يشكل العلماء والأدباء، في كل الحضارات الراقية الدعائم الأساسية التي تنتقل من خلالها خلاصة تجارب الأجيال وترتقي من خلالها البشرية سلم الرقي درجة بعد درجة ، واذا كانت الحضارة الانسانية متنوعة المذاقات ما بين شرقية وغربية قديمة ووسيطة وحديثة ، واذا كان لكل ركن من أركان الدنيا لون حضاري يميزه ولكل عصر من عصورها طابع يختلف به عما عداه ، فإن تنوعات التغير الحضاري لا تكاد تقف عند حد، فتتكامل داخل الأمة الواحدة ، أنواع شتى من الحضارات ، بل ويكاد لكل مدينة في الأمم الراقية أن يكون لها طابعها الذي تتميز به وتسهم من خلاله في مجمل النتاج الحضاري للأمة .
وفي هذا الإطار جرى الاهتمام في تاريخ الحضارة العربية ، بحضارات المدن ، واسهاماتها المتعددة ، فوقف المؤرخون أمام أم القرى ويثرب وبغداد، دار السلام ودمشق الفيحاء والقاهرة الزهراء والقيروان وقرطبة ونزوى وغيرها من المدن الحضارية باحثين عن الاسهامات المتميزة لعلمائها وأدبائها ومسجلين لمآثرهم ومؤلفاتهم والذي يتأمل ما كتب عن العلماء والأدباء، في المدن العربية المختلفة ، يرى أن بعض هذه المدن حظي بنصيب الأسد، بينما بقيت مدن أخرى أقل حظا في المعالجة والاهتمام وربما كان ذلك يرجع في بعض الأحايين الى تضييق دائرة مفهوم العلم والأدب ، ومن ثم مفهوم العلماء والأدباء،، ولا شك أن بعض المدن مال للاهتمام بالعلوم النظرية على حين اهتمت مدن أخرى بالجانب التطبيقي والعملي ، ولا شك أيضا أن الجانب النظري وجانب فنون القول حظي باهتمام أكبر وتسجيل أدق ، على حين أهمل الجانب العملي حتى نسيت أسماء كثير من كبار الصناع المهرة والمخترعين المثابرين على حين بقيت أسماء كثير ممن كتبوا الشعر أو خطوا الرسائل أو ألفوا الكتب الصغيرة أو الكبيرة في علوم التاريخ أو شروح الفقه والنحو أو فنون اللغة والبيان ، واذا استعرضنا الآن ما حفظته ذاكرة التاريخ من تفاصيل موقعة حربية فاصلة مثل موقعة عمورية فسوف نجد اسم الخليفة المعتصم والشاعر أبي تمام دون أن نجد إشارة الى خبير الأسلحة الذي طورها، أو مهندس الحصون الذي شادها، أو طبيب الجيوش الذي رافقها، وبالمثل فلن نعرف واحدا من صناع السفن في موقعة ذت الصواري بالقدر الذي نعرف به الشعراء الذين وصفوها.
واذا كان هذا هو حظ العلماء والصناع المهرة من أصحاب الميول العملية في تاريخ الحضارة العربية ، فإننا نستطيع أن نتبين حظ المدن التي اتجه نشاطها الحضاري الى الناحية العملية . فقلت الكتابة عن علمائها وصناعها المهرة كما هو الشأن في مدينة «صور" العمانية وأخواتها من المدن العربية التي شغلت بالنشاط العملي .
لقد كانت صور على مدى تاريخها الموغل في القدم ، مدينة حرية تجارية نشطة ، تصوب أنظارها نحو البحر، ويسيطر النابهون من أبنائها على أسراره ويعرفون كيف يكبحون جماحه بون لجته ويتجاوزون مخاطره ويحصلون على خيراته ، ولقد استغلوا هذه الخبرات الطبعة كأحسن ما تستغل به في كل العصور فكانت مهارتهم جسرا عبرت عليه خبرات الشعوب وحضاراتها الى بعضها البعض ، ويكفي في هذا المقام أن نتذكر الدور الحيوي الذي قاموا به في اشاعة الاسلام والعربية في أرجاء العالم مع اخوانهم من المدن الساحلية العربية الأخرى.
ان مفهوم الثقافة والعلم الذي تحدده الحاجة العملية قد اتجه في مدينة مثل صور الى الحد الضروري من الثقافة البحرية ، والحد الضروري من الثقافة الدينية واللغوية وفي مجال الثقافة البحرية النظرية ، شاعت مجموعة من المؤلفات كانت تسمى «الرحمانيات » وهي ، تحمل المعلومات الأساسية التي يحتاج اليها ربان السفينة كاسماء المناطق ، والمسافة من منطقة الى منطقة والموقع على الخريطة والبوصلة ، وغير ذلك من المعلومات الأساسية التي يحتاج اليها فان المركب وقد شاعت بعض مخطوطات من هذه الرحمانيات أو الرحمانيات من أمثال رحماني الربان منصور الخارجي، ودليل المحتار في علم البحار للبحار عيسى بن عبدالوهاب الفطامي، والنيل البحري لكل ربان بحري. والبداية والنهاية في العلوم البحرية لجمعة بن مسلم بن جمعة العدوي، ومعدن الأسرار في عالم البحار لناصر بن علي بن ناصر الحضوري، ونفحة الأزهار في علوم البحار لمحمد بن ناصر، كما وجدت رحمانيات أخرى لا تحمل عنوانا محددا لبعض أبناء صور مثل سعيد بن عمر المرزوقي، وموسى بن سلطان الجامعي وعلي بن محمد بن خميس ، ومحمد بن ماجد بن سالم المرزوقي، وصالح بن علي بن خميس الغيلاني، ومحمد بن علي بن خميس الغيلاني، وعبدالله بن أحمد سعيد التمامي. وهي كلها أسماء يختلط فيها مفهوم مالك المخطوطة وناسخها ومؤلفها لكنها تدل على شيوع هذا النوع من العلم النظري البحري الذي بلغ قمته على يد أحمد بن ماجد. على أن هذه المخطوطات وغيرها لم تكن تمثل الا القدر الضروري من المعرفة النظرية البحرية المكتوبة ، والتي كانت توجد الى جانبها والمعارف العملية البحرية التي تفوقها عشرات المرات والتي لم تخط بالتدوين ولم تعد من ثم فى التراث العلمي الذي كان من حق المدينة أن يسند اليها.
أما القدر الضروري من المعرفة الدينية واللغوية ، فقد تمثل في كاتب تعليم مبادىء، اللغة وقراءة القرآن التي انتشرت في المدينة غبر العصور الاسلامية ، ولابد هنا من الاشارة الى ظاهرة لافتة نظر في هذا الصدد في مدينة صور، وربما في بعض المدن البحرية السلامية الأخرى، وتتصل هذه الظاهرة بالدور النشط الذي تقوم به المرأة في مجال التعليم في تعليم الأطفال ، وتعود تلك الظاهرة دون شك الى انشغال الرجال في المدن الساحلية في رحلات البحر فترات طويلة متصلة عل امتداد العام وقيام النساء بعبء إدارة الحياة بفروعها المختلفة ومن بينها التعليم ،وتذكر الأجيال جيلا بعد جيل أسماء المعلمات النابهات اللائى قمن بهذا الدور الحضاري ساهمن في حفظ الوجه العربي والإسلامي للأجيال التي تخرجت على أيديهن ، وما زالت أسماء بعض فضليات النساء من بنات الجيل الماضي في صور، تتردد على الألسنة من أمثال سنية بنت عبيد وآمنة ، بشارة ورويبعة وغيرهن .
وكانت الطريقة المتبعة عند هؤلاء المعلمات البدء بتعليم حروف الهجاء والتمييز بين المعجم المنقوط والمهمل غير المنقوط منها، من خلال صياغة القواعد في كلمات منغمة يترنم بها الصغار حتى تستقر القواعد في أذهانهم ، وهي طريقة تتبع في كثير من مكاتب تحفيظ القرآن الكريم في العالم الاسلامي، كما يحدث في مصر عندما يترنم صغار التلاميذ وراء شيخ الكتاب قائلين «الألف لا شي عليها، الباء نقطة من تحتيها، والتاه اتنين من فوقيها … الخ . وتعقب هذه المرحلة التعرف على قواعد التشكيل ودراسة ما يسمى "دفتر القاعدة البغدادية » وهو يلم بقواعد اللغة الأساسية ثم البدء بقراءة المصحف الشريف بدءا من سورة البقرة فإذا ما ختم الفتى القرآن ، أقيمت له حفلة «التيمينة »
فيطاف به في أرجاء الحي، ويترنم رفاقه بأهازيج الفرح سرورا بختمه للقرأن الكريم من مثل قولهم :
هذا أخوكم قد قرأ وقد كتب
وحقنا نحن عليه قد وجب
تعلم الفاظ والكتابة
والهجو والاعراب قد أصابه
وتعد الولائم وتقدم الهدايا للمعلمة ويحتفل الحي بدخول واحد من أبنائه الى ميدان العلم .
ويكتمل الاعداد الضروري بعد ذلك بأحكام تعلم القراءة والكتابة والمراسلة ، ثم التدرب على الملاحة في معظم الأحايين من خلال الدروس العملية والنظرية .
أما التفقه في أمور الدين ، فقد كان يكتفي غالبا باستقبال العلماء القادمين من اليمن أو حضر موت ، وكانوا يسمون بالسادة أو الأشراف يحلون في المدينة على الرحب والسعة ويحملون في رؤوسهم وقلوبهم وكتبهم ما يكفي للاجابة على تساؤلات الناس ويشبع ظمأهم .
ولم يكن هذان الفرعان الضروريان من فروع المعرفة ، فرع علوم البحار وفرع علوم الدين واللغة بمنفصلين بل كانا يلتقيان في كثير من الأحايين فقد يكون الفقيه بحارا، وقد ينبغ البحار في الشعر فتشتهر عنه القصائد ويطبع له الديوان أو الدواوين ، كما حدث مع راشد بن مبارك الرزيقي لم 1894-1963) من أبناء صور الذي كان ربانا بحريا وله علاقة قوية بالشعر والثقافة وله مساجلات مشهورة مع عدد من شعراء عصره ، وله ديوان شعر طبع في الهند.
واذا كان حظ صور من العلم والعلماء قد وقع معظمه في دائرة «العلم غير المدون » والذي تتنفس به الحياة ، وان لم يستقر كثير منه بين دفتي كتاب ، فإن حظها من الأدب والأدباء، كان شبيها بذلك ، إذ وقع معظم نتاج أبنائها من الشعراء في دائرة الأدب الشعبي، يتغنون بقصائدها الجميلة يستنهضون بها العزم على مواجهة العمل الذي لا يقبل الغفوة في بحر لا ينام ويهدئون بها من نار الشوق والحنين في غربة لا تكاد تنتهي حتى تبدأ من جديد، ويستعيدون بها الذكريات الجميلة ويحيون بها جلسات السمر عندما يستقرون عل الأرض قليلا أو كثيرا.
ولقد ظلم هذا الانتاج الأدبي مرتين ، مرة عندما نظر البعض اليه فخلطوا في تقييمه بين صفة «الأدب العام " وصفة «أدب العوام » فجعلوه أقرب الى الثانية منه الى الأولى ، مع أن هذا الأدب الشعبي في كل آداب ´ الدنيا وفي الأدب العربي كذلك يحمل سمة القرب من منابع التجربة والحكمة وسمة البعد عن التكلف والتصنيع وسمة الالتزام بالقوانين الأدبية ، ونحن نرى عند التعرض له أنه يقل التزاما في مجمله بهذه القوانين من نظيره المكتوب بالفصحى، ولقد ظلم هذا الأدب مرة ثانية عندما حرم من التدوين الكتابي فضاعت الكثرة الغالبة من آثاره في القرون الماضية ، ولم تستطع الذاكرة الجماعية الشفهية أن تمسك إلا ببعض آثار الزمن القريب ، ولعل أقدم ما تمسك به ذاكرة حفاظ الشعر الشعبي في عمان أبيات للشاعر ابن ظاهر الذي عاصر الامام سيف بن سلطان اليعربي الملقب بقيد الأرض والذي عاش في القرن السابع عشر وتوفي في أوائل القرن الثامن عشر 1711م وكان ابن ظاهر يؤرخ لغزواته في الهند وافريقية ويختم قصائده بمثل هذا الدعاء :
بسيف بن سلطان يهين العدا
الله يهنيها بطيب إمامها
وكذلك الشاعر على بن عمران الذي شهد عصر الامام بلعرب بن حمير (ت 1754 )وسجل وقائع حروبه مع الفرس ، ولعل قلة تدوين هذا الشعر يرجع الى أن طبيعته الشفوية تجعله أقرب الى طبيعة التسجيل الصوتي الذي لم تكن العصور الماضية قد عرفته منه الى التسجيل الكتابي الذي قد لا يستجيب نظام تدوين الحروف والحركات فيه لكل الظروف الدقيقة التي يبرزها الشاعر الشعبي خلال الأداء.
وعلى أية حال فإن العصر الحديث شهد خطوات أكثر نشاطا في تدوين هذا الأدب الشعبي، سواء من خلال جمع القصائد المتناثرة وطبعها في دواوين أو اللجوء الى تسجيل هذا الأدب وفنونه على أشرطة سمعية وبصرية ولاشك أن مدينة صور بخاصة والمنطقة الشرقية بعامة في عمان كان لها قصب السبق في هذا الميدان ، ولا بد أن يسترعي نظر الباحثين في هذا المجال الجهد المتميز الذي قام به ا لأستاذ سالم الغيلاني من خلال جمعا لنصوص هذا الأدب الشعبي سواء من خلال ديوان من أغاريد البحر والبادية لوالده الشاعر محمد بن جمعة الغيلاني، أو من خلال كتاب الأدب الشعبي في بلد الشراع الذي جمع فيه ديوان الشاعر سعيد عبدالله ولد وزير معاصر والده وصديقه ومن خلال كتاب "على هامش الشعر الشعبي في عمان " الذي قدم فيه بعض التأملات حول هذا الشعر، وقد امتدت هذه المجهودات فيما بعد من خلال نشاط " المنتدى الأدبي» الذي قام من خلال رحلات بحث ميدانية بتسجيل كثير من نصوص الأدب الشعبي والفصيح في أرجاء عمان .
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا يتعلق بمدى العلاقة الفنية بين نصوص هذا الأدب الشعبي وتقاليد نصوص الشعر في الفصحى، والى أي حد يمكن اعتبار نصوص الأدب الشعبي، امتدادا وتطورا للتقاليد الفنية التي عرفها الشعر العربي منذ أقدم العصور. ونستطيع هنا أن نقرر مطمئنين أن هذه النصوص الشعبية هي امتداد حي وثري للأعراف الفنية الشعرية ،وسوف نكتفي هنا بالقاء الضوء السريع على بعض مداخل التشابه الرئيسية التي تقرب بين الشعر الشعبي في صور وشعر الفصحى.
ففن مثل فن " التغرود ليس إلا امتدادا لفن الأرجوزة العربية من حيث بنائه على وزن مستفعلن سواء في صورته الثامنة مثل قول الغيلاني:
يوم الخصم غير وخان عهوده
خاف من سيف رهاف حدوده
يوم طغا وثاقه تعدا حدوده
سهر عليهم عسكره وحشوده
أو في صورته المجزوءة المذيلة مثل قوله :
شيخ على العال حجاب
بالحيل ورؤوس الحراب
ويلجأ فن التغرود الى نظم القافية التي تتبعها الأرجوزة العربية في صورها المختلفة سواء تلك التي تعتمد على القافية الموحدة للقصيدة أو على تقفية كل شطر أو على القافية المتعانقة .
أما فن المبارزة الذي يعتمد على تفعيلة بحر الرجز أيضا، فإنه يضيف اليها من " اللغز» القائم على التحدي وسرعة البديهة وقوة الشاعرية ، وهو يذكر بشعر «التحدي» المرتجل في اللقاءات العربية القديمة .
وتظهر موسيقى بحر البسيط في عروض الشعر العربي في فن "الرمسة » في الشعر الشعبي في عمان في المنطقة الشرقية والذي يسمى احيانا «الدان دان " في المنطقة الداخلية ، ومن نماذجه قول ولد وزير: البيض سكنتهن في وسط عين ايمين
واسمر ببنى لهني في القلب قصر مكين
سلم على السيدات بيض وسمر اجمعين
واشفع لنا يا محمد سيد المرسلين
وقد يلاحظ هنا أن الشعر الشعبي تطور بالظاهرة التي كانت تسمي علل الزيادة عند العروضيين ، فلم يجعلها مقتصرة على الأوزان المجزوءة ، وانما لحقها أيضا بالأوزان التامة .
ويتضح أمام الباحث في بعض الأحيان أن الشاعر الشعبي قد يتطور بموسيقى الشعر الشعبي لدرجة يكاد يبتكر معها بحرا جديدا، وقد رأيت خلال دراستي للشعر الشعبي في عمان إطرادا وشيوعا لايقاع يكاد أن يجسده وزن : مستفعلن فاعلن فاعلا تن
من مثل قول محمد بن جمعة الغيلاني.
يا الله يا عالم سر الاسرار
يا مظهر في غامض الغيب خافية
سبحان ربي على الخلق ستار
عالم بطاعات عبده ومعاصيه
يا ربي جرني بعفوك من النار
من حرها وزمهرير تسويه
وهو وزن يتكرر كثيرا عند الشاعر وفي دواوين رفاقه من أمثال "ولد وزير" ويشكل اطراده ظاهرة عروضية مقبولة ربما لم يعرفها شعر الفصحى، وقد حاولت أثناء كتابتي لهذا البحث أن أصنع بعض أبيات من الفصحى على هذا الايقاع الجديد لأدرك وقعها على الأذن ، ورأيت أنه يمكن أن يقال مثلا:
يا صاحبي إننا لا نبالي
فاستحضر العزم في كل حال
ولا تقل دائما إن جهدي
هش وعمر الفتى للزوال
فالمجد لا غير، يدنو ويدني
وإن بدا غير سهل المنال
وأظن أن النغم مقبول في شعر الفصحي.
وهذا البحر المكتشف له درجات من التنوع في الشعر الشعبي فمن درجات تنوعه الاخرى وزن ؛
مستفعلن فاعلن فاعل .
وهو وزن يشيع في فن «الميدان "الذي يقوم على تزاوج "المغنى" و«المعنى" في مثل قول الشاعر :
أوزن سمن من وسمك من
سيفي صقيل وانا سنه
أنت ولد من ، وسمل من
أنا اسمك أعرفه وناسنه
وقد ظن بعض الشعراء الباحثين العرب في العصر الحديث أنهم اخترعوا هذا الوزن أو اهتدوا اليه غير مسبوقين عندما كتبت الأستاذة نازك الملائكة في طفلة صغيرة :
خضراء براقة مغدقة
كأن فلقة الفستق
شفاهها شفق أحمر
كم حاول الورد أن يسرقه
الشعر سبحان من لمه
والصوت سبحان من رققه
ودارت مناقشات كثير من الباحثين حول احتمال وجود بعض أبيات من هذا الوزن في الشعر القديم ،وقدموا نماذج من كتاب "الذخيرة لابن بسام "والواقع شائع ومطرد ومستمر في الشعر الشعبي، وهو يشكل وزنا يحمل ملامح من بحر البسيط وأخرى من بحر الرمل ، ولهذا اقترح أن يضاف الى البحور المعروفة وأن يسمى "مرمل البسيط " .
ان الشعر الشعبي لا يكتفي فقط بمجرد المحافظة على قوانين موسيقى الشعر العربي القديم ، ولكنه يحفظ ألوانا منها تكاد تندثر في شعر الفصحى المعاصر بل ويصحح ملاحظات بعض العروضيين الذين اكتفوا في رصد قواعدهم بملاحظة موسيقى شعر الفصحى وحده ، ونضرب لذلك مثالا من موسيقى بحر المديد:
فاعلا تن فاعلن فاعلا تن فاعلا تن فاعلن فاعلا تن
وهو البحر الذي اختفى تقريبا من الشعر العربي المعاصر أو كاد، وقال عنه باحث مشهور هو الدكتور ابراهيم أنيس «إن المديد وزن قديم جدا هجره الشعراء وأهملوا النظم عليه »، هذا الوزن مازال موجودا وشائعا، في الشعر الشعبي في صور، يقول الشاعر محمد بن جمعة الغيلاني:
ما سكناها بصداقة وجيرة
سورها البندق وحد السلاح
بابها دون المغالق عسيرة
بالفلى وقفت ونزع الرواح
وهي ابيات تسير تماما على بحر الرمل العصي الذي يظن انه مهجور ومنقرض أما بحر المجتث الذي هو قليل الشيوع ايضا ووزنه .
مستفعلن فاعلا تن
مستفعلن فاعلا تن
فإننا نجده يشيع لدي الشاعر الشعبي العماني في منطقة صوريقول الشاعر ولد وزير:
يا ناس قلبي جريح
من الود وأسبابه
أبكي فراق المليح
لمفارق أصحابه
ويقول الشاعر الغيلاني:.
يا طير بلغ سلام
سلم على الأسمر
قوله ذبحني الغرام
والمبتلي يصبر
الناس باتوا نيام
قلب المحب يسهر
في القلب ضربة سهام
عسى ربنا يستر
ويشيع ذلك بحر الرمل :
فاعلاتن فاعلا تن فاعلن
فى مثل قول الغيلاني
يا عليم الغيب يا محصي الايام
يا رفيع العرش يا منشي الرعود
جمل المبدأ وحسن في الختام
نحمدك يوم طلع نجم السعود
ويتم كذلك اللجوء الى موسيقى بحر الهزج الراقصة :
مفاعيلن ، مفاعيلن
في مثل قول ولد وزير:
نهار العيد عيدنا
خرجنا بيوم عيد الله
وسلمنا على الاحباب
سلام الخل مع خله
حبيب الروح سامحناه
ولو فاعل ألف زله
ان هذه الملاحظات المبدئية تظهر مدى الغنى الموسيقي الذي تتمتع به قصيدة الشعر الشعبي في منطقة صور، وتساندها ملاحظات أخرى تتصل بالغنى البلاغي لهذه القصيدة ، واعتمادها عل فنون بلاغية
عريقة مثل فن التجنيس خاصة في فن مثل "الميدان " الذي يعتمد كذلك على المطابقة ، ومثل سرعة البديهة المتمثلة في الارتجال في فنون «الالغاز» و"التحدي" التي تتبدى في كثير من ألوان هذه القصيدة والتي تشهد كلها بأننا في الواقع أمام أدب خفيض ، وأمام أدباه اصلاء، ينبغي أن يفسح لهم مكان بارز في صفحات تدوين الأدب العربي، وأن يضافوا الى اخوانهم "العلماء" في مجالات العلم التطبيقي للحضارة ، وخاصة في مجال البحر وعلومه لكي تأخذ مدينة صور من خلال هؤلاء وأولئك مكانها البارز في كتاب العلم والأدب ، ويأخذ أبناؤها النابهون مكانتهم الطبيعية بين العلماء والأدباء، ويجوز لنا من خلالهم أن نتحدث عن "علماء وأدبا، صور".