كيف لي أن أصف مكانا ما ؟ تحرم الديانات وصف تفاصيل الأجساد بدقة فاضحة. كيف لي، أو لك أن تصف مكانا أحببته ؟ مجلسا أو غرفة صغيرة في مكان ما، ملكا أو غير ملك، هل يقضي أحدنا حياته في مكان ليس له ؟
أحببت هذا المكان، إنه كفرض لصلاة في آخر الليل، إن المجلس الذي أجْلِسَه ويجلسني وأجالسه وأجلس معه وأجلس فيه، ويجلسني الجلوس ويجلس معي، ويجلس جلوسي صار مني، وصرت أنا قطعة من بنائه!
هكذا صرت مادة أساسية ضمن محتويات هذا المجلس، فإن أخرجوني من المجلس تناثرت شظايا كما يتناثر السقف بعد كسر القواعد.
لا يجوز لي أن أغادر هذا المكان، إنه قطعة من القلب، ودم في الروح، أحبه كامرأة صوفيّة تقرئني الشعر الصوفي بعد منتصف ليل مقمر .
يقبع المجلس الذي أحب في الروح، لكن كيف بهذا المكان أن يسكن الروح ويساكنها العمر؟
لا . إن الخيال يأخذه من واقعه الّذي شيِّد فيه، ويجعله في مصاف الأعزاء غير المزعجين في آخر الليل، أو قبل الفجر بقليل. بل إن الخيال الذي يبادلني إياه هذا المجلس الذي أكتب منه، وأكتب فيه، وها أنا الآن – وليس غدا – أكتب إلى المجلس الذي أحب كل الحب، وعذرا أيها المجلس سأكشف ما فيك لنفسي.
إن في المجلس أشياء كثيرة، وما فيه أورثني الفقر في الصيف، إنني لا أخرج من مجلسي في رحلة الصيف الجهنّميّة الحارة على مدن النفط، ها هو الله يأخذ البرد معوضا به النفط الذي لم نر أثره على سحنات البشر.
البشر الذين أراهم وهم يعبرون المكان إلى الضفة الأخرى من الشارع الذي أسمع منه أصوات الفرامل، وارتطام السيّارات ببعضها، وأصوات سيارات الإسعاف المسرعة بالداخلين إلى التراب.
أدخل مجلسي الذي ليس ملكي، وفي كل صبح أتجرّد فيه من كل شيء، وألبس التُّبّان الأبيض فيه، أشعل جهاز التبريد، وأخرج إلى الحمّام مستحمّا من وعثاء النوم، ومن السوائل التي خرجت من صلبي وقضيبي، غاسلا أسناني البيضاء بمعجون ليس أبيض.
يستقبلني المجلس باردا.
آخذ كوب لبن وماء ورطبا ، أطالع الجزيرة إلى أن يأتي القرف، اقرأ، أكتب، أفتح الانترنت، أطالع ما أستطيع من بريد ومواقع أدبية ونقدية، أبحث عن مصطلحات، ألجأ إلى مخطوطي البحثي، أضبط فيه المراجع والهوامش، أكتب وأعدِّل ما قد كتبته سابقا من مقدمات الأبواب وخواتيمها، أبحث عن نهايات للقصص.
أتأمل من نافذة المجلس شابا يقف بين بنايتين عند الظهيرة، يدخن التبغ ملتفتا إلى بدلته الزرقاء، ثم يغيب عن ناظري بعد أن داس تبغه بعقب حذائه الأسود في سبخة ترابيّة.
شعرت أن الشاب الذي رأيته كان يشبهني، في فترة قد مضت مبتعدة عن حياة عشت فيها خائفا من كل عين تراني، أو رأتني أرتكب جريمة، وهي جريمة عار ومنكر وفضيحة كبرى في مجتمعنا البدائي المختلف والمتخلّف في أحيان ليست قليلة، حدث أن خفت من الناس لحظة أن بدأت أدس التبغ في أمعائي وشرايين القلب والرئتين والأمعاء الخفيفة والغليظة والثقيلة، وها هو ذا الشاب خائفا، أو بدا كأنه خائف من أعين الناس، إنه ينزوي بين بنايتين، بنتْ له ظلة، يستظل ظهيرة صيف حار.
رغم أنك أيها المجلس تقذفني بحبيبات ماء صغيرة تأتي من الأعلى، من شقة كبيرة يقطنها دكتور نباتي من الهند، إلا إني أحب الجلوس معك، أفكر من أين تأتي هذه الحبيبات الصغيرة التي تنزل على طاولة كانت للطعام، وحولتها حياتي العبثية إلى طاولة حاضنة للكتب والأوراق؟
أنت صديق صدوق أيها المجلس، وأنا أحب جدرانك الصفراء، واعذرني إن حولت صبغك الأصفر إلى أسود بالرصاص، فأنا أكتب في أي مكان، إن كلمني أحد وكان في يدي قلم فقد أكتب مكالمته دون وعي، وها هي مكالمة هاتفية مدونة على إحدى جدرانك، إنها مكالمة كانت قد وصلتني من كندا، صديقتي وحبيبتي «إسراء علي» تكلمت من كندا وكانت تنوي ركوب القطار، وقالت إنها تحلم متمنية لو أن يدها في يدي، وقلت لها إني أيضا أحلم متمنيا لو أن شفتي في شفتها ثم ضحكت، وقالت اصبر حتى تجمعنا غرفة في مدينة. وهي قد وعدتني ضرورة أن نلتقي في الأردن، شتاء هذا العام، وأنا بدوري وعدتها بضرورة اللقاء، ها هي « إسراء علي» قد أغلقت مكالمتها بعد أن أسمعتني صوتها أكثر من عشر دقائق، وها أنا قد كتبت « أحبك يا أسراء علي، ووعدا سنلتقي، وإني أيضا مشتاق إليك».
قد تطالبني العائلة الكبيرة بدين، فإني أكتب الآن أن عليّ مبلغا وقدره مائة ريال، كنت قد تسلفتها لرحلة جنونية قمت بها قبل سنة، وإني الآن حائر فيك، وأنا أفكر كثيرا : هل أرجعت المبلغ الذي تسلفته من أمي؟
هي تقول إني قد أرجعته، ودائما تصرّ على ذلك، وأنا لا أذكر إن أرجعته أم لا ؟ وتنصحني أم ريماس مخافة الشبهة أن أرجع النقد مرّة إذا لم أستطع التذكّر.
لا عليك أيها المجلس، أين الساعة التي في الجدار ؟ قد أحب معرفة الوقت منك، افعل بي ما تشاء، أحلم أن لا أغادرك، فأنت الجنة، بل إنك سيد الجنّات كلها. إني أعدك أن لا أقرب شجرة التفاح؛ حتى إن جعت فيك.
أنت المرأة الثانية، بل إن الحب الذي بيننا يجعلك في مصاف المرأة الأولى، وأعتذر عن كل الليالي التي دخلتك فيها وأنا في خفة اللاوعي.
أنا أعي جيدا أنك بالنسبة لي أولى القبلتين، وكان الله قد رآني كثيرا عندما صليت فيك، وكنت أقرأ القرآن والتوراة والإنجيل في محراب سجادة بها وردتان، في الوردة اليمنى كنت قد كتبت اسمي، وفي الوردة اليسرى كنت قد كتبت «بسياء». بهاتين الكلمتين اللتين كتبتا في السجادة كنت أدع كل من طلب سجادة أن يركع ويسجد عابدا إياي وبسياء كذلك، وإني حولت ذاتي إلهاًً، وقريتي هي الأخرى صارت نبياً، وأنا رسالتها على هذه الأرض.
أجزم أيها المجلس العزيز، الحبيب إلى الروح والقلب أنك تعرف بسياء جيدا، إنك تعرفها أكثر من أهلها الأحياء والأموات، إنها طفلة أو أني أنا الطفل الرضيع الباحث عن حلمة هنا وأخرى هناك ، أحلم أن أكبر قليلا؛ كي أفض بكارة تربتها الطاهرة العذراء حتى يومنا هذا.
أيّها المجلس الذي أحب: إذا ما متّ فيك فاسع بجهد منك أن لا تخرج جثتي من إحدى زواياك، اجعل لي قبرا بين زواياك الست، وإن لم يصدق أحد أنك مكون من ست زوايا فاخبرهم يأتوا للسلام عليّ حيا أو ميتا.
أرجو أن لا تدع أحدا يخرج منك أي كتاب، وأنا الآن أخبرك أن عندما حل جونو- ابن أخته لتسو نامي – خفت عليك كثيرا، كخوف الأم على ابنها، وبهذا أنا أبوك، أو أمّك ، وأنت ابني العزيز.
حمود الشكيلي
قاص من عُمان