدا أمام سؤال العمر، هذا النهر الذي يجري سريعا نحو المصب. يكتب في يومية 29 أكتوبر: ” وصلت إلى عمر باتت فيه الأسئلة التي كنا نطرحها في السابق لشق درب للتفكير أو لإطلاق تحد ما، باتت من الآن وصاعدا تحتاج ولو إلى بداية إجابة” ( ص.16). والزمن معني مباشرة بالجسد الذي يتغير ويستسلم لجريان النهر العظيم. وهذا الجسد يواجهه بتحد حاجيات أخرى هي خاصة بالعقل، فكيف التوفيق؟ كيف الإجابة عن السؤال الصعب؟ يسميها الشاعر “الذي يمر”: “معركة التفوق المحتدمة بينهما”. ويستخلص بمرارة:” هكذا لم أعد أتقدم. وبدلا من اتباع الخط المستقيم، يميل فكري إلى جري في حركة لولبية، الشكل المميز، على ما يبدو، للفكر الشرقي. ليكن”.
بعد سيل الأسئلة المرهقة يهجم الحنين إلى البلد الأم: “منذ أسبوعين، بدأت أشعر بالحاجة إلى أن أكون في المغرب. لدي ما يشبه رغبات امرأة حبلى، يمكن أن تدور حول طبق طعام معين، او فاكهة في غير موسمها”(ص.32). ويويمية 10 ديسمبر يبرز الكيل الذي طفح بكاتب تطرح عليه أسئلة متجاوزة من قبل قراء قرأوه منذ عشرين سنة، أو من قبل صحفي في جريدة لم يصدر عددها الأول، ليعيدنا جميعا إلى مأزق الكاتب في العالم العربي. أما في فرنسا أو اللوكسمبورج، فان الشاعر يكون في ضيافة العقل والصدق والحوار الحر. هنا تنتهي اليوميات، ويدخل الشاعر، دون سابق إنذار، في جنس آخر هو بمثابة شقيق نوعي لليوميات، هو السيرة الذاتية التي هي سرد استرجاعي. ولم ينتبه الشاعر إلى هذا المنعطف غير المتوقع إلا وهو في الصفحة 51، على عتبة نص ” الحقيبة الحمراء، يكتب: ” توقفت يومياتي فجأة في ديسمبر الماضي، واتخذت منعطفا غير متوقع. أين كنت يا ترى وما الذي حدث؟ سفر، أسفار. هل وقع عطل في الكتابة أم إضراب متعمد عنها؟ هل هو شك جدي بضرورتها أم مجرد تعب في الروح؟”.
منذ الصفحة 38 يبدأ اللعبي يستذكر المغرب، يبعث إليه رسالة ” بلدي العزيز”، ويبدأ في استذكار مرحلة الاستعمار الفرنسي، وفاس :” لا بأس من القول بأن علاقتي معك يا بلدي العزيز قد تدهورت بعض الشيء” (ص.40)، إنها مرحلة، لمن يعرف اللعبي، مجلة “أنفاس” ومعركة إطفاء الشمعة التي تضيء، مرحلة السجن والشعر: “قصائد تحت الكمامة”، ورواية “مجنون الأمل “. زمن الريح المجنونة والخسوفات المتكررة.
بقي السرد الاسترجاعي الذاتي في “شاعر يمر” حتى بلغ لحظات الذروة، وهي كثيرة. فيبدأ يسائل لحظات تاريخية مضت في نص ” هوس الأندلس”. أو في النص الغفل من العنوان والذي عاد فيه الشاعر على الجرح الأصلي: “مجلة أنفاس” المحظورة في ومن مغرب ” سنوات الرصاص”، وانتمائه إلى المنظمة اليسارية المحظورة “إلى الإمام”.تلك المرحلة التي كان يكتب فيها بأسماء مستعارة، أحدها “الأندلسي”. وهذا يؤكد مرة أخرى أن كتاب “شاعر يمر” هو كتاب الألم، والأشياء المفقودة، والأماكن المجروحة. وأول تلك الأمكنة مدينة فاس، مسقط الرأس، والقدس في نص “صباح الخير يا قدس”، ومحمود درويش وإدريس الشرايبي والآخرون.