استعارة لغوية
«المتبقي» مصطلح أستعيره من جان جاك لوسيركل في كتابه «عنف اللغة»، الذي طرح فيه نظريته اللغوية التي عُني فيها باللغة التي لا تدخل ضمن السياق اللغوي المتواضع عليه أثناء الحديث، وإنما يظهر على هيئة سقطات اللسان…
وهو يدافع في نظريته هذه عن هذا المتبقي؛ بأنه هو الآخر له تأثيره على المتكلم والسامع، بل يمكن أن يشكّل بنفسه نسقاً لغوياً خارج النسق اللغوي العام.
إذن عندما أتكلم عن المتبقي في الفكر فإنما أقصد تلك الكائنات الفكرية التي لا تظهر مباشرة ضمن منظومة الإنسان العقلية، وحتى يتضح الأمر دعوني أقربه بمثال:
عندما تدخل محلاً تجارياً تجد النظام ساكناً كل ربوعه؛ قُرنة للملبوسات، وأخرى للمطعومات، وثالثة للمشروبات، وهناك رَبْعة للمنظفات، وتقابلها أخرى للأدوات المنزلية، العمال بلباس موحد، تجد فيهم حسن المعشر في التعامل، والبضاعة بأسعار معتدلة، وهكذا…
لكنك قد تجد مادة على وشك الانتهاء، ونوعاً من الغذاء عالي الجودة يتميّز عن بقية المواد، ونوعاً آخر أرخص مقارنة بسعر السوق العام، وقد تلاحظ انحرافاً في ترتيب بعض المبيعات، وتلمح غباراً في زاوية، وهكذا…
وحينها ربما تقول: ما أجمل نظام المحل؛ لولا هذه الهنات. وقد يقول غيرك: جميل رخص هذا المادة وجودة تلك، ليت كله كذلك. وقد يأتي ثالث ولا يبصر هذا المختلف من النظام العام.
إذن ما نراه قد خرج عن النظام العام هو المتبقي، وطبعاً قد لا نراه، أو لا نرى أكثره.
والسؤال: هل هذا المتبقي لا يحويه نظام عام؟ هل هو مجرد فوضى عارمة تنهش النظام خلسة؟ أو هو فوضى خلاّقة؟ وأسئلة أخرى قد ترد علينا ونحن نحلل هذا الموقف.
متبقيات فرويد ولاكان
نأتي إلى الفكر والمتبقي فيه؛ كل إنسان يفكر، وتنتظم عقله مجموعة من الأفكار، تدفعه للسير في الحياة، والفكر ليس صخرة صلدة تكبس تفكير الإنسان بنمط جامد منذ ميلاده وحتى وفاته، بل التفكير نهر جارٍ لا يمكن أن تستقر مياهه عند نقطة واحدة، ولذلك الإنسان بكونه كائناً مفكراً اليوم ليس هو نفسه في الأمس، ولا هو كذلك في الغد، ولذا تجده يطور منظومة تفكيره باستمرار، ونحن هنا لا يعنينا التطور إيجاباً أو سلباً، وإنما أقصد أن التفكير في حركة دائبة.
والإنسان وهو يفكر لا يفعل ذلك خبط عشواء، بل يحكمه منهج واعٍ، والسؤال: هل كل الكائنات الفكرية التي يحويها دماغه تدخل نظامه الفكري الواعي؟.
طرح سجموند فرويد نظريته في العقل؛ بأن الإنسان يوجد فيه عقل ظاهر وعقل باطن، وأن ما يتحرك به في الحياة بشعوره هو العقل الظاهر، هذا ما يبدو، ولكن –بحسب فرويد– أن للإنسان عقلاً باطناً له تأثيره القوي عليه، يظهر في سقطات اللسان والأحلام والاضطرابات النفسية والعصبية، وقد يكون هذا العقل أخطر أثراً على حياة الإنسان؛ من جهة أنه لا يدركه، فضلاً أن يسيطر عليه، بل العقل الباطن قد يوجهه في أحيان كثيرة وأوقات حاسمة.
خرج فرويد في نظريته هذه أن العقل الباطن عشوائي وغير نظامي ولا مرئي، بيد أنه يتدخل في تسيير السلوك الإنساني.
ثم جاء بعده جاك لاكان ليطوِّر هذه النظرية فيقول: إن العقل الباطن هو الآخر منظم ويتحرك بانسجام مع كائناته، ويمكن أن يكون مرئياً بدراسته وتحليله(1).
مرة أخرى أقول: إن الإنسان كائن مفكر وفق منظومة شعورية، إلا أن خلفها تقبع كائنات فكرية أخرى لا يشعر بها الإنسان مباشرة، هذه المنظومة اللاشعورية هي ما أسميها هنا بالمتبقي.
الصف الشعوري واللاشعور
وبعيداً عن مناطق الشعور واللاشعور الفرويدية أعيد ترتيب المسألة كالآتي:
الإنسان يفكر وفق محددات فكرية ينتظمها منهج معيّن مُدرَك يقوم بتحريك الفعل الإنساني، هذا الإنسان يشعر تماماً بطبيعة تفكيره، ويكون مسؤولاً أدباً عن اتخاذ قراراته في الحياة.
بيد أنه يوجد خلف هذا المنهج متبقٍ من الكائنات الفكرية تسلك طرائق عدة في البروز والتخفي لكنها مؤثرة، وأحياناً مزعجة، هذا المتبقي في رأينا لا يمكن أن نتبنى فيه نظرة فرويد وحدها، ولا نظرة لاكان وحدها، بل تتوزعه مجموعة لانهائية من البروز والتخفي، والشعور اللامنتظم واللاشعور، ومنه ما ينتظمه –مع خفائه– منهج، ومنه ما يعيش طليقاً تتقاذفه الأنواء الذهنية، فبينما هناك ما لا يحصى من الكائنات الفكرية التي تنخر عقولنا دون أن نشعر بها، نجد في المقابل كائنات نكاد نمسك بها، إلا أننا لا نستطيع إليها طولاً، ويتردد بين هذين الطرفين ما لا يحصى من الكائنات الفكرية أحب أن أسميها بالأشباح الفكرية، هي ليست أشباحاً وهمية بل هي كائنات قائمة، وإنما تتبدى لنا في صور لا نكاد نستطيع أن نمسك بها.
والسؤال: كيف ينتج هذا المتبقي؟.
إنه ثمرة المعارف التي تدخل من نفس منافذ الشعور، بل ومنذ اللحظات الأولى للإنسان التي قد تسبق لاشعوره، فالإنسان يتغذى بالمعلومات كل لحظة، هذه التغذية يقوم بصفها في قالب شعوري منهجي يُقْدِرُه على فهم الحياة حوله، لكن الزخم الهائل من المعلومات تفوق كثيراً مقدرة الإنسان على صفها في قالب منهجي واحد متكامل في وقت واحد، كما أن كل معلومة تدخل ذهنه ليست بريئة تماماً، بل هي تحمل قدراً كبيراً من المضامين اللاشعورية التي لا يحسّ بها الإنسان مباشرة.
الصف الناقص
ولذلك يملك الإنسان جهاز صف ومراجعة في عقله، يقوم كل حين بإعادة تدوير المعلومات وفق منهج شعوري، هذا الجهاز فوري وذو مقدرة هائلة في عمله.
لكن هل يقوم بإعادة تركيب كلية كل لحظة؟.
لا، لا يقوم بإعادة كلية، لأكثر من سبب:
أولاً: لأن المعلومات تتجدد كل حين.
ثانياً: لأن هذه المعلومات من طبيعتها قد لا تؤثر مباشرة؛ بل تختمر فترة من الزمن.
ثالثاً: لأن كل معلومة أو مجموعة معلومات لا تعطي منظومة مكتملة وإنما هي الأخرى ناقصة.
رابعاً: لأن هذه المعلومات قد تتمحور في منهج خفي لا يسهل كشفه، وإن اكتشفه الإنسان فيصعب عليه دمجه في منهجه الشعوري، لأنه يحتاج إلى طاقة فكرية هائلة ليصنع من منهجين منهجاً واحداً منسجماً مع مجموع مفرداته الجديدة.
لكل هذا يوجد دائماً متبقٍ.
وأخيراً: لو افترضنا هذه الإعادة الكلية لما كان هناك متبق أصلاً.
والأهم من كل هذا أنه كثيراً ما توجد خطوط ممانعة لإعادة الصف والمراجعة في المنهج الشعوري تنشأ من أعراف اجتماعية أو قصور معرفي أو تصورات دينية، ونحو ذلك.
تهميش المتبقي
إن كان هذا المتبقي موجوداً في الإنسان؛ فهل يمكن أن يهمشه جانباً، ثم يتحرك وفق منهج شعوري ثابت؟.
عندي؛ لا يملك الإنسان تثبيت هذا المنهج، لأنه آلة ذهنية تقوم بعملها في المراجعة والصف لاإرادياً؛ لتعطي كل مرة منهجاً محسوساً، إن أي عملية تهميش قد يقوم بها الإنسان اتجاه بعض كائنات متبقية تؤدي في النهاية إلى التراكم وفق منهج خفي قد يقوم في لحظة ما بقلب المنهج الشعوري الذي عليه الإنسان عادة إلى منهج آخر، وإن ضغط ليحول دون هذا الانقلاب فإنه سيعيش حياة قلقة فكراً ونفساً، أو يُجبَر على الانسحاب من المعترك الفكري في الحياة؛ ليعيش حياة باردة لا لون لها ولا طعم ولا رائحة.
وبما أن هذه المراجعة هي ذاتية، أي تخص كل إنسان بذاته، وعند ظهورها قد تبدو متقاطعة أو حتى نافرة عن المنظومة الاجتماعية الكلية، وهذا قد يتهدد الذات الاجتماعية، فإن الإنسان لجأ إلى التثبيت الخارجي، وأقصد بذلك إنشاء مناهج ثابتة لمعارفه، كالمنطق والنحو والفلسفة والفقه والقانون وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد، ونحوها.
طبعاً لا أنكر أن هذه المناهج قد خدمت الإنسان كثيراً، واختصرت له المسافات المعرفية، وضبطت له بوصلة معارفه، إلا أن كثيراً منها ثبّط إعادة البناء المنهجي الذاتي للتفكير الإنساني، وهذا لم يحلّ الإشكال ولم يحسم المسألة، بل أدى إلى التناقض بين الذات وخارجها.
عند عدم فسح المجال لظهور قراءات مستمرة لمنظوماتنا الفكرية، أي تغييب التركيب المنهجي العلني الذي يمنح الفرصة لكشف الخلل وإعادة تركيب دائمة، فإن المتبقي لا يختفي بل يعمل عمله في النفس الإنسانية، وهذا ما قد يظهر على هيئة انفصام بين الأجيال، أو تناقض فكري أو اضطراب عقلي أو قلق نفسي.
الإنسان ولو حاول جهده أن يزيح هذا المتبقي عندما تظهر له أشباحه فإنه لا يملك ذلك، بل تستمر منظومته في التشكّل من جديد، فإذا كُبِت فإنه ينفجر بطريقة أو أخرى، وربما بمنظومة بعيدة كلياً عن نسق المنظومة الاجتماعية العامة.
ومن هنا فعلى الإنسان أن لا يخجل من إبراز متبقيه الفكري إلى العلن مهما كان نوعه، بل عليه أن يعرضه على العقول الأخرى، إذ يمكن أنها قد وصلت إلى حلٍّ فلسفي أو معرفي يفيده، بل عليه أن يتصيّد أشباحه الفكرية فيقوم بوضعها في موقعها من منظومته، وعليه أيضاً أن يفتش عن تلك الكائنات الفكرية المختبئة في لاوعيه، ويقوم بترويضها داخل منهجه الواعي، حتى لا تفريه من الداخل وهو لا يدري، أو تحوله إلى كائن ذي شخصيتين؛ إحداهما: يعيشها مع نفسه، يخجل بها من الناس، وأخراهما: يتعايش بها مع مَن حوله، ولو كان غير مقتنع بها.
المتبقي والمأزق الحضاري
على المجتمع أيضاً أن يعطي فرده مساحة واسعة من التفكير العلني حتى يعينه على المراجعة الواعية لمنهجه فيستطيع من خلاله فهم شتات متبقية، ويتمكن من إعادة صفه دورياً بسلاسة، وبصورة أقرب إلى النجاح، وتخطي العثرات والمزالق الفكرية التي قد تترك عليه آثاراً لا تحمد.
إن من المآزق الفكرحضارية التي تعاني منها شعوبنا عدم تربيتها على إعادة صياغة منهجها الشعوري الفوري صياغة سليمة مُدْرَكة، وإنما جلّ مناهجنا تعمل على التثبيت الخارجي للمناهج، أو التربية على المناهج الثابتة، دون تقدير صحيح لتغيّر الزمان، إن هذا التثبيت كما أنه يعني جموداً عند لحظة ماضية كابحة عن الانطلاق نحو مستقبل أفضل؛ يقوم كذلك بعمله السيء في الانفصام المعرفي والفكري، وكثيراً ما يؤدي إلى القلق النفسي والاضطراب العصبي، الإنسان بطبيعته مفطور على تجاوز هذه الحواجز، لكنه عندما يجد التركيبة الفكرية من حوله تشدّه نحو مركزية رافضة المراجعة، فإن أقل ما يصيبه هو موت آلة الإبداع، والتمرغ بلذة على تراب التقليد، وعدم القدرة على السعي نحو الأفضل.
وأخيراً: لو حذفنا –جدلاً– المتبقي فإن المنهج الشعوري سيكون معلَّقاً، يمكن لأدنى ريح تهب عليه أن تقتلعه من جذوره، وذلك لأن المتبقي يكوِّن أعمدة غير مرئية يقف عليها المنهج الشعوري، والفراغ الناشئ من الاقتلاع لا يعني سكون النفس وهدوء البال، بل مناهج أخرى تحل محله وتملأ فراغه، فالحياة لا تؤمن بالفراغ، ثم تبدأ دوره جديدة من المنهج الشعوري ومتبقيه.
ولذلك على الإنسان أن لا يخاف من هذا المتبقي، بل هو فرصة لإعادة تطوير منهجه الشعوري بطريقة مُرْضِية وسليمة، وليس من وسيلة أنجع في ذلك من القراءة والبحث والحوار والمصارحة الفكرية وطرح سيل من الأسئلة على النفس والآخرين مهما كانت محرجة في نظرنا.
خميس بن راشد العدوي
ياحث وكاتب من عُمان