أراني الآن في ليلة لا نجمة فيها ولا قر، كنت في الخص الذي أقمت جوانبه من (سدد/ الغاب, وعرشته بالجريد والقش, ووقعت عيني عل الرجل ينحدر عل الأرض باتجاه خيال المأتة المنصوب وسط الزرع,كان ينحدر في الفراغ من جهة ميدان المحطة, كنا – في هذا الزمن البعيد – نواه مساحة واسعة خالية من الدور والمباني المرتفعة, تنتهي حدود الأرض المزروعة بالخضار بعيدان القصب التي تنفلق على الغموض والتوجس, وكنت في هذه اللحظة انتظر قدومها من نفس الاتجاه, فلم أرغب في القيام اليه حتى لا يعطل موعدي المختلس.
كان لم يزل ينحدر على (ريشة) القناة المائلة نحو الأرض هذه القناة كانت تجلب ماءها من الترعة الموازية للسكة الحديدية, ردمت قبل عام الوحدة بعام, وبعد عام العدوان الثلاثي بعام, فالسيارات بدأت تتردد بكثرة من العاصمة الى مدن الأقاليم الشمالية, والطريق القديم لم يعد صالحا لاستقبالها واختنق مدخل البلد باعدادها الكثيرة, فمدوا المواسير الضخمة تحت الأرض, وجعلوا لها فتحات كغرف التفتيش, وسيجوا شريط القطار بسور من الدبش الأبيض, ليقل خطر الحوادث, فكم من رجال وأطفال دهستهم عجلات القطار حين كانوا لا يحاذرون على أنفسهم عند عبور الشريط. والساقية كنت- تراها على رأس الحقل هناك, بنفس الموضع الذي تشغله الآن محمصة البن, كانت القناة التي أروى منها أرض القصب فرعا من قناة كبيرة تتفرع روافدها في الأرض الواسعة التي كانت تشكل سفح التل القديم.
المهم أني تجاهلت الرجل, ولم انبهه لوجودي حتى لا يضيع علي موعدي المنتظر، وهو ظل سادرا في اقتحامه للأرض, ويدنو من خيال المآتة على ظن بأنه صاحب الزرع, يدنو منه هادا يده بثمن القصب: يا عم.. عم يابتاع القصب.
والخيال قابع بمعطفه القديم, وبيديه الممدودتين عن آخرهما ورأسه الكبير الملفوف بقماش بال.
والرجل يقترب: عاوز قصب يا عم.
ولما صار قريبا جدا من الخيال اكتشف صمته الكئيب, فدار دورة كاملة حول نفسه أدت الى سقوطه على وجهه حتس سمعته يتفجر بضرطة عظيمة اهتزت لها عيدان القصب, وقام على يديه ورجليه، ثم هوى مرة أخرى، وراح يهوي ويقوم فلم يصلب له حيل الا وهو يغادر حدود الأرض.
ولم أتمالك نفسي, فاستلقيت على ظهري وأنا أقهقه على مشهد الرجل المرعوب, ولم استفق إلا على شبحها الواقف على مدخل الخص.
كان أبي قد قال لي حين زارني في الخص ذات صباح فوجد بقايا فطيرة البارحة: والله يا ابن الخاسرة لتموت مسموما فقلت له: خليها على الله.
وقصر علي حكاية العشيقة التي دست السم في فطيرة المعشوق بعد أن لاقت منه الأمرين, وراوغها في الزواج بعدما وقع المحظور. فقلت له: لكني أريدها للزواج فعلا.
وكنا تقدمنا لأبيها، فأصر على مهر لا يقل (بارة) عن ستة عشر جنيها ذهبيا، ولم أكن أملك غير الخمسة عشر، وأصر أبي على هذا المبلغ لا يزيد مليما، وتمسك أبوها بطلبه ونفض أبي نفسه من الجلسة غاضبا، وقطعت عهدا على نفسي لتكملة المهر المطلوب, ونويت على الكدح ليل نهار على أن يمنحني مهلة لا تقل عن العام, وخلع أبي يده من الموضوع تماما.
ولم تنقطع هي عن التردد على الخص ليلا, وقضينا أمسيات هنية بين سيقان الغاب وعويشة القش نخطط لأيامنا المقبلة.
دخلت علي – في هذه الليلة – فوجدتني على حالي تنطلق مني الضحكات غصبا كما استعدت مشهد الرجل الهارب من خيال المآتة, قالت: من يضحك وحده يزور.
وضعت صرة الفطائر جانبا، ومالت علي بجذعها فضممتها الى صدري بشمق لا ينفد، وانتشر في المكان فوح الفطائر الدسمة, رائحة السمن البلدي مخلوطا بالعجين الذي استوى على مهل في نار الفرن المقدوح بحطب الذرة. واقترنت لدي هذه الرائحة بليالي الغرام الأول, فهي تستعيد لي عنفوان الصبا المنقض, فهل لها من استعادة: أم أنها ترسبت هناك في قاع الذكريات البعيدة.وصارت المستحيل ذاته ؟
قلت لها: هانت يا أمينة على آخر الموسم يجمعنا السقف الحلال.
قالت إن أباها يبذل كل الجهد لخلعه من دماغها، وهو عليم بأن جهده هباء، وأمي تصده قائلة له لا تحاول, هي له وهو لها.
– هل تعلم بمجيئك الى هنا؟
– ومتى رأيت أما ترضى لابنتها الزيارة الليلية لشاب يتكلم عنها؟
– هذا صحيح.
– هي تنام بعد صلاة العشاء مباشرة وأبي يخرج ليتمم على خفرائه.
– وأنا مطمئن أنه لن يأتي خصي أبدا.
– سيعود الى السهر معك ليشرب شايك الحبر إذا وفقنا للزواج.
– ربنا يسهل.
– إن الأمور تتعقد خاصة بعد أن انضمت اليكم أختك وأولادها.
وكانت أختي الكبيرة قد انتقلت الى دارنا بعد مصرع زوجها، الطاحونة لم تكتف بفديتها الأولى, ذلك الصبي الذي التقمه السير من يد أمه, وهمدت قلوب الناس عقب الحادث, وقالوا ها هي الطاحونة تنتقم لنفسها، صاحبها – الكافر – جحد حقها في الفداء، فكظمت غيظها وتركته يعمل, ويدير آلاتها، ينقل الحركة من الوابور الى السير الذي يتمطى تحت (السندرة) من حجرة العدة حتى (القادوس) لينقل الحركة الى الحجر الصوان المنقوش, دارت الطاحونة, ولم تعلن عن حاجتها أبدا، وكان الناس كلما سمعوا صوت العادم تقذفه خارجها في كتل دخانية داكنة يقولون هذا هو نداء الدم.
إن الطاحونة تطالب بحقها، حتى كانت تلك الظهيرة الحامية حين غافلت الأم الذاهبة لطحن غلالها فخطفت الولد من يدها, التقمه السير الشرس, وهرسه تحت أسنانه, طوى الجسد الصغير تحت لسانا المطاطي الأسود، وراح وجاء بين الطارات, ثم لفظه قطعا من عظام ولحم فوق الأرض المنداة بالزيت.
واضطر المالك الى بيع الطاحونة لعائلة زوج الأخت الذي امتلك سهما مع إخوته, هؤلاء الإخوة الذين كانوا يعملون بها، فتعلموا الحرفة الجديدة, فنقلتهم من شقاء الفلاحة الى ترف الجلوس على (دكة) الميزان, وعلى كرسي الطحان.
ودخل زوج الأخت ذات صباح ليرفع السير من الطارة المتحركة الى الطارة الساكنة, فما أن ثبته على الثانية حتى لفعه معه, فدارا سويا، بعدها جمعوه عجينا أحمر في (جوال) قديم وعلق أهل البلد قائلين: الملعونة أخذت فداء المشتري الجديد.
قلت لها: رزقهم على الله.. لن أكف عن المطالبة بحق هؤلاء اليتامى من أعمامهم.
وسألتني: ماذا ستفعل لمواجهتهم وهم معروفون بالإجرام.
– المشكلة ليست معهم.. المسألة في يد الأخت.
– كيف:
– إنها تخفي الورقة التي تثبت حق زوجها في الطاحونة, وتخطط للاستقلال بحياتها والعيش بما سيمنون به عليها، وأنا أريد أن أستغل هذا الحق في المطالبة بحقوق أبي أيضا.
– أبوك ؟!
– إن له دينا عندهم, وهم يماطلون, سأخوض المعركة معركتين ولن أرتاح حتى تؤول هذه الطاحونة لنا، يكفي العمل في أراض الآخرين, أحلم بأن تكون لي أرض, وأحلم أن أتعلم حرفة أصحاب الطواحين. ليكون لي ملكية الأرض والطاحونة.
وانطلقت الرصاصة فاغتالت الصمت, ونثرت أشلاء خيال المآتة بين خطوط الزرع, خيل الي أن القصر قد انطفأ وأنطمس المكان تحت ظلمة أشد حلكة, لم تمنعني من رؤية شبح الذي جاءني أول الليل يطلب قصبا، كان في زيه الرسمي، يعتمر لبدة الخفير، ويحمل بندقية الخفير، ويشير للرجل الآخر نحو المكان.
تقدم الرجل بعد أن عاد الخفير الى دركه, كان يتوجه نحو الخص مصدرا بندقيته أمامه. وصاح: اخرجي يا أمينة.
همست الي: هذا أبي.
واندفعت لتحمي جسدي من رصاص بندقيته, وقفت أمامي فاردة ذراعيها، وخرجنا أنا وهي من الخص, لنواجه الأب.
– تعالي يا فاجرة.
تمالكت نفسي وقلت متحديا: أردتها على سنة الله ورسوله.
لم يجب على كلامي، وسحبها من كفها ليدفعها أمامه, وقبل أن يعبر القناة الجافة, التفت نحوي ليقول:
– تأتي في الغد لتطلبها شرعا.. لا يهم الجنيه.
يوسف أبو ريه(قاص من مصر)