– شارت الى بيدها أن ابتعد لكنني وقفت متسمرا في مكاني. لم تكن بمفردها هذه المرة كانت تسير بمحاذاة امرأة أخري وطفل عمره في حدود التاسعة. خمنت أن يكون الطفل أخاها والمرأة أمها إلا انني سرعان ما غيرت استنتاجي حين اقتربت الوجوه الثلاثة مني واتضحت الملامح أكثر. لم تكن المرأة تشبهها في شيء ,لكن الطفل كان نسخة منها.
كانت المرأة ذات بشرة سمراء وجسم مكتنز، وعيناها على شكل محارتين صغيرتين فقدتا بريقهما الذي كان – بلا شك – أخاذا في يوم من الأيام. بينما مريم (عرفت اسمها من دفتر فواتير المحل الذي دخلته ) كانت متوسطة القوام ووجهها دائري، يشع بهاء ونضارة كبلورة, وعيناها واسعتان اتساع صفحة ماء الخليج, التي أرنو اليها كلما استبد بي الضيق والقرف. أشاعت بوجهها حين لم تكن بيني وبينها الا خطوات قليلة. لم أتمالك نفسي، حاولت أن اصرخ مناديا، إلا ان فمي بقي مفتوحا، مليئا بالمعرفة التي غارت شيئا فشيئا في الاعماق. كانت تسير بثقة متناهية, تلك الثقة التي تشعرك بأنك ضئيل أمام الآخر، غير قادر على المجابهة إلا بمعجزة. دخلت محلا للأخذية, كانت ممسكة الطفل بيدها اليمنى، وكنت المرأة القصيرة السمراء تسير بمحاذاتها من جهة اليسار. لا أدري كم من الوقت بقيت واقفا في مكاني بلا حراك وعيناي مصوبتان تجاه باب المحل. لم أشعر بالدقائق وهي تجري الواحدة تلو الاخري، لم اشعر بشيء، وحده العرق المتصب من جبيني كان نذير بؤس وخيبة أمل. سحبت رجلي بتثاقل, تمشيت قليلا على رصيف الشارع الفاصل بين مجمعات حي القرم التجاري. لم يكن هذا الحي بالصورة التي عليها الآن منذ عشر سنوات، كان هناك مجمع تجاري واحد أو مجمعان صغيران يلتف حولهما شارع قصير يشبه حدوة الحصان وكان يميز المنطقة في ذلك الوقت مطعمان راقيان, أحدهما صيني والآخر هندي وكنت أتردد عيهما برفقة الاصدقاء، وكان النادلون يعرفوننا واحدا واحدا، ويعتنون بخدمتنا بشكل ملحوظ. كانت المأكولات الصينية ذات الرائحة النفاذة والمذاق الحار تروق لي، وتفتح شهيتي لالتهام المزيد. كان المطعم الصيني قلعة مصغرة من تلك البلاد العريقة الشاسعة, بموسيقاه التقليدية, وديكوراته المبتكرة ؟ المجسدة لروح بلاده وتوابله وانحناءات العاملات حين يقدمن التحية لرواده, تلك الانحناءات المهذبة, المغرية في آن, والمثيرة للرغبات, واحد من الاصدقاء كان مغرما باحدي الصينيات, يأتي كل مساء اول الزبائن وبيده باقة غير متناقسة من الزهور المشكلة, يقطفها من الحديقة الصغيرة المجاورة
لموقف السيارات, وعند دخوله يقف هنيهة في صدر المطعم باحثا بلهفة عن حبيبته, وبمجرد ان يقع بصره عيها ينطلق مهرولا نحوها، وبحركة كوميدية يقدم لها الزهور.ثم يعود الى طاولته بجوار التنين الضخم المرسوم على الجدار, منتشيا بتلك الابتسامة الصافية الممتنة لفتاته.
أما المطعم الهندي، فكان مختلفا تماما عن تلك المطاعم الهندية الرديئة المنتشرة كالفطر في انحاء مسقط, كان اسمه تاج محل, تيمنا باسم التحفة المعمارية الجميلة التي صاغها أحد السلاطين المسلمين بالقرب من مدينة دلهي، تخليدا لذكرى زوجته, وهو واحد من روائع العمارة في العالم ومن عجائب الهند الخالدة.
كان للمطعم الهندي زبائنه الخاصون, الذين نادرا ما يترددون على المطاعم الاخري تجذبهم أجواؤه الغارقة في سحر تلك البلاد المتعددة الاثنيات المتفردة بطقوسها وأساطيرها. تبهرنا الموسيقى المنبعثة كالانين, حين ننصت اليها نشعر وكأنها ترجمة صادقة لمعاناة وعذابا- الانسان, وصوت حقيقي لروح الهند الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ الإنساني، كنا نلتقي، شخصان أو ثلاثة, على طاولة واحدة, فتهرع رئيسة النادلين الينا, تسبقها ابتسامتها الرقيقة ودفء ألوان ساريها، وبمجرد ان تصل بالقرب من الطاولة تحني رأسها وتطبق كفيها ببعضهما ثم تحركهما حركة خفيفة وهما مطبقتان بعد ان ترفعهما الى مقدمة وجهها. كانت تلك طريقة هندية اصيلة في تقديم التحية. كانت تفعل ذلك مع جميع الزبائن, تمارس طقسها الترحيبي وتنسحب, ثم يأتي نادل أخر مرتديا سروالا فضفافما وقميصا داكنا رماديا ومعتمرا عمامة بنجابية مطوية على طريقة المحاربين القدامي. يخفض رأسه بعض الشيء، وبكل تهذيب يضع أمامنا قائمة الطعام. مذاق الكاري اللاذع ورائحة التوابل تغرينا بالتهام كامل ما في أطباقنا من طعام, كانت شهياتنا مفتوحة, وصدورنا مفعمة بعبق الهند.
– هؤلاء الهنوا مختلفون عن أولئك الذين نصادفهم كل يوم وفي كل مكان.
قال وليد:
– انه اسلوب في اجتذاب الزبائن كغيره من اساليب الترويح، ليس إلا.
قلت ناظرا ناحية وليد:
– ربما ما قلته صحيح، ولكن المهم هو الاحساس بخصوصية الطعام.
قال ناصر، وطيف ابتسامة خفيفة تلوح على وجهه:
– لم استمتع إلا بابتسامة ساندا وتناسق ردفيها.
لكزه وليد منبها.
– لا ترفع صوتك فساندا تعرف العربية.
رد ناصر وطيف تلك الابتسامة الماكرة مازال حاضرا:
– لا تخف فهي لا تفهم معنى تناسق الردفين.
ثم غرق في ضحكة مجلجلة لم نملك إلا وشاركناه اياها بكل تلقائية. ولم تكد حفلة الضحك تنتهي حتى وجدنا موهن واقفا بمحاذاة الطاولة وبيده فاتورة الحساب.
حين خرجنا كان المطر ينهمر بقوة, اشتهيت أن أحتسي قهوة في هذا الجو الماطر. اتجه ناصر ووليد الى سيارتيهما, بينما ذهبت أنا ناحية وسط الحي التجاري، ومفتشا عن مقهى. لم يدم بحثي طويلا فسرعان ما عثرت على بغيتي.
شربت فنجان قهوتي بسرعة, كنت محرجا من أعين الموجودين, رغم قلتهم, فملابسي كانت مبللة, والجريدة التي وضعتها على رأسي في خروجي من المطعم لم تصمد تحت زخات المطر وقد رميتها بعد أن تحولت الى غربال لدن. توقف المطر قليلا، فسارعت الى الخارج تاركا أعين زبائن المقهى المتطفلة.
خضت فيما يشبه البرك الصغيرة حتى وصلت الى كبينة هاتف عمومي على ناصية الشارع. اتصلت بالجريدة, قالوا لي إنهم بحثوا عني في كل مكان, وأنهم يريدونني لأمر هام.
سألت عبدالعزيز:
– ماذا تريدون مني
قال:
– الا تعرف لماذا يريدني؟
قال:
– رئيس التحرير هو الذي طلب تواجدك بصورة عاجلة.
قلت:
– أنا محرر مثلك.. من أين لي ان اعرف ؟
طلبت من عبدالعزيز أن يخبر رئيس التحرير بأنني في طريقي اليهم, ولن أتأخر. تركت كبينة الهاتف وأسرعت الى حيث اوقفت سيارتي. على بعد خطوات قليلة من السيارات رأيت محسن يتشاجر مع زنجيين من جنود المارينز. حين اقتربت منهم بادرني محسن والزبد يفوح من طرفي فمه:
– هؤلاء الزنوج مستعبدون في أمريكا. اسألني أنا. أعرفهم جيدا. لقد عشت خمس سنوات هناك وأعرف كيف يعاملون.
صرفت في وجهه:
– أتركهم وشأنهم وأذهب الى حال سبيلك.
– لا اتركهم حتى يرحلوا من هنا.
اخبرتهما بان الرجل مصاب بلوثة في عقله, وان من الافضل الا يستمعا اليه. لكن قاطعني بانجليزية شديدة الشبه بتلك التي يتحدث بها الامريكان:
– أنا لست مجنونا، أنا بكامل عقلي. أنتم المجانين.
ثم أردف:
– هؤلاء الزنوج المستعبدون هناك جاءوا مع اسيادهم.
نهرته طالبا ان يصمت. نظر الي بازدراء، وقبل ان ينصرف جمع بصاقه ورشق به وجه أحد الزنجيين.
أعرف محسن منذ ثلاث سنوات. اراه احيانا كثيرة يجوب ارصفة وأزقة حي القرم التجاري. وغالبا ما يجلس متقرفصا أمام مداخل المجمعات التجارية, يدخن ويكلم نفسه بصوت مرتفع. مرة وجدته جالسا يقرأ كتابا باللغة الانجليزية أمام باب المطعم الصيني. تجرأت وسألته عن الكتاب. قال:
– ديفيد كوبر فيلا لتشارلز ديكنز.
وأخذ يسرد علي مقاطع من الرواية. كان في ذروة العقل والوعي. دعوته لاحتساء فنجان قهوة في مقهى قريب. قال انه يريد شايا.
في المقهى أخذ يتحدث عن الكتب التي قرأها, أعمال ادبية بالغة الانجليزية, وكتب في الفيزياء وعلم الجينات. قال انه مغرم بمتابعة تطور علم الوراثة ولكنه يخشى على البشرية من جنون الاستنساخ. ادهشتني معرفته العلمية ومنطقه المرتب. كان في تلك اللحظات يبدو وكأنه أعقل الناس ولا يمت للجنون بأي صلة. سألته عن سر اهتمامه بالمسائل العلمية. قال:
– الكتب يا أخي تصنع المعجزات، ثم انه تخصصي.
صمت برهة, ثم أردف:
– كنت على وشك الحصول على درجة الدكتوراة في تخصص علمي دقيق لولا المرض الذي جعلني طريح الفراش اربعة اشهر اثر اصابتي جراء خطأ متعمد اثناء أحدى التجارب المخبرية.
ابتسمت غير مصدق ما أسمع. قلت في نفسي لم يبق غير ان يتذاكى علي هذا المخبول. حاولت أن أتعجل في احتساء الشاي رغم سخونته. قال محسن وكأنه احس بما يعتمل في رأسي:
– كأنك غير مصدق.. اقسم لك بالله بأن هذا ما حدث لي.
فضلت الصمت حتى لا اثيره فينتفض جنونه من مكمنه.
وبهدوء غريب واصل تداعياته:
– ولدت في ممباسا وعشت هناك في كنف عائلتي العمانية المحافظة حتى انهيت دراستي الثانوية ,ونظرا لتفوقي وحصولي على درجات مرتفعة في المواد العلمية أرسلني والدي الى جامعة نيروبي، وهناك التحقت بكلية العلوم. كان ابي رجل علم ودين, وكان متفقها في المذهب الاباضي، إلا انه كان في الوقت نفسه محبا للعلوم الحديثة, وهذه خاصية نادرا ما تجدها عند أقرانه. كان يحثني على مضاعفة الجهد في دراستي عن طريق الرسائل التي تصلني منه بانتظام أو عند زياراته للعاصمة بصحبة بعض اقاربي. وكنت مجتهدا بالفعل ومحافظ على قيمي الاخلاقية والدينية. توقف فجأة ليرتشف من كوبه رشفة كبيرة, ثم نظر الي وعلى وجهه ترتسم ابتسامة صافية وقال:
– يبدو انك مللت.
بادلته نظرة باسمة وطلبت منه ان يواصل. وضع سبابته على صدغه وكأنه يحاول ان يتذكر شيئا.. ثم قال:
– نسيت أن اقول لك ان في مدينتي ممباسا كانت تعيش جالية عمانية كبيرة, ومازال يوجد حتى الأن الكثير من الممباسيين ينحدرون من أصول عمانية, وقد تتلمذت في صغري على يد معلم اسمه علي الجهضمي، عمني القرأن حتى حفظته ومبادئ الدين والفقه والحساب.
نظرت خلسة الى ساعتي متذكرا بان علي أن أعود الى البيت لاستحم واغير ملابسي، فهناك سهرة تنتظرني في بيت وليد. رمقني محسن وأنا اختلس النظر الى ساعتي, فما كان منه إلا ان انتفض واقفا واخذ يقرأ بصوت عال وسط دهشة الموجودين بالمقهى (والعصر ان الانسان لفي خسر إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتراصوا بالصبر). وما كاد ينتهي حتى انطلق كالرصاصة ناحية الباب, صفقه وراده
بقوة وخرج.
نقرت بسبابتي على المستطيل الزجاجي الفاصل بين صالة التحرير والممر الضيق المؤدي الى مكتب رئيس التحرير، كان عبدالعزيز وزميلان آخران داخل الصالة, كان عبدالعزيز منهمكا في الكتابة, لكنه حين سمع طرقات اصبعي رفع رأسه واشار ناحية مكتب الرئيس تأكيدا على وجوده بالداخل. بمجرد ان دلفت الى المكتب بادرتني سوسن السكرتيرة, قائلة:
– تأخرت كثيرا.. الاستاذ محمود ينتظرك منذ وقت طويل. قلت وأنا انظر الى عينيها الواسعتين الملونتين بعدستين لاصقتين خضراوين:
– من أجل عينيك أنت فقط أنا جئت.
قالت وعلى محياها طيف ابتسامة ماكرة:
– يعني انتطار رئيس التحرير لا يهمك.
– لم اقل لا يهمني. هو مهم بالتأكيد، ولكن يوجد ما هو أهم منه. اتسع حيز الابتسامة على صفحة الوجه وانشغلت بالرد على الهاتف. دخت على الاستاذ محمود.
– استقبلني بمودة خالصة, كان مرحا وضحكته المجلجلة تدوي في ارجاء المكتب الواسع المغطاة جدرانه بطبقة مصقولة من خشب الساج. أشار بيده ان أجلس على الكرسي المحاذي لاحد طرفي الطاولة الاماميين, ثم قال:
– اسمع يا ماجد لقد اخترك لتذهب الى الجبل الاخضر وتجري استطلاعا صحفيا موسعا مدعما بالصور عن المشاريع الجديدة هناك.. فما رأيك ؟
– على أتم الاستعداد.
أرجو ان تركز على الامكانيات السياحية التي يزخر بها الجبل الاخضر، خصوصا مناخه واشجاره التي يندر ان نجدها في مناطق أخرى من عمان.
– طيب يا استاذ.
وقبل ان استأذن بالانصراف قال الاستاذ محمود وكأنه استدرك شيئا مهما:
– لا تشر في استطلاعك, لا من قريب او بعيد، الى حرب الجبل. ركز فقط على المقومات السياحية ومدى امكانية استثمارها اقتصاديا.
عند خروجي من المكتب استوقفتني سوسن. تناولت سماعة الهاتف وتحدثت مع الاستاذ محمود مستأذنة منه في الخروج. ثم اتصلت بزميلتها كريمة الموظفة بارشيف الجريدة وطلبت منها أن تحل مكانها. بعد ان وضعت السماعة التقطت حقيبتها من على الطاولة الجانبية الصغيرة الموضوع عليها جهاز فاكس صغير ومزهرية بيضاء بداخلها مجموعة منتقدة من الزهور. ثم قفزت من كرسيها, وبحركة مرحة اومأت لي بيدها, دلالة على أنها خارجة معي، واتبعت ذلك قائلة:
– خذني في طريقك, سيارتي في الورشة ولن ينتهي تصليحها إلا غدا. سأنزل في العذيبة, بيتنا هناك.
قلت:
– ولو يا سوسن.. حتى لو أردت أخر الدنيا. أنت في طريقي. أنا ذاهب الى السيب. قالت بفرح:
– السيب جميلة, أحب فيها البحر. عمي يسكن هناك قريبا من البحر. قلت ممازحا:
– أما أنا فأحب صعود الجبال.
ضحكت, ثم استحضرت بيت أبي القاسم الشابي الشهير:
من لا يحب صعود الجبال
يعش ابد الدهر بين الحفر
في تلك الاثناء نظرت اليها بكامل وجهي. كانت تحاول أن تكيف جسدها مع وضعية المقعد. تمد يديها يمينا وشمالا باحثة عن زر التحكم, وحين لامسته بأنامل يدها اليسرى رجع ظهر المعقد الى الخلف قليلا, فتنهدت وقالت:
– الأن أخذت راحتي.
كنت أنظر الى جسدها باشتهاء، كانت العينان مصوبتين ناحية النهدين النافرين. فكرت "انهما يمامتان جميلتان تحاولان الانعتاق من الاسر". قلت والرغبة تشتعل في دمي:
– أطلقي حريتهما.
نظرت الي مندهشة, متسائلة:
– أطلق حرية من ؟
انتبهت الي, انني كنت أهلوس, فاستدركت بسرعة, وقلت:
– اطلقي سراح بنات افكارك. فضفضي.
تنهدت بعمق وقالت:
– ماذا أقول وماذا اترك.
قلت:
– يبدو ان صدرك مشحون بالهموم. تكلمي لا تخجلي.
التفتت الي. طالعتني وكأنها تراني أول مرة, ثم حنت رأسها وفتشت في حقيبتها عن شيء ما. أخرجت شرط كاسيت وناولتني اياه.
قالت:
– به اغان باكستانية أرجو ان تعجبك.
سألتها باندهاش:
– ما علاقتك أنت بالاغاني الباكستانية ابتسمت وقالت:
– لا تستغرب فأنا نصفي باكستاني ونصفي عماني. كيف ؟
– أمي باكستانية وأبي عماني.
أدخلت الكاسيت في المسجل فانبثق شلال من الموسيقى. تذكرت, لقد سمعت مثلها في المطعم الهندي، ولكن ليست هي تماما.
بعد هنيهة انسابت الموسيقى هادئة عذبة بايقاع مختلف وتدنت امرأة تغني بصوت فيه بحة . قلت لسوسن:
– ترجمي لي ما أسمع .
قالت:
– هذه قصيدة لمحمد إقبال والمغنية من المشهورات في باكستان .
قلت:
– كأم كلثوم مثلا
قالت:
– ليس تماما .
قلت:
– كأسمهان ا!
قالت بعد شيء من التردد:
كأسمهان .
لاحظت ان سوسن منسجمة مع الاغنية يتمايل جسدها يمينا ويسارا مع ايقاعاتها, وتردد كلماتها بكثير من النشوة . وفي ذروة هذا الانتشاء كانت يدها تهيم في الفراغ بحركات ايمائية مبهمة, كان ذلك يحدث بمحاذاة وجهي مباشرة . كنت مأخوذا بهذه الانوثة الطافحة, وهذا الالق الجميل لامرأة مسكونة بحضور مثير. رفعت يدي وببطء وضعت كفى فوق كفها اعتصرت راحتها ثم قربتها من شفتي وهبت عليها قبلأ مجنونة ؟ نظرت اليها وأنا ممسك بيدها, فرأيت كما يرى النائم, وجها مضينا كصفحة القمر مضرجا بحمرة خفيفة . في خضم ذك الغياب اللذيذ كادت السيارة ان تنحرف عن مسارها لولا اني تمالكت نفسي في اللحظة الاخيرة . فجأة قالت بكلمات هامسة:
– ماجد.. خفف السرعة والزم اليمين, فهذا الذي أمامك هو التقاطع المؤدي الى
بيتنا.
قبل ان تترك سوسن السيارة حدقت في وجهي بتمعن ثم قالت بعد لحظة صمت خلتها دهرا:
– شكرا .. ماجد.
وددت تلك اللحظة لو أمرغ وجهي في ديباج صدرها والثم كرزتي شفتيها، وأغيب, واغيب وأتماهى في الغياب .
منذ صغري وأنا أحلم بزيارة الجبل الاخضر، سمعت عنه الكثير من أفواه الكبار، وقرأت عنه, ولكن ما قرأته كان يسيرا, ولم يشبع نهمي. كنت أعيش بكل حواسي مع عبدالله الطائي وهو يرسم اسطورة الجبل . كانت الكلمات تخضر ثم تلتهب ثم تخضر
مرة أخرى أمام عيني وعات الحياة تولد طرية بهية من رحم الموت وكانت تنهض كالعنقاء تنهض من وسط الرماد منتفضة قوية ممتلئة بالتحدي. وها هي الفرصة تتاح لي اليوم ولن اجعلها تفلت مني، سأتشبت بها وأمتلكها بكل جوارحي. أعددت العدة لهذه الرحلة وأنا مفعم بفرح طفولي. جهزت اغراضي الشخصية, رتبت ملابسي ووضعتها في الحقيبة, أخذت معي جهاز تسجيل صغيرا وكاميرا. قلت لرئيس التحرير: لن احتاج الى مصور. فسوف اقوم بمهمة التصوير بنفسي.
قالت لي سوسن وهي تودعني عند باب المكتب:
– لا تنس ما اوصيتك به . تشكيلة على ذوقك من فواكه الجبل .
قالت ذلك واتبعته بابتسامة خجلى, ثم أحنت رأسها قليلا الى اسفل فانزلقت خصلات من شعرها مستنفرة على بلور عنقها الأمامي، وحين رفعت رأسها عادت الضفيرة الى وضعها الأول منسابة كخيوط من ذهب خلف الرقبة . كانت ملامح وجهها أنذاك تشي بامتزاج حضارتين, حضارة مجان والسند. تفاعل كيميائي عجيب ومبهر.
كانت ترتدي فستانا طويلا ملتصقا بجسدها. تأملت ذلك الجسد الممشوق مليا, تراءى لي كأنه تمثال بديع من المرمر. حاولت ان المسه, ان اجوس بأصابعي في انحناءاته, لكنها تصدت بطلف للمحاولة . كان الصمت مخيما حولنا، لكن وجيب صدري كان ممعنا في الصخب . فجأة فتح الاستاذ محمود باب مكتبه، نظر الي باستغراب, ثم ابتسم تلك الابتسامة المحيرة وقال:
– امازلت هنا؟ لقد أمرت الموظفين في النقليات ان يجهزوا لك سيارة . هيا ماذا
تنتظر ؟
قال ذلك وانسل مرة أخرى داخل مكتبه. صافحت سوسن على عجل ثم التقطت جهاز التسجيل والكاميرا من على الطاولة وخرجت .
قبل أن أترك مسقط فكرت أن اتناول غدائي في المطعم الصيني، المطعم يفتح في الثانية عشرة ظهرا ويغلق في الثالثة عصرا. عند وصولي بالقرب منه اكتشفت ان عشرين دقيقة ما تزال باقية حتى موعد فتحه. اوقفت السيارة في المواقف الفاصلة بينه وبين تلك الحديقة الصغيرة التي كان سعيد يقطف منها زهوره كل يوم ويقدمها لفتاته الصينية . قررت ان أتمشى بعض الوقت على رصيف الشارع المحاذي، كان الطقس غائما ولكنه لم يكن منذرا بسقوط أمطار. ثمة حبيبات من العرق تتساقط من جبيني، رطوبة ولزوجة غير عادية هذا اليوم . دخلت أحد المجمعات التجارية القريبة, وبمجرد ان انفتح بابه الزجاجي شعرت بنسمات باردة تهب فانتعش جسمي. كان المجمع مكيفا تكييفا مركزيا من الداخل . التفت ورائي وأنا ادخل, كانت البوابة الزجابية مكسوة بطبقة كثيفة من بخار الماء وهناك خيوط طويلة ورقيقة من الماء تنحدر بشكل رأسي على زجاج البوابة . كان البهو الداخلي للمجمع مرتعا للها ربين من الرطوبة الشديدة في الخارج . لا أدري كيف قادتني قدماي باتجاه محل الاحذية الذي دلفت اليه مريم وبرفقتها طفلها وأمها في ذلك اليوم . وقفت لا شعوريا أتأمل المحل وكأني أبحث عن وجه مريم في الداخل, ثم انسحبت عائدا. خرجت من المجمع وواصلت سيري ناحية المطعم الصيني، ولكن حين نظرت الى ساعتي وجدت أن هناك مازال بعض الوقت . دخت محلا للسنوكر، فخطر على بالي أن ألعب قليلا. لم أستغرق في اللعب سوى دقيقتين أو ثلاث فقد كان اللاعب الأخر متمرسا ويجيد تسديد الكرات الصغيرة ببراعة . بالقرب من المطعم الصيني كان هناك مقهى صغير مختص في تقديم اصناف من الحلويات, وجدت محسن هناك, كان جالسا القرفصاء بالقرب من باب المقهى.
وقفت بمحاذاته, لم ينتبه الي من الوهلة الاولي، كان محلقا بفكره بعيدا. لكنه لم يلبث ان نظر الي بعد هنيهة بعينين زائفتين . تفرس في وجهي مليا ثم نهض وهو يبتسم ..
وقال:
– أين أنت . بحثت عنك في كل مكان هنا ولم أعثر عيك . خشيت ان تكون . السي. أي. ايه . قد اغتالتك او اختطفتك .
– وما علاقة السي أي. ايه . بي. أنا مجرد صحفي بائس في جريدة اكثر بؤسا.
أطلق ضحكة تنم عن سخرية, وقال:
– انهم يشترون الذمم عنوة, خصوصا ذمم اصحاب الاقلام النزيهة . وبعلمي أنت شاب نزيه ولا تستبعد ان يصلوا اليك .
قلت بمزيج من المرارة واللامبالاة:
– أنا أهيم في واد غير وادي السياسة, لا افيدهم في شيء، وفي الوقت نفسه لا اشكل ادنى خطورة عليهم .
قهقه لفترة . ثم قطب حاجبيه، وقال بوجه عابس:
– من قال لك هذا؟ أنت انسان مثقف وهم يستهدفون المثقفين, سواء بالترغيب او الترهيب .
قت في نفسي ان هذه تهويمات مجانين, ومن الافضل عدم. مواصلة الحديث في مثل هذه المواضيع الشائكة مع محسن, فهو تصادمي وقد يقلب النقاش الى مأساة, والمأساة الى كارثة . وأنا غير مستعد نفسيا لخوض جدال حول ذراع امريكا الحديدية الطويلة, مع شخص قد يحطم كل شيء بمجرد عدم التقائك معه في الرأي. ولكي أحسم النقاش خوفا من ان يتطور الى ابعد من النقطة التي وصل اليها. قلت:
– أنا ذاهب للغداء في هذا المطعم (واشرت بأصبعي الى المطعم الصيني) أتمنى ان تأتي معي.
تلكأ بعض الشيء قبل ان يهزر أسه موافقا.
كان المطعم خاليا تماما حين دخلنا. اخترت الطاولة التي أجلس عليها دائما، احيانا وحدي، واحيانا برفقة وليد وناصر. لاحظت ان محسن كان مرتبكا. يطالع بعينيه يمينا ويسارا، ينظر الى السقف المزدان بزخارف خشبية عليها رسومات صغيرة مستوحاة من الفلكلور الصيني، ثم يعود وينظر الى الجدران المرسوم عليها تنين ضخم يحيطها كحزام ملون . جاءتنا النادلة التي اعتاد أن يهديها سعيد وردة كل ليلة, حيتنا بتهذيب جم, وبحر كة رشيقة وضعت أمام كل واحد منا قائمة الطعام . تناول محسن القائمة التي أمامه وأخذ يتمعن فيها، وضع اصبعه على اسم الأكلة التي يريدها. رفع رأسه وقال مخاطبا النادلة باللغة الانجليزية:
– أريد هذه .
سألته:
– ماذا طلبت ؟ قال:
– رز بالخضار مع الروبيان .
نظرت الى النادلة وقلت:
– وأنا ايضا اريد مثله .
ابتسمت وقالت باقتضاب:
– ليس من عادتك .
قلت مشيرا الى محسن:
– تضامنا مع صديقي.
انصرفت النادلة والابتسامة تكسو وجهها. قال محسن وهو يضع قليلا من السائل الحار في اناء الحساء الذي أمامه:
– يبدو ان ما يخص بطوننا هو الشيء الوحيد القادر على صنع تضامننا. انطلقت مني ضحكة قصيرة خافتة استفزت محسن قليلا رغم كونها مهذبة .
قال مستطردا:
– اظن انك توافقني ان من يفكر في بطنه يصاب بالبلادة, المعدة بيت الداء، والداء كفيل أن يجعل الانسان بليدا، وخائرا وعاجزا.
قلت بنبرة بين الجد والمزاح:
– لو فكرنا بمنطقك فسوف نصاب فعلا بالبلادة .
بحركة نزقة رفع رأسه المحني على اناء الحساء ونظر الي بعينين جاحظتين, لكنه لم ينبس بكلمة . قلت في خاطري انه الصمت الذي يسبق العاصفة . أدركت على الفور أن ما قلته فيه استفزاز كبير، ولابد لي أن أقول شيئا أخر يوضح ما أعنيه ويلطف الجو المتعكر.
قلت:
– أقصد لو فكرنا في بطوننا بمنأى عن التخمة والداء والبلادة لما احتجنا ان نستورد غذاءنا من الأخرين .
قال بشيء من العصبية:
– كيف ؟
قلت مفلسفا المسألة:
– حين تجوع بطوننا فسوف نفكر على الفور في الطعام, واذ لم نجد ما نأكله فسوف نضطر الى تأمين طعامنا من مصادرنا الذاتية, وهذا يتطلب منا الاعتماد على النفس, وبالتالي يدعونا الى التفكير في استصلاح أراضينا وزراعتها لتكون السلة التي تمدنا بالطعام كلما فكرنا في بطوننا. كان ينصت باهتمام الى ما أقول .
سكت هنيهة بعد ان أنهيت كلامي، لكن سكوته لم يدم طويلا اذ قال:
– طرح جيد على كل حال, ولكنا صعب التحقيق . فكما تلمس بنفسك أن الناس هنا غير مضطرين ليأكلوا مما يزرعون مثلما هو الحال في بلدان أخرى. فالقيم الاستهلاكية هي الطاغية, والمواد الاساسية تستورد من الخارج, والفائض من الطعام يرمى كل يوم في المزابل . فأين اذن هي الحاجة للاعتماد على الذات ؟
أحسست بالضجر. طلبت من النادلة الصينية أن تغير الموسيقى. ذهبت على الفور ووقفت أمام استريو كبير عند المدخل, ضغطت على بعض أزراره فتغيرت الموسيقى. رفعت يدي وأومأت لها بما أريد. سألت محسن عن رأيه في المكان . قال:
– هذه أول مرة أدخل فيها هذا المطعم بالرغم من مروري المستمر من أمامه, لكني دخلت بعض المطاعم الصينية المماثلة في امريكا.
– سمعتك مرة تقول بأنك عشت خمس سنوات في أمريكا. ماذا كنت تفعل هناك ؟
– كنت أدرس . حصلت على الماجستير في علم الجينات بتقدير امتياز، وشرعت في التحضير لنيل درجة الدكتوراه لولا المرض اللعين الذي ألم بي. صمت هنيهة ثم اردف:
– المرض الذي أصابني كان نتيجة في مقصود من طالب امريكي اثناء قيامنا باجراء أحدى التجارب المخبرية الدقيقة .
قلت وعلامات الدهشة ترتسم على وجهي:
– ما الذي حدث بالضبط ؟
قال:
– كنت منشغلا في مراقبة التمازج الحيوي وقياس درجة مكونات المادة وتسجيل الاستنتاجات التي أحصل عليها في ورقة, ثم برمجتها في جهاز الحاسب الآلي الذي امامي.. بينما كان دور الطالب الامريكي يتمثل في القيام بوضع المحاليل في الدورق الزجاجي وتعريضها لدرجة حرارة معينة, محددة سلفا، وكان ذلك يحدث قريبا جدا
مني.
وفي غمرة انكبابي على عملي وقع ما لم يكن في الحسبان . انفجر الدورق بفعل الحرارة الزائدة, وتطايرت الابخرة الممتزجة بالمواد الكيميائية المتفاعلة في وجهي، فلم استطع اتقاء تغلغل المواد الى داخل صدري ففقدت القدرة على التنفس بشكل طبيعي، واخذت ارفس كالذبيح. ولم يكن أحد أنذاك داخل المختبر لينقذني، فتدحرجت ناحية الباب, وقبل أن أصل اليه سقطت فاقدا الوعي.
سكت محسن برهة ليلتقط أنفاسه المتصاعدة بوتيرة غير منتظمة . ثم قال بصوت متهالك وكأنه يهرول مسافة طويلة:
– هذا ما حدث لي داخل المختبر. وعندما نقلت الى المستشفى كنت فاقد الوعي تماما، ولم أفق . إلا في اليوم التالي. وحين انتبهت كان لساني ثقيلا، وقواي خائرة, ورأسي كأنه صخرة صلدة, أما عيناي فكانتا غير مستقرتين, كانتا تدوران باهتزاز في فضاء غرفة المستشفى . بعد اجراء الفحوصات والتحاليل قال الاطباء بان حالتي صعبة . وقالوا كلاما كثيرا ومعقدا، خلاصته ان اكثر المناطق حساسية وحيوية في الدماغ اصيبت بضمور – او ما يشبه ذلك – نتيجة تعرضها لنسبة كبيرة من المواد الكميائية المركزة والخطرة . وقالوا ايضا، لو لم أكن محظوظا لفارقت الحياة .
تنهد بعمق, ثم اضاف:
– ومنذ تلك الحادثة وأنا كما ترى.
سألته متعمدا اثارته, عن دور زميله الامريكي في المأساة التي وقعت له:
– يبدو ان الحادثة كانت قضاء وقدرا، فأين دور زميك الامريكي المتعمد في تدبيرها كما تدعي أنت-؟
قال بهدوء غير متوقع:
– أه .. نسيت ان اخبرك ان الطالب الامريكي واسمه, بالمناسبة "جون ميلر" قد استغل انشغالي وعدم اكتراثي بما يدور حولي، وانسل من غرفة المختبر على اطراف اصابعه، بعد ان رتب كل شيء، مخترقا القوانين المخبرية والاخلاقية التي تحكم مثل هذه التجارب الحساسة . تركني وحدي عاكفا على عملي وهو متأكد تماما ان الدورق سوف ينفجر بفعل الحرارة وان المحاليل المتفاعلة والمتطايرة مع الابخرة ستلحق بي ضررا
كبيرا.
– ولماذا فعل ذلك ؟
لانه, وبسبب عنصريته التي لا يخفيها، يريد ان يبعدني باي طريقة عن مزاحمته في المجال العلمي الذي تخصصنا فيه معا . فقد كنت متفوقا، خصوصا في انجاز البحوث العلمية المبنية على التجارب واستقراء المعطيات وتحليل الاستنتاجات. وكان هو منافسا قويا وعنيدا، ولكنه كان مليئا بالاحقاد علينا نحن العرب .
– هل كان يهوديا!
ليس يهوديا، بل صهيوني متعصب, ومتحيز لاسرائيل .
نظرت الى الساعة المعلقة على جدار المطعم المواجه لي مباشرة, كانت تشير الى الثالثة الا عشر دقائق . ناديت على نفس النادلة جاءتنا في البداية, اشرت اليها باحضار فاتورة الحساب . كان محسن منتشيا، رائقا ومبتسما. تبادل ابتسامة خجلي مع النادلة الصينية قبل ان تنسحب حاملة الحساب .
قلت في نفسي: أه يا محسن.. أنت اعقل مجنون رأيته في حياتي.
قبل ان ارتقي سيارتي في الحقيقة هي سيارة الجريدة اعطيت لي لاستخدمها في رحلتي الى الجبل الاخضر، سألت محسن ما اذا كان يود ان اوصله الى مكان ما في طريقي، شكرني بحرارة, وقال انه يفضل ان يبقى. ثم قال:
– أفكر ان اذهب, بعد نصف ساعة, الى الشاطئ.. شاطئ رأس الحمراء.
– الشمس حارة والرطوبة كثيفة ومزعجة .
– الحرارة التي في داخلي أقوى من حرارة الخارج . اما الرطوبة فلا تعدو كونها حماما دافئا في الهواء الطلق . لا تخف علي .. فبيني وبين الماء والنار صداقة وثيقة . قال ذلك وأطلق ضحكة مدوية, ثم اختفى في زقاق ضيق . قلت في نفسي مرة اخري: لست اعقل مجنون فحسب, بل وفيلسوف ايضا.
اتجهت الى السيب مدينتي الاثيرة, احبها كثيرا حتى درجة الوله .
حين كنت صغيرا بدأ سحر هذه المدينة يتغلغل الى نفسي، كانت مليئة بالبساتين, بساتين المانجو والموز والجوافة والليمون, واشجار أخرى لم يعد لها أثر اليوم .
كنا نتسل أنا ورفاقي خفية, بعيدا من انظار الاهل, نهجم على البساتين القريبة من بيوتنا. كان يحدث ذلك دائما في الظهر حيث لا أحد يرانا, فالمزارعون في بيوتهم يتمددون على ظهورهم بعد وجبة غداء مكونة – في الغالب – من الأرز والسمك, أو أنهم مشغولون بمداعبة نسائهم المغسولات بالعرق . كنا نخرج في افواج مغيرة, نداهم البساتين الاكثر غنى بالثمار. نتسلق اشجار المانجو والبيذام والجوافة, نقطف الثمار الناضجة واحيانا حتى تلك التي ما تزال في طور النضوج . ثم نعود ادراجنا فرحين بما حصلنا عليه . وكنا نتقاسم حصادنا بمنأى عن الانظار، نختار امكنة أمنة بعيدة عن البيوت, وعن البساتين, ونعهد لاكبرنا ان يقوم بالقسمة, وفي اغلب الاحيان تكون القسمة غير عادلة, فنتعارك بالايدي او بالعصي. بعضنا يصل البيت مدمى الجبين, مطخة ملابسه بالوحل والطين . وبعضنا الاخر يهرب الى مكان متاخم للبيوت فيحفر خندقا صغيرا في الرمل يخبئ فيه ما ربحه من ثمار. وعندما كبرنا قليلا كنا نقوم بغاراتنا في الفجر، قبيل صلاة الصبح. كنا نختار البساتين الكبيرة, المتنوعة الاشجار والكثيرة الثمار. واذا ما أحس بنا احد في البيت, رغم حرصنا الشديد ونحن نتهيأ للخروج, لم
يكن امامنا سوى الادعاء بأننا ذاهبون الى المسجد. لم تكن مغامراتنا هذه ناجحة دائما, فهي محفوفة بالمخاطر في بعض الاحيان, وغير مجدية في أحيان أخرى. ومن أوجهها الخطرة اننا كنا نتعرض لكمائن من اصحاب البساتين التي نغير عليها, والويل لمن يمسك به منا، فبالأضافة الى تعرضه للضرب المبرح فان ما يلحق به من اذى نفسي اشق وانكى، اذ لا بد ان تصل اخبار فعلته الى اهله بل والى الحي كله, فيصبح وجهه معفرا بالعار والفضيحة . في مدينتي السيب, للبحر رونقه وجماله ومزاجيته ايضا. لا أحد ادري بخباياه وتقلباته أكثر من الصيادين المتمرسين . كانوا يخرجون من أكواخهم المبنية من سعف النخيل حال مهور أول خيوط الفجر، كانت أمينهم ما تزال مثقلة بالنعاس يقذفون, بقواربهم الخشبية الصغيرة في احضان الموج, ثم يتقافزون اليها بهمة الفرسان المقبلين على معركة مجهولة العواقب . وبمجرد ان تلامس اقدامهم الماء يتطاير النعاس من أعينهم, ويسري النشاط في اوصالهم . يذهبون بقواربهم بعيدا وسط العباب ولا يعودون إلا والشمس تطل من مخبئها باسمة . وعندما يعودون يجمعون ما حصلوا عليه من اسماك على الشاطئ، مصنفين كل نوع على حدة . ثم ما يلبثون بعد ذلك ان يهرعوا الى السوق حاملين على اكتافهم ما أعطاهم اياه البحر من رزق . اما الذين عادوا من رحلتهم بلا جدوى فينشغلون بتجفيف شباكهم, ثم ترتيبها وطيها استعدادا لرحلة صيد اخري، عادة ما تكون في الضحى او قبيل الظهر.
كانت السيب فيما مضى قبلة الكثير من الاسر، القادمة من المدن الحارة المجاورة . ففي اشهر الصيف تشتعل درجة الحرارة في مسقط, فيتقاطر الناس الى السيب حيث البساتين الغناء المثمرة . ينصبون اكواخ السعف بين الاشجار او بالقرب من البحر، ورغم الرطوبة الشديدة أحيانا إلا ان الجو لا يخلو، خصوصا بالقرب من البساتين, من نسمات منعشة, تهب باردة لطيفة تارة, ومتقطعة خجلي تارة اخري.
ومند الظهر يرتمي الناس, صغارا وكبارا (الرجال فقط ) في أحواض ملئت بالماء بواسطة مضخات تشتغل بالديزل, ولا يبرحون تلك الاحواض إلا قبيل فترة القيلولة, يتناولون الغداء؛ الذي عادة ما يتكون من الأرز الابيض ومرقة السمك, ثم ينامون تحت ظلال الاشجار، او داخل اكواخ السعف المشرعة للهواء.
في السنوات الاولي من عقد السبعينات اقامت أحدى الشركات الالمانية العاملة في مجال رصف الطرق معسكرا لموظفيها ومهندسيها في الجزء الشرقي من السيب . كان المعسكر متاخما للبحر، وكان يشتمل على مجموعة من المساكن المبنية بالمواد غير الثابتة والمصممة على غرار البيوت الريفية في اوروبا. كان مرظفو ومهندسو الشركة من الالمان, وكان بينهم قليل من الموظفين الهنود، أما العمال وسائقو المعدات الثقيلة والشاحنات فقد كانوا من العمانيين والهنود السيخ والباكستانيين .
وكانت النساء الالمانيات, زوجات موظفي ومهندسي الشركة, مغرمات بالبحر والشمس, يذهبن وقت العصر، وأحيانا في الصباح, إلى الشاطئ القريب من المعسكر، يسبحن في الماء لابسات المايوه، او يتسطحن على الرمل الناعم الدافئ شبه عاريات, منتشيات بأشعة الشمس وهي تلامس رهافة اجسادهن البيضاء، غير عابئات باعين الصيادين المفترسة والتي تقطر شهوة, ولا بتعليقاتهم الرعناه الخارجة من أتون الكبت . وعلى امتداد الشاطئ اقام الصيادون مظلات مبنية من جريد النخل, ومسقوفة باعواد السعف المرصوصة بالحبال, يستريحون تحت ظلها, متأملين هدوء البحر، منتظرين الساعة المناسبة للقيام برحلة الصيد. أحدى هذ المظلات مقامة بالقرب من المنطقة التي
تستقطب الالمانيات . وكان نصيب, الطويل, الاسمر المفتول العضلات يقضي فترة الضحى بكاملها تحت ملظة الصيادين يصلح ما تمزق من الشباك, ثم يكومها بجوار القارب, وعندما ياتي رفاقه, بعد الظهر، ما عليهم إلا ان يضعوها في مكانها المخصص ببطن القارب, استعدادا لاستخدامها في عملية صيد السردين التي تحتاج الى مجموعة من الرجال, ينتظرون على الشاطئ حتى يأخذ القارب استدارته, فيجر فريق منهم الحبل المتصل بالطرف الاول من الشباك, بينما يخوض الباقون في الماء لملاقاة القارب وجر الشباك من طرفها الاخر، ويظل كل فريق يجر من طرف حتى يلتقوا في نقطة واحدة . فتتبادى لهم انذاك الشباك وهي ملأي باسماك السردين الفضية اللامعة . وكان من عادة نصيب بعد انتهائه من عمله في رتق الشباك وتكويمها ان يضطجع على أحد جنبيه تحت المظلة, يتأمل البحر، سابرا غوره، متسائلا في قراره عما سيجود به له ولرفاقه – بعد الظهر – من رزق . أحيانا كانت تأخذه اغفاءة صغيرة ينهض بعدها فجأة, نافضا من جسده ما لصق به من رمل, ثم يستدير ميمما وجهه صوب بيته . وبعد ان وطئت اجساد الالمانيات رمال الشاطئ تعمد نصيب ان يطيل المكوث تحت المظلة, وان يقمع اغراء الاغفاءة التي تعود عيها. كانت عيناه لا تفارقان الاجساد البيضاء الممشوقة المتنافرة امامه وسط المياه . أو المستلقية بكل طراوة على الرمل . كانت هذه الاجساد تشكل اكتشافا جديدا، مغريا, ومثيرا بالنسبة له . نساء قريته مختلفات تماما, لا يرى منهن إلا الوجه والكفين, ولا يخرجن إلا وهن متلفحات بالسواد، حتى زوجته السوداء، لا يتذكر انه تمكن من رؤية جسدها عاريا، حين يختليا في كوخهما, كانت دوما متسربلة بقطع من الاقمشة, داكنة كلونها. مرة اقتربت واحدة من الالمانيات من المظلة التي كان يضطجع تحتها، افترشت منشفة زرقاء ونامت . لم يجرؤ ان يركز نظره عليها ويتأمل مفاتن جسدها فقد كانت قريبة كثيرا منه, كان يفعل ذلك حين تكون الواحدة منهن بعيدة بعض الشيء، اما هذه فهي اقرب اليه من حبل الوريد. لم يحتمل المكوث وقتا اطول في مكانه وذلك الجسد الفتان مستلق على بعد خطوات منه . هب من مكانه واقفا، نفض جسده بيديه؛ فتساقطت اكوام صغيرة من التراب المعجون بالعرق . قبل ان ينصرف اراد ان يلقي نظرة اخيرة على ذلك الجسد الانثوي الطاغي في اثارته اثناء استدارته لمحها وكأنها ترفع أحدى يديها مشيرة اليه ان يقترب . فهل فعلا كانت تشير اليه, ام ان نزوته تصور له ذلك ؟ انطلق نحوها كرصاصة طائشة . وقف بمحاذاة رأسها محدقا في تضاريس الجسد المشع بياضا وأنوثة . وقف صامتا لبرهة, كانت عيناه تجوبان حديقة جسدها، وكانت فرائصه ترتعد. خيل اليه ان شفتيها نبست بكلمة لم يفهم معناها، إلا أنه أحس بانها كانت تدعوه للجلوس, فجلس . مدت يدها الى حقيبة كانت بجوارها، وضعت بها ملابسها، وأدواتها الخاصة, اخرجت منها علبة بلاستيكية صغيرة ناولتها له, طلبت منه بلغة الاشارة, ان يفتح العلبة, ففعل, ثم اخبرته ان يضع قليلا من المادة الزيتية التي تحتويها على اجزاء جسدها ويدهنها بها. تردد اول الامر، كان مرتبكا ومندهشا. أحست هي بارتباكا، فحاولت تشجيعه بابتسامة تقطر اغراء. بدا يدهن الظهر، كانت بداية خجل ومضطربة, إلا أن خجله واضطرابه ما لبثا أن زالا وحل محلهما شعور بنشوة عارمة ممتزجة برغبة في الافتراس . كانت أصابعه تجوس خمائل الجسد نازلة مادة, وكان الدم يصهل بحدة في العروق منتشيا بالالتمام بعد أن انتهى منها, ركض باتجاه البحر، دخل في الماء واغتسل, ثم عاد ووقف بالقرب منها, سمعها تئن ورأى وجهها يحتقن وأطرافها ترتعش . وضع ظاهر كفه على جبينها, شهق حين لسعته حرارتها، دار حولها كثور هاج, ثم هجم عليها ورفعها من مكانها. حملها على كتفه واتجه بها ناحية المعسكر. في عيادة المعسكر نقل له الممرض العماني شكر الطبيب الالماني له, وأخبره انه لو لم يبادر بنقلها الى العيادة لساءت حالتها، وربما فقدت حياتها, فهي أصيبت بضربة شمس حادة .
أوقفت السيارة بجوار بيت الرديدة . كان هذا البيت فيما مضى حصنا منيعا وفي الوقت نفسه مسكنا لشيوخ نبهان, وكان أخر من سكنا هو الشيخ سليمان بن حمير النبهاني. نزلت من اسيارة ووقفت برهة بجوارها متأملا معمار البيت وشكلا الخارج . فكرت ان أدخل لكني تراجت حين سمعت صوت سيارة قادمة نحوي، فأدركت على الفور أنه منصور، حيث اتفقنا أنا وهو أن نلتقي في هذا المكان, ثم نصعد بسيارته الى الجبل . جاء منصور قادما من نزوى ومعه بطاقة تصريح لشخصين, أخذها من مكتب الوالي،حيث أن زيارة الجبل الأخضر تحتاج الى موافقة مسبقة من السلطات المختصة . وما إن أخذت مكاني في المقعد الأمامي المجاور لمنصور، بسيارته ذات الدفع الرباعي، حتى أثار انتباهي هدير حافلة توقفت فجأة بمحاذاتنا، كنت منشغلا بربط الحزام, لكني انتهيت منه بسرعة والتفت الى يميني. كانت حافلة كبيرة من تلك التي تستخدم عادة في نقل السياح, وأثناء التفاتي استطعت ان التقط اسم شركة السياحة التي تتبع لها الحافلة . كان الاسم مكتوبا بخط مميز باللغتين العربية والانجليزية .
"مجان لسياحة " تذكرت هذا الاسم, انها الشركة التي تشتغل فيها مريم . وعلى الفور تبادر الى ذهني عملها، فهي تعمل مرشدة سياحية, وقد تكون الأن موجودة مع فوج السياح بداخل الحافلة . بسرعة طلبت من منصور ان يتريث, ثم نزلت متحججا باني نسيت ان اقفل ابواب سيارتي. قفزت واتجهت مهرولا ناحية باب الحافلة . كان السياح ينزلون واحدا تلو الاخر. بحثت بعيني في الداخل عن مريم, لم أرها، تريثت قليلا حتى يخرج الجميع فلعلها تكون أخر من ينزل, لكنها لم تكن, فقد كان أخر النازلين سائحة عجوزا، لا أدري ربما تكون هولندية أو المانية أو من أحدى الدول الاسكندنافية .
كانت تجر قدميها بتثاقل, وكأنها خرجت للتو من المستشفى أو من مأوى العجزة . تساءلت في نفسي، الا يوجد مرشدون سياحيون مع هذه المجموعة من السياح ؟ لم تقع عيني وسطهم إلا على عماني واحد، إنه سائق الحافلة, فهل من المعقول أن يكون هو السائق وهو المرشد في أن معا؟و قبل أن أعود الى سيارة منصور استدرت ناحية بيت الرديدة واجلت النظر في المكان الذي كان يتجمع فيه السياح, بالقرب من المدخل الرئيسي للبيت خيل لي أنذاك أني لمحتها. خلعت نظارتي ونطفتها بمنديل صغير كان في جيبي، ثم لبستها مرة اخري، ركزت نظري على النقطة التي كانت تقف فيها، او هكذا تصورت . لم أتمكن من رؤية صورتها فقد كان السياح يشكلون نصف دائرة حول امرأة تشرح لهم وتشير الى أسرار البيت وأجزائه الخارجية .
وقبل ان يهموا بالدخول انطلقت كالسهم وانحشرت وسطهم, ثم انسللت الى حيث كانت تقف . لم تكن في تلك الاثناء واقفة بل كانت تسير ببطء شديد منشغلة بالحديث مع امرأتين ورجل . انضممت اليهم ولما رأتني ارتسمت على وجهها علامات الدهشة والاستغراب,واحسست انها ربما قالت في نفسها بتأفف: ما هذا التطفل . لكنها سارعت الى اصطناع ابتسامة صغيرة وقالت .
– اهلا ماجد. ما هذه المفاجأة ؟
بمجرد ان قالت ذلك التفتت المرأتان وكذلك الرجل يمينا ويسارا وكأن خللا قد طرا على سياق الحديث الدائر بينهم, انتبه الثلاثة لوجودي فانسحبوا، فاسحين المجال لي ولها. قلت لمريم:
– منذ زمن وأنا أتحين الفرص للتحدث معك, ولكن يبدو أن الفرصة في مسقط نادرة وربما مستحيلة .
قالت بمكر:
– هل تريد أن تجري لقاء صحفيا معي عن هموم المرشدة السياحية ؟ اذا كنت تريد ذلك فاني لا أحبذه الأن, فأنا حديثة العهد بهذه المهنة, لكن اقترح عليك شيئا.. انظر الى هؤلاء السياح انهم من بلدان اوروبية مختلفة, وهم يزورون عمان لاول مرة . فما رأيك ان تجري لقاءات معهم: يتحدثون فيها عما شاهدوه ولمسوه خلال جولتهم ؟ أطلقت ضحكة اثارت انتباه بعض السياح القريبين منا, وشيئا من الامتعاض لدى مريم, ثم قلت بنبرة حاسمة:
– موافق .
قالت مريم:
-.. ولكن ليس الأن, فهم في بداية جولتهم, وسوف يقضون ثلاثة ايام متنقلين بين نزوى وبهلا وتنوف . افضل ان تأتي في اليوم الثالث سوف تجدنا في سوق نزوى او في القلعة . – أنا ايضا لدي جولة في الجبل الاخضر. تستغرق يومين, وفي اليوم الثالث سوف الحق بكم في نزوى.
– اذن ننتظرك هناك .
– وهو كذلك .
صافحتها مودعا، لكني تعمدت ان ابقي كفي بعض الوقت محتضنا كفها. شعرت بدفء أنقاسها تلهب وجهي قلت بصوت خافت مفعم بالشجن: نلتقي في نزوى سحبت كفها ببطء، ثم وقفنا قبالة بعضنا صامتين, غائبين وكأننا في عالم ناء، وسط الغيوم .
عندما وصلت الى السيارة وجدت منصور غاضبا، قال بلهجة استشعرت فيها شيئا من التأنيب المبطن:
– لو كنت واصلت معهم ! وذهبت الى حيث يهيمون .
قلت, معلقا نصف ضحكة, وكأني أحاول استفزازه:
– سوف ألحق بهم بعد يومين, في نزوى.
هز رأسه وهو يدير محرك السيارة: قال:
– لقد تأخرنا.
قلت مواصلا استفزازي:
– العجلة من الشيطان .
أطفأ محرك السيارة وحدق في وجهي بعينين شبه غاضبتين . ثم قال:
– علينا ان نصل الجبل في وضح النهار. الطريق صعب ووعر، واذا تأخرنا أكثر من ذك فسوف يداهمنا الظلام, ونبقى معلقين بين السماء والارض .
ربت على كتفه بيدي محاولا تهدئته . وقلت مشجعا:
عهدتك امهر السائقين . رجل المهام الصعبة . لا يغلبك جبل ولا رمل .
ابتسم ثم ادار المحرك مرة أخرى.