آمنة الربيع
كاتبة مسرحية وباحثة من عُمان
حسب المعجم المسرحي ارتبط المختبر المسرحي بالتجريب، كما ارتبط التجريب بالحداثة. وهذا يعني أن تلازم التجريب بالحداثة يؤدي إلى تبلور فهمنا للمختبر المسرحي. ومن الملاحظ في تاريخ الفنون الحديثة أن مصطلحات استعملها المسرح كالفضاء الدرامي أو المسرح البصري مثلا قد أتت من الفنون التشكيلية (المستقبلية، البنائية، التكعيبية، التعبيرية، الدادائية، السريالية، الرمزية) ومدارسها المختلفة واتجاهاتها المتباينة.. والحداثة في معناها العام لفظة تنصرف إلى كل ما من شأنه أن يعني (التغيّر، التعصير والتحسين، مرغوب وتقدمي)، وكانت نهاية القرن التاسع عشر إيذانا بحدوث انتقالات سريعة في وعي الحداثة الغربية وهي تستقبل القرن العشرين بما جاء به من علوم جديدة ومكتشفات.
وقد شمل مصطلح الحداثة كل مجالات الحياة المدنية والاجتماعية. هكذا تستخدم جين أوستن المصطلح في أواخر القرن السادس عشر بأنه «حالة من التغير، ربما إلى الأفضل»(1)
أما التجريب فهو الخرق والاتيان بشيء مبتكر. وتجمع الدراسات المتخصصة أنّ ثمة مسببات كانت وراء انبلاج التجريب. يقول رايموند ويليامز»… إن أواخر القرن التاسع عشر كانت هي الفترة التي شهدت أعظم التغيرات التي عرفها الإنسان في وسائط الإنتاج الثقافي: فالتصوير الفوتوغرافي، والسينما، والراديو، والتلفزيون، والنسخ، والتسجيل، كلها كانت تتقدم تقدما حثيثا خلال تلك الفترة التي عُرفت بأنها حديثة…»(2)، ولما كان التجريب الدافع الأول لتطور الحداثة وبالضرورة لتطور عملية التجريب المسرحي يشير المتخصصون إلى أهم العوامل التي أدت إلى ظهور أساليب التجريب في الإبداع المسرحي (عرضا ونصا) وتلك العوامل هي:
1-1 تقدم التكنولوجيا. وتمثل ذلك في ظهور الإضاءة الكهربائية وما أتاحته من إمكانيات هائلة للتصرف في الفضاء المسرحي وانبلاج التجريب، وتحويل مناظره وأشكاله، بل خلق فضاء خاص بها.
1-2 اكتشاف السينما. ذلك أن سنة 1895 عرفت عرض أول فيلم سينمائي في باريس. ويشكل ظهور السينما عاملا أساسيا أثر بشكل كبير في نظرة الجمهور والمبدعين لتجربة المسرح السابقة وفي تطورها اللاحق.
1-3 طلائع السينوغرافيا الحديثة. وقد تبلورت هذه الطلائع في جهود السويسري أدولف آبيا (1862-1928) والإنجليزي إدوارد كوردون كريغ (1872-1966) حيث أسهما في تقديم نظريتين ثوريتين لخلق مبادئ جديدة لتنظيم الفضاء المسرحي في أبعاده الثلاثة، تمثلت جهودهما في ثلاثة جوانب: رفض الديكور المرسوم وتعويضه بالأحجام والأشكال الحقيقية، اخضاع تأثيث الفضاء المسرحي لمتطلبات الممثل والتشديد على ضرورة تغيير نظام هذا الأخير ونسق لعبه المسرحي، واقتراح حركية الديكور المتناغمة مع الإضاءة» .
1-4 منجزات المدرسة التكعيبية التي ظهرت سنة 1908. فقد أغنت التكعيبية البحث التجريبي في المسرح وتمثل ذلك في اهتمام رساميها بالهندسة في رسوماتهم. وأطرّت مبادئها اتجاهات المخرجين الجدليين أمثال برتولد بريخت وكان اكتشاف التكعيبيين للبعد الرابع بوصلة في توجه المسرحيين إلى البحث عن هذا البعد في فضاءات مسرحية تختلف عن القاعة الإيطالية وتقترح ترتيبا جديدا لحيز الممثلين وحيز الجمهور.(3)
واستنادا إلى هذا التطوير سعى المسرحيون للبحث عن صيغ جديدة تواكب التطور الذي جاءت به التكنولوجيا. ومن الملاحظ أن أغلب الذين اشتغلوا على التجريب هم المخرجون الذين كانوا ممثلين جيدين. وهذا ما يشير إليه المعجم المسرحي من «أن التجريب تزامن مع ظهور الإخراج كوظيفة مستقلة، ومع رغبة المخرجين في تطوير البحث المسرحي بمعزل عن التقاليد والأعراف الجامدة، وبعيدا عن الربح المادي»(4)
طال التجريب المسرحي لغة الإخراج، وبالتالي المختبر المسرحي وتبلور ذلك لدى عدد من المخرجين الذين تركوا بصمة إبداعية فيما يُعرف بالمدارس الإخراجية المرتكزة في المقام الأول على تكوين الممثل المسرحي. من تلك التجارب المعروفة تجربة المسرح الحُرّ التي بدأها المخرج الفرنسي أندريه أنطوان (1858-1943)، وتجربة استوديو الفن التي أعلنها الروسي كونستانتين ستانسلافسكي (1863-1938) وتجربة المخرج النمساوي ماكس راينهارت (1873-1943).
ويعود الفضل إلى ظهور المختبر المسرحي للفرنسيين إدوارد أوتان (1871-1964) وزوجته لويز لارا (1874-1952)، «حين أسسا في فرنسا مختبر الفن والفعل، وبلورها فيما بعد البولوني جيرزي جروتوفسكي (1933-) في مختبره في بولونيا(5).
يُقصد بالمختبر التدريب والتجريب أو «التجمع في إطار مُغلق وخاص يأخذ فيه طابع التجريب دون أن يؤدي بالضرورة إلى عرض مسرحي»(6) وفي حال أخذ الاتجاه إلى تقديم العرض فإنه يُلحق في العادة بورش للعمل تنتهي إلى عرض مسرحي يُعرض أمام عدد من المهتمين المسرحيين، وهذا ما يجعل المختبر يتصل اتصالا مباشرا بالمحترف المسرحي. وإلى جانب هذه الأسماء المعروفة ظهر عدد من التجارب الباحثة عن صيغ معينة ومتطورة لتطوير العملية المسرحية. وركيزة المختبر المسرحي في تقديرنا تنطلق من ثلاثة عناصر أساسية هي: (1) المخرج. (2) الممثل. (3) الفضاء المشهدي.
أولا: المخرج Director تاريخيا سبق الإخراج التسمية المعاصرة لما تم الاصطلاح عليه بالمخرج. فإذا اتفقنا جدلا على أن الإخراج هو تنظيم العرض المسرحي بهدف عرضه أمام جمهور عام أو جمهور خاص والإشراف على العرض منذ دخول الجمهور إلى الصالة وانتهاءً بخروجهم فهذه الوظيفة قد وجدت منذ اليونانيين. ويُعدّ القرن العشرون عصر المخرج المسرحي. ومن المُسلم به أنه لا قيام للعرض المسرحي إلا بالمخرج. فالمخرج هو المسؤول الأول والأخير عن العرض أمام الفرقة المسرحية وأمام الجمهور والإعلام. وهو «القيادة الفنية والفكرية للعملية المسرحية…فهو الذي يختار النص، ويحدد متطلبات العرض المسرحي: مكان العرض، والفنانين التعبيريين من ممثلين وراقصين وموسيقيين… كذلك يحدد الفنان التشكيلي الذي ستوكل إليه مهمة تصميم الديكور والأزياء والإكسسوار… ولكن الوظيفة الأساسية التي تقتضي المخرج الجهد الأكبر في إعداد العرض المسرحي، هي اختيار مجموعة الممثلين الصالحين لتجسيد شخصيات المسرحية بحيث تتوافر لكل منهم على حدة المقومات الفيزيقية والفنية التي تمكنه من الاقتراب من الشخصية الفنية التي سيقوم بأدائها»(7)
والمصطلح كما تشير مؤلفتا المعجم مصطلح «حديث نسبيا تمّ اشتقاقه من كلمة إخراج، وظهر بعد تحول الإخراج إلى فن مستقل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر (1873) ومع انتشار الطبيعية في المسرح. تُطلق تسمية المخرج على الشخص المسؤول عن التدريبات وعن صياغة العرض، ويُعتبر اليوم صاحب نصّ العرض تماما مثل الكاتب بالنسبة للنص»(8)
1-1: من نصّ الكاتب إلى نصّ المخرج
من الظواهر الفنية المعاصرة المصاحبة للعملية المسرحية والتي أخذت تنتشر ما يُعرف بظاهرة المخرج المؤلف، والمخرج الممثل، وأيضا المؤلف الممثل. ويوضح الباحث محمد الكغاط أن الفرق بين المؤلف المخرج، والمخرج المؤلف يبدو ضئيلا، وأن ظاهرة المخرج المؤلف تجري في الغالب عندما يجد المخرج «نفسه مضطرا للقيام بالكتابة الدرامية إما بسبب عدم اقتناعه بالنصوص المتوفرة، وإما بسبب رغبته في كتابة مشروع عرض مسرحي كامل، يجمع عناصر الكتابة الدرامية وعناصر الكتابة السينوغرافية بكل تفاصيلها التقنية»(9)، وإذّ يتوفر بعض من النقاد الذين لا يرحبون بانتشار صيغة المخرج المؤلف فإن حرية المخرج وتعامله مع النص أظهرت اتّجاهين: «الأول يُمثله بعض المخرجين الذين كانوا ينطلقون أساسا من مبدأ الالتزام بنص الكاتب، وبالتالي لم يحاولوا فرض رؤيتهم على النص… والاتجاه الثاني يُمثله المخرجون الذين ينطلقون من النص لفرض قراءتهم الخاصة، وفي بعض الأحيان يتم ذلك من خلال التعامل معه بحرية كبيرة لدرجة وصل معها المخرج لأن يعتمد على نصه الخاص، أو لنص جديد هو عملية توليف لعدة نصوص… أو يكون عمله نوعا من الإعداد الدراماتورجي لنص معروف»(10)
ويختلف نصّ الكاتب عن نص المخرج، فنص الكاتب هو النص المكتوب غير المُعدّ عن جنس أدبي آخر. كُتب بقصد تبليغ رسالة معينة موجهة إلى قراء معينين يتواجدون في مكان ما، مهمتهم استقبال النص وفهمه وتأويله. ويتضمن نص الكاتب المناصات التأليفية والإرشادات المسرحية(11) وترى مؤلفتا المعجم أن وعي المؤلفين بالتحول الاجتماعي الذي أفرزته بعض المؤسسات الرسمية والثقافية في البلدان التي يشكل المسرح تقليدا أساسيا في الإنتاج الاقتصادي لمؤسسات السلطة المدنية من ناحية واستقلال وظيفة المخرج من ناحية أخرى جعلهم «يفرضون شكل العرض ضمن النص من خلال الإرشادات الإخراجية الكثيرة والمفصَّلة، وهذا ما نجده في نصوص الفرنسي جان جينيه (1910-1968)، والإيرلندي صاموئيل بيكيت (1906-1989).
1-2: ثقافة المخرج المسرحي
ماذا يقول النقّاد عن هذه الثقافة التي يجب أن يتحصّل المخرج المسرحي عليها؟ ليس الناقد فحسب، بل والجمهور الذي بات يمتلك ثقافة وذائقة بتذوق العروض والتعقيب عليها سواء في المهرجانات أو في الأحاديث الجانبية التي تجري في العائلة أو بين الأصدقاء، بالإضافة إلى المبدعين المختلفين: «كلما كان النص المسرحي في الحقيقة غنيا في محتواه الأدبي، والشعري، والنفسي، والأخلاقي، وكلما كان النص الدرامي عميقا، وعناصر الجمال الدفينة فيه عظيمة، وكلما كان النص الدرامي أصيلا في أسلوبه دقيقا في بنائه، كلما تعددت المشكلات والقضايا الحساسة التي ستواجه المخرج»(12) بهذه الكلمات يُلخص جاك كوبو الثقافة العامة والدراسات العلمية المتخصصة التي يحتاج إليها المخرج المسرحي. ومن المفيد أن نذكر هنا أن وجود الإخراج كتخصص ليس أساسيا للمخرج كفرنسا مثلا، فالإخراج إلى جانب أنه علم فهو أيضا خبرة يكتسبها العاملون في الفنون البصرية، فكم من مخرج قدم إلى ميدان الإخراج من الكتابة والتمثيل ويشير المعجم المسرحي إلى أن «بعض مخرجي المسرح الهامين أتوا من السينما كالبولوني رومان بولانسكي والسويدي إنجمار برغمان والمصري يوسف شاهين»(13)
ثانيا: الممثل Actor
في كتابه الهام (تكوين الممثل المسرحي في مجتمعات الخليج العربي دراسة في سوسيولوجيا التكوين الفني للممثل) ركز الباحث على تقديم دراسة سوسيولوجية مستفيضة للطاقة الخبيئة للممثل المسرحي. فنقطة الارتكاز الصحيحة للعمل المسرحي أساسها الممثل. «وحين تبرز ضرورة أن يستقل المخرج بما هو مسرحي تبرز بطبيعة الحال ضرورة الاحتفاء بشخصية الممثل، وبدوره الحيوي الفاعل في الإبداع. ليس من واقع الاعتراف الطبيعي بمثل هذا الدور، وإنما من واقع الوعي بأن العالم الدرامي في المسرح لا يمكن أن تتم له خصوصيته واستقلاله في مواجهة تحديات الشعر والسينما والتكنولوجيا إلا بواسطة ارتكاز الإبداع المسرحي على تكوين إبداع الممثل»(14)، إن الوعي بالعالم الدرامي للمسرح يتطلّب التركيز على أطوار انتقال الوعي المجتمعي للمسرح من المدرسة إلى المؤسسة. فكم من ممثل يجهل قدراته الفعلية ويغيب عنه معرفته بطاقاته المحبوسة بسبب غياب ثقافته عن جسده وغياب تلك الثقافة عن المجتمع. وكم من ممثل يمتلك حسا دراميا بنفسه وبالمجتمع وبالكون بات مستهلكا للعلم في وسائط تحوّله إلى مجرد ممثل هزيل جدا فاقد لإحساس الممثل الطقسي. ويحيلنا هذا الحديث إلى تذكر بيتين للشاعر عبدالله بن المعتز وهو القائل:
تميل في رقصهم قدودهم
كما تثنت في الريح سروات
وركب القبح فوق حسنهم
وفي سماجاتهم ملاحات
(*) ثنائية الممثل/ الجسد
تاريخيا تعرض الجسد بشكل عام لعدد من الانتهاكات ومر بمراحل من التطور. فبينما تفيدنا المعاجم والقواميس بمعلومات عن الممثل الذي يُجسد شخصيات غير شخصيته، والممثل الذي يتصرّف ويفعل، والممثل الذي يُجيب أو الذي يرقص، والممثل المُشَخِّص فإن «مفهوم الممثل بالمعنى الحديث لم يظهر في أوروبا إلاّ في وقت متأخِّر مع ظهور التمثيل كمهنة احترافية، ومع تبلور المسرح كظاهرة تُشكل جزءا من حياة المدينة»(15) من بين الانتهاكات التاريخية يمكن الإشارة إلى انحدار مكانة الممثل في الحضارة الرومانية التي كانت مزدهرة في الحضارة اليونانية بتوظيف العبيد في العروض العامة. وتذكر المراجع أيضا أن النظرة للممثل ولمهنة التمثيل ظلت محتقرة وصولا إلى القرن السابع عشر لدرجة كان جسد الممثل محروما من الدفن ضمن الطقوس الدينية، ولنا أن نتخيل مدى المعاناة التي لاقاها جسد الممثل، ويكفي للاستشهاد تذكر معاناة أنتيجونا وما تعرضت له من ألم وشقاء لرغبة الملك كريون عدم دفن أخيها بمراسم تليق به، صحيح تبدو معاناة مختلفة، لكن المعاناة هي المعاناة. وليست ثقافتنا العربية أفضل من الرومانيين في ذلك الوقت، ففي العام 1888م صدر قرار في مصر يمنع الطلاب من ممارسة مهنة التمثيل. لكن الوضع الاجتماعي والسياسي يتغير ويتطور، ويمكن ملاحقة بعض مراحل التطورات التي تذوق حلاوتها الممثل إلى ما قبل قيام الثورة الفرنسية التي اكتسب معها الممثل مكانة عالية لارتباطه بمؤسسات الدولة، وتلك المراحل نجملها سريعا في هذه النقاط: (16)
1- التطور المهني الحِرَفيّ لبعض المهن في القرون الوسطى أدى إلى ظهور تجمعات حِرَفية تجعل من التمثيل مهنة واحترافا. فظهرت عائلات ورثت المهنة بين أفرادها واعتمدت في معيشتها على ما يتقدمه العروض من أرباح.
2- تطور النظام العائلي السابق إلى أخويات كان لها طابع تعاوني يتم تقسيم الأرباح بين أعضائها.
3- أدى تطور الأخويات إلى ظهور نظام الفرق المسرحية، وأكثر تلك الفرق شهرة وتكاملا ونظاما الكوميديا ديللارته في إيطاليا.
4- شكل القرن السابع عشر انعطافة سياسية هامة بدعم النظام الملكي والأمراء للفرق المسرحية الناشئة والمعروفة. (كفرنسا وإنجلترا حصريا)
5- الحاجة الاجتماعية لوجود الفرق المسرحية لا تقل أهمية عن أيديولوجيا الدولة ومن الملاحظ أن وجود الفرق كان دافعا لبناء الأنظمة السياسية للمسارح المحلية الثابتة.
ثالثا: الفضاء/ الفضاء المشهدي Space Scene
لا نستطيع اكتشاف الفضاء الدرامي وجمالياته (نصا وعرضا) إلا بالعودة إلى التجريب. لأن ما قدمه أدولف آبيا وجردون كريغ من اكتشافات للفضاء ونظريات ثائرة ألغت الاستعمال الكلاسيكي للخشبة أو أنها قوضت المعمار القديم بفعل الكهرباء، وأن التطورات التي مر بها الممثل وجسده في الحضارات المختلفة وما نشهده اليوم من تراجع للنصّ وإعلاء للمسرح الحركي الذي عموده الفقري هو جسد الممثل يوسع من قراءة الفضاء الدرامي. فـ«الفضاء كما الزمن في المسرح، مفهوم مركب بسبب وجود زمانين ومكانين: زمان ومكان العرض».(17)
وميز الباحثون بين ثلاثة مستويات للفضاء في المسرح: المستوى الأول: الفضاء الدرامي المجرّد الذي يوجد في النص المسرحي ويجري بناءه بواسطة خيال المتلقي. المستوى الثاني: الفضاء المشهدي. ويقصد به الفضاء الواقعي للمشهد الذي يتحرك فيه الممثلون. المستوى الثالث: الفضاء السينوغرافي أو الفضاء المسرحي ويتحدد بكونه الفضاء الذي يتموضع فيه الجمهور والممثلون أثناء العرض.(18)
في ظل التطور المعرفي والإنساني أخذت الدراسات الحديثة تركز على مفهوم الفضاء المشهدي، وفي تقديرنا ان قراءة الفضاء المشهدي لا تتم بطريقة صحيحة إلاّ في ظل التجريب، بالضبط كما أن اكتشاف مغامرة الفضاء المشهدي لا تجري تماميتها إلاّ بجسد الممثل. العلاقة متداخلة، لكنها ليست معقدة بالضرورة. فكيف نقرأ جسد الممثل اليوم بعيدا عن علم السميولوجيا التي تحول معها الممثل إلى علامة من علامات العرض المستقلة، الجسد المتعدد الشفرات والدلالات والخطابات؟
كلمة أخيرة:
يبدو أن لغة تطوير المختبر المسرحي قد شغلت عددا من المسرحيين العرب، بالإضافة إلى بعض الكتّاب المبدعين، ولا شك أن عملية البحث الدائم عن الصيغ التعبيرية المتقدمة فنيا في أذهان المخرجين قد جرى ترجمتها بإقامة العديد من الورش المسرحية والمختبرات، ولنا في تجارب بعض هؤلاء (عوني كرومي، فاضل سوداني، صالح القصب، وليد قوتلي، انتصار عبد الفتاح، جليلة بكار، فاضل الجزيري، عبدالله السعداوي، جواد الأسدي وغيرهم…) خير إشارة إلى ذلك. خرج بعض هؤلاء المسرحيين بصيغ مبتكرة لما يُعرف اليوم بمسرحة المكان عبر تحويل الأماكن الأثرية أو البيوت القديمة إلى ساحات ممكنة للعرض، ولعل هذا يُعيدنا إلى الطقس الأول للمسرح حيث أقام في الكنائس والمعابد ردحا من الزمن، كما نستعيد مع هذه الصيغ وهجا من تلك الوشيجة المتصلة بين الطبيعة ونداءاتها القصية وجسد البشري من حيث هو كائن وموضوع ومقدس.
الحاشية:
(1) طرائق الحداثة ضد المتوائمين الجُدد، ص52، رايموند ويليامز، ترجمة فاروق عبد القادر، سلسلة عالم المعرفة، رقم السلسلة 246، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1999م
(2) طرائق الحداثة ضد المتوائمين الجُدد، ص54، سبق ذكره
(3) التجريب في المسرح، ص13-33، د. سعيد الناجي، دائرة الثقافة والإعلام، ط1، الشارقة، 2009م بتصرفنا
(4) المعجم المسرحي مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض عربي-إنجليزي-فرنسي د. ماري إلياس و د. حنان قصاب حسن، ص118، مكتبة لبنان ناشرون، ط2، بيروت، 2006م
(5) المعجم المسرحي مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض، سبق ذكره، ص119
(6) المعجم المسرحي مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض، نفسه، ص119
(7) المخرج في المسرح المعاصر، ص 14-15، سعد أردش، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، مصر، 1993م
(8) المعجم المسرحي مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض، نفسه، ص418
(9) المسرح وفضاءاته، ص173، د. محمد الكغاط، البوكيلي للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، الدار البيضاء،1996
(10) المعجم المسرحي مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض، نفسه، ص419
(11) تشكل المناصات التأليفية أو المتعاليات النصيّة بحق العتبات المفضية إلى دواخل النصّ وخفاياه والمؤدية إلى اكتناه أسراره وكشف خباياه. فالنص، أي نص، لا يكون بمفرده، بل تحيط به من كل الجهات سلسلة متشابكة من العلاقات الثقافية والاجتماعية والتجارية، إنها على حد جيرار جينيت مجموعة الافتتاحيات الخطابية المصاحبة للنص أو للكتاب، من اسم الكاتب، والعنوان، والجلادة، كلمة الناشر، الإشهار، وحتى قائمة المنشورات المكلف بالإعلام، دار النشر. للتوسع انظر: عتبات جيرار جينيت من النص إلى المناص. د. عبد الحق بلعابد، تقديم: د. سعيد يقطين، ص44، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، الجزائر، 2008م.
ونظرا لأهمية هذه المتعاليات النصيّة فسوف نتناول حضورها في النصوص المنتخبة وفَقا لقوتها الإخبارية ودلالتها التواصلية. أما الإرشادات المسرحية أو الملاحظات الإخراجية فهي تسمية تطلق اليوم على أجزاء النص المسرحي المكتوب التي تُعطي معلومات تُحدد الظرف أو السياق الذي يبنى فيه الخطاب المسرحي. وهذه الإرشادات تَغيب في العرض كنص لغوي وتتحول إلى علامات مرئية أو سمعية. للتوسع انظر: المعجم المسرحي مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض، ماري إلياس، وحنان قصاب حسن، ص22، سبق الإشارة إليه.
(12) المخرج في المسرح المعاصر، سبق ذكره، ص17
(13) المعجم المسرحي مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض، نفسه، ص119
(14) تكوين الممثل المسرحي في مجتمعات الخليج العربي دراسة في سوسيولوجيا التكوين الفني للممثل، د. إبراهيم عبدالله غلوم، ص4، إصدارات الدورة التاسعة للمهرجان المسرحي للفرق المسرحية لدول الخليج العربية، ط2، مملكة البحرين، 2006م
(15) المعجم المسرحي مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض، نفسه، ص479
(16) المعجم المسرحي مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض، نفسه، ص479و480 بتصرفنا
(17) المعجم المسرحي مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض، نفسه، ص338
(18) معجم المصطلحات المسرحية، إعداد أحمد بلخيري، ص127، ط2، مطبعة النجاح الجديدة. الدار البيضاء، 2006م