الواقعية الشعرية الفرنسية مدرسة تكتسب ،هي أيضا، معنى خاصا، حيث امتدت بين عامي 1922و1957لتشمل ثلاثة أجيال من السينمائيين تميزت أفلامهم "بالتعبير عن قلق ما والاحساس الشاعري بالاحباط العاطفي والمعاناة المتوقعة والتوق الى التطهر." عادة ما نجد في تلك الأفلام ميلا مرضيا للأجواء القاتمة الكئيبة ، وإحساسا بعدم الانسجام مع الحياة يجد ضألته في الشوارع الرطبة والمرافي ء الليلية .وسوف تمتد هذه الأجواء لما بعد الحرب العالمية الثانية ولن يحل محلها سوى روح "الموجة الجديدة " في 1958.
إن الواقعية الشعرية مهمة في تاريخ السينما الفرنسية ليس فقط لأنها تصل بين خطي القوة ، المتعارضين ظاهريا،وهما خطا "لوميير" و"ملييس "، ولكن لأنها تحدث انصهارا بين غريزتين أساسيتين في السينما وهما تذوق الوثيقة الملموسة وانفلات الخيال العاطفي.والواقع ستظل هناك دائما واقعية شعرية طالما بقي الفن السابع ظاهرة تشكيلية ، اجتماعية وانسانية . ولكن من المنظور التاريخي، نستطيع أن نميز بين عامي 1922و6957(وهو العام الذي سيشهد ظهور جيل "الموجة الجديدة ") ظهور تيار من الانتاج الفرنسي تدعمه حركة معقدة تختلط فيها الملاحظة المريرة بالتمرد والرغبة في التحرر والمشاعر الخانية الآسية .
ويلاحظ غالبية الأوخين السينمائيين ، على مدى هذه السنوات الخمس والعشرين ،أهمية بعض نوبات المعارضة التي يصعب ، في راينا ، أن نؤكد بشطر قاطع وحدتها وصلا بتها . لنقل إن هناك ثلاثة خطوط على الأقل تتشابك ضمن مجمل الأعمال التي تجاوزت مرحلة الحرب العالمية الثانية ثم مرحلة ما بعد السرب العالمية الثانية . أولا: إدانة النظام الاجتماعي في ذاته (وقد لعب الشاعر جاك بريفير دورا رئيسيا هنا)،ثانيا: التأريخ للعادات والتقاليد بشكل تهكمي وواع ، ثالثا ثالثا :بزوغ الغنائية التي قد يعود مطلعها الى "رامبو " الذي قال – "لسنا من هذا العالم" والتي كانت آنذاك وسيلة لرفض الوضع الانساني وأوضاع المثقفين والبروليتاريا بكافة مستوياتها، كما بدت في نظر المتشددين بعد الحرب 6964_ 6918. لقد تحمل أفضل السينمائيين الفرنسيين آثار الأزمة الاقتصادية والأخلاقية
التي شهدت رسوخ الحركات الاجتماعية الاقتصادية مثل الانضمام للماركسية وللتيارات اللاعقلانية مثل الدادية والسوريالية . في كلا الجانبين ، كان هاجس اشتعال حرب عالمية جديدة يبدو واضحا ،وكان هذا الهاجس يتأكد بشدة نظرا لصعود "
الديكتاتوريات ووجود قسوة أو لامبالاة .
التعبير عن القلق سوف يتعمق هذا الوعي صبيحة حرب 1939 مع أفلام مثل "قانون اللعبة ". وقد رأى "روجر مانفيل " من جانبه ، في الأعمال التي قدمها مارسيل كارنيه وجاك بريفير "تعبيرا عن قلق بديهي في جانب مهم من أفضل سينما قدمتها فرنسا … احساسا شاعريا بالاحباط العاطفي والألم ائتوقع والتوق الى التطهر " ويمكننا أن نقول أن هناك كثيرا من النقاط المشتركة بين هذا الهوس النفسي وبين نفاذ تشيكوف الى اعراض الأزمة الحادة التي عاشها المجتمع الذي شهد تحلله وتفتته من حوله . وعلى ذكر بعض أفلام رينوار ودوفيفييا، يضيف الناقد الانجليزي :"لقد جعلت هذه الأفلام من السينما الفرنسية مرأة طالعت فيها بلدان أخرى كثيرة شعرية التناول الانساني للحياة ". وبتعبير أخر، فقد انخرط عدد من المخرجين وكتاب السيناريو في نزاع مباشر أو غير مباشر من خلال احساس الشجن الذي ولد من عدم توافقهم المادي والمعنوي مع العالم الذي فونى عليهم العيش فيا.
أطلق جورج سادول على الفصل الخامس عشر من كتابه "تاريخ السينما العالمية " عنوان "الواقعية الشعرية الفرنسية ( 1930- 1945) بالاشارة الى روجر مانفيل ، وأكد أنه على الرغم هن التنظيم التجاري الخانق الملائم لغريزة التجمع ، تشكلت مدرسة من المخرجين المستقلين ، يعمل كل منهم لحسابه الشحمي بلا شك ، ولكن بنفس روح الفوضوية الغنائية ، ويذكر هؤلاء المبدعون الذين تجمع بينهم "رابطة مشتركة وان ظلت غائمة نوعا ما وهم كلير، رينوار، فيجو كارنيه ، فيدير ويبكير، (ونضيف اليهم اليوم جريميون وأتون _ لارا في المكان المناسب ). تلك "الرابطة الغائمة نوعا" حيث يمتزج الحنين بالضغينة ، سوف يوضح بيير لوبرون في الجزء الثاني من كتابه "خمسون عاما من السينما" حين يقول : "إن الحبكة التي تقصد أن تكون انسانية وحقيقية (…) تحيط بها هالة من الأمال والأحلام والطموحات ". ثم يؤكد عل البيئة التي "تطفو فيها مشاهد ساحرة يكتشف الأبطال أنفسهم من خلالها أو يضيعون فيها." الأمر الذي سيستمر بعد 1940 في أفلام أقل أهمية مثل "عروس الظلام " لسروج دوبوليني و" بلد بلا نجوم " لجورج لاكومب .
وباعتبار أن هؤلاء المخرجين ، من أكثرهم موهبة الى أكثرهم تواضعا، يكشفون عن كونهم ورثة التقاليد الأدبية (الطبيعية ) وكونهم شغوفين
بالفانتازيا الاجتماعية التي رسخت جذورها في أمريكا ومن ألمانيا، وشهود مختلف المتناقضات الاقتصادية في عصرهم ، فانه من الصعب أن نلم بالعامل المشترك من الواقع الحي الكائن في أعمالهم 131 كان الواقع الراهن جزءا لا يتجزأ من الخيال فانه يخاطر بأن يظل غائما على الشاشة ، ذلك الواقع الذي يتحول بالنسبة لعالم الاجتماع الى مجرد أرقام . وبذلك ، بدلا من أن يطرح بوصفه أمرا مثبتا (وهو ما يتمناه جريميون فيما بعد/ فإنه يتبلور في حالات بعينها (منها على سبيل المثال فيلم "دفتر للحفل ") وف بعض أقدار المخرجين المتميزين . الأمر الذي يحدث ببعض التلذذ بالألم الرومانسي .
الميل للاجواء القاتمة يتوافق الميل الى الأجواء الكئيبة القاتمة الذي يتجل منذ عهد لوى أولوك وجان ابشتين والذي ينبع أيضا من روائية أدبية ، مع رسوخ الشخصيات غير المتحققة التي تقع ضحية "قدر" ماجوهره ميتافزيقي وإن كانت أصوله اجتماعية (وهو ما سنجده في فيلم "بوابات الليل "). تلك هي وجهة نظر بيير لوبر ون حين يؤكد أن الواقعية الشعرية لفترة ما بين الحربين "تقابل بين الأحاسيس الانسانية ورغبة الانسان عادة في الحياة وبين قسوة القدر الذي لا راد له ". مما لا شك فيه ان نفس هذه الفترة لم تخل من الأعمال التي تتميز بتفاؤل طفولي ، غير أن الخاصة الغالبة نوعيا هي خلق جو مأساوي أطلق ويمون شيرا اسم "أجواء " .على كتاب فخم يضم صورا معبرة عن هذا الجو ويستدعي هذا الكتاب روح الشعر اللاذع "الذي ينضح على الضواحي الكئيبة ذات الطرقات الخاوية ، خافتة الضوء"، ومن منظور ريكارد يقترب من فيلم فرانك بور زاج "أهل المنطقة " يشير الى "الديكورات على طريقة كاركو أو ماك أور لان .."
يجب أن نكرر أن هذه الأجواء حيث يحل الكابوس في ترهات الحياة اليومية كانت أجواء أفلام مثل "حمى" لأولوك و"الدورادو" للاربييه و "قلب مخلص " لابشتين . كان الجو هنا (بما أننا مضطرون للعودة , هذه الكلمة ) قريبا من ذلك الذي ابتدعته التعبيرية ،ولكن أكثر صفاء وأكثر خفة من، الناحية التشكيلية . باختصار أكثر وضوحا . وعلى الرغم من ذلك فسوف يزداد هذا الجو كثافة مع الثلاثينات وحولها عندما تتلو "السنوات الصحية "، "السنوات المجنونة "، ويتلو الآمال العريضة الجريحة احساس بالتشاؤم يغذيه قصور فرنسا الاجتماعي والدولي والجموح الذي سوف يؤدي الى ميونيخ . يستقر إذن في القلوب وحول المدن البائسة نوع من اليأس حتى إننا لا نعجب أن يشير سينمائي روسي مثل يوتكفتش الى "الطابع الانتحاري" للسينما الفرنسية انذاك .
في إطار التعبير عن منظومة التيمات التي مثلتها ثلاثة أجيال من السينمائيين لا نستطيع الفصل بين المخرج وباقي فريق العمل الذي يضم كاتب السيناريو والحوار، مدير التصوير، مهندس الديكور، كاتب الموسيقى وقبل كل هؤلاء من وجهة نظر الجمهور، الممثلين ، فلنبدأ إذن بهؤلاء . "إن أساطير القدر وسوء الحظ سوف تتجسد في عدد من الممثلين الذين يؤثر طابعهم الدرامي بشدة في سينما تعتمد أساسا على الشخصيات . تتشكل ملامح هذه الأسطورة من خلال رقة "جابان " الفظة ، وصلافة "جوفيه " المستهترة ، وحتى طيبة 0 : "ريمو" وانسانيته (لوبرون ) ويجب أن نضيف في : المكان المناسب "ميشيل سيمون " الذي سيمثل تحت إدارة رجال مثل رينوار وفيجو وكارنيا ودوفيفييه وكلير. ومن الناحية النسائية ، حاشانا أن نستبعد "مادلين رو نو" و" ميشيل مورجان " وفي أوج الواقعية الشعرية ، "أرليتي".
علينا أن نتوقف قليلا أمام ذلك الذي كان سيزيف وبروميثيوس هذا العصر والذي عمل مع كل المخرجين الكبار، منذ جريميون وحتى أو تون _ لارا، حتى عام 1958 تقريبا قبلما ينصاع للعسل التجاري البحت ، ولنستمع الى بيير دوفيلار وهو يعرف بهذا الممثل في كتابه "السينما.. أسطورة القرن العشرين " حيث يقول : "إن جاهان يطارده القدر، القدر الحديث ،حتى أنه يبدو مثل ضباط الشرطة ، تثقله الواجبات الاجتماعية الحمقاه ومتطلباتها، أو الرغبات التي لا علاقة له بها والتي توضع في طريقه بلا رحمة ". في فيلم "طلع النهار" كما في "الوحش داخل الانسان " تبدو نوبات غضب جاهان وكأنها نتاج القدر الاجتماعي الذي يوقعه في فخه والذي يبلغ أحيانا مرتبة المأساة الاغريقية .
هل كان ثمة انقطاع ، في مجال كتابة السيناريو ، بين كتاب الثلاثينات وكتاب الستينات ؟ لنقل أن شارل سباك وهنري جانسان لم يأتيا بالشي ء الكثير للواقعية الشعرية ، غير أن ظلما شديدا وقع أولا على جان أور انش وبيير بوست (اللذين أعطاهما جان تافرنييه فرصة ثانية بعد 1975) ثم على جاك سيجور الذي أتاح لإيف اليجريه أن يعطي أفضل ما عنده من عامي 1947و2« 19 والحقيقي أن خيال جاك بريفير وميله للتغريب وتوافقات الكتابة كانت هي العناصر المؤسسة لكتابة السيناريو بشكل رائع . ولقد اتصلت بشكل حميم بمعنى الجنون والعبث اللذين لونا سينما ما رسيل كارنيه حتى أننا أدركنا فيما بعد كيف أينعت غنائية شاعر ديران "كلمات " الحارة والأخوية وتهكمه السيريالي وعشقا لكل ما هو حي. باقات من الأمل والضوء أثناء عمله مع رينوار (في فيلم جريمة السيد لانج ) ، ومع جريميون (في فيلم قاطرات )، ومع بيير بريفير (في الرحلة المفاجئة ) ومع بول جريمو (في فيلم العسكري الصغير) . هكذا كان بريفير شاعر ذلك العالم :
الواقعي والسيريا لي ،
المرعب والمضحك
الليلي والنهاري
المألوف واللامألوف
الجميل مثل كل شي ؟
هذا العالم المفعم بالحركة ، الذي ينسج من التناقضات وينزلق من الواقعية الى الحلم ، صنعا هؤلا0التشكيليون الذين يصوغون لضوء ويبنون المكان . ولنذكر لكل منهم واحدا عل الأقل من أفلامهم المتميزة : من مديري التصوير نذكر جورج بير ينال لم الحرية لنا)، بوريس كو فمان (الرشيقة ) أوجين شرفتان (وضيف الضباب )
كورينوار (نزهة في الريف ) أرسان تيرار (الصمت من ذهب ) نيكولا فاير (زينات ) روبير دوفبر (خوذة من الذهب ) كريستيان ساتراس (السيدة دو…) لوى باج (ضوا الصيف ) هنري المكان امعركة السكة الحديدا فيليب أجوستين (رقيقة ) . ومن مهندسي الديكور علينا أن نعطي مكانا هاما للازار لـ "ميرسون " الذي تأكدت سوهبته منذ بداية تعاونه مع فيدير (السادة الجدد ) ومع وينيه كلير (تحت أسطح باريس ) وقد ظل مخلصا لهما وكانت أشهر أفلامه "السوق الخيرية البطولية " . غير أن الكسندر ترونير، الذي ظل يعمل بالسينما حتى 1989، سلك درب معلما وحاز شهرة دولية : فقد اشتغل في فرنسا مع جريميون ، كارنيه واليجريه وبشكل خفي عمل في "ضوء الصيف " و"أبناء المقصورة العليا" ، وارتبط اسم ليون باوساك بالفيلم الأخير. وقد تعاون باوساك بين 1918و1956مع كلير وكارنيه . أما ماكس دوى فقد شكل مع أوتان لارا أجواء شديدة الخصوصية والحميمية كما في "شيطان الجسد". وقد توفي كريستيان برباع ذو الأسلوب الموحى قبلما
يعطي كل ما عنده كما يشي بذلك فيلم "الجميلة والوحش ".
كان لانصهار الصورة والموسيقى فعالية خاصة بفضل موريس جوبير الذي عمل مع فيجو، كير وكارنيه . وهو نفس الطباق الموسيقي الساحر الذي نجده عند جوزيف كوزما، مؤلف موسيقى أفلام رينوار، كارنيه وجريمو. وعلينا أن نذكر أيضا :جورج فان باري (المليون ) ، وينيه كلويوك (سيلفي والشبح ) موريس تيرييه (زائرو المساء) وجان فنيير (ممنوع لمس المال ).
وحيدا عن الجماليات المؤرخة ، كان لدى فرسان الواقعية الشعرية ميل عميق لأسرار النفس البشرية وثقة هائلة في الرجل وفي المرأة يشربها قلق رقيق واهتمام بالغ بالحياة المعاصرة ، وهو الذي حافظ عل أفضل ما عندهم الشيخوخة .
ربما تكون الموجة الجديدة الفرنسية هي "المدرسة " التي كان لها أكبر دوي في أنحاء العالم وذلك بفضل عاملين هامين ضمن عوامل أخرى كثيرة هما بريق المجلة التي حملت الرسالة وهي مجلة "كاييه أو سينما" والأثر الحاسم الذي خلفته الأفلام التي أخرجها منظرو المجلة من النقاد الذين تحولوا للا خراج السينمائي: تروفو، جو دار، شابرول وآخرون . ولقد كانت الستينات فترة ملائمة أيضا لهذا النوع من التجديد الذي مهد له العمل النقدي المكثف . كانت الموجة الجديدة دعوة لا مثيل لها للاجتراء على صناعة السينما بشكل مغاير.
الجودة الفرنسية في قلب الخمسينات ،كان تعبير "الجودة الفرنسية " يعني أعلى سلم إنتاج تنتظم من خلاله الخصائص التي حققت النجاح لأفلام ،"الواقعية الشعرية " ، والتي أصبحت تطبق خارج سياق سنوات ما قبل الحرب . ولقد رضت التقنية الباذخة (من اضاءة وحركة كاميرا) في خدمة الاقتباسات الأدبية التي كتبت حواراتها خصيصا لنجوم هذا العصر، وميز هذا الانفلاق النفسي والجمالي عصر الاستوديوهات الذهبي.. وقد بدأت معداتها تعاني وطأة الزمن .
إنه العصر الذي شهد تتويج أعمال كلود أوتان _ لارا (القمح قبل الحصاد، الأحمر والأسود) هنري – جورج كلوزو (ثمن الخوف ، الشيطانيات ) مارسيل كارنيه (جولييت أو مفتاح الأحلام ، تيريزراكان ) ويمون كيمان (ألعاب ممنوعة ، السيريبوا) إيف البحرية (المتعجرفون ) جوليان دوفيفييه ( ماريان أيام شبابي) وينيا كلير (الحيل الكبرى ) كريستيان جاك (فانفان لا توليب ) اندريه كيات ( كلنا قتلة ) جان – بول روشان (حالة الدكتور لوران ) أو لوى داكان (الصديق الجميل ). وعلى الرغم من أن كل فيلم في ذاته مهم ، فان مجمع الأرباب هذا منذ 1950 الى 1955 يبدو بشكر عام حبيس وصفات الماضي، غريبا عن الواقع وعن التطور العام للسينما (في ايطاليا أخرج فسكونتي ولتراني وخلليني ورو سلليني وانطونيوني في العصر نفسه أعمالا شديدة الحداثة عن طريق ثورة اللغة التي استخدموها والتي أتاحت عمقا مذهلا على مستوى الموضوعات ).
الى جانب هذه الجماعة الأكاديمية التي انصاعت للتوجيهات الحرفية الخاصة بالفاعلية وحسن الذوق ، أخرج عدد من كبار السينمائيين المتميزيين أفلاما نادرة لا يتقاطع مسارها مع مسار ملوك السينما السائدة . من بين هؤلاء جان رينوار (رقصة الكان كان الفرنسية ل ، جان كوكتو ( أورفيوس )، جاك تاتي (اجازة السيد هولوا ورو بير بريسون امذكرات قس في الأرياف ) بينما دفع جاك بيكر في فيلم "خوذة من ذهب " وماكس أو فلس في فيلم "اللذة " بالنظام الى منتهاه آخذا أفضل ما فيه . غير أن هذا العمل على الهامش أمر عسير : فلم يستطع بيكر أن يتجنب دائما اخراج أي شيء (على بابا، أرسين لوبين ) كما أدت دينامية فيلم "لولا مونتس " الباروكية الى أن يشهد أو فلس آخر روائعه وهو يشوه بشكل كريه من قبل حماة التقاليد التجارية .
من 7أ 19 حتى 1957 ، أفلت نحو عشرة أفلام من هذا الشكل العام ، كاشفين بذلك عن ستة مخرجين استطاعوا اخراج أعمال قوية ستصدين لعادات تضمن نجاح التقاليد بشكل لائق . أربعة منهم أخر جو أول أفلامهم الروائية الطويلة داخل النظام الطبيعي للانتاج ، وهم روجيه لينهارت ( العطلة الأخيرة . 1947)، الكسندر استروك (اللقاءات السيئة 1959) روجيه فاديم (وخلق الله المرأة _ 1957) ولوى مال (مصعب الى المقصلة _ 1957) . ولكن اثنين آخرين كانا قد أخرجا من قبل بشكل حرفي متجاهلين بشكل رائع قواعد المركز القومي للسينما لم تصريح التصوير، البطاقات المهنية …) وهما جان بيير ملفيل (صمت البحر _ 1947 ثم ثلاثة أفلام روائية طويلة بين 1950و1956) وأنييس فاردا (برانت _ كورت _ 1956).
كلهم يشتركون في مفهومهم الطموح للابداع السينمائي وأثر نظرية الكاميرا _ القلم فيه ( أنظر الكسندر استروك ، الشاشة الفرنسية ، ليكران فر انسيه عدد 4 14، 30 مارس 1948) . فقد اعتبروا السينما فنا ولغة ووسيلة تعبير وليست مجرد عرض أو مهنة عادية (ترأس كلود أوتان _ لارا النقابة القومية ،"لحرفيي" الفيلم ). هؤلاء المخرجون الستة يشكلون نوعا "الأباء الروحيين " للموجة الجديدة والتي لا يجب أن ينسينا تفجرها المفاجيء أنها لم تكن ممكنة بدون اجتماع ظروف عديدة مواتية .
كان عشق السينما هو فهد الموجة الجديدة . في الخمسينات ، اكتشف الاف الهواة من خلال نوادي السينما كل من ايزنشتين ، أور سون ويلز، كاول دردير والتعبيرية الألمانية وأيضا، من المعا هوين ، انجماع برجحان ، كنجي ميزوجوشي ومايكل انجلو انطنيوني. وامتلأت السينماتيك التي أسسها هنري لانجلو في كل الحفلات مثلها مثل دور العرض ذات البرنامج الأسامي المزدهرة في باريس (استوديو 28، أور سولين ، لابا جود، استوديو كاردنييه ..) وفي استوديو بار ناس ، استقبل جان _لوى شيريه في ندواته اندريه بازان وفريق مجلة ليكاييه دوسينما التي كانت موضوعاتها تعاد أو تناقش في المجلات الأخرى المتخصصة التي ظهرت أيضا بين عامي 1946و 1954 (ومنها ايماج أيه سون ، كيسينيه يوزتيف ، سينما) .
وبالتوازي ،كان التليفزيون يبحث عن نفسه ، بعيدا عن أجواء الديكورات المصنوعة التي كانت تشتم في كافة الأفلام "الكبيرة" الفرنسية . على الشاشة الصغيرة . لم تكن أهمية العمل تكمن في الحوار ولا في الكمال التقني وانما في صدق صورة أو دقة نظرة ما أو جرأة حركة مأخوذة في عرض الشارع باستخدام كاميرا 16 مللي . وعلى الرغم من أن كوداك كان قد أعد وسوق شرائط خام تسمح حساسيتها بالتصوير في ضوء النهار إلا أن الأفلام الفرنسية ظلت تصور في الاستوديوهات باستخدام العشرات من عاكسات الضوء.
ولو أن معقل السينما الراسخة قد ظل حصينا على المستوى التجاري فان جمهورا "جديدا" كان يرغب في أن يشاهد في دور العرض سينما مغايرة تختلف عن تلك التي تشق نفس طريق كارنيه _دولا نوا اللذين أصبحا من الآن فصاعدا يلهثان على أخر نفس . ومنذ بداية العقد،أثبت مخرجون لامعون للأفلام القصيرة ان الشباب ينتظرون أن يتبوأ وا أما كنهم (بيير كاست ، ألان رينيا،جورج فر انجو، كويس ماركر،جاك دومي) وتحول النقاد أنفسهم وبدورهم الى الاخراج وذلك بفضل بيير براونبرجيه الذي مول في 1956 – 1957آفلام الآولى القصيرة لجان – لوك جودار وفرانسوا تروقه جاك ريفيت ايويك رومير.. .
ثورة الميزانية الصغيرة لم يكن لهذا انتظار أن يؤدي لى تحققات فعلية و لم يتمكن هؤلاء النقاد- لسينمائيون تطبيقيا من تجنب لعائق التقني المالي والمؤسسي لذي تمثل في فوانين وعادات الوسط المهني .لحسن الحظ ، قام شابرول بالتصوير في ديسمبر 1957- يناير 1958 خارج كل اللوائح ليخرج فيلم "سيرج "الجميل بفضل ما ورثه عن زوجته من مال ويحصل على جائزة الجودة من المركز القومي للسينما وقدرها خمسة وثلاثون مليونا من الفرنكات الفرنسية القديمة غطت تكاليف الفيلم تقريبا قبل توزيعه تجاريا! ثم أعاد الكرة على الفور في فيلم "أبناء العم " وساعد ايويك رومير وجاك ريفية على القيام بعمل "برج الأسد" و" باريس ملك لنا". عندئذ هرول المنتجون وقد أغرتهم الحسابات البسيطة وائيزانيات الضئيلة (من أربعين الى خمسين مليون فرنك ) والتي تصاحبها وعود بمضاعفة الأرباح (في دور العرض ومن خلال جائزة الجودة ) وانطلقوا يساعدون المنتصر،
مانحين الشباب الامكانيات _ المحدودة – اللازمة لتصوير أول أفلامهم ، سواء كان يدعمهم تاريخ مطمئن في العمل كمخرجين للأفلام القصيرة (مثل فرانجو وريفيه ) أو كانوا يقدمون نفس "البروفيل " الذي قدمه شابرول وتروفو الناجحان (مثل جو دار، دومي ، كاست ، دونيول _فلكروز…) ولأن أفلام الموجة الجديدة تكلفتها أقل بكثير من أفلام كلوزو ، كير، كاليمون أو دولا نوا فقد استطاعت الحركة أن تنمو واستطاع المخرجون الجدد أن يحلوا محل القدامي. فا لنجاح الاقتصادي وحد0من شأنه أن يجعل ممكنا التطور الجمال .
لم تغير الأفلام الروائية انا. لى مدر اخراج جاك بيكر وكلود آوتان – لارا وهنري جورج السينما الفرنسية التي قامت عام1942، لكنها كشفت عن ثلاث مواهب جديدة قادرة على استكمال المسيرة . في 1958-1960 كان الموقف مختلفا، أولا لا`نه لم تعد هناك ثلاثة أفلام أولى فقط بل عشرات منها غطت على مدى ثلاث سنوات متتالية ناحية أخرى، اختلفت هذا الأعمال عن تلك التي سبقتنا على الفور . ليس فقط لأن المخرجين كانوا حقا جددا ولكن لأن الممثلين وكل الفنيين أيضا كانوا كذلك . ولأن المخرجين كانوا يكتبون أفلامهم بأنفسهم فقد اختفى كتاب السيناريو وكتاب الحوار زمنا من مقدمة الفيلم . وقد تخلت هذه الأفلام التي صورت ل الشارع دون اضاءة اضافية ، عن الجماليات المصنوعة في الاستوديوهات لصالح أسلوب بسيط ضعيف وواقعي. أما الموضوعات الكبرى فقد حلت محلها القصص اليومية التي تقدم على الشاشة للشباب الذين لم تعد علاقات الحب والعلاقة بالعالم وبالآخرين تشبا في شيء رمزية "الجودة الفرنسية " المتكلفة . ومع تغيير الجمهورية في البلد تغيرت السينما أيضا. لقد اهتم المخرجين الكتاب بالتعبير أكثر من اهتمامهم بكسب الجمهور، وحل الابداع الشخصي محل القواعد الدرامية المتفق عليها. أما عن دور السينما كمرآة (للواقع ) فقد عكست الموجة الجديدة جيدا عادات العصر ولكن دون ميل لطرح موضوعات اجتماعية أو سياسية .
والواقع أن هناك تيارين متميزين ، الأول ينبع من النقد والثاني من الأفلام القصيرة ، بمعنى أن أحدهما يأتي من النظرية والآخر من التطبيق والممارسة ، فمثلا أعمال وينيه (كان مخرجا للأفلام القصيرة ) أكثر ميلا للشكلانية من أعمال ترو فو، ولكن أعمال فر انجو في النهاية أقل عداوة للتقاليد من أعمال جو دار القادم من عالم الكتابة وقد كانت هناك رغبة آنذاك للمقابلة بين "الشباب الغرير" القادم من مجلة كايبه أو سينما وبين مجموعة "الضفة الغربية " لتسجيل النروق و الاختلافات السياسية بينهما، لكن التمييز لا يستقيم عندما ننظر اليه بعد مرور الزمن . فأنييس فاردا ليست أكثر التزاما من ايويك رومير ، وجان – لوك جودار مثله مثل الان وينيه رافض ومتمرد. لقد صور كل السينمائيين الفرنسيين الجدد في الشارع مثل "روسيلليني" وهم يفكرون في هيتشكوك وموكس _ فالمرجعيات تميل الى جانب هوليوود لكن الطريقة والأسلوب (واقعية جديدة ) إلا إذا ذكرنا بصورة معاكسة المهارة الأمريكية والأخلاق الروسيللينية ، لطالما تسامى هذا التأثير الروحي بشكل مهيب حيث الانفتاح الواقعي على العالم شكل من الانسانية أيضا.
فشل اقيصادي ،إرث جمالي في البداية ، كوفي ء المنتجون على جرأتهم حيث سجل فيلم "الأربعمائة صفعة " أربعمائة وخمسين ألف تذكرة دخول ، و" أبناء العم " أربعمائة وستة وعشرين ألفا و" على آخر نفس " ثلاثمائة وثمانين ألفا. وأفلام أخرى كثيرة بين مائتي ألف وثلاثمائة ألف تذكرة بدت أيضا مربحة . استمر النجاح التجاري ثلاثة أعو ام وزاد عليه النجاح النقدي الجميل . أما "اعداء" الموجه الجديدة الذين تم انتقاؤهم من اليسار غالبا وتحركوا في إطار مجلة "بوزتيف " فقد كانوا في الواقع أقلية : حتى جورج سادول وجان – بول سارتر كانوا من المؤيدين . أما أرا جون فقد كان متعصبا بحق بجو دار!
بداية ، لوحظت بعض حالات الفشل ،"العمر الجميل " لبيير كاست ، و"الهرم البشري" لجان روش عام 1999 و"لولا" لجاك دومي عام 1960) وما إن توقف خط التذاكر عن الصعود حتى بدأت الاشاعات تذكر بالأفلام الشهيرة التي أشيع عنها أنها غير جديرة بالعرض "ميرسي ناترسيا" لكامت ، "خط التسديد" ليوليه ). وسرعان ما تحول حزن المنتجين الى هلع عندما تعرض أبطال شباك الموجة الجديدة بدورهم للفشل الحاد عند تناولهم موضوعات جادة بعيدة تماما عن الصورة اللطيفة الشابة الجذابة التي روج لها مسؤولو الدعاية في أفلامهم الأولى : لم يعد لكاست وروش ودومي واستروك وريفية وروميه ر أية جماهير وحتى ترو فو (في فيلم البشرة الناعمة ") وشابرول (في فيلم "المتحذلقون ") وجودار (في فيلم "جنود الدرك ") وريفيه (في فيلم "موريل ") حققوا نقصا في العروض بشكل مقلق . لا شك أن هذه الأفلام قد امتدت لثلاثة أو أربعة مواسم لكن كل فشل كان يذكر بسابقه وكان أثر ذلك أكثر من مجرد كارثة نتجت عن طلقة طائشة . لم يعد ثمة شك في أن أفلام الموجة الجديدة كفت عن اجتذاب الجمهور وتمكن الكره المتأصل في المهنة والذق انطلق من معقله نظرا لنجاحهم من وأد الحركة في 1964 – 1965 . لم يعد ريفية ولا رومير قادرين على الحصول على الانتاج زمنا، ووافق شابرول على أسوأ التنازلات التجارية ، بينما حصل جو دار وتروفو على ميزانيات محدودة :كثر فأكثر. واستمرت مغامرة الموجة الجديدة ست سنوات .
لكن أحدا لا يستطيع انهاء تطور جمالي ما بنفس سهولة القضاء على المحاولة الاقتصادية وانتقلت العدوى الى عدد من البلدان حيث فرضت أجيال جديدة من السينمائيين نفسها في الستينات .. وميز اتصال الكلمتين تلك السينما الشابة (أو الجديدة ) التي ظهرت تباعا في ايطاليا وبريطانيا وأوروبا الشرقية والبرازيل وكندا وألمانيا … ووفقا لمدى لمعان هذه السينما (كما في ايطاليا) أو بداء تها (كما في البرازيل ) كانت الحركة تستمر أو تتوقف ، ولكن في كل مكان ، أعادت السينما التفكير في علاقتها من ناحية بالواقع ومن ناحية أخرى بالتصورات السائدة وفقا لنموذج الموجة الجديدة الفرنسية .
وقد استمرت هذه الموجة حتى يومنا هذا باستمرار انتاج شخصياتها الكبيرة : فلم يحل السينمائيون الجدد في السبعينات وفي الثمانينات محل جو دار أو شابرول أو رومير. ولم يعد "القدام" قط لمكانتهم الأولى على الرغم من أن وينيه كليمون لم يكن قد تعدى الخامسة والأ ربعين عفا عرض "الأربعمائة صفعة " كانت الصدمة إذن بلا عودة حتى وان كان تذوق القصص المحكية جيدا على طريق ترو فو أورومير ينهل من النبع البعيد في سينما الخمسينات . انه التليفزيون الذي جعل دور العرض خاوية وليس أفلام المثقفين التي قدمتها الموجة الجديدة بالعكس ، فالميزانية المحدودة تسمح اليوم أيضا للمخرجين بالتعبير بينما كانوا سيظلون زمنا طويلا غارقين في الصمت لو أنهم احتاجوا للمبالغ التي كان ينفقها من قبلهم أوتان _ لارا أو وينيه كلير لكل فيلم من أفلامهما . لقد أحدثت الموجة الجديدة بالمرور من الفن الشعبي الى التعبير النخبوي ، ولكن بعيدا عن كونها سبب هذا التغيير فقد شكلت على العكس من ذلك رد فعل يحاول البقاء في مواجهة تطور يسير في اتجاه واحد.
ترجمة: مي التلمساني (كاتبة من مصر)