طرقت الباب ففر صمت الغرفة من ثقب في زاوية الجدار. حملت أعذارها في قربة مثقوبة، وهي تتعلل بالندم وتتعذر بالدموع، لتعلن حزنها وتقدم براءتها من جريمة لا يتعاظمها موت. – الخيانة !! لم تخني.ولم أعثر في المعجم عن كلمة تصف فعلها أرق من الخيانة. توالت أيامنا وتدحرجت لقاءاتنا العقيمة، وغداة تقابل ظلينا تغرب شمس في ثوب أزرق تخيطه بوهج الظلام. – تكسرت أحلامي. وصوتها صفير عربة صفراء وصمتها صدى وهم صدئ، وأنا ضائع بين كراكيب الأحلام المحطمة، وخروشة الأصوات البعيدة الآتية من أيام لم تكن. عند المساء الأزرق كان لقاؤنا الأول، الغرفة زرقاء أيضا، المكتب تشوبه سماء أخرى، والمقعد نقطة حبر غامقة، وجسدي يفترش تفاصيل السكون، حركة الظل من فتحة الباب بين جيئة وذهاب، وأنا أقلب ذاكرتي لعلي أجد فيها ظلا يشبهه، ولما فشلت في العثور على ظل جسد بهذا الايهام. كان الجسد لازورديا والشعر من غاب….؟؟؟ – إنها الموظفة الجديدة. بعد المساء الأصفر تشعبطت أحلامنا جدران ليالينا، لهونا في لعبة الأيام نزاوج بين حلم وآخر، نفاضل بين اثنين هما واحد. الطاولة خضراء، والكؤوس ملوك يتوجها البخار، ورغوة الكابتشينو من قشطة رش عليها شهد شهوة تنتظر وثبتها المحققة. مسحت شفتيها بمنديلها الأخضر فارتسمتا عليهما الهين عبدتهما ليالي وأماسي فيما كان حلمي يثابر ليعتلي صهوة الجدران الخزفية، والمقهى يلفظ رواده فنبقى موجتين خضراوين يعشوشب فيهما الدهر حبا. تقول: أيامنا من حلم لا تدركه أقول: والاتي!! تقول: بحثك عن سؤال غامق أقول: الاجابة داكنة. – اللون ! – الألوان… وجاء المساء أحمر فنهشت اللهفة جسدينا في كل ثانية فراق واستفحلت فينا شهوة العناق. جلست قبالتي تمصمص شفتيها، ترسم أيامها القادمة، تعجز عن تخيل نفسها بدوني / وحيدة فأتلو مرثية عمري الآتي، أردد لها فيها أن الأمطار جبال غيوم والبحر عالم آخر، لم أعدها بشيء غير الحب. – والمستقبل. غمست أيامها في غابات شعرها ثم سوت من وضع قميصها القطيفي، وغفت في احتفالية أخري. ثم !! ثم بانت غيوم داكنة، فحل مساء أسود غائم. سقطت مزهرية الليلك وهي تحاور يأسها منى / من صمتها وقلة حيلتي، والثلج المتكدس في قلبي. – صحراء من ثلج…… – أنت وهمت أن تخرج لولا الصوت. صوت خرج يقول أن لا طاقة لي لاحتمال اخفاقات تجيد هي طهيها في مخيلتها.. – ثلج من صمت. أنت لم أصمت غير أنني لم أستطع أن أتقدم لخطبتها كما أرادت، لم أحداثها عن النزيف الذي يغرق أيامي حزنا أسود، وليلا قاتما، شيء يقتل أحلامي، يبعثر بيدرا من لحظات رسمناها، لا أستطيع قوله لها، شيء لا أستطيع الافصاح عنه. – صورة أخرى عن الصمت ! رمتني.
بخمس نظرات، وهي تخرج خاتم خطبتها، وكان ذلك أول عهدي بذهب من فحم أسمر، ولما… ولما كان المساء الأخضر كنت وحيدا أرمي بنرد الحب على ورقة الحلم فتتهاوى مدن بنيناها بشق الروح أضرحة لا يزورها إكليل غار. طويت القلب ولملمت الذاكرة، وعشت أيامي. روضت جسدي على مكان مقفر من صور الأحلام المتعفنة وحفيف الظلال النتنة وماء القلب الآسن، كأني عشت عالما آخر، كوابيس وهذيانا. آليت الا أموت فاخترت الانتحار فأنقذني عابر سبيل أصفر الوجه. – مساء آخر وذهب وكانت الحياة، وجاءت الآن. الآن مساء آخر. دخلت المكتب منطوية بلا لون ولا طعم، كالماه. جاءني النسيان رغم خريطة الارتطام الأبله بين جسدها والظل المرمي على السجادة البعيدة.. – لا تزعم أنك نسـ… – أذكرك ساعات مرت عليها أيام قبرتها شهور دثرتها سنون ولت في معطف الدهر، خلالها تزوجت من رجل لا تعرفه، جاء في مساء لا تذكره، طرق بابهم يتوسط أهليه، دخلوا وقرأوا الفاتحة، وفقعت / فقأت زغرودة مبيتة. وهم بها وتزوجا. وتركتني قطة تحترف المواء الصامت. رموشها من سيقان غابات المقبرة/ شواهدها أنا. تركها في مساء لا تذكره أيضا. وتزوج ثانية وثالثة وخامسة. – ورابعة
وجاءت الآن لا طاقة لي لابتلع الموج من بحر نائم. أصغيت لصخب النشيد وهي تتلو بيانات التعليل، تعيد لوحة أنزلتها عن جدار المكتب / تعيد أيامها. رجوتها الصمت فتوسلتني القول. لم يكن في جيبي ماء للحب لأسقي به بذارها. مسحت دمعتي الجافة منذ سنين وتركت الغرفة لنحيب أيامها.
-2-
أي مساء هذا نهاره غابة برتقالية الشكل وسماؤه بحر عميق وأنا أقف أمام حضوره الغامق، أهضم مساحة الغياب بغمزة من الحكاية حين طرقت الباب وألغت كأني لحظتها أصبحت وجها لوجه معه / معي للمرة الألف قبل لحظة البداية. لم أقل شيئا ولم أتقصد السكوت. سحب نفسه في تلابيب السكون والطلال المسكونة بالرماد وامتطى صهوة الصخب ثم انهار في أدغال الذاكرة. يداه مشبكتان على الطاولة ورأسه يهوي بينهما في قعر مزركش بالتجاويف. عيناه سوداوان ودمعه قطع فحم تسيح في مجرى نهر على خدوده الملتهبة. لم يكن له / لي بد إلا الحضور.. النهاية أجمل الأغاني التي نعزفها حين ننتشي والمساء ألوان طيف متباينة، قوس قزح مثقل بفرح آخر. ارتمى الطيف من النافذة حين دخلت الغرفة الرمادية. انهار لحظتها، كان حضوري أشهى من حبة مانجو جورية الخدود وهو يعتصرني في مساء آخر. حدثته عن الهزيمة التي دفعني للقبول بها وعن الخواء الذي فرض في داخلي لما تركني وحيدة أقاوم الليل… كنت أحبك ولما يستبد قلبك بقلبي وما كنت أراني أحب غيرك. لم تنهم حاجتي للحب بقدر إدراكك لمقدرتك على العناد. كيف ترتضي لي أن أقبل بنفسي سلعة في الأحلام، أستغفل عمري بلحظات فانية. كان صمتك أصفر كالورقة التي أكتب لك عليها لأحزاني كل مساء وأنا أستعيد شهد الماضي وطزاجة الهزيمة. – صمت قاتل صحراء من ثلج أنت قلت لك ألف مرة إننا بحاجة لهذا الحب وبحاجة لحمايته. الخاطبون كسروا باب بيتنا خمري اللون يطلبون يدي وأنا لا أقوى على الاستمرار بقول لا عندها تصيح أمي لائمة – لماذا !! أنت نفسك لم تمتلك إجابة تبرر هذا الرفض الذي أصبحت عبدة له.. تهرب.. – سؤالك أبدي وبين الأبد والوجود تضيع حكايتنا. ماذا كنت تريدني أن أفعل ! سئمت أغانيك الحزينة وراياتك السوداء. لم يكن لي مفر هن الانسحاب الصامت. ألملم الطيف من غرف قلبي الأربع، أسحب أجدده، أعاود الزحف بين الأبد والوجود، بيني وبين نفسي وأنت ! – اتركيني أحاول الفرار من براري حضورك. الهروب طعم آخر للهزيمة. تراك تدرك ذلك، وتدرك أن النسيان مذاق آخر للتذكر، والنوم جولة أخرى من الصحو الآخر. قد أستطيع المغادرة الآن،
عاطف أبو سيف(قاص من فلسطين)