عزيزي: سليمان.
هذا المساء يفت في عض د الأماني. يشو ش علي لحظات الجنون. ينثرني وأنا المبعثر في متاهات زمن جرد من سلطاته. كان لغيري أن ينام في جو دافئ كهذا. جوارحي تأبى ذلك. قل لي بربك: أي خدعة كبرى أمارسها كي أنام وألف طعنة تسكن جفني?!!. أمطرتني الأحزان فما بكت علي سحابة, فعلام أحزن أو أبكي?. أفر من المجهول وهو لصيق ظهري, فمم أفر? !!. إن مت الليلة: من سيذكرني? !!. عالمنا ينزلق بأطفاله إلى الهاوية وهم يصفقون. وإن سألتهم: »لم ترضون الانزلاق? «.. قالوا: »مسيرون«. إني أنبذ كل السخافات من حولي. آويت إلى قلبي ليعصمني من الطوفان, و منه أكتب إليك.
لا تسل: لم اخترتك بالذات?, ولم أكتب ولا أتحدث?. سأقول لك: »مسير«. عاشرتهم أربعين حولا وكان يكفيني منها أربعون يوما لآخذ طباعهم !. لكن اسمك يطفو على سطح الذاكرة. كأنك أنا. كأني أنت. فقلت: »أكاشفك«. فكرت هذا المساء بالانتحار. فليس في الحياة ما يستحق كل هذا العناء. أشغل التلفاز في الصباح فأرى هواني. تسحق أجزائي وأنا صامت طوعا أو كرها. لا أنبس ببنت شفة. »قوم لا تتكلموا«. إن عارضت مت, وكذا إن صمت. تقول »أم العيال«: »من لأولادك بعدك إن أنت تحدثت«. أقول: »لهم الله«. وتجيب على الفور: »والله نفسه أيضا لأولئك المأسورين داخل شاشة تلفازك«. لذا أفكر في مخترع الانتحار. أظن أن »أم عياله« أجبرته على السكوت كما أجبرتني ؛أم عيالي« فابتكر طريقة جديدة للكلام. قلت: »أ جرب طريقة كلامه«. ركبت سيارتي واخترت الطريق السريع خارج المدينة. ظننت أن به من الشاحنات ما يكفي لجعلي وسيارتي في حكم »الهريس« بمجرد اصطدامي بإحداها. أنا لا أمزح. إني جاد.ما جدوى هذا التشظي?. فلنمت أحرارا ياصديقي. قدت السيارة بسرعة جنونية متجاوزا كل السيارات أمامي. اخترقني الهواء والذكرى وآلام المساء. تبعتني إحدى السيارات وظلت تطاردني بأضوائها الكاشفة. كانت كاكتشافي المر المتأخر, فلم أعرها اهتمامي. واصلت سيري في انتظار شاحنة تأتي من الجهة المعاكسة. لم يكن من العدل أن أختار لتصادمي سيارة صغيرة فأقتل غيري معي. الشاحنة لن تتضرر. لم تأت أي شاحنة, بيد أن السيارة ذات الأضواء الكاشفة ظلت تلاحقني. فكرت: »أغمض عيني تاركا مقود السيارة, ثم أقول: سيرتني السيارة«. فعلت ذلك وظلت السيارة تمضي في الشارع المستقيم حتى توقفت فجأة. فتحت عيني اعتقادا بقدرتي على الكلام أخيرا, فرأيت أن الوقود قد نفد. صرخت: »ليس الآن«.كان المكان مقفرا . التفت إلى الخلف فرأيت سيارة شرطة. فرحت. نزل أحد الشرطيين مقتربا مني .صرخت حين رأيته: »الله بعثكم لنجدتي«. رد باستياء: »الله بعثك لتهلكنا. طاردناك من طرف المدينة بالأضواء الكاشفة كي تقف, ولم تقف إلا بعد خمسين كيلومترا عن المدينة. هات بطاقة الهوية ورخصة القيادة وملكية السيارة«. ذهلت. هل يحمل المنتحر بطاقات الزيف إلى العالم الآخر?. تظاهرت بالبحث عنها. قلت له: »في البيت«. انفجر غضبا: »ترتكب مخالفة التجاوز في مكان يمنع فيه التجاوز. نستوقفك فتهرب بنا إلى الصحراء مرتكبا مخالفة أخرى. أطلب وثائقك فأرى أنك ترتكب مخالفة عدم حملها«. قلت ببلاهة: »وما يدريني أنكم شرطة. لماذا لم تستعملوا صوت الإنذار? «. ضرب بقبضته باب سيارتي: »وهذه مخالفة أخرى: إهانة السلطات بالتدخل في عملها«, وحين رأى الدم ينزف من يديه تابع: »ومخالفة الاعتداء على السلطات«. قلت في نفسي: »من يعترض?!. نحن في الصحراء«. ذهب إلى سيارته وأخرج دفتر المخالفات وظل يسجل واحدة بعد أخرى. قلت له: »خذاني إلى البيت. وقودي نفد«. استشاط غضبا: »ومخالفة إزعاج السلطات أيضا«. ثم بدا لهما من بعد الآيات أن يأخذاني إلى البيت, و أركبني السيارة الشرطيان. أوصلاني بعد أن أخطأت في معرفة منزلي بضع مرات نلت عليها مخالفات أخرى تحت مسمى: »محاولة تضليل السلطات«. حين هممت بالنزول وإغلاق الباب, شدني الشرطي من ثوبي: »مخالفاتك«. وناولني الأوراق. قلت: »شكرا على إيصالي«. رد: » العفو. الشرطة في خدمة المواطن ؛. دخلت منزلي فرأيت أم العيال تطحن في فمها المكسرات وتتابع برنامج: ؛خليك بالبيت«. أعطيتها المخالفات ودخلت إلى غرفتي. سمعتها تصرخ وانا أغلق الباب على فشلي : »حذرتك من الخروج مرارا. خليك بالبيت«. لم أعرها اهتماما. أكانت تحدثني أم التلفاز حدث? .
إيه يا صديق.. حتى الموت يرفضني. تنازلنا أفلا يحق له أن يرفض أمثالنا?.قل لي دون مواربة: »ل م نحيا?. ل من نترك هذا الكدح? «. تعصر قلبك إرضاء لآخر, فتجد أنه أول من ي سلم ظهرك للريح. تراهم على شفا جرح وتنقذهم فيدفنونك في جرح آخر غير مبالين باستغاثاتك. العالم يتآكل بسرعة الحزن حين يلج إلى القلب, ونحن لا نعي ذلك إلا على أعتاب القبر. عن أي فضيلة يتحدث هذا العالم?!. أتعرف »سالم«?. إنه عامل نظافة في الشركة التي أعمل بها. حدثني سالم عن نفسه قال:
» عندي خمسة أولاد وسبع بنات. أنهى الأول دراسته في جامعة أهلية وقد أرهق كاهلي بالديون. انتظر في البيت قرابة العامين ثم وجد عملا في شركة في الخارج. سافر وترك لي الديون. جاء الثاني فلم أجد ما يكفي لإكمال دراسته. اعترض وهجر البيت. ظل يتسكع في الطرقات. أدمن ودخل السجن. جاء الثالث واختصر على نفسه. ذهب ليعمل في محطة للوقود براتب زهيد. ليس في بناتي من تعمل, ولذا ليس فيهن متزوجة. الرجال يموتون في حوادث السيارات والبنات في المنازل. دخلي زهيد. إذا مرض أحدهم لم أستطع الذهاب به إلى المستشفى. تخي ل يا أستاذ: حتى تعريفة العلاج في المستشفى أعجز عن إيجادها. انظر إلى وجهي. أيستحق هذا الشيب كل هذا الذل?!!!. مرض ثلاثة من أطفالي, فاستدنت تعريفة العلاج وذهبت بأصغرهم فقط إلى المستشفى.كنت أضغط بقوة على المبلغ في انتظار دوري بينما يدي الأخرى تمسك بطفلي.لم تكد تمر دقيقتان حتى عم اضطراب المكان. سمعت الموظفين يتهامسون: »جاءت خاتون«. وما أن يعلم موظف بمجيئها حتى يرتبك ويبدأ بلملمة أوراقه. حين سمعت باسمها يا أستاذ, تذكرت عاهرة – أعزك الله – كانت في أقصى الحي الجنوبي الذي تركته منذ خمس سنين. كانت تحمل نفس الاسم, متزوجة من عربيد, ولها ثلاثة أولاد لا يملكون ذرة من الرجولة. كنا نسخر من رقتهم الزائدة : »من يلومكم? أمكم خاتونوه«. حين دخلت »خاتون« المستشفى كدت أ صعق. إنهما تتشابهان إلى حد بعيد. ما حدث يا أستاذ أنهم أدخلوها مباشرة دون تعطيل, بل رفضوا أخذ التعريفة منها. تسببت خاتون في تأخيري ساعة أخرى. حين وصل دوري استلوا مني المبلغ كنزع الروح من جسد الكافر – أجاركم الله – دون رحمة. عرضت ابني على الطبيب ووصف له العلاج(1). عدت إلى المنزل وقس مت دواءه بالتساوي على أولادي الثلاثة المرضى. بكينا جميعا حينئذ. رفعت رأسي إلى السماء وقلت: ( ربي. عجل بموتي ). قل يا أستاذ: لماذا تغير العالم هكذا?!.
وأنا أيضا أسألك يا عزيزي سليمان: لماذا تغير العالم هكذا?. إن تحدثنا عن الواقع قالوا: »عدمي ون. متشائمون«. فليخبروني: »أين هو التفاؤل?. إننا مسحوقون بكل معنى الكلمة, والسحاقيات و أولادهن ملكن الأرض«. سمعت بالأمس في الإذاعة برنامجا موسيقيا يسمى: »لا تتردد« .قالت المذيعة: »هناك طرق كثيرة لجعل الحياة أكثر تفاؤلا ومرحا وروعة«. وجاء فاصل موسيقي قلت أثناءه لنفسي: »وجدت ضالتي إذن«. أكملت المذيعة بعد الفاصل: »الشعر الجميل. الفن. الموسيقى والألغام.. عفوا الأنغام«. قلت: »بل الألغام.كلمة الحق أسبق«. ثم أردفت المذيعة: »عش وأفرح …و لا تتردد«. قلت: »أريد الموت ولست مترددا, لكن من أين لي بالألغام?! «.
ذهبت مع جاري »سعدون« لزيارة »خم اس المحش« الذي تركه أولاده وحيدا في دار العجزة. يقول أكبرهم: »الحياة تغي رت كثيرا. كان بإمكان أمي أن تعتني بجدي في أيامه الأخيرة لأنها كانت ربة منزل وغير مرتبطة بمشاغل كثيرة. أما زوجاتنا فعاملات ولا يمكن لهن الجلوس في المنزل لرعاية والدي. دار العجزة الحل الأمثل. يعتنون به ونزوره باستمرار«. حين سألت »سعدون« عن المعنى التقريبي لمصطلح »باستمرار« الذي استخدمه الابن الأكبر, قال: »آخر مرة زاروه فيها كانت قبل سنة«. قلت: »أنعم باستمرارية الزيارة !!!! «. حين دخلنا معا لرؤية »خماس« كاد أن يغمى علي. لم أحتمل المنظر. كانت آخر صورة أحملها في ذهني له وهو يتكئ على عصاه متجها إلى المسجد. منظره الآن مختلف جدا. يدخل من أنفه أنبوب طويل قالوا أنه للطعام والشراب. ويخرج من بين فخذيه أنبوب آخر متصل بكيس شفاف معل ق بطرف السرير, قالوا أنه للبول. السائل الذي رأيته في الكيس كان أقرب إلى حمرة الدم. عينا خم اس مغلقتان بأشرطة لاصقة. كان يصدر بين الفينة والأخرى أنينا خفيضا يمزقنا. رأيت قربه شابة بعينين جادتين تمسك بمحارم ورقية وتنظف جانبي فمه. كانت تعمل بصمت, وتبكي كذلك بالصمت نفسه. تسقط بعض دموعها على وجه خم اس فتزيلها بسرعة. ي خي ل للناظر أنها تبكي نيابة عنه. ظللت و سعدون صامتين ثم قررنا الانصراف. مضينا بصمت. كنت أفكر: ؛ظل خم اس صامتا مثلي طيلة عمره خوفا على العيال, وهاهو يموت صامتا على هامش الحياة. من أدخل تلك الأنابيب?. ما أصعب أن يط لع الآخرون على ما كنت تسعى لإخفائه طيلة عمرك وأنت عاجز عن ردهم. ت رى لو يفيق الآن: ما يقول?«. فاجأني سعدون بسؤاله:
– أتعرفها?!!
– من تقصد?
– تلك الفتاة.
– ابنته… ربما.
– لا. إنها متطوعة. لو كنت مكان أولاده لجلبت له عاملا آسيويا يرعاه. لن يكلف ذلك شيئا. مبلغ بسيط, راتب العامل فقط.
– لو كنت أنا مكانه لصرخت: احقنوني بالسم لأموت.
هكذا قلت يا سليمان وكلي تعجب. الغرباء يا صديقي مرة أخرى. الغرباء?!!!!. أنظر إلى مغالطاتي. من يستحق اسم الغريب هنا?! ومن يستحق اسم القريب?!!. ل م نتهافت يا صديقي على الحياة إن كنا نعيش بأفواه مغلقة ونموت والأنابيب انتهكت سترنا?!!!. لم يمت خم اس بعد. لكنه في طي النسيان. إن غبت عن عينيك اليوم تنساني غدا. أليس كذلك?. إذن أقنعني بما يستحق أن أعيش من أجله?!!. »مسي رون«. لن نقول غير ذلك لنستبيح شم اعة القدر.
الحياة. الليل. الموت. هذه المترادفات في لغتي العقيمة. إيه يا زمن الصمت القسري. إيه يا زمن الأوجاع. أطراف الحكاية في يدي, ويدي ليست ملكي. من يسير من?!!. أعود فأقول لك: لا تسلني لم أكتب ولا أتحدث?. لم اخترتك أنت بالذات?. ليس لكل سؤال إجابة, لكن لكل شيء انتهاء. إن طلع الصباح علي سأقف على مدخل الشركة وأقول للعاملين: ؛ارجعوا وقروا عينا. لا عمل بعد اليوم. لم ترهقون أنفسكم?. عدمي ون. مسي رون. لا بأس. المهم ألا تترددوا في كسر الحلقة المفرغة من الميلاد والموت على الهوامش«. سيقول أحد العمال: »مجنون آخر«. سيكثر لغطهم. سيتجمعون حولي ليقيدوني. سيحملونني إلى أقصى الأرض وفمي مغلق قسرا. أثمة فرق?!. على الأقل سبب مقنع للصمت !!!.
عزيزي سليمان:
أسألك: إن كنت تولد لتموت والعالم لا يأبه بك, ل م تحيا?. أليس الموت أجدر بك?. دعني ألملم أوراق الرحيل. لي مع الأقدار حكاية, وحكايتي على فم الزمان. من يغلق فم الزمان فيلغي حكايتي?.
خالد المنسي
ملاحظات:
1-لم أشرب شيئا هذه الليلة.
2- القلم لا يكفي للانتحار. بإمكانك نسخ الرسالة وإرسالها إلى أي السلطات. دعها »تسيرني« حيث تشاء.
1 – أسر لي سالم في يوم آخر بأن خاتون كانت قد جاءت لعلاج نقطة سوداء صغيرة جدا ظهرت فجأة في خاصرتها اليمنى. واشتكت أن مظهرها مزعج جدا لكل من يراها. وفي صباح ثالث سألني سالم: كيف يمكن لخاتون أن تصل إلى كل هذا في بضع سنين?. قلت: لله الأمر من قبل ومن بعد.
عبدالعزيز الفارسي قاص من سلطنة عمان