من يملك في هذا الكون الرحب من أمر نفسه شيئا ؟ من يستطيع أن يقرر في لحظة ما من عمر الزمن أن يحدد ما يريد؟ من يملك اتخاذ أي قرار وهو لا يملك حق اتخاذ أي قرار؟ هل باستطاعة انسان بسيط أن يغير من أحداث الحياة ؟
أعرف جيدا وأنا أعود الى الماضي.. الى تلك الأيام الخوالي.. إن هذه الاستفسارات تشكل ألغازا وأحاجي.. ولكن الأمر جد مختلف. وقد يكون الرد أيضا نوعا من الألغاز.. إذ نحن منذ البداية مختلفان في الطرح والتناول وشتان بين الأمرين.. من يملك المال والجاه والثروة.. يستطيع أن يفعل أي شيء.. ولكن هل بمقدور من لا يملك أن يقرر؟
هكذا تحدث سلوم. كيف يستطيع هذا الهيكل البشري أن ينطق الأحاديث ؟.. من أين استقى كل هذه الكلمات ؟ وسلوم لمن لا يعرفه ولمن يعرفه سيان. انه بقايا إنسان مطحون.. لفظته الحياة.. ويبست في أطرافه كل العروق، ومع هذا فهو يملك الروح.. روح التحدي.. لم يسلم القيادة للماضي البعيد ولم يكبله الماضي بقيوده.. قد نجد ملامح الماضي وعذاب البحر.. والإنكسار والعجز والموت البطيء مرسومة على محياه.. ولكنه لفظ الماضي.. كما لفظه.. ولكن كيف تحول سلوم.. من أسطورة الى بقايا انسان ؟ في الماضي القريب كان سلوم في الأساسي يجتر ذكريات الألم والبؤس والشقاء.. أما الآن.. فلا يشفله الماضي.. ولا يشغله الحاضر.
ماذا يشغل سلوم اذن في هذا الكون ؟.. ببساطة.. لا يشغله شيء.. سوى الجلوس لساعات.. قد تمتد في عمر الزمن ولا تقتصر. متعته الأزلية هذا المقهى القديم.. يتطلع الى إطاره. ومع هذا فهو صامت.. لا يتحدث مع أحد.. لا يصادق أحدا… لا يضايق أحدا.. هل هذا عزوف عن الحياة..وفي انتظار الآتي..
سلوم لم يكن هكذا.. عرف الحياة.. ولم يكتشف فيها سوى الجانب المظلم.. أصدقاء؟ هذه الكلمة لا تعني له أي شيء.. بيت ؟ أو أسرة ؟ أم أولاد؟ لا يشكل هاجسا حقيقيا له.. ومع هذا فهو يتنفس ويأكل ويشرب.. وفي المساء يضع رأسه على المخدة. وينام.. هل ينام سعيدا؟ لا يعرف أحد.. هل يبكي؟ هل يتألم ؟ لا يعرف أحد. سلوم سر غامض.. حتى علاقاته الأسرية في أضيق نطاق.. لقد رحل الأحبة.. ما يربطه بالحياة.. علاقة متقطعة مع أخته. في الأعياد يجر الخطي الى منزل أخته أم حمد.. يجلس لحظات.. صامتا.. متأملا.. ويعطي للأحفاد بعض النقود.. ثم يجتر الخطي مرة أخرى الى المقهى.. سلوم.، ليس نبتا شيطانيا. سلوم تمتد عروقه في باطن هذه الأرض وعندما ينفرد بذاته.. يمر أمام ناظريه شريط الذكريات.. "النوخذة بوخليفة" "والبوم".. والأسفار يتذكر كل شيء.. وسرعان ما يهرب بخياله من الماضي.. ولكن الماضي مختوم في ذاكرته.. سلوم كان مضرب الأمثال في العطاء.. في المقهى وهو يرتشف فنجان الشاي.. يضحك، يعتقد البعض أن سلوم به مس من الجنون. ولكن لا يتحدث مع أحد.. يتذكر الماضي.. كيف تراهن ذات مرة مع بعض البحارة أن بمقدوره أن يعتلي الصاري في أقل من دقيقة… وقد فعلها أكثر من مرة.. يتذكر الأمواج والهواء والعواصف.. يتذكر "النوخذة" بوخليفة وهو ينبهه للمخاطر بصوته الأبوي "أنت ما تبغي روحك ". وسلوم يضحك.. ثم يرد "لا تخاف يا عمي" كان يعشق المخاطر والتحدي.. وعندما يطلب النوخذة من بعض البحارة أن يتسلقوا الصاري كان أول من يلبي النداء.. "هي والله" وينطلق متسلقا «الدقل» ويرسل من أعلى ضحكته المجلجلة.. كان يكتشف اليابسة قبل الآخرين.. وعندما يصل سلوم بشريط الذكريات الى هذه النقطة.. يغوص في حزن قديم.. يحاول أن يهرب وأن ينسى.. ولكن هل بمقدوره أن يمحو من الذاكرة صور الماضي.. وهل الزمن يمحو من الذاكرة كل الأشياء.
الآن.. عالمه محدد. البيت.. والمقهى.. أما في الليل. فيتأبط قطعة من الحصير وبندقية وراديو صغيرا يؤنس وحشته.. علاقته بالليل علاقة وجد.. كان يعشق الليل والظلام.. حيث الهدوء.. والصمت.. والابتعاد عن البشر.. يسرح مع الغناء المنبعث من الجهاز ويناجي هذا العالم الصغير..
كيف تحول سلوم الى حارس ليلي.. للحكاية.. فصول.. ومشاهد.. لا يحب الخوض فيها أو تذكرها.. يذكر فيما يذكر.. كيف ارتطم الجسم في لحظة من الزمن بسطح السفينة.. اعتقد البعض للوهلة الأولى أنه فقد الحياة.. ولكنه خرج من لعبة التحدي بعاهة مستديمة.. تحطم في الساق.. وانحناء في الظهر.. آه.. هذه الساق التي حملت الجسد المتعب سنوات وسنوات في خفة النمر.. تعتلي الصاري.. نفس الساق دليل العجز وأسير العصا..
سلوم يتذكر.. مازال يتذكر.. كيف عاش سنوات وسنوات.. أسير الضياع.. كان يجر الخطي نحو الشاطيء.. استوقفه حوار قصير. بين أصدقاء البوم.."وانت وين رايح.. النوخذة ما يبغيك" لماذا؟ وأجهش بالبكاء.. في استطاعته أن يخدم في البوم.. لا يهم نوعية العمل.. وماذا يعمل في اليابسة.. سحب نفسه مرة أخرى الى أين لا يدري.. هكذا استغني عنه النوخذة.. انسان عاجز.. ولكن كيف يواجه الحياة..لا يطلب من هذا الكون سوى لقمة تسد الرمق.. وعاش…بعض الصدقات تأتيه من هنا وهناك.
سلوم الآن أفضل حالا بكثير.. وجد عملا يشغله إنه حارس ليلي..أحب هذه المهنة.. فهو قد قطع صلته بالماضي.. ولا تشغله صداقات هذا العصر. وهو لم يرتبط بزوجة.. وأولاد.. يتحدى ذاته والحياة.. محصور داخل الإطار الذي يعيشه ولا يحب الخروج منه.. ثم ماذا بمقدوره أن يفعل ؟ وماذا يفعل ؟ لا يملك سوى اجترار الذكريات..
يلتفت رواد المقهى الى سلوم وهو يضحك.. تأكيد مباشر على جنونه. لماذا يضحك ؟ ما يضحك سلوم حقا العودة الى الماضي البعيد… كيف كان يسابق الريح في صباه لم يكن بمقدور أحدهم أن يمسك به.. ما يضحكه تلك اللعبة التي أجادها وأتقنها.. تسلق الصواري في خفة النمر.. كيف كان وكيف أصبح.. تحول من أغنية على شفاه البحارة الى بقايا إنسان.. إنه الآن شبح لإنسان حي يتنفس ويعيش..
سلوم لا يحب الناس.. عالمه الوحيد الصمت.. صديقه الوحيد.. صاحب المقهى محيي الدين.. الوحيد الذي يتجاذب معه أطراف الحديث.. ويضحك معه.. كثيرا ما قال له محيي الدين بلكنته المحببة:
– (سيخ سلوم انت لازم في مرأ.. في ولد)
– يضحك مسلوم مغتبطا.. ولا يرد واذا ألح محيى الدين في العرض.. قام مبتسما.. من يرضى يا محيى الدين.. وهل بإمكان هذا الهيكل البشري أن يتزوج.. لا.. ومن هي الانسانة التي ترضى بسلوم العاجز؟
ذات مرة مارس محيى الدين لعبته مع سلوم.. قال له.. في بلدي من ترضى بك.. صمت طويلا.. انتظر محيى الدين الرد.. ولكن فجأة ابتسم سلوم.. وضحك كطفل صغير فبرزت بقايا أسنانه.. وسرح بعيدا.. بعيدا جدا.. الى الماضي السحيق عندما كانت ساقاه تحملان هذا الجسد.. ولم ينتشله من ماضيه سوى صوت كوب الشاي.. الذي وضع أمامه..
في لحظات الانسجام مع الذات.. يتذكر سلوم كل شيء جميل في الحياة ولكن سرعان ما يطرد من ذاكرته كل هذه الأفكار.. يحاول الهرب بكل الوسائل والطرق يتذكر (أمينة) ايه.. أين أمينة.. تزوجت وأنجبت.. ورحلت عن هذه الدنيا يتذكرها في الأعياد في "ثوب النشل" .. ويتذكر قبلها "البخنك".. والحناء.. لو لم يرتطم بسطح السفينة.. لو لم يصبح عاجزا.. لو أرسلت الأرض خيراتها قبل هذا بسنوات كان بمقدروه أن يتزوج أمينة.. كلما حاول الهرب من الذكريات.. لصقت بالذاكرة أكثر فأكثر.. عندما يتطلع الى الوجوه.. ويهرب من ذاته الى ذاته مرة أخرى..
أين ذهب أصدقاء الأمس البعيد؟ رفقاء الحي والحياة.. أين أصدقاء "البوم" والأسفار.. يتذكر ويهرب.. وكلما أمعن في الهرب.. غاص في الماضي أكثر.. ذات مرة وجد أحدهم في سيارته الفخمة.. انطلق اليه يجر الخطي.. لم يكن يريد منه أي شيء.. سوى أن يحتضنه.. يقبله يتذكر معه أيام الصبا.. صرخ من بعيد..بو حمود.. بو حمود.. فلم يسمع سوى الصدى.. وأخيرا تطلع اليه بو حمود ثم وضع يده في جيبه وأخرج حافظة النقود.. كل ما يتذكره سلوم الآن أنه رمى بالأوراق المالية في وجه (بو حمود)، وانطلق لا يلوي على شيء.. سلوم لا يريد مالا.. ولا يستجدي.. إنه يعيش مثل البشر.. يجد لقمة تسد الرمق.. ما كان يبحث عنه شيء آخر.. علاقات ممتدة في عمر الزمن.. مازالت كلمة بو حمود تطن في أذنيه.. (انت عايش لأ الحين) نعم.. عايش.. لكن حياته أقرب الى الموت والفناء.. هل حقا الموتى لا يرتادون القبور..؟
حسن رشيد ( كاتب من قطر)