يجري الزمن
كما تتدفق المياه
كونفوشيوس
الفصل الأول
في زيارته السابقة لهم،كانت «المندسة» ساكنة لا يتحرك منها إلا أطراف النخل المرتفعة بكبرياء والمحملة بعذوق التمر الوافرة، يتذكر «يوسف» أنه وقف بمسافة تكشف له عن البيوت الثلاثة التي لم يتغير شكلها الخارجي كثيرا عما كانت عليه، وعندما لمح ظل أحدهم سكنت نفسه ونفخ الهواء من داخله .
دار في ذهن «يوسف» أنه بعد سنوات سيكون كل من سيتعرف على أهل هذا المكان مرتبطا بخيط أو بآخر إليه، إذ بدا بعض أهل «المندسة» غرباء بفعل الصمت الذي يطل من وجوههم، وفي الكلمات القليلة التي يتداولونها في حضرة من لا تربطهم به علاقة متينة، وفي تحديقة العينين التي لا تفوت أي حركة صغيرة تصدر من محيط الشخص الذي يتعامل معهم. كانت شعورهم السوداء تنساب بنعومة تظهر على رؤوس أطفالهم وتكاد أن تعلن عن نفسها من وراء الغطاء السميك الذي يلف رؤوس النساء عندهم، ولكن أكثر ما يميزهم كانت تلك الوجوه الشديدة السمرة وكأنها لفح الليل الذي لا ينتهي، والمغبرة أحيانا برذاذ الطين الجاف الذي تنشره الرياح في كل مكان يسيرون فيه .
كان «يوسف» بعد تلك السنوات يتعمد أن يحدق في البؤبؤ اللامع لعيني «عطية» ليتوصل – وأن من بعيد- إلى أن يقرأ شيئا من ما سيدور من تلك العقول، وفي اللحظة التي ندت عنها ابتسامة هادئة في وجهه، شعر أن قبله يغوص يعيدا .
استقبلوه في مجلس الرجال ووضعوا له حبات البرتقال وإناء حبات التمر، عرف أنه يعتبرونه غريبا الآن عنهم، كانت تلك العادة ورثوه عن جدهم الكبير، أهل « المندسة» يقدمون فيما بينهم التمر والقهوة المرة فقط، فعلوا ذلك في آخر محنة ألمت بهم وسيفعلون ذلك مع كل جيل جديد يطل بوجه على هذه الأرض. وبذلك يصير أهل المندسة قلب واحد.
كما قال «سالم الأخن».
وعندما يضيفون طبقا آخر على التمر والقهوة لأي إنسان يقدم إليهم يعتبرونه ضيفا، غريبا عليهم، لا يثقون به، لا يستحق أن يعرف ما يعتمل في داخلهم فترى الصمت يشع من قسمات وجوههم و يزداد بياض العينين اتساعا.
في الليلة الفائتة لزيارة «المندسة» تقلب «يوسف» على فراشه طويلا، أخبرته خالته عن الحال التي أصبح عليها «سالم الأخن»، قالت له- بتأثر: عمك صار يهذي . مغيب عن الناس والدنيا، تعال شوفه.
في الصباح خرج دون أن يتناول شيئا، كان قد اشتاق الى الأرض التي عاش بها سنوات، سار لوحده بين الأشجار الكثيفة، شعر أن صوت نباح يأتيه من أعماقه وأن صداه يمتد إلى رؤوس التلال القريبة من مدى بصره، لقد كبر وشاخ كل شيء في المندسة الآن حتى الأصوات أصبحت عتيقة.
في ذلك الصباح ذاته كانوا قد عادوا به، أوقف «عيسى» السيارة العتيقة أمام باب الدار مباشرة، أسرعت «نوال» بالغطاء السميك والكبير، تعاون الجميع في وضع الغطاء على الأرض، تنفس «عيسى» عميقا فتح باب السيارة ومن ثم أغلقه بصوت مسموع، من على عتبة الباب نادت عليه «شمسة» ..
– ويش فيه جدكم، كيف صحته الحين؟
لم ينتبه أحد إليها، غاب صوتها في جلبة الأصوات الكثيرة، مدت عدة أياد إلى باب السيارة الخلفي، حملوا بتمهل وحذر الجسد الهزيل، ابتعد «نوال» عن الجمع لم تستطع أن تلمس الجسد المدلى من السيارة، أحست أن القدمين قد تحولتا إلى طرفي نخل دقيقين ومصفرين ومبقعين بالبقع السوداء على طول العروق النافرة، وأن من يحملونه ليس جدها، خلال شهر مرضه ذاب جسده ولم يبق منه جلد يغطى العظام التي بدأت تصدر صوتا خفيفا عن احتكاكها ببعض .
أقترب «فرج «من عيسى» شد على يده وسأله بهمس
– كيف ؟
– الطبيب قال خلوه معكم في البيت .
من على الفارش نادى «سالم الأخن»
– مسلم تعال، وين مسلم؟ نادوه ؟ .
أمسك بثوب «فرج»
– لا تودرني يا فرج، شمسة وينك ؟، لا تخلوني وحدي.
تحركت «شمسة «جهة الصوت ولكنها عادت ووقفت بعد أن أحست أن الضوضاء تقترب منها، كان قد طلب بإلحاح من «عيسى» أن يمر به بجانب المقبرة الصغيرة، رفع رأسه و ثم عاد وخفضه،لقد كان جميع أهله يتوسدون يمناهم هناك .
بين كل تلك الأيادي كان «سالم الأخن» يشعر بالعجز وبرغبة كبيرة بالبكاء، وحين وضعوه في بقعة كانت الشمس تزاورها في كل حين، نظر إلى النافذة المشرعة في وجهه بكل الفضاء الخارجي طالعته شجرة «الشريش» التي هذب بعض أغصانها ذات يوم، كانت صفراء تنتظر إزهار بعض البراع، بينما أتاه الصوت الذي احتفظ به طوال تلك السنوات واضحا وعميقا وكان في ذلك اليوم تحديدا يناديه باسمه دون ريب .
العمر ذلك الوحش الذي لم يستطع أن يقضي عليه «سالم الأخن»، كانت السنوات تحفر فيه كما تحفر قطرة الماء الضعيفة في الحجر، هو أصبح الآن حجرا كبيرا ولكنه مفتت في داخله، أخبره «مسعود الحفار» عن التراب وأسراره ورائحته، وعن رغبته الصادقة بأن يكون لصيقا به ذات يوم دون يزعجه أحد، ولكنه ذهب دون أن يخبره عن الحجر، وعن السر الذي تقوله قطرة الماء للحجارة الملساء حتى تصبح لينة وطوع أمره، أخطأ مسعود، كان يجب أن يخبره في جلساتهم الطويلة عن ذلك، وأن يخبره أكثر كيف يمكن يكون مثل عود نخل جاف ومحترق بعد أن كان يهز الأرض تحت خطواته الكثيرة ؟ أخطأ الجميع، مسلم وشمسة، وفرج، حتى الشاه الكبير التي اعتبرها مصدر الخير في زريبته ماتت وألقوها بعيدا ببطن منتفخ دون أن يخبروها عنها، ذات يوم قريب وجد أن بقاياها في مناقير الغراب الكثيرة، كلهم جرحوه بعمد، جعلوه ينام في الأيام السابقة فاختلطت الأمور من حوله، يحس بنزف ذلك الجرح الآن، كان «يوسف» الوحيد الذي لم يخطئ قال له أنه يتوهم،أن وهمه يكبر ويهرم مع ميلاد كل يوم . نادى من جديد:
– مسعود، أريد مسعود .
رفع مدى بصره وبحث عن «شمسة» كانت متدارية عنه والوجوه الكثيرة تغطي الانكسار الذي لمحه في وجهها منذ فترة ليست بالقريبة، كانت الدموع تقهره وتفضحه أمام أصحاب الأيادي التي كانت تشد الغطاء من كل طرف .
لوح بيده اليسرى في الوجوه أمامه وصرخ :
– أنا أقدر أمشي خلوني .
يتذكر «يوسف» في تلك الأيام
أنهم كانوا يضحكون، كلما سنحت له الفرصة وأخرج أمامهم الصور الوحيدة التي جمعت أهل «المندسة» كلهم، الكل وقف خلف «سالم الأخن» الذي بدا مهيبا وأكثر اعتزازا بالنفس من غيره في الصورة، بياض العينين فيه كان ملفتا أكثر من السمرة الطاغية في الوجه، فيما وقف «عيسى» و«فرج» كعمودان صلبنان على يمين ويسار «سالم الأخن»، لا يظهر منهما إلا طيف ابتسامة رفعت مستوى خديهما إلى الأعلى قليلا، خبأ «يوسف» الصورة بين أشيائه القليلة وكان يشعر بالضيق بداية كلما سأله أحد الموجودين في الصورة أن يريه إياها، ولكنه كان يعود إلى صورة وينشرها أمام «سليمة» في كل مرة طلبت رؤيتها،وفي الصورة كانت «سليمة» تحني ظهرها، وتظهر صف من الأسنان البيضاء بين شفتين رقيقتين،وبين يديها تمسك ابنتها «فاطمة» تمدها إلى الكاميرا ضاحكة، أمامهما مباشرة كانت «نوال» منزوية على ساقي جدتها «شمسه»، في كل مرة رأى فيها «يوسف» الصورة، كان يمرر إصبعه السبابة على وجه «نوال»، ويقر أنه حتى في الصورة كان هنالك ضياء يشع من الاثنتين، فيبدو أشبه بعلاقة ثنائية يعوض صفاء عيني «نوال» الانطفاء الذي لحق بمقلتي «شمسه» ويوازن الوقار الذي يظهر من محيا «شمسة» الشقاوة التي سكنت سنوات «نوال» العشر . واحتلت البنات الصغيرات مساحة أسفل الصورة مع «عطية». في حينها كان «يوسف» يمسك بالكاميرا و«شمسة» هي المحرض لالتقاط الصورة .
أهل «المندسة» يشبهون الجرذان الصغيرة، دار ذلك التفكير في عقل «يوسف» وهو يرفع الصورة ويعلقها قريبا من سريره، عندما يكبر أحد أبنائهم ويحين موعد زواجه كانوا يضيقون غرفة له كيفما اتفق في داخل الدار، تتداخل الغرف والأبواب وتزيد الضوضاء الصغيرة تتشابك العلاقات وتصبح لزجة أحيانا ولكنها تعود إلى مجراها السابق، تصبح خيوط اللعبة في أيدي الكبار دائما، يلقي «سالم الأخن» كلمته بينهم وتعضدها كلمة جدتهم «شمسة» فيسكت الجميع على مضض ولكنهم يقتنعون أن ذلك هو الأصوب، يحفرون في ذواتهم الصغيرة فتكبر الأحلام التي غذوها طوال النهار.
– سالم الأخن ما عمي .
أخبر خالته «شمسة» عندما استقبلته،قبل رأسها واقتعد الحصير معها، في تلك السنوات كان التناقض حاضرا في علاقته مع «سالم الأخن»، كان يعرف أن هنالك خطا من عدم الارتياح ينمو بينهما وأنه مع الأيام تحول إلى كره مبطن، جعل واحد منهما يتحاشى الآخر قدر الإمكان، لا ينكر «يوسف «أنه تمنى الموت لزوج خالته، كانت الفكرة مريحة أن يصحو فيجد ما كان موجودا قد أصبح عدما، تمنى أن يراه كما هو الآن عاجزا عن القيام والدوران في أرض المندسة، سيكون قد انتصر بتضامن مع الوقت الذي كان يراهن عليه كثيرا في كشف الخداع الذي عاشه الناس هنا .
لكنه و في السنوات الأربع التي ترك فيها المندسة كان يعود إليها مثل اللصوص ليرى خالته «شمسة»، كانت العرق الممتد في قلبه من الأسرة التي نسيته كله . يتذكر لـ«سالم الأخن» فضله بأنه سمح لخالته بضمه إلى أسرتهم إذا كبر .
لو وجد «سالم الأخن» بجانبه شيئا لرماه.
في وجه الفراغ الذي كان يترصد به من النافذة.
عند الظهيرة وجد «مسعود «قريبا من رأسه، أخرج أنينا طويلا، من بين البشر كان «مسعود الحفار» الشخص الوحيد الذي لا يخجل من إظهار ضعفه أمامه، اقترب مسعود أكثر من وجهه وقال:
– أجر وعافية يا بو فرج . تستاهل السلامة .
– طاح الجمل يا مسعود. وجمل صاحبك له ألف سكين وسكين .
«مسعود الحفار» كان كعابر سبيل في الدنيا ـ تراءت حياته أمام «سالم الأخن» كشجرة الصغيرة يتفيأ بظلها بين يوم وآخر ويتركها في أيام عديدة، في بعض الشهور كان يغيب أسبوعا عن جلستهما في السوق يمر عليه ليلقي التحية ومن ثم يسرع في خطاه ملوحا أن لديه بئرا جديدة يحفرها أو يرممها، طيلة تلك السنوات لم يشتك من شيء،وظل قلبه أبيض اتجاه كل الناس وكان يردد على مسامع «سالم»:
– ليش أتعب نفسي، الدنيا كلها راح تصير تراب .
وعندما وضع «سالم» حفيده «عيسى» في حجره، شعر وكأنه وضع حبات الفرح فرأى «مسعود» يلاعبه ويرفعه بين يديه ويخرج من جيب «دشداشته» ريالا ويدس في ملابس الطفل . كان كريما بأبسط الأشياء التي في يده، وفي اليوم الذي زاره فيه «سالم» في بيته، وجده نائما كالأطفال، يضم أطرافه الأربعة إلى صدره ومع أن الحمى كانت تلهب جسده إلا أنه قام وأحضر القهوة وجلس مستندا إلى وسادة خشنة .
أمران بقيا يفصلان بينهما ولا يتحدث فيهما «مسعود» بصراحة وإنما يكتفي بالتلميح، فطوال تلك السنوات لم يوجه مسعود وجهه جهة القبلة ولم يصل ركعة واحدة، وعندما كان يسمع الآذان ويرى «سالم» بشمر عن ساعده للوضوء كانت يبقي في ظل شجرة «الشريش» ينتظره حتى يفرغ من الصلاة، حتى في صلاة العيد رفض «مسعود» عرض سالم الذي جاءه باكرا، وغطى رأسه وعاد ينام وعندما وقف سالم على بابه وقال له:
– كيف بتقابل ربك باكر ؟
– خلي الأمر لصاحب الأمر، بعدها الدنيا ما طارت . في وقت بصلي وبصوم .
رغم ذلك ظل يحبه ويخاف عليه ويسأل عنه إذا غاب عنه لفترة، وراعه جدا أن يرى بقعاً من الدم ثوبه وعندما سأله عن ذلك، راح مسعود ثوبه من الخلف ليرى أثر الدم وأخبره بأعذار متنوعة ولكن بقع الدم زادت حجما وبقي «مسعود» يداريها ويغض الطرف عن كل سؤال يوجه إليه «سالم» ويرد عليه:
– خير لا تعذب نفسك .
عند مغيب الشمس عاد «يوسف» من «المندسة»، كانت لفحات البرد قد زادت، خلع نعاله و رمى «الكمة» من على رأسه جلس على سريره وكتب:
«فتحت الباب ودخلت كان يدا خالتي» شمسة «تدفعاني من الخارج على الدخول، لم أعرف أن الراقد على الفراش كان نفسه صورة الرجل الذي نهرني أمام النافذة، الرجل الذي رأيته عملاقا . تحول إلى قزم عاجز، من الغريب أنني كنت أجعل كل إنسان إلها، لقد كان أبي وأنا صغير اله كبير إلى أن حمل أشياؤه رحل إلى امرأة أحرى وتركني، وخالتي «شمسة» كانت أميرة من الآلهة إلى أن سكتت عن ضرب «سالم الأخن» لي عند النافذة فنزلت مرتبة .
ولكن «نوال» كانت آلهة بعذوبتها وبراءتها،تلك الآلهة تدفعه إلى يقرأ الكتب أكثر، وأن يدرس ليصبح أستاذا يضع بين يدي أمها و«سالم الأحن» المال الذي قد ينهي به «سالم الأخن» كلامه إلى عمها «فرج » بنذرها لعيسى .
تصورت أن عيسى يركض خلفها يأخذها دون لطف، تصورت أن «نوال «يمكن أن تنكسر مثل الزجاج الهش تحت جسد «عيسى «وتصورته أنه يمكن أن يذبحها كما يفعل بالشياه .
جميل في المندسة كانت نوال ما زالت قادرة على تمشيط شعرها بحرية تامة في وقت كان فيه الليل غارقا في ظلام غريب لم تفهمه مذ كانت صغيرة.
كانت «نوال «أجمل من الصور التي أهداني إياها «جمال «في المدرسة، كانت النساء في الصور عاريات تكسو أجسادهن قطع متفرقة من القماش، تكاد كل صورة أن تتحدث عن نفسها، من التقط الصور ركز عل البطون المشدودة كوتر وعلى الصدور التي كانت تشبه الجبال، وفي الليالي الأولى كانت الصور تشعرني بالمرض، بالحمى، ولكن الصور لم تصبح آلهة، بقيت على صورتها البشرية، لم أتخيل نفسي إلا في حضرة نوال، كل ذلك الجوع لا يمكن أن تشبعه إلا عيون «نوال «، فكرت وأنا أمر بالمحال أن أشتري لها ملابس تشبه ملابس تلك الصور وأن أساعدها على الاستحمام حتى يزول عنها كل شيء يمت للمندسة بصلة، سيكون الطول الفارع الذي بدأ يظهر عليها مثيرا تحت تأثير تلك الملابس . تكور الثديين أكثر عفوية من كل الصور «
عندما أطرق رأسه على وجهه «سالم الأخن «لم يقل شيئا، لم يسأله عن حاله، أحس من نظراته أن الرجل يرسل إليه رسالة يعيشها كل إنسان في فترة عمره التي قد تمد بين العاشرة إلى الستين عاما، تراجع إلى الخلف، كان هنالك احتدام بين الموت والحياة . كل منهما يقول كلمة ويتراجع عنها بعيد لحظة .
منذ عام تحديدا
سار بضع خطوات جهة الغرب من منزله، كانت أنوار بعض المصابيح ترسل إضاءة خفيفة من البيوت التي نمت قريبا من المنازل التي أسسها أبناؤه هنا .
كانت الأفكار التي غزت رأسه في تلك الليلة قد سرقت كل لحظات النوم الذي حلم به،
وكأن عينيه بلا جفنين يغلقهما على كل الفراغ الموحش أمامه، ويستطيب الراحة من خلالهما، في البداية تذكر سؤال «يوسف» بعد عودته الأخيرة محملا بأشياء كثيرة
– كم غافة، وكم سدرة وثلاثة بيوت لا فوقهن و لا تحتهن وتسميها حارة ؟ !
ومن بعده رأى صورة «نوال» واضحة، كانت تنظر إليه بحيرة، وهي ما تزال تجري بفستان أبيض ومن تحته كان يظهر سروال أسود. ولأول مرة شعر أن الموت يتربص به في زوايا غرفته، نهض من فراشه، ارتدى «دشداشته» الشتوية، في داخله تعوذ مرات عدة:
– أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، اللهم أخزيك يا إبليس الملعون .
كانت «شمسه «نائمة بجانبه تغط في نوم عميق وشخيرها يصله برتابة اعتادها خلال الأعوام الماضية، في نفسه استبعد أن يأتيه الموت فجأة، كانت موقنا أن هنالك تغيرا ما سيشعر به إذا ما اقترب الموت منه، ربما سيسمع صوت نباحها أكثر وحشية، ربما يحس بأرض «المندسة» تشتعل في تلك اللحظة تحت قدميه بأحلام عائلة «ولد الأخن»، في فكر في حضرة الموت أن يستأذن ليمر على التراب الذي عشقه كثيرا، في غرفته هز رأسه كان متأكدا من أن كلاما سيكون بينه وبين الموت سيفعل كما قال «مسعود الحفار» عندما سأله ذات مرة:
– ما تخاف من الموت وأنت ترقد وحدك؟
– يوم بشوف الموت بخلي عيني بعينه وبذبحه.
في ليلتها خاف من الصمت الطويل، حدث نفسه أنه بعد أن جاوز الستين، ليس هنالك مجال للشك أن الموت سيحترم الخور الذي بدأ ينهشه،وسينبعث على أقل تقدير بحياء مع كل تلك الأيام التي يحملها على ظهره، اقترب من «شمسة «أراد أ يدس رأسه في ظهرها،لا ريب أنها ستشعر بالحرارة التي أكلت جسده رغم برودة الطقس، ستلفت إليه وتحتضن الشعر الأبيض الخفيف إلى صدرها كما فعلت ذات مرة بعيدة جدا .
في الظلام اقترب من شجرة «الرول» الكبيرة المزروعة عند ملتقى زاوية محددة للبيوت الثلاثة، وفي الوقت الذي احتضنت فيه يده غصنا عليها، تنفس «سالم الأخن» برفق وشعر بالراحة تسري في نفسه، كان يعرف المكان كما كان يعرف خطوط راحة يده، ما يعرفه تمام المعرفة أن هذا المكان كان مخبأ في داخله بعمق السنوات التي أمضاها فيه وبطول قامة أولاده وأحفاده الذين ساروا على التربة الهشة مع تقاذف الرياح لها بين كل فينة وأخرى . وأن «عيسى» سيبذر بذورا جديدا لامتداد عروق العائلة في تربة المندسة .
رحمــة المغيـــزوية
قاصة من عُمان