لعب الوطن العربي دورا كبيرا في تاريخ البشرية وكان للحضارات التي ازدهرت في ربوعه أثر كبير في حضارة الانسان الحالية وقد قامت حضارات ومدن في مواقع متعددة تراوحت بين الصحراء الحالية الى المناطق غزيرة المياه. لقد باد العديد من هذه الحضارات لأسباب مختلفة منها الحروب وتغيرات المناخ التي طرأت خلال هذا
التاريخ الطويل، وطمر الكثير من المراكز الحضرية التي قطنتها الشعوب في هذه المنطقة من العالم. لقد ساعدت عوامل الطبيعة من زلازل ورياح وأمطار على خراب هذه المراكز وطمرها تحت أمتار من التربة.
يقوم علم الآثار على تحديد هذه المواقع من السجلات التاريخية القديمة ثم الحفر في المواقع المحددة والتي قد تكون خاطئة نظرا لضعف الدقة في السجلات التاريخية التي اعتمدت على تحديد المسافات بشكل بدائي. لقد طورت حديثا بعض الطرائق الجيوفيزيائية التي بإمكانها كشف الأجسام وتحديد أبعادها تحت سطح الأرض وفي كل الأحوال فإن هذه الطرائق أقل كلفة من التنقيب الذي يعتمد على استخدام العمال في الحفر لكشف هذه المواقع.
سنورد فيما يلي طريقة المغنطيسية الآثارية التي استخدمت في العقود الثلاثة الماضية للتنقيب عن الآثار المطمورة مثل الأبنية والجدران والآنية الفخارية والآجر والقرميد والمواقد والممرات والمدافن والتماثيل ومستوطنات الانسان القديم والمواد الغارقة في الماء مثل السفن والمدافع والآنية الفخارية وقطعها.. الخ وأمكن التوصل الى نتائج جيدة في حالات كثيرة.
يقوم مبدأ الطريقة على حقيقة أن الصخور والمواد الآثارية الحاوية على معادن مغنطيسية (مثل الحديد) تكتسب مغنطيسية متحرضة بوجود الحقل المغنطيسي الأرضي الحالي وتتناسب شدتها مع شدة هذا الحقل ومع كمية المواد المغنطيسية الموجودة بها، ويساير اتجاه هذه المغنطيسية اتجاه هذا الحقل، بينما اكتسبت معظم الصخور والمواد الأثارية مغنطيسية متبقية دائمة تتناسب شدتها مع شدة الحقل المغنطيسي الأرضي الذي سيطر أثناء اكتساب الصخر لمغنطيسيته ومع كمية المواد المغنطيسية الموجودة بها، ويساير اتجاه هذه المغنطيسية المتبقية اتجاه الحقل المغنطيسي الأرضي الذي سيطر أثناء ذلك.
يتم في هذه الطريقة قياس التأثير المغنطيسي للاجسام المغنطيسية التي تشكل جزءا من الموقع الأثري وتستخدم في القياس مقاييس مغنطيسية حساسة جدا وهي على نوعين منها المقاييس الحقلية التي تقيس شدة المغنطيسية فوق الأجسام المطمورة ومنها المقاييس المخبرية التي تقيس شدة المغنطيسية للعينات المخبرية الصغيرة ويحسب منها اتجاه وميل المغنطيسية التي تحملها العينة. قد تكون هذه الأجسام أو العينات طبيعية أو صناعية ومغنطيسيتها حرارية أو ترسيبية أو كيميائية المنشأ، وتصنف هذه المواد حسب منشأ مغنطيسيتها الى:
أ – المواد المسخنة وتقسم الى:
1 – الصخور النارية الأصل التي اكتسبت مغنطيسيتها أثناء تبردها واستخدمت في البناء مثل البازلت أو الجرانيت وغيرهما.
2- المواد الغضارية مثل الفخار والبلاط والقرميد وأحجار الآتون أو المواقد والأفران.
3- المواد المعدنية مثل النقود ومعادن الصب أو السبك.
تكتسب هذه المواد مغنطيسية باتجاه وميل الحقل المغنطيسي الأرضي الذي مسيطر أثناء التسخين والتبريد كما تتناسب شدة هذه المغنطيسية مع شدة الحقل المغنطيسي الأرضي ودرجة حرارة التسخين.
ب – المواد الرسوبية مثل رسوبيات الحفر والخنادق والكهوف والبرك وملاط الجدران الحاوية على معادن مغنطيسية.
تكتسب هذه المواد أثناء ترسبها مغنطيسية باتجاه وميل الحقل المغنطيسي الأرضي المسيطر أثناء الترسيب.
ج – المواد الكيميائية أي المواد التي حدث بها تغيرات كيميائية مثل تحول هيدروكسيد الحديد الى أوكسيد الحديد المغنطيسي أو تلك التي حدث بها نمو بلوري، بدرجة الحرارة العادية، من حجوم صغيرة الى حجوم كبيرة، إذ تؤدي التغيرات الكيميائية أو النمو البلوري في هذه المواد الى اكتساب اتجاه وميل الحقل المغنطيسي الأرضي المسيطر أثناء حدوث هذه التغيرات.
وهنالك بعض المواد التي تستخدم في المغنطيسية الآثارية وتكتسب مغنطيسيتها مثل المواد الرسوبية المذكورة في الفقرة (ب) وهي:
د – الرسوبيات البحيرية أي تلك التي ترسبت في البحيرات خلال عدة آلاف من السنين.
ر – الرسوبيات الجليدية أي تلك التي حملتها الجليديات ورسبتها عند ذوبانها.
تطبيقات المغنطيسية الآثارية:
1- تحديد المواقع الأثرية المطمورة: يمكن تحديد موقع أثري من قياس شدة المغنطيسية فوق الموقع ودراسة المنحنى المغنطيسي المرسوم فوقه، فإذا كان الموقع مبنيا باي من المواد المذكورة في الفقرة السابقة فيعطي شواذ بقيم شدة الحقل المغنطيسي أي تغيرا بقيم المغنطيسية المقيسة كما في الشكل (1) الذي يمثل المنحنى المغنطيسي فوق جدار من الطوب المشوي والمطمور تحت سطح الأرض. يمكن باستخدام هذه الطريقة رسم مخطط تقريبي مبني بمواد مغنطيسية (طوب، بازلت، آجر… الخ) ومطمور تحت غطاء من التربة قد يبلغ عدة أمتار سماكة.
2- إعادة بناء القطع الفخارية: يمكن إعادة بناء الآنية الفخارية المكسورة بناء على دراسة اتجاه المغنطيسية المسجلة في شظايا الآنية فتوضع الشظايا بحيث يكون اتجاه المغنطيسية فيها موحدا (شكل 2).
3- كشف تزييف النقود والقطع الفخارية: تمكن مقارنة اتجاه المغنطيسية التي تكتسبها النقود (خاصة الفضية أو البرونزية) عند صكها من كشف النقود المزيفة التي صكت في فترة زمنية لاحقة نظرا لتغير اتجاه وميل المغنطيسية الأرضية مع الزمن. كما أن مقارنة ميل المغنطيسية في آلية فخارية تسمح بتمييز الآنية الفخارية التي منحت في أوقات متباينة مما يسمح بكشف الانية الفخارية المزيفة عن الآنية الأصلية التي تميز عصرا ما، ولها قيمة أثرية كبيرة (شكل 3).
4- تاريخ الأبنية: لقد أمكن تأريخ بعض الأبنية التي وجهت جدرانها حسب الاتجاهات الأربعة بعد تحديد الشمال المغنطيسي بواسطة البوصلة. يمكن من مقارنة الاتجاه الحالي لهذه الجدران مع منحنى تغير اتجاه المغنطيسية الأرضية من تقدير عمر هذه الأبنية. وقد طبقت هذه الطريقة على بعض الأبنية الرومانية في الدنمارك والتي كانت قد وجهت حسب الاتجاهات الأربعة عند بنائها وتختلف حاليا عن هذه الاتجاهات نظرا لتغير اتجاه الحقل المغنطيسي الأرضي منذ ذلك الوقت.
5- تقدير درجة حرارة التسخين: يمكن تقدير الدرجة التي وصلت اليها حرارة فرن شوي القرميد أو أتون نار قديم من تسخين القرميد ثم تبريده بوسط لامغنطيسي ثم قياس شدة مغنطيسيته وتكون درجة الحرارة القادرة على إزالة مغنطيسية القرميد هي الدرجة العليا التي وصلت اليها حرارة الفرن إذ أن تسخين جسم مغنطيسي ثم تبريده في وسط لامغنطيسي يؤدي الى نقصان شدة مغنطيسيته الى أن يصل الى درجة حرارة تزيل كل مغنطيسية الجسم وتكون هذه الدرجة هي درجة الحرارة التي وصل اليها الجسم عند تسخينه.
6- تحديد مصدر المواد الآثارية وبالتالي تحديد طرق التجارة وانتقال الانسان القديم: لقد استخدم الانسان القديم الاوبسيديان (الزجاج البركاني) والصوان لصنع الأسلحة وأدوات الصيد ونظرا لاختلاف أنواع الأوبسيديان من مصدر لآخر تختلف خواصه المغنطيسية حسب المصدر، لذا تمكن دراسة الخواص المغنطيسية لقطع من الأوبسيديان الموجودة في موقع أثري ومقارنة هذه الخواص مع خواص الاوبسيديان معروف المصدر من معرفة الموقع الذي أحضر منه الانسان القديم هذا الاوبسيديان وبالتالي من معرفة المواقع التي مر بها الانسان القديم، يعطي شكل ( 4) مواقع الاوبسيديان المختلفة في حوض البحر الأبيض المتوسط.
7- تأريخ المواقع الأثرية: لقد درست المغنطيسية للعديد من المواقع الأثرية للرسوبيات البحرية وغيرها مما ساعد على بناء منحنيات تغير شدة الحقل المغنطيسي الأرضي وميله وانحرافه مع الزمن. يعطي شكل (5) هذه المنحنيات لاوكرانيا وللفترة الزمنية الممتدة بين الوقت الحاضر و 600 سنة قبل الميلاد، وتمكن مقارنة شدة المغنطيسية وميلها وانحرافها في عينات مأخوذة من موقع أثري مع هذه المنحنيات من قدير عمر الموقع الأثري.
في الختام نقول إن طريقة المغنطيسية الأثارية هي طريقة سهلة وسريعة وقليلة التكاليف ونتائجها على درجة عالية من الدقة، إذ يمكن استخدامها لتحديد المواقع الأثرية القديمة ثم تقدير عمر بناء هذه المواقع والأدوات المختلفة الموجودة في الموقع ثم دراسة النشاط الانساني الذي ساد في الموقع مثل تحركات الانسان الذي قطن الموقع ودرجات الحرارة التي استخدمها في صناعاته مما يعطي فكرة عن أنواع الوقود التي استخدمها في هذه
جمال ابوديب (استاذ في قسم الجيولوجيا بجامعة دمشق-سوريا)