الجميلة في قناعها المرمري
– 1 –
ذلك الأحد
حين شف الكلام,
وباحت بما لا يباح تعاريجه وانكساراته,
واستكانت إلى دفء كف يكفاك ,
وارتعدت شفتاك
للمسة أنملة عاشقه ,
كان ضوء بعيد, يسربله السحر ,
يرهج مقتربا, نائيا,
غجريا, مغاوي
في سماوات عينيك,
عينيك,
ذاك الفضاء البدائي,
متشحا بائتلاقات بحر من الحسن.
كنت تعيدين كل الحكايات,
يا امرأة قنعت جوع أحلامها بالحكايات,
عن عالم
لا مكان لرعدة عشق ووهج احتقان بريح الشبق
فيه.
لا دفء, لا توق, لا سغبا
لا احتراقا بنار التلم ظ,
لا فتنة, لا ألق
لا ضنى, لا قلق.
كان, أيضا, سواد غريب يثرثر في مد عينيك,
ينكر ما يدعيه الفم العندمي
ويرمي شباكا بدائية حولنا
تأسر الجسدين اللهوفين في غابة من رماد الكلام
وكان الكلام
شركا من ضنى وهيام .
ثم كانت أنامل إمرأة
تتوهج في سحر إيقاعها
بمساءات »ساتي« وسوناتة تحت ضوء القمر.
كان ضوء القمر
يتهدج في مد عينيك,
مؤتلقا, خابيا, مفصحا, حائرا
بين أن يتعرى ولا يتعرى.
وكنت سماء وضوءا وجمرا.
كنت سماء قصية .
كنت أغنية لم تغن ,
وحلما يكفنه الخوف,
حلما تحجر في رحلة الزيف.
كنت الضحية, كنت الضحية
في عوالم يمتاحها الآخرون,
وقربانها أنت, مذبحها أنت,
يا امرأة نسيت أن في طيب سروالها امرأة ,
فتنة امرأة
وحنين امرأة
وكنوز امرأة
وجنون امرأة.
أنت ترب الرجال, كما تدعين.
أنت مثل الرجال, كما تدعين….
ولكن عينيك,
رعدة كفيك في دفء كفي,
وهج الأناقة فوق البهاء الذي زخرفته يداك,
البهاء الذي دللته يداك
لموعدنا,
شعرك الغجري , الفلوت, الصقيل, المعربد,
ثغرك, مؤتلقا بالتلاوين,
ثغرك, مكتنزا, مترفا, يقطر الجنس من وهجه –
كل شيء عليك وفيك ومنك
يعربد عشقا أمام افتراعات عيني
يفرش أسرار جوع عريق تبرعم بين صخور الجبال
منذ كنت صبيهة
تتغندر في زيها المدرسي وتحلم أن فتى ساحرا
ذات يوم سيهصرها في جنون الشبق
ويقطف حلو الجنى من تلافيف مغناجها
من تلافيف أفنائها
سرة حلوة, طيب نهدين صلبين,
تكويرتين كقوسي سماء على أفق مبهم,
غابة غضة بين فخذين بكرين,
فستقة ناضجة,
وعذراء بنت جبال, كوعلة عشق, على وجهها هائجة
بين صخر وبحر وغابات أحلامها الراهجة.
– 2 –
أنت أفق بهاء, ووعد, وعربدة في الدماء,
أنت سحر السماء, وسر السماء,
أنت بعض النساء, وكل النساء, وزين النساء, ومسك النساء,
وأنا العاشق المتعبد في سحر عينيك,
يعصف بي شبق لاحتضانك, للغور فيك, لتفتيح آفاقك المغلقات,
وتفجير أسوار هذا البهي الذي يتكور
متشحا بالصلابة ما بين فخذيك,
للغوص من أجل درتك المقفلة
في محارة موت طويل, وكبت عريق,
ورفض لرعدات أعراقك المثقلة.
درة أنت لا صدفة
فلماذا تصرين أنك محض محارة
وقشرة كلس وقطعة مرمر
وقلب تحجر
في صراع المسافات من أجل بيت, وزوج, ومنبر.
درة أنت, لا صدفة,
ويدي تعشق الغوص من أجل درة
تتشرنق في القاع, راضية, ساجية.
سأمزق هذا الغشاء الحريري أجتاح هذا الجدار المحصن بالكبت والموت أفتض هذي المحارة
لأحرر درتها الغافية
وأصقلها بيدي, بدف ء لساني, بجوعي,بعشق يلألئ ألوانها الفاهية
ثم أخرزها عقد عشق وموت وحمى وأسطورة مجدلية
سأغوص لأنقذ درتك الكوثرية.
يا امرأة
نسيت أنها امرأة,
سوف يفاجئك العشق يوما,
وتعصف فيك أعاصيره, وتعربد أوجاعه ولظاه ,
وينهار هذا الجدار المطين بالزيف والقهقهات وريح التجارة
وثرثرة العبث المستلذ, وسحر العبارة
ستلوبين, مثل المصاب بحمى, على مقعد لا يطاق,
وما بين أغطية لا تطاق,
وجدران بيت تسح كوابيسها بالمرارة
لا تطاق
بيت تسح كوابيسه بالمرارة
لشباب تبخر في ردهات المبيعات في صفقات التجارة
دون رعدة جنس وبوح ولهفة
وانتعاظ لرجفة ثغر على حافتي سرة هائجة.
بلى, ستلوبين يوما,
وتعودين طفلة عشق تتوق إلى عاشق يستبيها
ويمتاح من ضفتيها رحيق البكارة.
يا امرأة,
يا لظى جسد مرعب, مارس الحب في سرر مضجرة
ياامرأة
يا لظى جسد مبهم, مارس الجنس في سرر مطفأة,
دون حب,
وتعرى لعينين, أسلم كثبانه وبواديه, دون اكتراث, لريح الذكر
واستفاض, وأنجب نسلا, وأرضع
سنين, ولكنه ظل بكرا, بريئا, مقنعا
يا امرأة,
يا لظى جسد مرعب,
إن فيك, هنا, في توهج عينيك بالحلم,
في هفهفات يديك على جسدي, ما يبوح بما لا يباح
وإني لأشتم في عمق هذا البهاء عبير الجراح
وإني لأقرأ هذا المدى العندمي على شفتيك, وأشتف في رعشة تخترق
هذه اللحظة, الآن, نهديك, ما يتضور خلف الجدار المطين بالموت,
بالقهقهات البريئة, بالعبث المستحب,وريح التجارة
وفراغ العبارة.
يا امرأة,
إن فيك لحمى جسد
إن فيك لهندا ودعدا ولبنى وليلى ونعما وأسماء,
فيك هجير الصحارى
وفيك جنون البراري
وفيك هيام العذارى
وفيك ارتعاد العذارى
وهجير الصحارى
إن فيك جنون البراري
وفي شفتيك تلم ظ أنثى تداري وتنكر كاذبة ما تداري.
يا امرأة
ياجمال امرأة
وجنون امرأة
ورياء امرأة
ومتاه امرأة.
يا امرأة,
تكذب الشفتان
ولكن عينيك لا تكذبان,
تكذب الشفتان, ولكن عينيك,
لكن كفيك فوق تضاريس جسمي وعبر متاهات صدري
ترتعدان, فلا تكذبان.
يا امرأة
تكذب الشفتان,
ولكن عينيك لا تكذبان.
يا امرأة,
انه العشق يأتيك يوما..
بلى, آه, لكن لعل اللظى يبدأ الآن, آه, ترى, ما الذي يتغرغر في ضوء عينيك, هل,
أومضت دمعة, دمعتان ?
ياامرأة
ياجنون امرأة
نسيت أن في طيب سروالها غابة تحترق
بالشبق
ومغارات جن وسحر, وكونا من التيه والموج والمرعباتيا امرأة,
إن فيك لسحر الحياة, وجوع الحياة,
وفيك جنون الحياة.
يا امرأة,
هي ذي كلمة صاغها عاشق, ونبوءة ساحر
سمرته إلى سحر عينيك أوجاع عينيك, سمرة وجه مكابر
سمرته إلى وهج الجنس في هفهفات يديك على كفه
هذه الرائحة
التي تتبخر من رعشات جسد
أطفأت ناره امرأة ترتعد
بلى يا امرأة
ياجنونا يعربد في جسدي
إنها لنبوءة ساحر
غار في كل سم وكل حنية
من حناياك, واستعرت
في حناياه نيرانك البربرية
فأغض ي له الطرف, آه ,
أغضي له النهد,
واستسلمي لأنامله,
أغضي له النهد وات كئي فوق أوهامه ,
بل تعري وفوري وجني
لاكتساح أنامله, شفتيه, يديه وأعضائه الفاجرة
واعصفي عصف بركانة فائرة
في تلافيف نيرانه ومتاهاته
يا امرأة,
فما كل يوم يغاويك شاعر.
– 3 –
ذلك الأحد
حين شف الكلام, وغارت يد واستكانت يد,
وهمست : سأعترف
حين يعصف بي العشق أعترف
لك
مثل اعتراف إلى كاهن في كنيسة.
سأعترف
حين تفجأني سورة العشق والشهوة الراعفة.
آه, لكن, بربك
كيف سأعترف
إن يكن كاهن اعترافي حبيبي?
ذلك الأحد
قلت: لكن, بربك , كيف سأعترف
إن يكن كاهن اعترافي حبيبي?
ذلك الأحد
كنت أسطورة من رياء وتوق وعشق وجوع ونار ورعب وثرثرة وادعاء
وكنت تخافين منك
وكنت تذودين عنك
وكنت تذوبين عشقا وسحرا وضوءا
وكنت..
كنت ما لا يقال
كنت أجمل من أن يحاولك الوصف
أجمل من أن يليق بك الوصف.
كان الجمال
يسربل ما فيك أنملة أنملة
ويفرط أسراره عبر عينيك سنبلة سنبلة.
ذلك الأحد
حين شف الكلام وباح بما لا يقال
تكور, كالحجل المتقن ع بين حجارة جرد بعيد,
وأسلم للموت أحزانه
أسلم للموت أيامه
الأبد.
ذلك الأحد
سوف يبقى إلى أبد لا انتهاء له أحدا واحدا
مثلما كنت, في سحر إيقاعه, وتلاوين أنملها بمساءات ساتي وضوء القمر,
طفلة أحدا واحدة
لا رجولة فيها,
ولا خوف, لا زيف, لا أقنعة.
ذلك الأحد
أتراك تكونين ثانية, ذات يوم,
كما كنت,عارية, حلوة, مترعة
باللظى,
باحتقان الجسد,
بالحنين إلى جسد يتقد ?
أتراك تكونين, ثانية, مثلما كنت
إمرأة تخلع العمر
ترجع نحو طفولة أيامها الوادعة
تشتهي عاشقا يتغندر في طيب أيامها
ويفتق أسرارها الهاجعة?
ذلك الأحد
حين باحت يد واستكانت يد,
حين باحت يد واستباحت يد,
هو, في سحر إيجازه,
الأبد.
ذلك الأحد
أبد
الأرملة السوداء
ليست سوداء, وليست أرملة,
بل هي صنوك يا حبيبتي, يا حمامتي, ويا عنكبوت روحي.
مثلك
تخطر في خيلاء مهرة عربية
ترعرعت في نشوة الجبال
وعبق السواحل,
لفارس ذي أذيال حريرية,
عالي النجاد, مترف الإزار.
وعلى مدى البصر
تنشر خيوط سحرها الملولبة
احتباكا وقسوة نسيج ولحمة وسداة
ودوائر دوائر
تبتكر من فتون عينيها الغويتين
وألق ابتساماتها الرجيمة
وخطوها الذي يهز نياط الأرض
فوح جنس وشهوة وانتعاظ
ومثلك
تحبك خيوط عذوبة لم تكن سوى لآلهات بدائية
في معابد نينوى وسر من رأى وطيبة
وأثينا وجزائر أوليس في متاهاته الألف.
العذوبة تقطر من شهد شفتيها المترفتين حسنا واكتمالا
والشبق الوحشي الوديع يتسلل كلمات وأحرفا
تتصيد الفريسة
ببراءة طفلة تمرح في ثياب العيد
وبلؤم أنثى لعوب
يلذ لها صرع الفرائس
وترك ها تتوهج عشقا وشبقا
وفيض شهوة لجسدها المسبكر.
بلى,
مثلك يا حبيبتي,
يادرة في جزائر الأعماق
لا أرملة ولا سوداء
بل ألق ضوء الفجر
في سواحل قريبة من بزوغ شمس صبية
وزوجة مصون لتموز او أدونيس
او لمحمد او عيسى او لفهد
او لنمر ازرق
مع ذلك,
هي الأرملة السوداء
لأنها في حالة ترمل أزلية.
فكلما ابتكرت عشيقا لها
ابتكرت له سرير موت
وذرفت حوله دموعا سوداء
برهة وبعض برهة
فيما تمتد عناكب أذرعها الألف
تفك أزرار عشيق آخر
لرقصة موت جديدة.
حبيبتي, يمامتي البيضاء,
متعة جسدي, وجحيم روحي.
الجميلة أسميتك ألف مرة ومرة
وهأنذا
أختم على سرتك اسمي الأخير
قبل أن يتقصف جسدي في سريرك اللعوب
وأنت تحلين سروال عاشق آخر
وتقضمين أعضاءه الطرية بأنيابك الألف.
جميلتي, أرملتي السوداء,
تعالي.
مراودات
—–
لها, لهن, لكم, للعالم
ولي
أن تراود نصا/ أن تراود امرأة
( من أجل الجميلة, التي لا تقرأ, ومن أجلي.)
– 1 –
»اقرأ «. قال الصوت الجميل , ملفعا بالوعد.
»وما أقرأ«? همس الصوت النقي , محتشدا بتقوى الرهبة ورعدة الانتشاء.
وكان ذلك فاتحة عصر قدر له, بعدها, أن يغمر الدنيا بهاء ومعرفة وخيرا .
ليس عبثا أن فعل القراءة كان أول فعل أمره الصوت الجميل أن يقوم به, في فاتحة عصر كان لهذا الدين بعدها أن يدخل على ما دخلته الشمس على مدى ألف ونصف ألف.
ولم يكن عبثا أن فاتحة العصر الآخر الذي سبقه فملأ الدنيا بهاء كانت:
»في البدء كان الكلمة والكلمة روح الله«.
لكنه عبث مدقع أن سلالة هذا البهاء كله أضاعت الكلمة كما أضاعت القراءة.
لم نعد نقرأ.
لم نعد نعرف كيف نقرأ.
ولم نعد نعرف ما نقرأ.
– 2 –
من أجل أن يكون لنا حتى ضغث حلم بفاتحة عصر جديد
ينبغي أن نتعلم ثانية
أن نتهجى الأشياء ثانية
أن نقرأ.
أن نعرف ما نقرأ
أن نعرف كيف نقرأ
وأن نعرف لماذا نقرأ.
فاقرأ (ي).
– 3 –
أن تقرأ نصا هو أن تغاوي نصا.
وأن تغاوي نصا هو أن تغاوي امرأة.
القراءة إغواء يقتضي موهبة تقتضيها كل مغاواة: براعة الملاطفة, و لطافة الاقتراب, ومهارة اللمسة وخفتها, ونفاذ العين والبصيرة, ورهافة الحدس بما قد تبوح به كل رعشة عابرة, واستجابة وامضة, وكل رغبة مقنعة برهبة, وفطنة للإشارات الخفية, واللمحات البارقة, وتفهم وأناة, والصبر على الصد والتمنع بل وعلى الرفض أيضا . ثم القدرة على اقتناص البرهة الحاسمة, حين يومض ألق التجلي, والاندفاع إلى الأعماق في لمحة برق.
لكن الإغواء أيضا يقتضي إرهاف حس باهر لارتعاشات جسد المرأة التي تغويها وقراءتها قراءة مجسات فراشة حمراء تتلاعب في روضة ألوان وأزاهير: متى تكون رعشة اليد التي تمسها بأناملك رعشة رغبة تكاد أن تفيض بك ولك وعليك, ومتى تكون رعدة اشمئزاز وقشعريرة نفور من لمسة كريهة وجسم لا يطاق. وقراءتك النص كذلك أيضا : تلمس كلمة أو صورة فيه فتنفر مقشعرة, ولا تفصح لك عن شيء يفيض على قلبك نور إلهام. وتلمس صورة ثانية فترتعد ارتعادة جسد يفتح لك مغاليقه لتدخل فتفيض به, وتفيض منه, ثراء دلالات وكنز اكتشافات وتحولات في أغواره وأغوارك.
والقراءة فعل ولوج, كما أن إغواء امرأة ولوج إلى الأغوار. سعي للدخول وتحريك استجابة رخية راضية, تهدهد الجسد وتميل به إلى استرخاء مع التوقد, واستكانة مع الوهج.
كذا إغواؤك النص الذي, بدءا , يغلق أطرافه وأعضاءه على كنوزه ويضم حوافيه على أسراره وألغازه.
وأنت لا تغوي نصا بحق وتبلغ الغاية من ذلك إلا حين يكون قد باح لك بكل ألغازه. كذلك لا تغوي امرأة إلا إذا فاضت عليك بكل ألغازها.
لكن رويدك , رويدك,
هل قلت : كل ألغازها ?
لا.
لا شيء, لا أحد, يصل إلى ألغاز امرأة كلها
كذلك القراءة : لا تصل أبدا إلى ألغاز النص كلها.
– 4 –
لمسة رهيفة هنا ولمسة رخية هناك, وعطف ينثني, وأنامل تستريح على أنامل, وإيماضة لهفة في عينين ساحليتين يختلج لها القلب ويرعش لها الجسد.
وكما أنك تلج النص فلا تجلو غوامضه وتستخرجها استخراج درة من محارة, كما اعتقد الناس لقرون طوال, بل تغور أنت في ثناياه, وتندرج في حناياه, وتحتويك أعضاؤه, كذلك تأخذك امرأة إلى حناياها, فتغور في متاهات أعمق, وغوامض أشد التباسا وإبهاما, ولا تجلو الخفايا وتخرجها إلى نور ساطع.
والقراءة غور إلى حنايا الم بهمات يتلوه مزيد من الغور, وعباءات تسربل المزيد من الجسد والقلب والروح, بلذة نسم يها لذة الاكتشاف, وهي بحق لذة الغور والانغمار.
إمرأة تفيض عليك فتزيدك انغمارا
ونص تلجه فيحتويك ويزيدك انغمارا.
وأنت تعاني وهم هزة التجلي, فيما أنت تعيش حقيقة نشوة الغور إلى الأعمق فالأعمق.
كأنك تغور إلى رحم من جديد.
رحم لا قاع له ولا نهاية.
رحم امرأة
رحم الوجود
رحم الموت.
– 5 –
تقرأ امرأة
فتقرأ نصا.
وتغاوي نصا فتغاوي امرأة.
أ و ليست المرأة, في نهاية المطاف,المطاف الذي لا نهاية له ?
أ و ليست المرأة النص الذي لا بداية له ولا انتهاء?
أ و ليست المرأة أجمل نص في الوجود, وأكثر النصوص إبهاما وفتنة , وانسحارا وفيضا , ونشوة كشف ومتعة أخذ ورحابة احتواء ?
أو ليست المرأة أرحب شيء في الوجود احتواء ? أو لم تسم الأنثى »حواء« لأنها تحوي كل شيء وتحتوي كل شيء, فوصفت بصيغة المبالغة من فعل »حوي« ? : حوى = يحوي فهو حاو وهي حاوية وحواء ?
بلى إنهال كذلك.
بلى إنهال حواء.
بلى إنهال النص الأرحب احتواء.
التي يليق بها أن تسمى »الرحيبة«.
بلى إنهال كذلك
ويا سحر ما هي.
ويا نعم ما هي..
مراودات
لها, لهن, لكم, للعالم
ولي
أن تراود نصا/ أن تراود امرأة
( من أجل الجميلة, التي لا تقرأ, ومن أجلي.)
– 6 –
فجأة, يأتلق في البال أبو تمام, منشدا في شفق بغدادي أسيل, في مكان ما على ضفاف دجلة, والمساء غيهب سحري, والشعر يغويه بفتنة النغم ونشوة الإيغال :
»الشعر فرج ليست خصيصته
طول الليالي إلا لمفترعه«
ومن مكان قصي, من على شفاه بحيرة البجع في حديقة وستر كولدج المترفة, ذات صباح مبهم بالضباب, يهمس له كمال ابوديب, وهو يحلم بعينين براقتين تأتلقان بنشوة الرغبة:
»والنص فرج ليست خصيصته
طول الليالي إلا لمغويه
يمتاح منه أسرار عذرته
وينتشي من سنا تجليه
ويرشف السحر من غوامضه
ويجتلي مولعا مراميه
يغوي ويغوى كلاهما, فهما
بدء اجتياح, والم نتهى فيه
كلاهما والج مراوده
وموغل في معارج التيه
يراود الخل عن غياهبه
ويكتوي في لظى مطاويه
ويهرق الروح في مساربه
ويستبيه رؤى مساريه
كما استبت غنج في تمنعها
مولها أغلست معانيه
كلاهما هائم بصاحبه
لكنه مبهم في تجليه«.
– 7 –
القراءة مراودة والعشق مراودة. والمراودة أجمل ما ابتكره الإنسان من فنون ليلج بها غياهب المبهم, والسحري المدلهم , والملفع بالإشارات المضللة, وليكتشف النبع الذي منه فاض كل شيء نشوة ومعرفة.
قرأ آدم جسد حواء نصا مبهما
يفصح بإشارات من ورق التفاح
تكتمل في الثمرة الناضجة
بين الفخذين.
فكانت التجربة العظمى في التاريخ, وكانت نشوة الاكتناه, ولذة الاكتشاف ثم غبطة الولوج, ونعمة الخروج. خرج الإنسان إلى الأرض, إلى التاريخ, إلى معرفة الجسد – أصل كل معرفة, وغاية كل معرفة, ومنتهى كل معرفة.
ولم يكن شيء من هذا كله ليكون لولا أنها بسحرها راودته, وقرأته نصا مفصحا دونما التباس.
– 8 –
الغاوون.
وما أدراك ما الغاوون.
الذين تغويهم الإشارات والعلامات واللمحات, والأشياء والعوالم المغلقات. غاوون هم لا ضالون, ولذلك عطف عليهم بالهيام, ولم يقل »الضالون«. ولذلك أيضا ميز الغوى عن الضلالة فقال : »ما ضل صاحبك وما غوي«.
والغاوون هم الذين يتبعون الشعراء, أي هم الذين تغويهم كلماتهم ونصوصهم, فتراودهم ويراودونها. هم قراء الشعراء ومستمعوهم ومتلقوهم. ولذلك لم يقل : »الشعراء هم الغاوون«, بل قال »الشعراء يتبعهم الغاوون«. فالقراءة مغاواة و مراودة وانغواء.
القراءة غواية
والكتابة غواية.
»الشعراء يتبعهم الغاوون«?
لم يعرف للكلمة معنى قطعي خلال ألف و 500
الآن ندرك بعض ما هي. لا كل ما هي.
– 9 –
أن تقرأ امرأة
أن تغاوي نصا
هو أن تراود سحرا مبهما واحدا, تتعدد تجلياته, وجوهره لا يتعدد. وهو جوهر شبق الاكتناه والاكتشاف والتجلي والمعرفة.
لا معرفة دون مراودة وإغواء وغواية.
ولا قراءة مبدعة دون أن تراود النص عن نفسه, ويراودك عن نفسك.
تقرأ نصا/ تغاوي امرأة
فتفصح عن غياهب روحك وجسدك,
بقدر ما يفصح لك النص والمرأة عن غياهبهما, بل بقدر أكبر بقليل منهما. فالنص والمرأة يظلان أشد انحجابا حتى في ذروة الإفصاح. أما أنت, ففي كل حرف تبوح به عن النص, وفي كل لمسة ورعشة عين لامرأة, تغدق مما في روحك وجسدك وقلبك فيض أسرار. فالعاشق والقارئ يبوحان بأكثر مما يبوح به المعشوق والمقروء. لأنهما ينطقان. والنطق بواح.
– »لا, لا«, يقول الصوت :
تراود, لكن لا عن »نفسه« بل عن…. غياهبه. فالنص لا نفس واحدة جوهرانية محضا له, بل هو دائما فضاء إشارات واحتمالات وتكاثر وتوالد, وتحلزن مبهمات وتعثكل دهاليز, كلما أضأت واحدا تعثكلت منه دهاليز أخرى. وأنت لا نفس واحدة لك بل أنت فضاء إشارات ومعارج تيه.
تراود, بلى. لكن عن نفوس كثيرة فيكما- النص وأنت, المرأة وأنت – لا عن نفس وحسب, وعن معارج تتوالد إلى معارج, لا عن درب ناصع مضاء.
كذلك أيضا تراود امرأة وكذلك تراودك امرأة, فلا يكون كشف وجلاء ناصعان ثابتان, بل فيوض لذة ومتاهات, وينابيع طيوف وغلالات.
– 10-
كما أن ثمة امرأة أنثى
وامرأة ذكرا
وامرأة خنثى
كذلك ثمة نص أنثى
ونص ذكر
ونص خنثى.
ولكل منهن , ومنها, مدخله وممرات الأنامل المراودات إلى حناياه.
نص لغته تنفصم عن رؤاه
أو إيقاعه عن صوره.
ونص لين الروح خشن الكلام,
عضب النسيج لا رونق له ولا ماء فيه.
ونص هو النص الأمثل : النص – النص .
لكن,
كما المرأة – المرأة لم تكن بعد
إلا في حلم رجل أخذ بلبه الجنون
لم يكن النص – النص بعد
إلا في خيال عصفت به حمى الأوهام وأبالسة التخاييل.
مراودات
لها, لهن, لكم, للعالم
ولي
أن تراود نصا/ أن تراود امرأة
(من أجل الجميلة, التي لا تقرأ, ومن أجلي).
– 11 –
أن تغوي امرأة غير أن تغتصب امرأة.
أن تغوي نصا هو أن تستميحه وتستعطفه أن يجلو لك, ويفتح عليك, ويأذن أن تلجه ويحتويك ويضم ضفاف سحره عليك.
وأن تغتصب نصا هو أن تنتهكه بجلافة قوتك, فيغلق أطرافه على أسراره ولا تمس أنت غير جلده المزبئر تمنعا واشمئزازا.
ومثله أن تغتصب امرأة.
أما أن تغوي امرأة
فذلك أوج الفن
وسر الأسرار
ونشوة النشوات
وسدرة المنتهى……
– 12 –
لكل امرأة مقتربها ومذاقها ومدخلها, والنقاط الحساسة في جسدها التي تجعل الجسد يرتعد لذة, فيفيض عليك بأفانين سحره ونشوته, حين تجدها فتناغيها وتراود غياهب الجسد بها.
ولكل نص مثل ذلك من نقاط في جسده. فإن لم تجدها ظل مغلقا عليك : جثة ميتة على يديك, ينفر من لمسات أناملك, وتنفر مقشعرة أناملك من لمسه, نفور امرأة يقززها منك حتى طرفة العين.
كما أنك تراود امرأة فلا تغويها إلا أن يسيل بينكما خيط حريري من المودة والتفم والتعاطف والتواصل السري والتراعش الذي تحسه العين ولا تراه,
كذلك تراود نصا لا يسيل بينك وبينه مثل ذلك, فتنتصب من نسيجه نفسه أسوار بين عينيك وبينه, وبين ملكة تذوقك وبين رؤاه.
وكما تلمح امرأة فيشع منها إليك شيء خفي , ومنك إليها مثله, شيء يقولون إنه الرائحة البدائية لوحش الجسد, أو همهمات الروح, أو طيوف الرغبة, أو الحقل الكهرطيسي, أو الهالة السرية التي تحيط بالذات الحية أيا كانت.
كذلك النصوص : منها ما يشع إليك وإليه منك هذا الشيء السري, ومنها ما لا يشع لك, لكنه قد يشع لغيرك, فيما يشع لك أنت غيره من النصوص:
نص ينفتح لك لا لغيرك, ونص ينفتح لغيرك ويغلق أكمامه عليك.
وامرأة تنفتح لغيرك لا لك, وتطوي أعضاءها على متعة فيضها وأسرار جسدها أمام عينيك فلا تبصران, وأمام قلبك فلا يرى.
شعاع ما, سحر رائحة, عبق ذكرى, طيف صور في اللاوعي تشدك كلها في لمح بارق إلى امرأة تعبر الطريق, أو تعبرها عيناك في جلسة عابرة. تشدك إلى امرأة ونص, أو إلى نص – امرأة, أو إلى امرأة – نص .
وكما أن إغواء امرأة هو أن تنسرب بلطافة إلى ما هي : من أين وكيف وأي تاريخ, وم ن أصولها وفروعها, فتجعلها تحس بأنك معني بها وبها فقط إلى درجة أنك تريد أن تقضي العمر كله تتعرف على كل ما فيها ماضيا وحاضرا وأحلام مستقبل,
كذلك النص : إن لم توله أبلغ اهتمامك وأوج افتتانك به وبتاريخه وراهنه وأحلام مستقبله, ظل مغلقا لم تنفتح لك حناياه, ولم تغمرك بفيضها طواياه.
– 13-
كل امرأة نص
لكن ما كل نص امرأة.
النص الأجمل في الوجود منذ أن كورت يد الله الطين ونفخ فيه من روحه هو المرأة.
النص المطلق الذي لا نص بعده.
والمرأة الأجمل في الوجود هي المرأة – النص الأكثر إبهاما وثراء خفايا وألق تجليات.
– 14-
كل امرأة مغلقة على ما لا يدرك.
وكذلك كل نص.
الرجل نص ظاهر
إلا حين تختلج امرأة في حناياه. عندها يصير كون أسرار وبهاء ثراء.
– 15-
قد تعصى امرأة على مراودة رجل – أنت أو غيرك,أو على ألف رجل ورجل, لزمن أو لأزمنة.
لكنها لا تعصى على كل الرجال إلى ما لا نهاية.
ذلك أنها هي أيضا تبحث عن رجل كما يبحث رجل عنها. فوجودها لا يتحقق في ذاته, ولا يكتمل إلا في الرجل.
ثمة دائما رجل مفتاح , في مكان ما, يدير نفسه في قفل الباب, أو يلمسه لمسة سحر فتسقط مصاريعه أو يصر صريرا خفيفا وهو ينفتح للساحر الوالج باستئذان أو دونما استئذان.
كذلك النصوص: ينغلق النص على مراودة أو ألف مراودة, و لزمن أو لأزمنة. لكن ثمة دائما مراودا ما ذي لمسة سحرية أو مفتاح والج. وكما المرأة كذلك النص: فهو أيضا لا يكتمل وجوده في ذاته: بل يتحقق ويكتمل في قارئ أو متلق مراود.
النص يراودك من أجلك وأجل مصيره.
وأنت تراوده من أجلك وأجل وجوده.
تماما كما تراود امرأة
و كما تراودك امرأة:
من أجلك ومن أجلها وأجل كينونتكما ومصيركما معا.
لا من أجل واحد منكما وحسب.
فالقراءة سلخ للأنانية عن الذات, سلخ للأنا عن أناها, واستغراق في أنا النص, وولوج فضاء مشاركة, وم ن ح للذات إلى آخر, وإغناء للذات بالآخر وللآخر بالذات.
قراءة امرأة هي ذاك
وقراءة نص هي ذاك.
– 16-
ثمة امرأة تغويك بموج شعرها المتعثكل تعثكل شعر امرأة امرئ القيس.
وامرأة بنهدين مثل نهدي عشتار الوحشية
وامرأة بجيد كالرئم في جبال السراة,
وامرأة بتكويرة ردفين,
أو برنين صوت حان ,
أو بأكثر من هذا أو ذاك, أو بأقل منه أو بكله.
وثمة امرأة تغويك بما لا تراه عين ولا تسمعه أذن.
كذلك النصوص. منها ما يغويك برنين إيقاعه
أو بوحشية صوره
أو بألق ألفاظه
أو بغير ذاك, أو بكل ذاك.
ومنها ما يغويك بما لا تراه عين ولا تسمعه أذن, بل بما هو أقصى من ذلك كله وأشد نأيا وخفاء ومساسا بمغالق الروح, وتغلغلا في حنايا الكينونة.
لكن كما في المرأة كذلك في النص : إن لم تراودها/بفتنة تفنن وسحر تلطف ورشاقة ولوج
انجلت عنك الغواية فإذا لا شيء سوى فضاء خال لا مطر فيه ولا برق ولا رعود.
وإن راودته بكل ما أنت مبدع في تفننك فيه,
أغدق عليك الودق نشوة ولذة امتياح وهزة انخطاف.
وظللت ترن في أذنيك همهمات صوت امرأة امرئ القيس تهمس له معجبة مستفزة:
»…. يمين الله ما لك حيلة وما إن أرى عنك الغواية تنجلي«
وأنت تهمس لها بوله, مسحنفرا :
»و ما إن أريد لها أن تنجلي. لا جلاك الله عني.
فنعم الغواية هي, ونعم المراودة أنت«.
مسك ختام لنص/ مسك ختام لامرأة :
أن تراود نصا
هو أن تراود امرأة.
وأن تفقه نصا
هو أن تفقه امرأة.
على السطح ترى لنص جمالا تعيه.
لكنك لا تفقه غوامض اسراره
مهما غرقت غيه.
مثل كل النصوص.
وعلى السطح
ترى لا مرأه جمالا تلمسه.
لكنك لا تفقه غوامض اسرارها
مهما اوغلت فيها.
مثل كل النساء.
كمال ابوديب
استاذ كرسي اللغة العربية وآدابها بجامعة لندن