فى لحظة من لحظات كشوفاته الخاصة، والتي بدأت تنغص عليه حياته في الآونة الاخيرة، خاصة، حين يوغل في الميتافيزيقا فيطير من أمام زوجته مبحرا نحو عوالم لا يمكن ان تراها او تدرك كنهها. فقط تشوح بكف يدها، وتمسح العرق عن جبينها قائلة: أف. تقولها طويلة ممطوطة و وملحنة ظل يسمعها في هذا المفصل من السنة طوال خمسة عشر عاما هي عمر زواجه منها، وبسماعه هذه الأف. تكون زوجته قد اعلنت عن بدء فصل صيفي جديد وساخن. في لحظة، كان قد توصل لحل عبقري سوف يخلصهما والى الابد من هذا الحر الجهنمي، هذا الحر الذي يجعله طوال تسعة شهور لا يطيق سماع صوتها او الاقتراب منها، فقط يجلس امامها عاريا إلا من سروال، وعلى ركبتيه يضع فوطة يقربها كل خمس دقائق من وجهه وصدره ماسحا عرقا لزجا له رائحة الشمس وذرات الغبار، كانا في وقت الظهيرة يبدآن الطقس في صهد الشمس ولا يخرجان من ذلك الجحيم الا مع حلول الظلام، ساعتها، يزفران زفيرا حارا وصادقا وكأنهما يفرغان الهواء الساخن من جسديهما ليحل محله هواء الليل البارد المنعش. ومن بين صوت أزيز المروحة وتكتكاتها. قال فجأة وكمن رجع توا من تهويماته: وجدتها. فنظرت اليه شذرا بينما تمسح حبات عرق انزلقت الى صدرها: فيه ايه.
قال ومسح وجهه وصدره بالفوطة: تعرفي، لو عملنا عشة فوق السطوح نضرب عصفورين بحجر واحد: تحمي الشقة من اشعة الشمس صباحا، هذه واحدة، ونقضي فيها فترة المساء والسهرة، وممكن ننام فيها ايضا. كانت الفكرة بسيطة للغاية، ورغم بساطتها لم يفكر فيها طوال سنوات الحر، وعلى الرغم من اعترافه دوما بأن الأفكار العظيمة لا تأتيه صيفا، الا ان المعجزة حدثت وجاءت الفكرة بنت صيف واضحة وضوح شمس يوليو حتى أن زوجته اكتفت بالحملقة فيه غير مصدقة أكثر من ثلاث دقائق أطلقت آخرها زفرة حارة أعقبتها بأف ليست كالأفات السابقة، لكنه لم يستسلم لحالة الذهول التي انتابت زوجته، بل جاء بورقة وقلم واخذ يحسب الاطوال والخامات المطلوبة والتكلفة بحماس أنساه الحر اللافح المحيط بعروقه وعظامه التي كادت تتحمص، بل حتى أنساه الفوطة على ركبتيه فأخذ العرق يتساقط على الورق ويمحو ما كان يخطه، الا أنه واصل كفاحه مع الافكار التي من كثرة تزاحمها أربكت مخيلته، من بين الخامات الكثيرة التي تصلح اختار أرخصها، سوف يختار مواسير الستائر، أربعة قوائم وعمود في المنتصف وتثبت جميعها بالاسمنت والرمل في المسلح، أما التعريش فالانسب هو الحصر المعمول من البوص فيعطي ظلالا ويسمح بمرور الهواء، وحين انتهى من حسابات دقيقة للأطوال وترجمة كل ذلك لارقام مالية، ادرك ان التكلفة مناسبة فارتدى هدومه وخرج بينما زوجته تعوج فمها يمينا وشمالا وتشيعه بأف خرجت من أنفها هذه المرة.
في الطريق فكر في فكرته فتعجب وضرب كفا بكف، له خمسة عشر عاما لم تواته فكرة بهذا العمق، رغم انه لم يتغير شيء، فمازال يسكن في الدور الاخير، وما زالت حرارة الشمس تصيبه احيانا بالجنون فيملأ البانيو بالماء البارد ويستلقي فاردا جسده ومصرا على ان تأتي له زوجته بالطعام في الحمام، ومن خلال الميتافيزيقا يتخيل نفسه على الشاطيء في الساحل الشمالي فيشعر بسعادة، لكنها سعادة مؤقتة على اية حال، أما هذه الفكرة فهي دائمة. انتهى من تجهيز لوازم العشة، وشرع من فوره في التشييد بعد ان حصل على اجازة لمدة اسبوع قدر أن البناء سوف يستغرقه، وتقمصته روح مايكل انجلو، واستدعى ما قرأه عن سيد البنائين، وبروح ملهمة كان يثبت القواعد ويملأ الفراغات ويقيم الاسقف، ونسى الشمس التي تلهب جسده بسياطها، ونسي زوجته، وغاب بأفكاره الى وراء الافكار والطبيعة فتذكر مثلا ان يوم مولده كان علامة فارقة في تاريخ أمه وامته العربية من المحيط الى الخليج، فبينما كانت أمه تصارع الطلق، وبينما هو يعلن عن ثورته على بطن امه مستقبلا أول وجوده بصرخة سمعتها الارض والسماء، كانت ثورة الثالث والعشرين من يوليو تعلن عن نفسها هي ايضا، لقد حاول مرارا الخروج بدلالة ما تربط بين الثورتين: ثورة مولده وثورة يوليو دون جدوى، لكن ها هو في تلك اللحظة يتوصل الى قيمة ما، لعله كان الملتزم الوحيد بمبادىء الثورة الستة ومطبقا بنودها على أسرته الصغيرة في دقة وصرامة، وبينما يبني ويشيد اكتشف أيضا أن الانسان لابد له من ان يموت، وأوجد خيطا بين لحظة الميلاد ولحظة الموت، واقترب اكثر من حقيقة الوجود الانساني، وكاد يلمس بيده فكرة الجنة والنار، والموجود والعدم، والعلاقة بين الكتلة والفراغ، والزمن الوجودي، وانه لا احد في هذا الكون استطاع هزيمة الزمن، حتى الأنبياء أنفسهم لم يفروا منة، وصارت العشة تقترب من كمالها وتظهر شيئا فشيئا كبناء ملهم صنعته يد صناع ماهر على مشارف اكتشافات فلسفية خاصة وعميقة، ويزهو كان يلمح الجيران يقفون على اسطح المنازل المجاورة يقضون الساعات في تأمل هذا البناء المبهم بانبهار ودهشة، اما زوجته، فلم تكلف نفسها عناء القاء نظرة واحدة على ما يفعله، وربما حز هذا في نفسه قليلا، لكن عزيمته لم تفتر، بل على العكس ازداد حمية والهاما، وكما قدر، فقد اكتمل البناء في اسبوع، ووقف يتأمل العشة التي صنعها بيديه غير مصدق وتساقطت دمعتان من عينيه وانزلقتا فوق خديه فتركهما، تلك هي المرة الثانية في حياته التي بكى فيها، كانت المرة الاولى حين ماتت امه فبكى بكاء متصلا لمدة اسبوع، في البداية لم يكن يعرف كيف يبكي، وظل صامت ومحملقا في ذهول لجسد امه المسجى بينما الجميع حولها يبكون ويصرخون، وخاف علية الجميع مما اضطر أخاه الاصغر لان يلكمه فوق فكه لكمة طارت سنتيه الاماميتين وشعر بألم لا يطاق، لحظتها فقط، انفجر في بكاء متصل لم ينقطع مدة اسبوع، بعد ذلك توقف تماما عن البكاء رغم عاطفته الشديدة تجاه المواقف الميلودرامية والتي تزامنت مع صعوده وهبوطه في السلم الوظيفي والاجتماعي على السواء، فمنذ ان حصل على شهادة مدرسة التجارة المتوسطة وتعيينه كاتب سكرتارية ومحفوظات باحدى الهيئات الحكومية، أيقن ان حياته الغنية انتهت الى الابد، ففي صباه، كان يحلو له الابتعاد عن صحابه متوغلا في عزلتنه وفي مسالك لا يعرفها غيره، كان يترك قدميه تقودانه الى أحراش بولاق الدكرور ومزارعها وحتى خراباتها جاريا تارة وراء أبي فصاد، او متأملا في الوطاوط وهي تحوم حوله ناسيا نفسه تماما مع الضفادع التي تكتظ بها المصارف والترع منصتا بأذنيه المرهفتين لنقيقها ذي الايقاع الخاص، حتى انه كان يرجع نقيقها بأصابعه في فرقعات منتظمة، أو على ركبتيه بكف يده، ومن فمها تعلم ايقاعات الشعر العربي، ومنذ تلك اللحظة، أيقن بولادة شاعر كبير ينتمي لاسلافه عبر خمسة عشر قرنا، وبقليل من الحظ يمكن له هدم عمود الشعر وخلق عموده الخاص، غير ان وظيفته ولقاءه بزميلته في العمل والتي سوف تصبح فيما بعد زوجته، قد جعلا شيطان الشعر ونقيق الضفادع يهجرانه الى الابد.
لم يكن ما يرده أمامه الآن من قبيل المصادفة، فقد كان مؤهلا دوما لصنع شيء ما حقيقي وعبقري، وها هي الفرصة جاءت، وها هو يلمح نظرات الاعجاب في عيون الجيران الذين تقاطروا على الاسطح ليروا ذلك البناء المدهش الذي بدأت معالمه في الظهور: عشة مربعة الجوانب، كل مربع صنع كما لم تصنع المربعات من قبل، وكل مربعين يكونان زاوية على النموذج المستحيل للزوايا، والاعمدة مغطاة بعناية فائقة بالبرص المجدول، وفي المنتصف تماما، كان يقف العمود الاساسي والذي ذكره ببهو اعمدة الكرنك، أعلى قليلا من كل الاعمدة، مما جعله يحمل السقف بحيث يبدو مائلا على الجوانب، وقد التف حوله عود لبلاب ذو اوراق خضراء عريضة، وبراعم نامية في كل اطرافه، اما باب العشة، فقد رصدت على جانبيه أصص الزهور والنباتات الملونة. وبضربة حظ، كان قد حقق ما ظل يتمناه طوال حياته: ان يوجد شكلا للعمارة العربية يتفق مع المضمون، لقد اراد تحقيق ذلك حين تحول من كتابة الشعر الى النثر فكتب عدة قصص يرد بها على الاجيال السابقة التي قال عنها انها تحس بالدونية تجاه الغرب ولا تعتز بعروبتها، أما هو، فقد استوحى قصصه من البيئة الشعبية، ومن اشكال الحكى العربي، لكن نقاده الخونة تجاهلوه تماما فكف عن الكتابة وكاد يكره مشروعه العربي، اما الآن، فقد انجز ما عجز عن اثباته شعرا ونثرا، وكما أتته فكرة بناء العشة بغتة، فاجأته فكرة أخرى لا تقل عبقرية وبساطة: سوف يدعو الاهل والاصدقاء والجيران ويفتتح العشة باحتفال تقدم فيه الحلوى وزجاجات المياه الغازية، فربما كان هذا البناء هو الانجاز الحقيقي في حياته الاكثر اكتمالا وفرادة والاقرب الى الواقعية الاشتراكية التي رضع لبنها منذ أوائل الخمسينات وفشل في تطبيقها مرارا، ذلك انه منذ ان تزامن مولده مع الثورة المجيدة، كان كلما وضع الموطن خططا خمسية، وضع هو ايضا خططا خمسية لحياته باءت جميعها بالفشل، وبعد ثورة التصحيح بقيادة الرئيس المؤمن أضطر في ظل ظروف الوطن السريعة والمتلاحقة لوضع خطة يومية لكل يوم على حدة وحسب طبيعة اليوم، ففي كل صباح كان ينظر الى السماء قبل شروق الشمس بدقائق، وبعدها يقرر الخطة التي يسير بها اليوم، وآتت خطه أكلها فقد كان يعبر يومه بسلاسة دونما يعكر صفوه، وها هو يغير من مساره فيضع خطة اسبوعية لبناء العشة تثمر ذلك البناء المدهش والذي يعبر به القرن الواحد والعثسرين بخطي واثقة، ذلك القرن الذي لا يستطيع ملاحقة منجزاته العلمية واكتشافاته اليومية ومحاولة فهم تلك المعادلات الكيميائية المعقدة، لقد ارقته مثلا فكرة الهندسة الوراثية حين وقعت عيناه على النعجة دوللي في إحدى جرائد الصباح آذنة ببدء عصر جديد من الاستنساخ، وحاول محاولة جادة فهم بعض المصطلحات من قبيل الشفرة الوراثية والجينات والكروموسومسات والحامض النووي والاحماض الامينية "والدي ان ايه" وغيرها من الكلمات التي كان يشعر بوحدة قاعة وهو يفكر فيها وفي حركه البويضة داخل رحم صناعي، ولم يكن يجرؤ أن يسأل زوجته كيف يحدث ذلك وهي الخبيرة بالاوضاع المثلى للبويضة، فقد أجهضت اثنتي عشرة مرة خلال خمس عشرة سنة ولم تفلح مرة واحدة في استنساخ قطعة لحم تحمل اسمه وصفاته، وشكر انه في القريب العاجل قد يتمكن من ذلك، فالعلماء يعملون ليل نهار من أجله.
تسرب الخبر الى جيرانه ومعارفه، واراد هو ان يكون أكثر تحضرا فكتب دعوات اودعها اظرفا وكتب اسماء كل من يعرفه، وفكر انه لو ارسلها بالبريد فسوف تتكلف كثيرا، وربما قد لا تصل الى اصحابها في الموعد المحدد، واستقر رأيه على تسليمها شخصيا يدا بيد، وشرع من فوره في تنفيذ ذلك، فكان يخرج صباحا حاملا حقيبة هاندباج واضعا فيها خطابات الدعوى، مارا على كل معارفه، ولم تكن الكلمات المتبادلة بينه وبين مدعويه لتزيد عن بعض الجمل القصيرة والمكثفة مثل: يسعدنا انا وزوجتي تشريفكم غدا، او مثل: سوف نفتتح كوخنا الصيفي ويسرنا وجودكم بيننا. ويصاحب ذلك دائما انحناءة خفيفة مع وضع يده على صدره، وكم كانت سعادته حين يعلق أحدهم: ها… لقد رأيناه من سطح منزلنا وهو في الواقع تحفة. أو: كم نتمنى الجلوس فيه لدقائق. او: لقد أوحى لنا بعمل مثله. فيعتلي زهوا وخيلاء، ويشعر بان العمر لم يذهب هباء، وان لديه الكثير من المشاريع التي لم يعلن عنها بعد، وأنطلق في وضع اللمسات الاخيرة، فأحضر مزيدا من أصص الزهور الملونة، وزرع على باب العشة فرع عنبة نباتي واشجار لبلاب وورقا فضيا، وعلق في الداخل أحواضا بلاستيكية تتدلى منها نباتات البوش الخضراء الزاهية، ووضع فرعين من لمبات صغيرة ملونة تضيء وتنطفىء في حركة دائمة، ثم مزيدا من لمبات النيون ذات الاضاءة البيضاء القوية، على أن ما كان يؤرقه في الواقع هو ان أساس العشة لم يكن بالمتانة الكافية، فقد ثبت الاعمدة في صفائح حبش عليها بالرمل والاسمنت، لكن الصفائح نفسها غير مثبتة في شيء فلو افترضنا وقوع صفيحة، ولو انه افتراض بعيد الحدوث، فسوف تجر معها كل الصفائح، وكل الاعمدة وتنهار العشة، استبعد على الفور تلك الافكار السوداوية فليس هذا وقتها، وفي امكان تلك الافكار تدمير فرحته، لكنه لم يستطع الابتعاد عنها، خاصة حين يهب الهواء فتمتلىء به العشة فتهتز اهتزازات غير مريحة، وأخرج نفسه مرة أخرى من تهويماته، واخذ يتفقد كل شيء للمرة الاخيرة حتى اطمأن من ان كل شيء سوف يتم وفق ما خطط له، سوف تكون ليلة من ليالي العمر، اختارها بدقة وعناية وجمع فيها أربع مناسبات كبرى: يوم ما هب الجيش وثار، ويوم مولده، ويوم زواجه، واخيرا يوم اكتمال بناء العشة، وابتسم ابتسامة داخلية هو وحده يعرفها كلما شعر بالرضا عن نفسه.
واخيرا حل اليوم الموعود، أرتدي اغلى واعز ملابسه الى نفسه، قميص وبنطلون زواجه، ورجع مثلما كان منذ خمس عشرة سنة، ظهر اصغر من سنه الحقيقية بذقن حلقت بعناية. وشعره المجعد اختفى بعد ان استعان بسيشوار زوجته على فرده ودهنه بزيت الزيتون فظهر لامعا. ومصقولا ومرسلا على جبينه، وأراد في هذه اللينة ان يرتدي جديدا فاشترى جوربين وحذاء من نفس لون القميص والبنطلون مظهرا بذلك ذائقته الجمالية في اختيار ألوان متناسقة وحالمة، اما زوجته، فقد كانت أكثر بساطة منه، أصرت على ارتداء حلة قديمة لم تكن ترتديها الا في المطبخ، لكنها كانت نظيفة ومعطرة، ونظر اليها وهي تقف بجانبه في شرف استقبال المدعوين فأحس انه لم يرها بهذه الشفافية من قبل، وبدأ المدعوون يتوافدون، ووقف وابتسامته لا تفارق شفتيه طوال الوقت موجها ومشيرا الى ان الاحتفال فوق حيث السطوح، حتى اذا ما أحس باكتمال المدعوين، انضم هو وزوجته اليهم، ووقف يتأمل الجمع المحتشد من أجله امام باب العشة وقد ألصق عليه شريطا من السلوفان الاحمر الشفاف، وبجانبه وضع مقصا اشتر اه خصيصا لهذه المناسبة، وشعر بامتنان حقيقي لكل هؤلاء، واجتاحته لحظة رومانتيكية فكاد يبكي، لكنه تماسك، واعتلى طبلية كانت ملقاة فوق السطوح، وتقمصته روح مارلون براندو كما شاهده في الأب الروحي فقال بصوت جهوري: السيدات والسادة، الاخوة والاخوات، سوف أكون ممتنا لكم مدى حياتي أنا وزوجتي لتشريفكم وقبول دعوتي، فهذا دين في عنقي، وسوف يبدأ احتفالنا سويا بقص شريط كوخنا الصيفي المتواضع، والآن، أقوم بشرح مبسط ومختصر حول الفكرة وكيف باغتني فجأة. وكيف بدأت مرحلة التنفيذ، والخامات المستخدمة. وانطلق في حديثه وبدا أن لا شيء يستطيع ايقافه، وكان يمزج حديثه بالشعر أحيانا، وبالحكم والامثال الشعبية والنثر الذي كان يرقى كثيرا فيصل في بعض المواضيع الى ذرى لم يحلم بها من قبل، وصفق الحضور في بعض الفقرات فاضطر لاعادتها، حتى زوجته صفقت له وشعرت انه الآن فقط أصبح ملهما وعظيما. ولما انتهى، قاد الجميع الى باب العشة فقص الشريط، وتلقى تهاني, لا حصر لها، وأخيرا دخلوا العشة فكانت الموائد ممدودة على جانبيها، وفوقها رصت أطباق الحلوى وزجاجات المياه الغازية، وانقسم المدعوون الى مجموعات صغيرة تحدثت فيما بينها، وكان هو وزوجته يمران على كل مجموعة يعطيانها من وقتهما دقائق لينتقلا الى أخرى وهكذا، ولم تكن الاحاديث الدائرة تخرج عن هذا البناء الرائع وعن تلك النسمات الطرية المنعشة التي يحسون بها، وعن الخطبة الرائعة التي سمعوها من فمه، فيشعر ان قلبه يكاد يتوقف من السعادة، ويمسك نفسه عن البكاء بصعوبة، ومع الساعات الاولى لفجر الرابع والعشرين من يوليو بدأت الريح تشتد قليلا فتهتز العشة وتتمايل مع كل موجة هواء، وما حدث بعد ذلك كان مفاجئا حتى ان أحدا لم ينتبه له، فقد جاءت موجة هواء قوية، ومالت العشة بشدة على أحد جوانبها، ثم اعتدلت ومالت مع موجة أخرى، وأخذت تطقطق بينما انفلتت قوائمها، وجرى هو الى عمود المنتصف فاحتضنه وطوقه بساقيه متشبثا به والدهشة على وجهه، وأخيرا انتبه المدعوون للعشة وهي تطير في الفضاء ورأوه يرتفع مع العشة متشبثا بالعمود، وأخذا يعلوان حتى غابا عن الانظار.
خيري عبدالجواد (كاتب واكاديمي من مصر)