إبراهيم الحجري *
تتموقع رواية “الملك يموت مرتين” في زاوية مفصلية ضمن مسار الروائي المغربي أحمد الويزي، بعد أعماله: حمام العرصة، دار بلارج، وصدر الملاكم، وهو الذي عوّدنا على المزاوجة بين الرواية والقصة، قدر مزاوجته بين الكتابة السردية الذاتية، والكتابة السردية الموضوعية التي قد يكون التاريخ أحد موادها. فقد عزز منجزه برواية ضخمة تنتمي إلى صنف الرواية التاريخية، حشد لها جهدا مضاعفا، وحشر فيها، أو كاد، كل ثقافته السردية والتاريخية، وهو العابر للغات، والمتون الإنسانية المنغمسة، من خلال ترجماته العميقة لأعمال روائية عالمية، لذلك، تكاد تكون هاته الرواية أسطورته الشخصية، ليس فقط بحكم الإمكانيات التي رصد لها، والوقت الطويل الذي خصّها به، والأحلام الكبرى التي راهن عليها لخلق طفرة في كتابة الرواية التاريخية، بل لكونها تنبثق عن أطروحة شخصية تشبّع بها الكاتب، وهو يقرأ تاريخ المغرب الحديث، ويغوص في المجلدات والمدونات والأرشيفات المخزنة التي تم تحريرها مؤخرا، وارتباطها بالذات الفردية والجماعية، على أساس أن فهم هاته المرحلة التي تقرّبنا منها الرواية، وإن ببعد تخييلي، تسلط الضوء على هويتنا أكثر مما يفعل أيّ مرجع تاريخي آخر.
ونظرا للمرحلة الحرجة التي انصبّ عليها اهتمام النص الروائي، وهي مرحلة بداية القرن العشرين التي عرفت فيها البلاد اضطرابات داخلية خطيرة، وصراعًا داميا حول كرسي الحكم، وأمراضا وجوائح وفترات جفاف متتالية، مهّدت للتكالب الأجنبي، ويسرت مسالك الغزو الفرنسي للمغرب، الذي دخل البلاد عبر مراحل، تحت يافطة نشر العلم والمعرفة، وانتشال الشعب المغربي من وحل الفقر، والفوضى، وفكّ الأمراض المستعصية، والجهل المستحكم، والتخلف العميق عن ركب الحضارة، بينما كانت وراء ذلك أطماع راسخة تستهدف ثرواته، وخيراته، وإمكانياته البشرية والمادية، ورغبة في تصريف المشاكل الداخلية التي تعرفها فرنسا، وبحثها عن بؤر خارجية للتخلص من التوتر الداخلي، وإنعاش الخزينة، والمواد الأولية، واليد العاملة الرخيصة، وتصدير الأزمات السياسية والاقتصادية.
وإذا كانت رواية “المغاربة” لعبد الكريم جويطي قد ركزت على عوالم شخصية الباشوات والقواد إبّان المرحلة الاستعمارية من خلال اقتحام الأرشيف الجهوي المتعلق بمنطقة تادلة المعروفة بمقاومتها الشديدة للاستعمار، فإنّ رواية “الملك يموت مرتين” رفعت سقف الكشف السرديّ التاريخي إلى دائرة السلطان ومحيطه، ومعه العلاقة التي كانت تصله بالصحفيين الأجانب، وبالنخبة الفرنسية الثورية المعارضة للتدخل العسكري الهمجي للقوات الفرنسية، وهيمنتها على شؤون البلاد والعباد، خاصة بعد القصف العنيف الذي تعرضت له مدينة الدار البيضاء، وإقليم الشاوية، ومدينة وجدة وبعض ضواحي الشرق، غير أن الروايتين معا، يزيحان الغبار عن كثير من التفاصيل الإنسانية الدقيقة المؤثثة للمرحلة التاريخية الحساسة من تاريخ المغرب المعاصر، بحكم أنّ المؤرّخ الحقيقيّ يعجز عن إدراكها، وتوثيقها بحكم انشغاله بالأحداث الكبرى من زاوية واحدة، دون أن يشغل ذاته بتقليب الوقائع على أوجهها، فالمؤرّخ ينصرف إلى توثيق الأحداث والشخوص، بينما يحرص الروائيّ على وصف طبيعة العلاقات، وملء البياضات الواصلة بين الوقائع، والتقاط الأحاسيس والمشاعر الإنسانية التي لا يعنى بها المؤرخ.
شيء من الرحلة والمغامرات:
يجد المتلقي ذاته منخرطا ضمن إيقاع رحلة مختلفة في جغرافيا تنتمي إلى تاريخه المغربي الذي يفصله عنه أكثر من قرن من الزمن، وكأنه يسافر في الزمن، ليحطّ الرّحال في عالم الأجداد الذين لقوا حتفهم، ورحلوا إلى العالم الآخر، حاملين معهم كثيرا من أسرار معاناتهم في تلك الحقبة الصعبة التي مرّ بها البلد، على واجهتين أو أكثر. فمن جهة، التكالب الاستعماري الوحشي المتربص على الحدود، والمتأهب للانقضاض على هذا “الكائن المريض” الذي ما عادت له القوة على المقاومة والوقوف في وجه الغارات التي يشنّها الأعداء والخصوم. ومن جهة ثانية، الصراع القائم بين الأشقاء حول الحكم، وما صاحب ذلك، من فوضى (عهد السيبة)، وطمع بعض الخونة الانقلابيين في الاستفراد ببعض الجهات من المملكة، ناهيك عن تغوّل بعض القواد ورجال السلطة والمقربين من العرش، واستغلالهم تلك العلاقة للهيمنة، وفرض سيطرتهم على العباد، وصناعة نفوذهم الخاص. ومن جهة ثالثة، تواطؤ الطبيعة، بتوالي سنوات الجفاف، وتفشّي الأوبئة والجوائح، وما رافقها من جوع وفقر وهشاشة وموت، دون أن ننسى الأثر السلبيّ للسياق العالمي المكهرب؛ بفعل الصراع الشرس بين الدول العظمى حول المُستعمرات، لخلق إمبراطورياتها الخاصة، واستحواذها على خيرات بلدان العالم الثالث في القارات الثلاث (آسيا، وإفريقيا، وأمريكا الجنوبية) تحديدا.
لذلك، فالرواية رحلة تستكشف الذات، وتشخّص وضعها، في المرحلة المفصلية الحاسمة التي سبقت توقيع معاهدة الحماية الفرنسية مباشرة، وهي فترة تشوبها الكثير من الالتباسات، ويلفّها الكثير من الغموض، غير أنّ هذا الاستكشاف السرديّ العميق لا ينبثق عن نظرة الذات إلى الذات، بل يصدر عن مرآة مختلفة، وزاوية معكوسة مجرّدة من مزالق التّعصب للأنا، وإن كانت تفد عن شخص أجنبيّ متشبع بثقافة اليسار الثوريّ، وبنزعة إنسانية جرت عليه الكثير من المتاعب، بحكم تعاطفه مع الشعوب المنتهكة من قبل الجيوش الغازية، وهي نظرة، مهما عرّت هشاشة الشعب، ووهم دولة كانت تعتقد أنها لا تزال تحتفظ بقوة قرون خلت، فإنها أزاحت القناع عن مظاهر التخلف والضعف والجهل والفقر المتفشي بين الناس، وعملت على فضح جشع المستعمر، ووحشيته، وإبادته لشعب أعزل، كل ذنبه أنه تصرف ضد غزاة أجانب هاجموا بلده، من أجل نهب خيراتها، بما تملي عليه غيرته، وثقافته، وفطرته، وحرصه على دينه وبلده، في ظروف عصيبة، أذاقته مختلف صور المعاناة، من المخزن الجائر الذي كرس التخلف وقاد البلاد نحو الهاوية، ومن قبل قوى الطبيعة التي لم ترحم ضعفه، ثم يأتي هذا الأجنبي الملهوف ليغرق ما تبقى في سيول الزّبى، خاصّة أن أصداء ما فعلته الجيوش الغازية في بلدان إفريقية مجاورة من تذويب للهوية، وتقتيل للشعوب الإفريقية، واستغلال بشع لثرواتها قد سبقت إلى كثير من فئات الشعب المغربي.
يسافر القارئ مع السارد الشخصية “روبير هاس” الصحفي الفرنسي الطموح، الجزائري النشأة، إلى شمال إفريقية (وتحديدا؛ بلدان تونس، الجزائر، والمغرب على الأخص) الذي تكفل بمهام إعلامية لفائدة صحيفة “ليكو دو باري” ثم صحيفة “لوتان” من أجل نقل تقارير صحفية ميدانية، وتغطية الأحداث المرافقة للحملة الفرنسية من عين المكان، لتحقيق نجاحات إعلامية غير مسبوقة من جهة، ثم إشباعا لشغف قديم بمغامرات السفر واكتشاف ثقافات الشرق، وعادات وتقاليد شعوب ما وراء البحر المتوسط. ومن جهة ثالثة، الحنين إلى جغرافيا انبثق الرجل من تربتها، وتشبّع بكثير من ذكرياتها الطفولية.
كان روبير يتحرك ضمن هاته الخريطة، وهو يستبق قطف حلم نضاله المتواصل للظفر بمنصب في جريدة ما، ثم منافسته لأصدقائه الصحفيين للاستحواذ على بطاقة السفر، وبعدها مغامرته عبر الباخرة، واقتحامه لعالم المغاربة والأجانب من أجل الظفر بالمعلومة، متقنعا وراء هوية تركية، ليتحايل على المغاربة الناقمين على ذوي الجنسيات الأوروبية، خاصة بعد الأحداث التي عرفتها الدار البيضاء، ووجدة، وقبلهما الجزائر، والأصداء السيئة القادمة من المستعمرات المجاورة عن سوء معاملة المستعمرين للشعوب المستعمرة.
ينزل روبير بمدينة الدار البيضاء، وهي ما تزال تتلوّى ألما من جراحها إثر الهجوم المدمر الذي شنته القوات البحرية الفرنسية بالمدفعية الثقيلة، فيطلع على المجازر التي حلت بالساكنة، وعلى العدد الهائل من الضحايا العالقين تحت الأنقاض، متخفيا في زي رجل مغربي جبلي، نزولا عند نصيحة الوزير الفرنسي المفوض بصلاحيات واسعة في المغرب “أوجين رينيو”، غير أن طموح هاس لم يتوقف عند هذا الحد، خاصة بعد أن وصلته أصداء انقلاب خليفة مراكش على أخيه السلطان مولاي عبد العزيز، والتهيؤ للقيام بثورة ضد المستعمر، لإفشال عملية تقدمه في ببلاد الشاوية وتادلة ودكالة، فغيّر وجهته صوب مدينة الصويرة، وعيناه على مراكش، مهد الأحداث المرتقبة.
لم يعد طموح الصحفيّ الشاب هاس هو تحصيل السبق في إعداد تقارير ميدانية من قلب الأحداث ذات مصداقية عالية، ترسخ مكانته لدى رئيس التحرير، وتعزز علو كعبه المهني لدى زملائه، ومراكمة التجارب والكشوفات، والتعرف على مختلف شرائح الشعب المغربي، خاصة في القرى المهمشة البعيدة لإشباع فضوله المعرفي، وشغفه الإثنوجرافي بثقافات الشرق، وإفريقيا الشمالية، بل غدا طموحه بلقاء خليفة مراكش يكبر، خاصة بعد أن حصل على تطمينات من أسرة يهودية مترفة تمارس التجارة على تقريبه من القصر المراكشي، وربط صلته بالسلطان الجديد، حيث تأتى له إجراء حوار غير مسبوق معه، والمغرب مقبل على أحداث جسام، خاصة مع زحف الجيش الفرنسي وتوغّله في قبائل الشاوية، وانقلاب خليفة مراكش على أخيه السلطان، وتنسيقه مع قبائل الصحراء والشاوية ودكالة بقيادة ماء العينين على التصدي للعدوان الفرنسي الغاشم، وغليان الدماء المغربية تهيؤا للانتقام مما حدث في البيضاء ووجدة.
ومن قلاع الصويرة، يتجه هاس إلى مراكش، في مغامرة جريئة متخفيا بين قافلة تجار قاصدين الحمراء بسلعهم على ظهور الدواب والجمال، ليقحم المتلقين في تجربة فريدة من نوعها، فيكتشفون معه أجواء السفر في القوافل، وكيفية تدبير مؤونتها، وتحصين أمنها، بالاتفاق المسبق مع الزطاطين، وحراس أمن الطرق، ناهيك عن مخاطر الطريق من عواصف، ومبيت في الخلاء، وطبخ الطعام، وتحضير الشاي، وهجوم الحشرات وهوام الليل، وحرص روبير على عدم انكشاف هويته الفرنسية، اتقاء لشر الاعتداء الممكن الذي قد يتعرض له من قبل الأهالي الناقمين على فرنسا جراء ما أحدثته مدفعياتها الثقيلة من ترويع الساكنة، وتدمير الممتلكات، وزحف كاسح على الأرض والبحار… وقد نجح هاس في ذلك، بسبب قدرته على التواصل باللغة العربية التي تشرّبها إبّان طفولته بالجزائر، ورحلاته العملية إلى تونس والجزائر، ومخالطته للعرب، إذ تنكّر في مظاهر شخصية عثمانية.
وبالفعل تهيأ لهاس لقاء السلطان، وإجراء حوار معه رفقة صديق صحفي التقاه بمراكش، فجمعهما الهدف نفسه، ومن ثمة أعجب روبير بشخصية السلطان وهيبته، وثقافته الموسوعية، ووقف على تذمره من تحامل الإعلام الأجنبي الذي يلوي عنق المعلومات والوقائع لصالح الإمبريالية الفرنسية، فتعددت لقاءاتهما، ووجد الشاب الفرنسي هاس في نفسه القدرة والشجاعة على الجهر بالحقيقة، ونقل الوقائع مثلما هي في الواقع العياني دون خلفيات، متعاطفا مع الشعب المغربي، ومصطفا إلى جانب قضيته، الشيء الذي جعله يُتّهم من قبل فرنسا ويمينها الكولونيالي بالخيانة العظمى، فاقتيد إلى السجن، خاصة بعد أن دامت لقاءاته بالسلطان مولاي عبد الحفيظ في منفاه الفرنسي عقب تنحيه عن العرش لفائدة أخيه المولى يوسف، بعد توقيعه معاهدة الحماية سنة 1912م، وتفاعله مع قضيته، ونشره معطيات جديدة معاكسة للمصالح الفرنسية، فاضحا نزعتها الاستعمارية المغرضة، وكاشفا الوجه الحقيقي لفرنسا الظالمة التي تخفي قناعها الانتهازيّ البشع خلف سراب بيانات الثورة، وتوجهها لدعم الدولة الفقيرة، ونشر العلم، والتنوير في باقي القرات، ومحاربة الأنظمة الإمبراطورية الديكتاتورية، مما عرّضه لمتاعب جسيمة، وهو في أواخر عمره، وظلت صورة السلطان المنفيّ حاضرة في باله طيلة تواجده بالسجن، مع شكّه في طبيعة وفاته بفرنسا.
ينقلنا السارد، بين الفينة والأخرى، إلى سجن لاسانتي، حيث يقبع روبير هاس، المتهم بالخيانة العظمى بسبب مقالات تكشف حقيقة الوجه الاستعماري لفرنسا، وضلوعها في إحداث الفوضى بالبلدان المستعمرة، وتدخّلها في سياستها الداخلية، والعمل على قلب أنظمتها، بما يوافق سياستها ومصالحها الانتهازية، في انتظار صدور الحكم عليه من قبل السلطات المحرضة ضده من قبيل الجناح الإمبريالي، ممنيا النفس بعفو رئاسي من خلال رسالة طلب الإنصاف، ينتظر بفارغ الصبر الإذن من محاميه لتحريرها. وبين الرجاء والأمل، يعيش روبير هاس مختلف الآلام، والذكريات، والصور، والسيناريوهات، والضغوطات النفسية، ونظرات الاستفزاز والتحقير من قبل موظفي السجن، مسلّيا ذاته بتدوين بعض الذكريات، والمشاعر المنفلتة من عقال المرض، والوهن، والشيخوخة، التي لا يعرف ماذا يسميها، لكنه يجد عبرها بعض العزاء مما يكابده ويقاسيه من محن في هذا الفضاء الجحيميّ.
أطروحة تاريخية مختلفة:
تنهل الرواية من متخيل التاريخ مادّتها العضوية الأساسية، فأغلب الشخصيات والوقائع مستمدة من تاريخ المغرب الحديث، ابتداء بالسلطانين مولاي عبد الحفيظ ومولاي عبد العزيز، ومرورا بالباشوات والقواد ورجال المخزن المعروفين آنذاك، وانتهاء بالشخصيات الأجنبية الشهيرة التي كان لها دور كبير في تحريك الأحداث التاريخية آنذاك، من ضباط، وصحفيين، ودبلوماسيين، وجواسيس، وتجار كبار.
وقد تطلّب جمع هاته المادة من الروائي العودة إلى مراجع متعددة، لانتقاء مادته المرجعية، دون أن يكتفي بالروايات الرسمية، أو المادة المصدرية الواردة من جهة واحدة، مقلبا الحقائق على وجوهها، تحاشيا للنظرة الأحادية الموجهة، أو البيانات المغلفة بالعاطفة والتعصب، علما أن الحقيقة التاريخية حينما تصدر عن جهة مختلفة، وتكون على بينة من أمرها، وخالية من الأيديولوجيا والعماء البراجماتي تكون أقرب إلى المنطق التاريخي، حتى وإن لم يكن من مهام الرواية التاريخية تحري الواقعية أو الموضوعية في نقل حدث ما، أو واقعة ما، أو خبر ما، مهما توهّمنا ذلك، أو أوْهَمنا السّرّاد بذلك، فمتخيل الرواية التاريخيّ له منطقه الخاص، ورؤيته المختلفة إلى السيرورة التاريخية ومصداقيتها، فما يبحث عنه الروائي في المادة التاريخية ليس صدقيّتها، بل تلك المشاعر المصاحبة لها، والآثار والندوب التي تبصمها في النفوس والأرواح، مقتفيا أثر خيط شفيف تلفظه البياضات التي تصل حدثا بحدث أو شخصا بشخص، أو قرارا بقرار، أو منعطفا بآخر، لذلك، فهو يجهد في إجراء قراءة مختلفة، قد لا يفطن إليها المتخصّص في التاريخ، ولا يليق به ذلك، الروائي هنا، يبحث عن الوجه المخفيّ للحقيقة، أو تلك التفاصيل لم يستطع المؤرخ التقاطها بحكم توجّهه، وانشغالاته، وخطه الإيديولوجي، والوجهة التي يميل إليها في تحريه الحقيقة التاريخية.
لذلك، لم يكتف أحمد الويزي بالاطلاع على المصادر التاريخية المغربية والعربية التي تتعرض لتلك المرحلة، بل إنه عكف على تأمل الأعمال الإثنوجرافية والرحلية المغطيّة للعصر المدونة بلغات أجنبية، فضلا عن بعض المراجع التاريخية الفرنسية، وبعض الرسائل والتقارير الصحفية المرفوعة حينها إلى جهات رسمية من قبل جواسيس ومخبرين وموفدين متخفّين في شخصيات مغربية أو عربية، كما أنه استفاد من تحرير الأرشيف الرسمي الفرنسي، والأرشيفات الشخصية؛ بفضل الطفرة التكنولوجية، خاصة ما يتعلق بالأفلام الوثائقية المصورة التي باتت تحفل بها مواقع التواصل الاجتماعيّ، وبعض الوثائق السرية التي رُفع عنها الحظر مع تقادمها.
انتصرت الرواية للاتجاه اليساريّ الفرنسيّ المتشبع بأفكار الثورة، الذي كان يعارض التدخل في سياسات البلدان المُجتاحة، داعيا إلى تفادي استعمال القوة في إخضاعهاـ تماشيا مع فكرة تنوير الشعوب، وإخراجها من ظلام الجهل والتخلف والفقر، ومساعدتها على تخطي قيود الظلام المكبّلة لانطلاقتها- متبنية أطروحته في احتضان قضايا الشعوب المستعمرة، ومطالبها المشروعة، خاصّة منها القضية المغربية، وقضية السلطان المولى عبد الحفيظ تحديدا، كاشفة بذلك، ذهول النخبة الفرنسية المتنورة نفسها، وهي ترى الأمور تسير في غير الوجهة التي تمنّتها، حيث استغلّ الجناح الكولونياليّ المهيمن طروحات الفكر الثوريّ التنويريّ المؤمن بتصريف مفرزات الثورة خارج الحدود، لبسط نفوذه على المستضعفين، وإغراقهم في المزيد من المعاناة، وإبادة الشعوب المقاومة، الرّافضة لاستعمال الخيار العسكريّ، والتدخل في شؤونها السياسية، والاقتصادية، واستغلال خيرات بلدانها الطبيعية والبشرية، بأساليب غير مشروعة، عن طريق ارتكاب بمجازر بشعة.
بقدر ما تعرضُ الرواية الوجه البشع للفكر الإمبرياليّ الانتهازيّ، وتفضح استغلاله قناع أفكار الثورة المتنورة لتصدير أزماته الداخلية، وإشباع تعطشه لثروات الآخرين، واستضعافه شعوبا تعاني أصلا من تسلط أنظمة قمعية، تحكمها بالنار والحديد، وتحشرها في سجن حقير من التخلف والفقر والجهل، فما كان من الأنظمة الاستعمارية الغاشمة إلا أن عمّقت جراحها، وضاعفت آلامها، يقول السارد: “إن الدكتور موشان طبيب ممتاز، بل من الممكن أن أذهب بعيدا، إلى حد القول إنه من بين أمهر الأطباء في فرنسا قاطبة، لكن لدي بشأنه معلومات موثوق منها، تفرض علي صداقتي للمسلمين أن أكشف لك عنها. فصاحبنا ينتمي إلى طائفة الماسونية المسيحية في فرنسا، وهي الطائفة التي تكن لمسلمي المغرب حقدا كبيرا، وأقسم مريدوها بأغلظ أيمانهم بأن لا يفوّتوا عليهم بالكل، أية فرصة ممكنة تواتيهم لإلحاق الأذى بالمسلمين المغاربة، وتدميرهم…) ص. 69.
يوجه روبير نقده الشديد للجناح الكولونياليّ في دولته، متمنيا لو سارت في الخط الذي رسمته الثورة بقيمها التضامنية والتنويرية، غير هيّاب مما قد يلحقه من أذى، مناصرا بكتاباته قضية المغاربة طوال عمله الصحفي، كما أنه رافق السلطان مولاي عبد الحفيظ في محنته بفرنسا، محاولا دعم ملفّه من أجل العودة إلى بلده، لكنه في الآن ذاته، سلط بنادق السخرية السوداء ضدّ المخزن المغربي، وضدّ الشعب أيضا، متسائلا كيف لا يشغّلان أدمغتهما في سبيل الانعتاق من قيود التخلّف، ومستغربا ملازمتهما مكانهما طوال هاته القرون؟ ومتقزّزا في الآن ذاته، من كثير من الطقوس والعادات المتخلفة، ومستصعبا الحياة القاسية في بلد تنعدم فيه الظروف الصحية للعمل، وتنقطع، ضمن جغرافيته، السبل بين المدن والقرى، وتنتشر فيه الأوبئة والأمراض والحشرات المؤذية، في وقت ارتقت الجوانب الحضارية والإنسانية بشكل سريع في أوروبا، بالرغم مما ألحقته بها الحرب العالمية الأولى من دمار، ويزيد من استغرابه، كون الدولة المغربية- بدل أن تتجند لصدّ الغزو المحدق بها، وهو يتربّص بالأبواب والثغور بعد أن اكتشفَ ما اكتشفَ من وهم قوّتها التي كانت متداولة قبل موقعة إيسلي التي عرّت كل شيء، وكشَفت ضعف المملكة الشريفة- تغرق في وحل الصّراعات الدّاخلية، والنزاعات الشخصية بين الإخوة حول عرش لم يعد محصّنا بفعل الحروب، والتمردات، والثورات، ناهيك عن السيبة والفوضى التي تنشرها بعض القبائل، وعدم وجود أمن في الطرقات والمسالك، وعجز المخزن عن ضبط الأمور، والتحكم في الزمام، مما فتح الباب، على مصراعيه، أمام فرنسا- التي لم تكن بمنأى عن رش الغاز في النار، وإذكاء فتيل التمردات- للتدخل في شؤون البلد تحت ذريعة حماية أهاليها من الاعتداءات المتلاحقة، ومساعدة المخزن على إطفاء نيران الفتنة والصراعات، وكأنها تساعد المتربصين بها على التقدم، مهدية إيّاهم البلد على طبق من ذهب، دون أن تفطن لمكر المستعمرين الذين أثقلوا كاهل المخزن بالمعاهدات والاتفاقيات المذلة، واضعة حبل المشنقة حول عنق البلد، ومعه كامل الشعب المغربيّ.
وعي سردي مضاعف:
بذل الروائيّ جهدا كبيرا في صناعة متخيّله التاريخيّ، وتشييد عوالمه الرّوائية، وانتقاء شخصياته من السند التاريخي، ومن الأرشيف العام المشترك بين المغرب وفرنسا خلال بداية القرن، وهو بذلك، لم يعتمد على مراجع ومصادر من جهة واحدة، بل قلب في مادة واسعة ومختلفة: أرشيفا مكتوب، رسائل شخصية، رحلات إثنوجرافية كتبها مستشرقون وجواسيس لأسرهم أو للجهات التي يعملون لصالحها، بعد أن تم رفع السرية عنها، وتعميمها في مواقع خاصة أمام الباحثين، أشرطة وثائقية مصورة أعدّتها، في تلك الفترة، قنوات أجنبية، مصادر تاريخية عربية، روايات عالمية، وثائقيات مصورة حول المغرب وفرنسا، غير أن عمله لم ينته هنا، بل اجتهد ليجعل المتخيّل الروائيّ صادرًا عن شخصية فرنسية عاشت تلك الأحداث الحاسمة في تاريخ المغرب خلال بدايات القرن العشرين، وعاشرت كبار الشخصيات من الطرفين، وخاضت في مختلف الجبهات الصعبة التي كان يستحيل اختراقها من طرف إنسان عاديٍّ.
لقد سافر بنا الروائيّ عبر الزمن، ونجح في أن ينقلنا، عبر قناة التخييل التاريخيّ المسرّد، إلى تلك المنطقة الغامضة من تاريخنا الجمعي الذي يشوبه كثير من الالتباس، وتعتور مساراته الكثير من البياضات. وكان على هذا المسرد التاريخي رتق ما يمكن رتقه من هاته التفاصيل المشروخة، وإضاءة بعض جوانبها المعتمة، بوضع صور تخييلية معاكسة، مناقضة للرواية الرسمية، أو منافية حتى لتلك الصيغ الشعبية التي تحرّف الحقائق، وتخوض بها مسارات أسطورية لتبرّر ضعفها، أو تكشف جهلها بما جرى.
غير أن هذا الكلام لا يعني أن النصّ وثيقة تاريخية تعرض أطروحة ما، أو تصوّب رواية تاريخية ما، أو تضيء ملابسات واقعة شطت بها الأقلام والروايات عن مسارها الواقعي لغاية في نفوس مصمميها. فهذا من شأن المؤرخين والباحثين في التاريخ، إنما كانت الغاية الجمالية والدلالية هي تنبيه القراء والمتلقين خاصة إلى طبيعة المادة التاريخية، وعدم الاطمئنان إلى الروايات الرسمية، وتقليب الحقيقة التاريخية على أوجهها، والدعوة إلى قراءة جديدة لتاريخنا الحديث، بقصد توضيح الكثير من القضايا العالقة، والإجابة عن الأسئلة المؤثرة التي لا تزال تتحكم بغموضها في صناعة خيباتنا، وتعثراتنا.
بمعنى أنّ الرواية التاريخية تبقى مجرّد تمثلٍ شخصي لمحكي معين، وقراءة تأويلية فنية متخيلة لمرحلة تاريخية محددة، تعجن أصداء تاريخية، وتصهرها في بوتقة مسرد خيالي يطفح بالكثير من الإثارة والاحتباك والرصانة النسقية، بالرغم من كثافة التقنيات السردية والفنية التي وظفها الروائيّ في تشييد مادته السردية، وإرساء منطقها المتفرد، وصياغة عوالمها بانتظام، دون أن تتأثر ذاكرة النص بذلك، أو يحصل لديها أيّ ارتجاج مهما كان بسيطا، بفعل تمكن الروائيّ من مادته السردية، ووعيه التاريخيّ والجمالي العالي، ومماحكته الفائقة في تدبّر المادة المعروضة، ومراجعتها المتواصلة حتى استقامت في هاته الهندسة النسقية التي توازن بين التاريخي والذاتي، وتوازي بين الإمتاع والإفادة، والسرد والتأويل، والبناء والهدم، والرفض والقبول، وغيرها من الثنائيات والمتقابلات الدلالية والرمزية والتاريخية.
ولأنّ كتابة الرواية من قبل أديب، ليست مثل كتابة الروائية من قبل مؤرخ أو أيّ شخص قادم من غير الأدب، فإن رواية أحمد الويزي مفعمة بالتكنيك الفني، ومشبعة بالتدخلات الجمالية، ومشيّدة وفق حيل سردية بليغة ومحبوكة، على عكس ما يصدر عن روائيين مغاربة أو غيرهم قدموا من حقول التاريخ والفلسفة والتصوف، حيث يكونون في الغالب، منشغلين بالمادة ذاتها، مأسورين بسحرها، واقعين تحت تأثيرها، وقلما ينال الجانب التقني والجمالي والسردي الشيء الكثير من اهتمامهم، حتى وإن تحلّت رواياتهم بالإثارة والمتعة، ونالت الحظوة عند القراء.
هذا لا يعني البتة، أن المادة التاريخية المعروضة سرديا هنا؛ غير مطرزة النسيج، وإنما القصد أنّ الروائيّ بذل جهدا مضاعفا فوق ما يبذله الروائيون العاديون، فلو اكتفى مثلا بسرد حكاية النص بضمير المتكلم، وتخلّى عن التقديم التمهيدي المفصل الذي شكّل ميثاقا للقراءة، يُقنع فيه الكاتب الفعليّ قارئه بتقبّل بعض الموجّهات، وتخلّى عن إقحام شخصيتيْ روبير هاس، وجون بيار هانس، وشخصية المترجم، قانعا بإسناد مقْود السرد إلى باحث في التاريخ، استرعى اهتمامه، وهو ينقب عن وثائق تاريخية بمكتبة فرنسية بمدينة نانت، تضيء رسالته الجامعية حول “المجال الحيوي في الأطلس الكبير ومظاهر النزاع القبلي”، نسخة أصلية لرواية فرنسية مهملة، مغموسة بتاريخ له علاقة بالأرض التي ينتسب إليها الباحث، وتكشف النقاب عن حقائق همّشت، “ونُظر إليها نظرة ازدراء وتحقير، بينما كان من الممكن أن تتدارك، لتدرك من خلالها، حقائق كثيرة، تتنافى ولا شك مع ما رسّخته لدينا الوثيقة الرسمية من نظرة، تتصب بالذات والمحيط” ص. 17. أقول، لو اكتفى الروائي بذلك، لكان النصّ جديرا بأن يحسب على نوع “الرواية التاريخية”، غير أن أحمد الويزي لم يقنعه ذلك العرض البسيط لمادة جهد نفسه كثيرا ليتستر على هاته الصيغة، فصمم على بذل جهد مضاعف لبناء روائية الرواية.
إذاً، نحن أمام روايتين: رواية تتعلق برحلة الصحفي روبير هاس إلى المغرب لتعقب الأحداث المشتعلة الممهدة للإجهاز الكولونيالي على المملكة الشريفة، والمسارات الغريبة التي أخذتها قصة عشقه للمغرب، وتعاطفه مع السلطان المنفي، والقضية المغربية، ثم رواية الرواية نفسها، وقد خصّص لها الكاتب حوالي اثنتين وعشرين صفحة مستقلة، اعتبرها مقدمة تمهيدية من المترجم، فضلا عن الهوامش الوافية التي خصها بها لتنوير الأماكن والأحداث والمواقع، والأعلام الوارد ذكرها في متن الرواية، وما ورد من تعليقات داخلية تواكب القصة، وتفكر في صيغ الكتابة، وغاياتها، وطقوسها تصدر عن الرواة، أو عن شخصية “هاس” بطل الرواية الفعلي.
لقد أفضى الكاتب الفعليّ بمقاليد السرد لسارد منتدب، هو المترجم، وهو الباحث في التّاريخ الذي اكتشف النّص الرّوائي؛ بالصّدفة في كرتونة مركونة ضمن جهة المهملات، قبل أن يتخلى هذا الأخير، هو الآخر، عن مقود الحكي لكاتب فرنسي يدعى “جون بيار هانس” الذي بدوره يسلم مفتاح السرد لشخصيته الرئيسة (روبير هاس) كي تروي حكايتها الرحلية المشوقة، والمثيرة إلى بلاد المغرب، ومغامرته الآسرة في جغرافيا مجهولة تمزقها الحروب والصراعات، والأوبئة، والفقر، وما عاد بها هواء لاستنشاق الأمن والأمان.
وليعمّق الروائي حياده تجاه مادته السردية، استعار شكل الترجمة، وتخفّى في زيّ انشغاله الثاني، بعد الكتابة السردية، وهو قناع المترجم، فجعل النصّ الروائيّ فرنسي الهوية، منسوبا إلى كاتب فرنسي مغمور، لم ينل حظه من التلقي والتوزيع بسبب جرأة مواقفه المعارضة للسّياسات الفرنسية الرّسمية، ونظرا للتهييج الإعلامي البشع الذي لحق صاحبه، حتى صار نصّا منبوذا، لم يلتفت إليه أحد، لا من قبل القراء، ولا من قبل النقاد والإعلاميين.
وبما أن المترجم، وجد في هذا النص ما يمسّ تاريخ بلده، وما يضيء بعض المفاصل من حياة وطنه التي ظلت محاطة بكثير من الالتباس والغموض والتزييف، فقد ارتأى، وهو الباحث في التاريخ، أن يعيد إحياءه بترجمته إلى العربية، ووضعه رهن إشارة المهتمين، ليطّلعوا، من خلاله، على رواية مختلفة للتاريخ الحديث. ولكي يحكم لفّ الحيلة السردية حول عنق القارئ، اجتهد في خلق لغة مفهومية مغموسة بالتاريخ والإعلام، وعكف على التشبع بطقوس الحياة المجتمعية المغربية آنذاك، معيدا رسمها، بأسلوب شيق جعلنا نسافر معه، عبر القراءة، إلى تلك المرحلة التاريخية بكل ميزاتها: اللباس، والحفاء، التنقل على الجمال والبهائم، الحلاقة، اللهجة، السحنات، الطعام، الأسواق، المعمار، مورفولوجيا المدن، الطرق المتربة، الزطاط، قطاع الطرق، المهن، التجارة عبر القوافل… كما أنه أعطى قيمة كبرى للتهميش، والتعريف بالأمكنة والفضاءات والرجالات، والشخصيات، بشكل وافٍ، خاتما بملحق يعزز المتن، من خلال بعض الرسائل والشهادات، والمقالات الصحفية التي تبرر التحامل على الشّخصية الرئيسة في الرّواية.
كان الوعي السّرديّ مهيمنا على بنية المتن، حيث وسّع، ما أمكن، إطاره، لاستيعاب خطابات متعددة (الرسالة، اليوميات، الخطب، المونولوج، الحوار، الأغاني، الأشعار، المقولات المأثورة…)، ولغات هجينة (اللهجة العامية المغربية، اللغة الفرنسية، اللغة العربية الفصحى (التي صارت طبقات غير متجانسة))، وشخصيات من فئات وثقافات وجنسيات مختلفة، وفضاءات متنوعة: الجزائر، تونس، فرنسا، المغرب). وإذا كانت رواية “هاس” تغطي فترة زمنية تنطلق عمليا، من فترة إقامة شخصية “هاس” رفقة والديه بالجزائر عقب استتباب الوضع لصالح الاستعمار الفرنسي، ثم عودته إلى فرنسا، وبعد اشتغاله بالصحافة شده الحنين إلى مراتع الصبا بالجزائر، قبل أن يتحوّل حلمه إلى معانقة تربة المملكة الشريفة التي صارت محط أطماع البلدان الاستعمارية، وتنتهي بوفاة السلطان مولاي عبد الحفيظ، وقبوع هاس في السجن بسبب تعاطفه مع قضيته ضد التوجه الكولونيالي ومصالحه الإمبريالية، غير أن إقحام الجانب المتعلق بالملاحظات الميتاسردية، مدّد الغطاء الزمنيّ إلى الآن: (حاضر القراءة المحايث لفعل الترجمة الافتراضي المحال إليه نصيا).
تشكل رواية (الملك يموت مرتين) نصا ثقافيا بامتياز، لأن الرهان فيها يكمن في استبدال عقلية السؤال التاريخي، وتقليب الحقيقة على أوجهها، وهو في الآن نفسه، يبلّغ رسالة نقدية، توضّح مفهوما خاصا للرّواية التاريخية، والإشكالات المتعلقة بقضايا النّوع، إذ إنّ مهمة الروائي ليست إحياء التاريخ، والتنبيه للوقائع وتسلسلها، وربما تجددها بنفس آخر، ولكن مهمته الأساس هي لفت الاهتمام للتاريخ المنسي، أو المُصادر، أو المقموع، أو المطموس، بروح سردية عالية، وجرأة فنية على تقليب المواجع، وحرقة الأسئلة.
ومما يعضد نصية الرواية، فضلا عن المتون التاريخية والمادة المرجعية المتنوعة التي تلحم نسيجها العام، الإحالات الداخلية على نصوص روائية ورحلية وإثنوجرافية، يستدعيها السارد أو الشخصية عبر ذكر أصحابها، أو ما يصادفه من حالات إنسانية مشابهة ترد في ثناياها، أو ما يعترض سبيلهم من عوائق مشابهة، ومن بين هؤلاء “شارل دو فوكو”، ودليله الحاخام مردوخي أبو السرور، وإيبيكتيت و”كتاب الحكيم”، المختار السوسي وكتابه “المعسول”، والسملالي وكتابه “نزهة الجلاس في أخبار بوحلاس”، والسبتي وكتابه “بين الزطاط وقاطع الطريق”، أنطوان فيير وكتابه “في صحبة السلطان”، كريستيان هويل وكتابه “مغامراتي في المغرب”، ألف ليلة وليلة، ولامارتين، وأوديب، وفلوبير، والفيلسوف دولاموني، القرآن الكريم، ومقالات كثيرة من الجرائد الصادرة في المرحلة التي تغطيها الرواية، فضلا عن المادة المصدرية البصرية المتعلقة بالصور، والفيديوهات المأخوذة من الأرشيف المُحرّر… وغيرها كثير مما يصعب حصره، كما أنّ الهوامش المكثفة المتعلقة بالحيلة السّردية (الترجمة)، تحتاج إلى دراسة خاصة، باعتبارها نصّا موازيا يقرأ في ضوء المتن، وهذا ما يعزّز القوة التناصية للرّواية، ويشبّك علاقاتها بفسيفساء من النصوص المتعددة الحاضرة، بشكل أو بآخر، ضمن النسيج النصيّ.
وإذا كانت الشخصية الرئيسة وشخصية الروائي، اللتان اختارت لهما الروائية اسمين متقاربين حدّ الاختلاط، متخيلتين لا وجود لهما في الواقع، فإنّ المتن الروائيّ يتأسّس على شخصيات حقيقية كثيرة، منها سياسيون، ودبلوماسيون، وسلاطين، ورحالون، وسفراء، وجواسيس، ومقاومون، وتجار، وأعيان، وباشوات، وقواد، ومصورون، وصحفيون، وكتاب، وجنرالات، وعسكريون، ومستشارون، وأطباء، وأرباب فنادق، وزطاطون، ومثقفون، وجلادون، وغيرهم، وهذا يبرز الجهد الكبير الذي بذله “أحمد الويزي” في سبيل استخلاص بيانات كلّ شخصيّة، مع الحفاظ على سياقات حضورها، في انسجام تامّ مع مقتضيات المتن، وأحداثه، ووقائعه، وفي انضباط تكتيكيّ متميّز مع منطق النّص الزمنيّ، واحترام لخصوصية النوع، وتوازناته، ضمن ذاكرة نصية متناغمة، ومتّسقة، لا يشوبها أدنى توتر أو اضطراب.