رمى العصا أمامها لئلا تأكل من تلك النبتة السامة، قد علّم القطيع بأكمله سلوكات تبقيهم على قيد الحياة، كما نتعلم نحن بالضبط بمساعدة أهلينا قواعد رتيبة من شأنها أن تعزز فينا الحياة ولكنا في لحظة ما نجدنا نأبى ذلك بكل استطاعتنا.
حضَنها، وضع يده على أذنها، وشوشها كلاماً كثيراً جعلها تضحك كثيراً ثم ركضت بعيدة عنه.
من بعيدٍ كنتُ أطالع هذين المشهدين على جبلين متقابلين أمامي، أرسم أحداثهما دون أن أسمع أصوات كل منهما؛ على الجبل الأول ذلك الراعي يتبع عشرة خراف، يصلح لهم طريقاً، يسوّي نفسه على طيبة متجرداً من أيّ غرور يعاكس توجه هذه الأرض وهذه الطبيعة الخضراء، بثيابه القديمة و«حطته» المثبتة على كيفية واحدة. دائماً ما أرى كل الرعاء بذات قسمات الوجه، إنهم يشبهون بعضهم إلى حد يجعلهم متفردين متميزين عن سواهم، وكأنّ الله خلقهم في وقت واحد وحدهم بشكل واحدٍ ثم قسّمهم علينا.
يجلس مخبئاً وجهه بين يديه ثم يأخذ قربته ويشرب بقدر ما مشى، ألتقطُ كثيراً من أنفاسه، أتابعه وكأني أرى قديساً أمامي يتحرك، إنها الطبيعة النقية التي يحوم فيها من شأنها أن تجعله قديساً، الله يعلوه بمسافة أقل مما أنا عليه، يُسقط عليه رحمة وحكمة أكثر مما تصلني، إنني أؤمن بكل ما قد يفعله هذا الراعي، فما من مراقب بشري له، يتصرف بحرية متجاهلاً وجود أحد غيره، كأنا مثلاً، إنه بعيد عنا، يعيش في مكان مطلق واسع غير محدد، نقترب منه أحياناً كثيرة، نقابله وجهاً لوجه ولا يرانا، إنه قديس بحق، كائنٌ باذخٌ في الحرية. ليته يراني لأحدّثه بكل هذا!
على الجبل المقابل، عاشقان وحيدان يحاولان أن يتخفيا، أن يهربا من زحمة وضجيج يفسدا عليهما ما يريدان أن يتحدثا بشأنه، أن يبتعدا عن كائنات تصدر صوتاً يعلو على أنفساهما معاً. بعدما ابتعدتْ مسك بيدها… شدّها إليه… كانا يختبأن وراء أشياء مبهمة أشبه بالأشجار، تواري جسديهما البعيدين.
تركتهما وحيدين، فلم أهتم لهما كثيراً بقدر ما استوقفني ذلك الراعي، الذي يدور كالشمس حول عينيّ، ضوء سريرته يشدني إليه، إنه الضوء الخافت الذي دائماً ما كنت أبحث عنه، ما توحي به الطبيعة، ما ينير لي كثيراً مما أجهله، روحه الممشوقة بالأرجاء تهزّ جسدي، قامته الصارمة تحدث وقعاً غريباً في قلبي، حتى صرت أتخيلني أمامه فتى ضعيفاً أحمقَ يملؤه الخوف والزيف والجهل لكل شيء، وكأني ما عدت أملك شيئاً قليلاً من نفسي أفهمه، وكأني في صراع ثقيل همجي مع ذاتي يلحق بي خراباً كثيراً، وحده الضوء الخافت الصاعد من روحه يقدر أن يفعل بي أكثر من هذا…ووحدها العصا التي يشير بها نحو خرافه تدرك هذا كله.
صحوت من غفوتي على اختفائه، لقد ضللت طريقه، نظرتُ إلى أقرب مسافة أبحث عنه فلم أجده، فصرت أتبع خطوات القطيع، مشيت كثيراً…. بصعوبة وجدته هناك يسند ظهره على صخرة ورأسه هابط إلى صدره والقطيع قد ساروا باتجاه ما أشارت إليه العصا المتروكة على الأرض وقد تفرقوا، ركضتُ نحوه…كان كل جسدي يرتجف، مشيت ببطء، انثنيتُ أمامه، حتى أصبح وجهي مقابل وجهه، للحظة خفت من يده، ترددت في إمساكها… انتفضتُ وقعت على الأرض، ثم اقتربت منه، نقرتُ على كتفه، على يده، على وجهه، ثم حرّكت بشدة كتفيه بيديّ، صرختُ فلم يسمعني…صرخت كثيراً ويداي تهزه كثيراً، تركته فوقع…نظرتُ خلفي فلم أجدهم. تفرقوا ثم اختفوا في هذه الأرض الواسعة…وجثة الراعي وحدها أمامي ووحدي تأتيني تلك الومضات القوية التي تشدني إلى الخلف، فأتذكر تاريخه العظيم، وصرت في لحظة سريعة أتساءل وأنا وحيد تماماً: هل سيسأل عني أحد بعد موتي؟ وأنا متجرد الآن من كل زيف وسوء وأنا قريب من الله كثيراً، هل من الممكن أن يجعلني رسولاً؟
بيان أسعد مصطفى