الكلام الذي يتحدث عن الأرض وبأنها مسطحة الحواف والجهات والدلالات, مازال يغويني, ويؤلب عليَّ ظنوني.
لذلك أحلم, وفي المسافة الشاسعة للحلم أركض ويراودني اعتقاد بأن لكل مكان مسطح حافة, ولكل حافة عميقة هاوية تجاورها, وهناك في أقصى الهاوية. تنتهي الأرض… وتنزلق الأشياء والحيوات إلى مصائرها الغامضة, ولأنني أذهب بعيداً في كل شيء… أندفع بقوة بحثاً عن الحافة الفاتنة, وعن السقوط الذي تبشر به وتشكل عظمته وغرابته.
وها أنا أبحث طويلاً عن هذا السقوط دون أن ألاقيه وبعد لهاث طويل وخيبة داوية… يأتيني الحل على شكل أحجية, وهو أن كل بقعة في الأرض هي بدايتها ونهايتها معاً.
وبأن البقعة الصامتة قادرة وبصورة مفاجئة على صناعة حافتها وهاويتها معاً وأن هذه البقعة لا تنشطر إلا إذا توفرت شروط ودهور… ونقاط لقاء وهروب واحتدام وغروب.
وعندما يحصل الانشطار, لا يحصل إلا في لحظة واحدة,حيث يهوي كل واقفٍ على الحافة, إلى المعنى الكثير الأبعاد الذي يتشكل داخلها وإلى جوارها.
لا وجود للأعلى أو الأسفل في هذا الجرف المجاور للهاوية, لذلك يمكن للواقف على الحافة, أن يهوي إلى الفردوس, أو يهوي إلى الجحيم, أو يهوي إلى النسيان وهذا أصعب العذاب وأقساه في البرهة الخاطفة.
لقد أغواني هذا التأويل, فحملت أوراقي وحكاياتي ووضعتها في كيس وحاولت مثل مالك الحزين, أن أقف في نقطة ماء لا أبارحها حتى يجف ماء معناها ودلالتها… وأن أغمض عيني طويلاً حتى لا أتوه فيها ولا أتوه عنها, منتظراً انفصال الحافة عن طبيعتها وما يجاورها,لأهوي إلى القرار السحيق.
* وها أنا أهتز كأن فَزَع الأولين والآخرين يصّاعد في نبضي كما تصّاعد الزلزلة, أو كما تصّاعد الروح في الخلية الواجمة, بعدها أهوي.. وأظل أهوي حتى ألتقي بجسدي ونفسي في المسافة الجارفة.
وفي مكان فيه التباس.. مرّة يتبدى وكأنه الجحيم ومرّة يلتمع كأنه الجنة. أقف حائراً ومرتجفاً وحين يأنس المكان لي ويبدي مفاتنه كفردوسٍ محتمل, أضطرب فيه.. وأبحث أول ما أبحث, عن نهر الخمر والعسل وعندما ألقاهما أعب حتى أرتجل, ثم أتساءل… أين هو نهر الحب؟ هل بوسع الجنة أن تكون جنة دونه, وعندما يرهقني البحث, وتهب عليّ رياح لا طاقة لمعرفتي بها. أنتبه لما يجاورني فألمح امرأة باهرة… عندها تكتمل الجنة والهاوية في رؤياي ومعناي, فأحتضن المرأة طالباً الخلاص والمغفرة منها ومن فتنتها.
فتحتضنني من طرفها كما يحتضن الملاح الضال موجة عاتية…. عند ذلك يكتمل المعنى فأدسُّ رأسي ونفسي في تباشير صدرها ونفسها. فتبعدني عنها لأتمكن من رؤية فتنتها كلها وعندما أبتعد وألتفت.. أرى خلقاً لا حصر لهم ولا عد, وقد غامرت بهم البرهة العاصفة, وتوقف على شفاههم الكلام, وتشكلت في عيونهم الدهشة العالية, فأخترق صفوفهم حتى أصل إلى نقطة لا يبارحونها, وأحدق… لأرى عجباً.
صومعةً وشيخاً عجيباً له حظ وافر من ملامح الرجال والنساء والملائكة, وأمامه خط طويل كحد السكين… يبدأ منه وينتهي في الآفاق المترامية. وبعد تأمل وتفكير أسأل عن الأسباب, فيجيبني الشيخ: لن يعبر هذا الحد القاطع كاليقين من هؤلاء الفزعين, إلا العبد المذنب الذي يستطيع أن يقص علينا قصة أو حكاية يلتمع فيها الظن والدلالة المائلة… وعندما يستطيع الكائن أن يقص ويرتجل… عندها يكون, ويعبر الحدَّ القاطع وكأنه يعبر طريقاً معبداً بالترانيم.
* فسألته: وعندما لا يستطيع أن يفعل..؟
* عندما لا يستطيع.. يظل على الحافة, لا ظنون تمسكه ولا هاوية تحميه…
* بعد ذلك سيدي, أي شيء يكون..؟
* النسيان… والاغتراب عن الكائن الذي كان والكائن الذي لن يكون..
عندما التفتت إلى الحشود…كان الناس يبحثون في ذكرياتهم وأيامهم عن حكاية تخرجهم من حيرتهم, خلال ذلك اقترب رجل عجوز يحمل بعض الكتب…
من الكائن المكلف بالإصغاء للقصص, وسأله:
* هل توجد في السماء.. كتب؟ ومكتبات؟ فتحير الكائن المكلف بالإصغاء… وبعد صمت قال:
* لا توجد في مكتبات السماء سوى كتب اليقين.
* أما كتب الشك فقد ألقيت في الأتون
عندها تراجع الرجل العجوز وتراجعت كتبه معه حتى كاد لا يبين. وكانت دهشة في العيون وحزن…وأسئلة لا تهون.
ثم جاء النداء… ليتقدم كل ذي قصة…
وكل ذات قصة..
لتقول ما لديها, وتعبر الحدّ الفاصل بين الهاوية والزمان الجميل…
فتقدم رجل وسأل:
ألا يحق للرجال أن تكون قصصهم عن النساء.
فجاءه الصوت:
* يجوز..
ثم سألت امرأة: وهل يحق للنساء أن تكون قصصهم عن الرجال.
فجاءها الصوت:
* يحق.. فبعد عبور الحد الفاصل تختلط الأسماء والصفات وتذوب, ويتساوى الرجال بالنساء.
عند ذلك تنفست النساء الصعداء, وكظم الرجال الغيظ ومالت بهم الأحوال, وركبتهم الخشية من أن يتحولوا إلى نساء.
بعد أن أحس الجميع.. بأن التماثل في النوازع والطباع, لا يعين أصحاب الدهشة على تجميع الخيوط والكلمات وتشكيل النصوص والحكايات, بدؤوا بالتوارد, وفي مخيلة كل منهم حكاية, ترفعه إلى أعلى عليين و تخسف بسواه إلى القرار المكين.
لذلك هزَّ الكائن المكلف بالإصغاء للحكايات رأسه وقال:
* العبد المذنب الذي يحكي علينا حكاية تشبه مطوحاً بالزمان والآخرين, عبد آبق لا خير فيه.
فاضطربت الحشود, وتراجعت من ذكرياتهم الحكايات واحتدمت اللعنات والأراجيف.
ثم اقترب من المكان حيث يتربع القضاة والمحلفون, رجال ونساء, قضاة ولصوص, ضحايا ومجرمون, سجناء وسجانون, أتقياء وملعونون.
وبدأ كل منهم بسرد حكاية لا ضرورة لها ليجنب نفسه الانتظار المرير, الانتظار الذي تهون أمامه مياه الشك وحرائق اليقين, وإلفة الفردوس واحتدام الجحيم.
عندما انشطرت الأرض, ونبتت الهاوية مثل فكرة مفاجئة..
كنت في تلك البرهة قاصداً إحدى دور النشر, وقد وضعت قصصي في كيس…
وحين تشكلت الهاوية وحصل الانهيار, انزلقت فجأة وصرت مع الكثيرين في القاع المكين… وفي لحظة الانهيار تشعث كل شيء عدا الكيس وقد أثار الكيس المملوء حفيظة الكثيرين, فداهموني وداهموا الكيس وفتحوه عنوة وعندما عرفوا ما فيه بادر بعضهم لسرقة القصص والنصوص…
غير أن الشيخ العجيب المكلّف بالإصغاء والجمع والتبويب انتهرهم وقال لهم: حقوق التأليف مصانة في الحفرة الهائلة التي تشبه الجحيم.
فسأله بعضهم إن كان من حق الرجل صاحب الكيس أن يفتديهم بما لديه من حكايات وقصص, فقال الكائن… يحق له أن يفتديكم, إن صلح القصد وصلحت النصوص.
وعند ذلك شعرت ببعض الإلفة… فأخرجت الحكايات وألقيتها في الفضاء القريب.
وكان الهواء في حالة إصغاء ووجوم, وكان الناس في حالة غياب عن الدلالة, وإمعان في تحريك الأذرع والتلويح… وكأن العالم برمته سيطير.
* بعد أن تطايرت الحكايات… تراكض الناس إليها كما يتراكضون إلى حظٍ عظيم.. بعضهم حصل على ورقة ضالّة وبعضهم فاته الأمر, وأنهكه التحسّر والوجوم… وبقيت عندي في الكيس بعض الحكايات الرطبة البائدة, فأخرجتها وأخفيتها في الحد الفاصل بين معطفي ولهاثي.
* ودون أن أعرف.. التفت الشيخ العجيب إلى القضاة والمحلّفين وطلب منهم مطاردة الكيس وإدخال الحكايات والقصص الباقية فيه إلى غرف التأويل والحساب المرير.
وهكذا وقفت منتظراً الحكم الأخير الذي سيودي بي وبنصوصي إلى الجنة حيناً… وأحياناً كثيرة إلى الجحيم.
وعندما طال الوقوف بي أمام خيمة التحكيم, خرج إليّ الرجال والنساء, الصغار والكبار, التقاة والعصاة, وألقوا بالقصص والنظرات الجائرة إلى وجهي وهم غاضبون..
وها أنا أستعيد ما فقدت من قصص وحكايات, وأرسلها إلى ذاكرة الآخرين… علّهم يملأون كيسي الفارغ بهاوية أخرى تنتظرني, وتغامر بي.
وعندما فعلت.. خرج إليّ الرجل الشيخ.. فسألته عن المصير..
* فطلب مني أن أسرد ما لدي..
محمد أبو معتوق
قاص وروائي من سورية