كان الرجل قد أكبر عمله وأخذته نشوته به حتى نسى ان يقدم نفسه الينا معرفا بشخصيته وبتاريخ ميلاده أو يشير بطرف من إصبعه إلى نسبه فنعرف من هو هذا الذى خلف لنا كل تلك الصور الرائعة التى يقول عنها البروفيسور "م. س. ديماند فى كتابه "الفنون الاسلامية" واصفا عظمتها,"ولاشك ان الواسطي كان مصورا عظيما لانه استطاع ان يجمع بين التأثيرات المسيحية الشرقية والتأثيرات الايرانية ويخلق منها اسلوبا اسلاميا جديدا".
وبقدر ما أكبر هذا الرجل عمله فدقق فى كل جزء من أجزاء صوره تدقيقا ممعنا فما ترك للون ان يطغى على لون او لخط ان يشذ عن مساره, تغافل عن نفسه واكتفى بصوره أثرا يدل عليه بحيث لم يترك وراءه غير ثلاثة سطور تناقلها خلفا عن سلف حتى انتهت بعد تدقيق وتنقيب فيها الى المؤرخ الاستاذ ميخائيل عواد ليثبتها دون اضافة جديد اليها هو يؤرخ للواسطي فى دراسته "يحيى الواسطي شيخ المصورين فى العراق " مكتفيا بقوله "ويعد يحيى بن محمود بن يحيى بن الحسن الواسطي فى طليعة المصورين فى العراق فى هاتيك الايام,بل هو شيخهم وأستاذهم وإمامهم فى هذا الفن الجميل… نشا هذا الفنان الواسطي فى المائة السابعة للهجرة فى واسط من المدن الشهيرة فى العراق وموقعها بين البصرة والكوفة وفى تلك المدينة العامرة تعلم التصوير وتمهر فى فنونه.
ولعلنا لانجانب الواقع والصواب كثيرا إن ذهبنا فى زعمنا إلى القول بأن هذا الاهمال فى تثبيت تواريخ المبدعين فى الفنون التشكيلية الاسلامية ربما يعود الى النظرة المتوارثة عند المسلمين عن استهجان الرسم والنحت والقول بتحريمهما وحمل اعمال الرسامين والمزخرفين على محمل التزيين العرضى لباب دار او سقف او غرفة او واجهة عمارة مما استوجبتها حياة الترف والبذخ التى عمت ايام العباسيين, وكذلك ما استخدم من رسوم لتزيين الكتب, وان ممارسى هذه الفنون هم دون الأخرين من المبدعين من الكتاب والشعراء وان اسماءهم لاتستحق الوقوف عندها فى فهرست او كتاب يتعقب اثارهم ويدون اسلوب تطورهم ويناقش ما ابدعوا ويؤرخ لهم, وربما كان الواسطي اكبر حظا من غيره من الرسامين الذين عثرنا على اعمالهم ولم يتسن لنا حتى معرفة اسمائهم فقد اتيح له ان ينفرد بصفحة فى نهاية مخطوطة مقامات الحريري التى قام برسم تسع وتسعين صورة لها، كان له ان يدون فيها قوله "فرغ من نسخها العبد الفقير الى رحمة ربه وغفرانه وعفوه يحيى بن محمد بن ابى الحسن بن كوريها الواسطي بخطه وصوره آخر نهار يوم السبت سادس شهر رمضان سنة اربع وثلاثين وستمائة".
مقامات الحريري
يكاد يحصر عدد غير قليل من دارسي الادب العربى من عرب ومستشرقين بداية نشؤ ادب المقامات بمقامات بديع الزمان الهمذانى الذى عاش فى القرن الرابع للهجرة ويذهب بعضهم ومنهم الدكتور زكى مبارك الى مد تاريخ بدايته الى القرن الثالث للهجرة ناسبا الى "ابن دريد" اول عمل من هذا الضرب من ضروب الادب كما عثر على ذلك فى بعض كتب الادب العربى القديم اما من الكتاب المتأخرين ممن مارسوا الكتابة فى أدب المقامة فهو الشيخ ناصيف اليازجى الذى ولد عام 1800 م وتوفى فى عام 1871 م وكان فى اسلوبه ملتزما بما ورث عن الهمذانى والحريرى من نسج ادائى فى رواية الاحداث وبناء الجمل وحتى رسم شخصية البطل.
وتكاد المقامة ان تكون لونا من ألوان القصة لولا ان كاتبها لايولي اهتماما لتطوير الحدث على ما هو مألوف فى ادب القصة ولولا جنوحه الى اصطناع البراعة اللغوية وابراز تمكن الكاتب من ادائيته البيانية الى حد يضيع فيهما احيانا وضوح القصد من الحدث وكأن الغاية ليست بأكثر من التأكيد على تلك البراعة وذلك الاسلوب البيانى المملؤ بالزخرفة اللفظية.
وثمة شخصيتان فى الادب العربى احتكرتا الاهمية المتزايدة فى هذا المجال الادبى هما الهمذانى والحريري وقد ولد الاخير منهما فى البصرة عام 1054 م وتوفى فيها عام 1122 م ويعد الحريري من نحويي مدرسة البصرة ومن كتابها المقلدين واحد ادباء بدء الانحطاط الادبى فى تاريخ الادب العربي وقد شغل لفترة من الزمن منصب اصاحب الخبر" فى البصرة اى المسؤول عن بريدها وكان موضع احترام اهليها لفرط ذكائه وفطنته وفصاحة لغته, وعلى الرغم من ان "أبا القاسم بن علي الحريري " قد ترك تصانيف ادبية عديدة إلا انه لم يشتهر إلا بمقاماته التى ما تزال تتناقلها كتب الادب العربي.
وهو ينسج فى مقاماته على منوال الهمذانى معتمدا شخصية الراوى واسمه فى مقاماته "الحارث بن همام " الذى اوكل اليه القيام بسرد مغامرات بطل المقامات "ابو زيد السروجى" وهو كبطل مقامات الهمذانى ممن يحترفون الكدية فيصور لنا عبر خمسين مقامة صورا مختلفة للظروف التى مر بها بطل المقامات بأسلوب ساخر حينا وجاد حينا أخر… إلا ان طغيان التكلف على مقامات الحريري قد ذهب ببعض رونقها وكذلك ميله الشديد الى الزخرفة اللفظية والتنطع فى اقامة جملة وتاكيد الصناعة تأكيدا مبالغا فيه كان يورد ابياتا من الشعر يمكن لقارئها أن يتلوها من اولها او من آخرها كمثل قوله :
اس ارملا اذا عرا وارع اذا المرء اسا
اسل جناب غاشم مشاغب ان جلسا
مما هبط بمنزلتها عن منزلة مقامات الهمذانى فى نظر غير واحد من الذين اقاموا المقارنة بينهما.
وتؤكد بعض الروايات التى تواترت عن مقامات الحريري بان شخصية بطلها شخصية حقيقية، فان ابا زيد السروجى كان من الشحاذين المتميزين بحسن لغته وجميل تصرفه وعمق نظرته الى الاشياء بل ان الحريري نفسه يقول بذلك "جتمع مسجده مثل ما شاهدت, وانه سمع منه فى معنى أخر فصلا احسن مما سمعت وكان يغير فى كل مسجد زيه وشكله ويظهر من فنون الحيلة فضله فعتجبوا من جريانه فى ميدانه وتصرفه فى تلونه واحسانه.. فأنشأت المقامة الخرامية ثم بنيت عليها عندى عشية ذلك اليوم جماعة من فضلاء البصرة وعلمائها فحكيت لهم ما شهدت من ذلك السائل وسمعت من لطافة عبارته فى تحصيل مراده وظرافة اشارته فى تسهيل ايراده, فحكى كل واحد من جلسائه انه شاهد من هذا.السائل فى سائر المقامات وكانت أول شىء صنعته ".
وقد استطاعت هذه المقامات أن تنقل الينا عبر سرد قصص ابى زيد السروجى الكثير من ملامح المجتمع البصري فى العهد العباسى، من حكايات تتناول شخصيات اجتماعية معروفة الى رسم معالم المدن انذاك الى تفصيل فى عادات اهل ذلك الزمان مما صارت المادة الاساسية لرسوم الواسطي التى زين بها هذا الكتاب فاغلى من قيمته ومد بعمره, والكتاب محفوظ فى المكتبة الاهلية بباريس تحت رقم 5847 عربى ويقول الدكتور محمد مكية فى دراسته عن "تراث الرسم البغدادى" بان هذه المخطوطة اى مخطوطة باريس "لم تكن النسخة الباقية من هذا الاثر النفيس فقد وصلت إلينا نسخة أخرى من مقامات الحريري هى المخطوطة المحفوظة الآن فى متحف ليننجراد وتضم مجموعة من الرسوم الرائعة، ولم تلق هذه المجموعة العناية اللازمة ولعل ذلك بسبب التشويه الذى وقع. عليها جراء حز رقاب المخلوقات الحية فيهما بخطوط سود دلالة على أنها ميتة كى لايقع عليها المنع والتحريم.
مدرسة بغداد للتصوير
على الرغم من أن دارسي الفن الاسلامى يذهبون الى القول بأن المسلمين عرفوا الرسم على الورق منذ القرن الثانى الهجرى فان ما وصلنا من تلك الرسوم لايعود بتاريخها لاكثر من اوائل العصر العباسى وربما اواخر العصر الاموى وتقوم مدرسة بغداد المثل المتكامل لهذا الفن من حيث وحدة الشخصية الفنية فيها ومن حيث كونها المطلق الرئيسى الذى تسربت منه اساليب تصوير المخطوطات الادبية والعلمية الى باقى البلاد الاسلامية.
وقد استقرت تسميتها على مدرسة بغداد على اساس ما كان لبغداد من قيمه حضارية فى تلك المرحلة من التاريخ التى تمتد ما بين القرنين السادسى والثامن للهجرة 1200-. 140 م وما يزال بعض المؤرخين من المستشرقين ميالين الى تسميتها بمدرسة ما بين النهرين او المدرسة السلجوقية او المدرسة العباسية ولكل مفهم ما يقيم له فى الحجة اسبابا مختلفة ومن هؤلاء ايضا من يقول بأن اصول هذه المدرسة تعود الى غير بغداد كإيران ومن ثم الصين إلا ان ما يوردون من حجج لاتقوم دليلا كافيا على ذلك ويرد الدكتور زكى محمد حسن الذى يعتبر مرجعا مهما فى تشخيص الفنون الاسلامية فى كتابه "مدرسة بغداد فى التصوير الاسلامي "على احد القائلين بنسبة مدرسة بغداد الى الايرانيين او الصينيين وهو "م. ساكسيان " بقوله:"ولكن ليس ثمة دليل على أن ايران عرفت فى العصر اسلوبا فنيا فى التصوير يخالف ما عرف فى بغداد فضلا عن أن المجموعة المحفوظة فى استانبول والتى احتج بها ساكسيان لايمكن نسبتها الى ما قبل العصر المغولى بل انه يؤكد فى ذات الدراسة على "ان تزويق المخطوطات بالتصاوير وتزيينها بالاصباغ البراقة فن حملت بغداد لواءه فى القرنين السادس والسابع الهجريين ولكنه ازدهر فى مراكز اخرى من ديار الاسلام فعرفته الموصل والكوفة وواسط وغيرها من بلاد الرافدين, كما امتد الى ايران ومصر والشام بل لقد امتد تأثيره الى الرسوم الحائطية الاسلامية فى البرطل بقصر الحمراء فى غرناطة والى بعض المخطوطات العربية فى الاندلس " ومن ابرز خصائص مدرسة بغداد فى التصوير جنوح فنانيها الى عدم ايلاء اهتمام بالطبيعة على الشكل الذى برزت فيه فى الصور التى رسمها فنانوا الشرق الاقصى وعدم عنايتهم بالنزعة التشريحية او التقيد بالنسب الخارجية للاشكال المرسومة كالتى سعى الى تأكيدها الفنان الاغريقى.. كما ان رسوم مدرسة بغداد ذات ميل الى التسطيح ولم يول فنانوها أهمية لغير بعدين من ابعاد الصورة هما طولها وعرضها اما العمق او المنظور العمقى فلم يبرز اهتمام به إلا ابان القرن التاسع الهجري وبشكل عرفي لايؤكد تحولا اليه.
ولقد كان من جراء هذه النزعة التسطيحية ان اصبح للمكان بمعناه الشامل مفهوم رمزى وللعلاقات به قيم مرتبطة بمفاهيم تنعكس عليها مواقف اجتماعية وسياسية فالكلب لابد من ان يكون صغيرا فيرسمه وان كان فى اول الصورة والخلفية لابد من رسمه كبير الحجم وان كان فى اخر الصورة وذلك بالنظر للقيمة الاجتماعية الممنوحة لكل منهما من خلال الحدث الذى قصد الفنان ابرازه, ومركز الاشياء بالنسبة للحدث ذاته, ومن هذا قامت لمدرسة بغداد تعبيريتها الخاصة التى انعكست على القيم التشكيلية لها من حيث تعدد زوايا الرؤية للموضوعات وما اطلق عليه اسم الرسم بـأسلوب "عين الطائر" الذى يشرحه نوري الراوي فى دراسته,"ملامح مدرسة بغداد لتصوير الكتاب " بقوله "ان هذه النظرة التى يطلق عليها العلماء نظرة عين الطائر هى احد تقاليد المدارس الاسلامية التى جاوزت حدا اصبحت معه لا تقنع بتسجيل زاوية النظر وحسب بل تطمح الى اراءة حيز المكان بشكل جامع وهى فى حالة تلتقى برسوم الاطفال وترتبط بها حسب المقاييس الفنية الحديثة بأكثر من وشيجة".
ومما لاريب فيه ان رسم الحقيقة الظنية للاشياء توارثه.الفنان الاسلامي عن الحضارات القديمة التى مرت بها بلاد ما بين النهرين, فنحن ان دققنا النظر فى تمثال "اللبوة الجريح " الاشوري نجد ان السهم يتجاوز وضعه الخارجى الى داخل اللبوة مصورا التمزق الداخلى لها وكذلك عند رسمه للانهر اذ كثيرا ما كان يعرج الى رسم انواع الاسماك الموجودة فيها.
ويعزو نوري الراوي ذلك الى كون هذه "النظرة منحدرة من ممارسات الفنانين للفنون الزخرفية المسطحة التى تؤلف الجانب الاكبر من الفنون الاسلامية وعلى علاقاتها الشكلية التى تعتمد كل القيم الجمالية التى انطوت عليها تلك الفنون وهو رأى يمكن الاخذ به لحد ما من حيث ان الزخرفة تتيح الحرية للفنان الاستعانة بالاشكال المختلفة لتعزيز الجانب الزخرفى" إلا اننا لابد ايضا من ان نأخذ بنظر الاعتبار التداعى فى الصور المرافق لعملية الخلق الفنى ومحاولة رصدها وتثبيتها، فالنهر اوحى بالسمك والسهم اوحى بالتمزق الداخل وهو ما نسميه بالحقيقة الظنية التى نتجاوز بها الحقيقة البصرية.
الأهمية الفنية لرسوم الواسطي
لا اعتقد أن فنانا من الفنانين القدامى أثارت اعماله ما أثارته أعمال الواسطي فما وقعت عين اختصاصي بالفن إلا وانجذب لروعتها وأخذته الدهشة بدقتها وتناسق كتلها والوانها وأنسياب خطوطها فهي عند البروفيسور ج. س ديماند مؤلف كتاب الفنون الإسلامية "بديعة ورائعة جدا" وهي عند المستشرق الفرنسي الكبير "ماسينيون " "من أروع الاعمال الفنية الموجودة اليوم " بل أنه أصبح محفزا للكثيرين من فنانينا المعاصرين فقد أثر لفترة طويلة على الفنان العراقي جواد سليم وفي غير مكان من رسائله ودراساته أشار اليه باعجاب كبير خاصة صورته "الجارية والجمال العشرة" إذ يقول عنها في احدى رسائله "انها صورة مجموعة جمال, وجمال العراق تعرفها جيدا لا يتعدى لونها لون التراب ولقد صورها هذا العبقري العظيم كل جمل بلون يتناسب من اللون الذي بجانبه ".. ويقول عنه الرسام شاكر حسن السعيد "إن أهمية الواسطي الفنية هي في أنه استطاع بطريقة تعبيره اقناعا بان ثمة عالما ممكنا باستطاعته ان يستند على عالم عياني في استشفاف الحقيقة ودون ان ينقله " ويذهب بول غير اغوسيان إلى أبعد من ذلك في تحديد علاقته بالواسطي فيقول:"عندما يصور الواسطي قاضيا يحكم على ولد خالف والده, فانا أقدر أن أفهم عمق الواسطي رغم أنني لا أقدر أن اصل اليه.. أنني اجرب أن اغار من فنه وافتح لفني بابا جديدا منه لأصل إلى قوته وروحه لا إلى صوره.. وإلى صبره وإيمانه لا لنقل ألوانه وخطوطه وبقدر ما أتعب مثل ما تعب لأصل إلى ما وصل وعندها أكون قد دخلت حقا في التراث ".. ولو أردنا أن نبحث في تقويم أثر الواسطي لكان علينا أن نفرد له بحثا خاصا على ما نأخذ علي غالبية فنانينا من ضعف اطلاعهم على التراث الفني الاسلامي ومن سقوطهم المباشر في ربقة المعطيات الفنية الأوروبية حيث درسوا وتأثروا ولعلني لست على كثير خطأ إن قلت بان انعطافا كبيرا سيحدث في أعمال فنانينا القادمة بتأثير محاولة تواصلهم بالتراث الفني العربي والاسلامي وقد بدأ بالفعل عبر محاولات العديدين الافادة من الزخرفة العربية والخط العربي مما لم يعد جديدا أن نرى أثرا منهما في الكثير من معارض رسامينا.
بقليل من المداد الأسود وبقليل من بقايا حرق الياف الكافور ومزجها بزيت الخردل وبقليل من الألوان التي كان يقوم.أحيانا بنفسه في تحضيرها استطاع الواسطي ان يتبوأ مكانة عالية في تاريخ الفن العالمي ما اتسع مثلها لغير عدد قليل من فناني العالم الكبار، وحتى عد الممثل الرئيسي للفن الاسلامي الذي يمكننا ان نختصر به اهم مميزات هذا الفن عبر جانبيه التشكيلي والاجتماعي وان لم يكن قد اضاف اليها الكثير مما يقوم قواعد جديدة من حيث القيم الرئيسية لهذا الفن فهو كما يقول عنه المستشرق "بلوشيه " قد استطاع ان يأتى بأروع ما انتجته المدرسة البغداية، وهذا يعطى الانطباع أن هذا الانتاج الفنى هو أحسن ما يمكن ان يشار اليه بالنسبة لذلك العصر". وقد كان له عبر هذه الطاقة الاخاذة في اجادة استخدام القيم اللونية الزاهية بدقة ورفع مستوياتها التعبيرية، وعبر ما يقيم من علاقات بينها وبين خطوطه المنسابة لتحديد قسمات وجوه شخوصه العربية ولتفسير حركاتها وعبر ادراكه الذكي لكيفية الاستعانة بالزخرفة بحيث لا تحول العمل الفني الى جهد زخرفي بحت تبقى وسيلة تعبيرية تنقل احساس العربي ازاءها إلى جانب قيمتها الادائية في التعامل مع باقي أجزاء الصورة.. أقول لقد كان له من خلالى كل ذلك ان ينفرد بالمستوى الذي حققه ضمن اطار القيم المتعارف عليها في الفن الاسلامي.. هذا مع العلم بأن للواسطي ثمة إضافات على جانب من الاهمية كتلك التي اطلق عليها الاختصاصيون اسم "اجتماع الديدان " بسبب ميله الى رسم أمواج المياه على شكل مجموعة ديدان تتحرك في ذبذبات متجانسة مما يعطيها تجسيدا ايقاعيا رائعا.
ويلاحظ على رسوم الواسطي بوضوح مدى فهمه لجزئيات صوره بحيث ينزع عند رسمه للأشخاص إلى تجاهل الحدود النسبية للأشكال ليفسح بذلك المجال لبروز تعبيرية تلك الأشخاص عن نفسها بدقة بينما هو أكثر التزاما بالواقع عند رسمه للحيوانات لادراكه أنها في الحدث عنصر عرضي وليس عنصرا جوهريا كالانسان مثلا.
وفي دراسة ممتازة لشاكر حسن السعيد عن "الخصائص الفنية والاجتماعية لرسوم الواسطي " يحدد معطيات الواسطي التي تميزه عن سواه من الفنانين الذين سبقوه قائلا: "اجل سبق لمحاولات من هذا القبيل ان انجزت إلا أن الأمر يختلف لدى الواسطي هنا في كونه – الحديث عن البعد الثالث – يسقط عن حسابه عامل البروز في النحت التسطحي كبعد (عمق) مستبدلا اياه بعاملي اللون والاضاءة، وهما وسيلتان من وسائل السطح التصويري. وبمعنى آخر، إن اللون والضوء والعتمة ستتولى في السطح المرسوم الدور الذي يتولاه البعد الثالث وهو العمق في فن التسطيح من ابراز في المنظور والتجسيد في نفس الوقت مع انصياعهما للعالم الذي يتجسدان فيه ".. وطرح مفهوم البعد الثالث على هذا الشكل وبمثل هذا الاستنتاج جدير بالدراسة المعمقة.
ولعل من أبرز مقومات شخصية الواسطي الفنية هي تلك القابلية الممتازة على الاستلاف من كل المعطيات الفنية التي وصلت اليه من فنون فارسية بيزنطية وتأثيرات مسيحية وساسانية بل وحتى ما استطاع ان يدركه من بعض جداريات الاشوريين بشكل من الأشكال ومن ثم هضمها، فاعادة صياغتها مجددا بما ينفرد بها أصالة اسلامية جديدة تصير معها حتى طريقته في رسم العيون من جانبي الوجه لو أننا ننظر إليها من الامام وهي ما عهدناه في فنون وادي الرافدين القديمة وكأنها خاصية مميزة له بما اعطى الاسلوب من ايحائية تعبيرية خاصة به.
الواقع الاجتماعي عند الواسطي
وللواسطي قدرة عجيبة على رصد الحياة الاجتماعية بدقائق أمورها، حتى لتشعر معها بأن الكلمة وما لها من قدرة على التعبير في مقامات الحريري كانت دون رسومه في نقل الجو العام وتثبيت معالم الحياة يومذاك من حيث تباين مقام كل شخص جاء الحديث على سيرته من جلسته وايماءته وملابسه وحركة يده, وفي بحث للسيدة ناهدة عبدالفتاح النعيمي عن "المرأة في رسوم الواسطى" استعرضت فيه دقة الواسطي في التعبير عن حياة المرأة من خلال تحليلها لعدد من المقامات فقالت في مقدمة بحثها: "شملت رسوم الواسطي نواحي الحياة الكثيرة لما ورد في المقامات ولم ينس الواسطي المرأة ودورها في المجتمع فرسمها في صور عديدة أظهرها مرة وهي تغزل الصوف لتنسج الثياب والخيام, وأخرى تستجدي في المسجد والخيام, وأخرى تستجدي في المسجد المصلين وتارة تشكو زوجها إلى الحاكم وأخرى الى القاضي, واذا ما فارق الحياة احد اهليها انبرت تلطم الخدود وتمزق الثياب وتندب وتصرخ على فقده, ومرة تحضر الخطب والمناقشات وأخرى ترعى الابل وتسوقها امامها، ثم ينتقل الى القرية فيصورها أجمل تصوير ويعود فيعكس عادة اكرام الضيف عند العرب إذا ما زارهم أحد، ثم صور ا لمرأة بجرأة وواقعية ساعة الولادة وإذا ما كانت المراة من الرقيق فتعرض في سوق النخاسين للبيع وهكذا صور الواسطي النساء في أشكال مختلفة وأوضاع متعددة وملابس متنوعة تتفق ومكانتهن الاجتماعية".
ويذهب الكثير من دارسي صور الواسطي إلى التأكيد على كونه تجاوز المقامات في التعبير عن مختلف جوانب المجتمع يومذاك عبر شخصيتين متلاحمتين هما الحارث بن همام " الثري العربي و"أبو زيد السروجي " الشحاذ الذي يتحايل على الحياة بأنواع الحيل والمكائد ليستطيع أن يدبر أمر معيشته مجسدا ذلك بدقة كبيرة استطاعت أن تعكس الكثير من القيم الاجتماعية والفوارق الطبقية يوم ان اختفى ابو زيد السروجي تحت زي امرأة عجوز أو يوم أن قام خطيبا يعظ الناس في أمور دنياهم أو يوم أن صير نفسه جمالا يرعى الأبل على مقربة من مضارب بني حرب, حتى ليقول عنه الدكتور محمد مكية في دراسته "تراث الرسم البغدادي " بان رسوم الواسطي "التي أوضحت تلك المشاهد الأدبية بالصور كانت أدق تعبير واوسع دراسة مباشرة للمجتمع الاسلامي وطبقاته المختلفة انذاك, وهي بالتالي خير وثيقة مادية ساعدتنا على التعرف بتلك المجتمعات بطريقة لم تتمكن من تحقيقها عن طريق النصوص الادبية والتاريخية الواردة في تآليفهما الغزيرة".
وكثيرا ما كان الواسطي يجزىء صورته إلى جزين أو أكثر تمكينا لتبيان الفوارق الاجتماعية أو تعبيرا عن ازدواجية في الموقف كما نجد ذلك واضحا في صورته للمقامة (21) حيث نرى في أسفل الصورة ابا زيد يهاجم والي المدينة بينما نرى الوالي وحاشيته في أعلى الصورة في جلسة مترفة ومثل ذلك ما نراه في لوحته "مسافرين في المدينة" إذ رسم في القسم العلوي من اللوحة تفاصيل المدينة مبينا طبيعتها المعمارية باطواقها وغرف المنازل -وجوامعها بشكل مستقر وثابت بينما تتحرك في القسم السفلي منها جموع الناس عبر حياتهم اليومية.
لقد. كان الواسطي فنانا كبيرا وكان إنسانا كبيرا وبهما استطاع أن يؤكد أصالته الرائعة، فمتى يكون لنا منه أكثر من مثل في فنانينا الجدد؟.
بلند الحيدري(من رواد الشعر الحديث في العراق مقيم في لندن)