تهدف هذه الدراسة إلى رصد الاتجاه الواقعي النقدي (Critical Realism) لدى كتاب القصة القصيرة الحديثة في عمان، والذين أصدروا مجاميعهم القصصية خلال الفترة من 2000 إلى 2006، وهي فترة شهدت نشاطا مكثفا في النشر، تعزز بالمشروع الذي اضطلعت به وزارة التراث والثقافة لنشر إبداعات الكتاب العمانيين، احتفاء بمسقط عاصمة للثقافة العربية، 2006م.(1) وسيتبع الباحث المنهج الاجتماعي أو الأيديولوجي؛ لتحقيق هذا الهدف، وهو المنهج «الذي يتجه لدراسة الأدب بوصفه نتاجا للواقع من خلال معطيات ومفاهيم معينة حددها الفكر الماركسي الغربي، وتطورت على أنحاء مختلفة وإن كانت محدودة بالأطر العامة لذلك الفكر.»(2)
والحقيقة أن دراسة موضوع كهذا ليس بالأمر السهل؛ لثلاثة أسباب، أولها أن مفهوم الواقعية النقدية، ذاته، لم يتبلور نقديا بما فيه الكفاية، وهناك شح في الدراسات التي تعالج المفهوم كمصطلح أدبي. نعم، إن المفهوم أخذ حظه الوافر من النقاش والبلورة في الفلسفة، والاقتصاد، ولكن الدراسات الأدبية حوله ليست بنفس القدر.(3) والسبب الثاني يعود إلى انعدام الدراسات النقدية التي تتناول الواقعية، بشكل عام، في السرد العماني، فما أنجز حتى الآن من دراسات متخصصة حول القصة، أو الرواية في عمان قليل من ناحية، ومن ناحية أخرى بعضها يتناول السرد بشكل بانورامي وتجميعي، وتوثيقي؛(4) وبعضها يقتصر على «التحليل الشكلي للبنية السردية»،(5) وبعضها لا يقوم على منهج معين، وإنما يستجيب لقراءة استرسالية غير مؤطرة.(6) أما السبب الثالث فهو أنه- حسب علم الباحث- لم يتم تناول الواقعية النقدية في السرد العماني ضمن أي سياق بحثي؛ مما يجعل المهمة أمام الباحث جد عسيرة.
والواقعية النقدية تُعنى برصد تشوهات المجتمع، بدماره وفقره، دون أن يكون لديها أمل في التغيير، فهي لا ترى أي بصيص للنور في نهاية النفق. ومن المعلوم نقديا أن هذا المفهوم يفترق عن «الواقعية الاشتراكية» التي لا تكتفي برصد تشوهات المجتمع، وإنما تؤمن بحتمية التغيير وعدم الثبات، وأن الطبقة الكادحة ستنتصر في نهاية صراعها مع الطبقة البرجوازية.(7) والواقعية النقدية ليست اتجاها معيبا، فليس مطلوبا من الكاتب أن يكون متفائلا، بالمعنى الواقعي الاشتراكي. حسبه أن يرسم لنا الواقع بعفنه وتناقضاته، دون أن يقترح علاجا لذلك، وإلا لوقع في التقريرية والخطابية، وهذا فخ وقعت فيه العديد من الأعمال الأدبية، خاصة في أواخر القرن التاسع عشر، عند مكسيم غوركي وآخرين.(8) وحسب الواقعية النقدية أهمية أن يمثلها كل من الروائي الروسي الأشهر، دستوفسكي، والروائي الفرنسي بلزاك.(9) فقد كانت أعمال بلزاك العظيمة، كما يرى جورج لوكاش، «قصيدة رثاء طويلة يندب فيها السقوط الحتمي للمجتمع الفاضل».(10) وميزة الواقعية النقدية، كما يرى الناقد والروائي الجزائري واسيني الأعرج، «تكمن في جوهرها الرافض للحلول التجارية التي يطمح المجتمع الرأسمالي إلى فرضها على الكتاب».(11) وهي تعتمد على الصدق الفني في دفاعها عن القيم الجميلة للإنسانية، وذلك عن طريق تعرية الواقع وكشف الجوانب الجائرة فيه، وشجب قواه الظالمة في اكتساحها الشرس والأحمق للبناء الداخلي السامي للإنسان.(12)
في هذه الورقة سأتناول تجليات هذه الواقعية عند كتاب القصة القصيرة في عمان من 2000 إلى 2006، وذلك عبر مستويين: المستوى الأول، مستوى القصص المفردة التي تضمنتها مجموعات مختلفة للكتاب، والمستوى الثاني، مستوى المجموعة القصصية الكاملة التي يغلب عليها الاتجاه الواقعي النقدي. وقد اخترت للمستوى الأول قصص: «رجل من طيوي» لمحمود الرحبي، و«خوض» لعبد العزيز الفارسي، و«المسمار» و«حافلة النوم» لأحمد الرحبي، و«عرق الشمس وأوراق» لسلطان العزري. أما المستوى الثاني فتمثله المجموعة القصصية «كورون..أو الماء باتجاهين» لعلي الصوافي.
أولا على مستوى القصص:
يرسم لنا محمود الرحبي في قصة «رجل من طيوي»، لوحة محزنة عن رجل فقير مدقع من قرية «طيوي» في الشرقية الجنوبية من عمان. يتفنن الكاتب في نسج خيوط الشقاء والبؤس على شخصية القصة، بما لا يدع مجالا لأي خلاص. فالمكان الذي يعيش فيه الرجل « قرية بعيدة، غارقة بين الجبال والسحب»، خالية من فرص العمل، ولا يوجد بها منافذ للحياة، فيضطر أهلها إلى العمل وجلب احتياجاتهم من خارج القرية، كما أن الوصول إليها ليس بالأمر الهين، حيث أنها تقع على سفوح جبلية حادة، ويصلها السكان «محملين بأكياس تحني ظهورهم، وهم يتسلقون الصخور». أما الرجل نفسه، الذي يستغني الكاتب عن تسميته مكتفيا بوصفه وتعريفه بما يليق بشقائه، فهو رجل أعور، يعيل أسرة تتكون من أحد عشر ابنا، إلى جانب أمهم العاطلة عن العمل. تقطن الأسرة في بيت طيني صغير، بحيث لا يجد الزوجان خلوة فيه إلا فوق السطح. يكسب الأب رزقه من تقطيع الدجاج بسوق السمك في «مطرح»، التي تبعد عن طيوي، دون شك مسافة بعيدة.
لا يقف الكاتب فقط عند رصد مظاهر الشقاء لهذا الرجل وأسرته، وإنما يختار له مصيرا يحكم به دائرة البؤس عليه؛ فالرجل الذي لا يملك إلا عينا واحدة «يضيء بها عمله مقطعا لرقاب الدجاج في سوق السمك بمطرح» حدث أن مرضت عينه هذه، فلجأ إلى مستشفى كبير في مسقط «يظهر كقصر عملاق تحيطه الزهور وتسطع الألوان من جدرانه الفارهة»، كما يصفه الكاتب بمقارنة واضحة بين عذاب الرجل وترف المكان الذي سينهب منه النور. يدخل الرجل المستشفى ليجرى له «جراحة سريعة لعينه»، وبدلا من نجاح العملية وبعث أمل جديد له، يصاب بالعمى كليا، ليخرج من المستشفى صارخا: «قلعوا عيني، يا الله، قلعوا عيني».(13)
نجد تجليات الواقعية النقدية أيضا عند القاص عبد العزيز الفارسي، في قصة بعنوان «خوض»، ضمن مجموعته (جروح منفضة السجائر). في هذه القصة، يلتقي رفيقان على مائدة «شبه مستديرة، في مطعم رخيص» بالخوض. يدور بينهما حوار فلسفي حول مواضيع مثل الثورة، والهدف من الحياة. يعلق أحدهما: «إذا لم يكن لك هدف تحيا له، فجد لنفسك هدفا تموت من أجله»، فيرد عليه رفيقه: «هذا شأن ثورتنا في فم هذه الأرض». ولا يكاد ينهي جملته، حتى يركله صاحبه ويطلب منه أن يصمت وأن لا يذكر كلمة ثورة، «هذيانك سيلقي بنا إلى جهنم الدنيا». يربط عبد العزيز الفارسي في هذه القصة بين الثورة، وبين الفقر ارتباطا بين النتيجة والسبب، ولكي يقنع صاحبه بذلك يدخل في النص مشهد عجوز «احدودب ظهرها»، ومعها ابنها يمران على صناديق القمامة، يحملان كيسا أسود، يجمعان فيه علب المشروبات الغازية الفارغة، ليبيعاها بعد ذلك الكيلو بمائتي بيسة. يقول الكاتب لرفيقه: «باختصار…ثمن الوجبة التي نأكلها، تحتاج إلى جمع أربعة كيلو جرامات من العلب الفارغة. تخيل عدد صناديق القمامة التي سينبشان فيها ليأكلا ما نأكله الآن!». مع أن الكاتب يصل مع رفيقه إلى نتيجة حتمية ومنطقية حول الثورة والجوع، إلا أن الأمر يقتصر على الفلسفة ولا يتحول إلى سرد، وهذا ما يجعل القصة أقرب إلى الواقعية النقدية منها إلى الاشتراكية، حيث لم يتدخل الكاتب واعظا ومبشرا بالثورة كحل لمشكلة الجوع(14)، بل نراه يجعل مصير العجوز وابنها ثابتا لا يتغير، ويساهم الكاتب في حله ساخرا بأن أعطى هذين الكادحين علبته وعلبة رفيقه، لينتقلا إلى قمامة أخرى.(15)
تتجلى الواقعية النقدية على نحو أعمق لدى الكاتب أحمد الرحبي في مجموعته (أقفال)، حيث نقرأ له قصتين، تمكن فيهما من تعرية الواقع على نحو ساخر ومأساوي.(16) في القصة الأولى، وعنوانها «المسمار»، يتفنن الرحبي في رسم مصير كارثي لشرطي لم يتعاون معه، أو مع الأنا الساردة، حين كان يقل في سيارته زوجته المريضة، وغاية ما طلبه من رجل الأمن أن يفسح له الطريق العام إلى المستشفى، ولكن الأخير تعنت ورفض بحجة تطبيق القانون. لا تتعلق القصة بالجدل الذي يمكن أن ينشأ حول أولية الالتزام بالقانون أو إسعاف المريض، لكنها في الأعماق تمس غطرسة السلطة أمام الكائن الأعزل، وقد نجح الكاتب في تصوير هذا العطب السياسي بكثير من الذكاء الساخر. تبدأ القصة بحوار بين رجل يقف في «عز الصيف والشمس» ليترجى شرطيا اعترض طريقه، وهو يقود سيارته إلى المستشفى ليسعف زوجته المريضة. الشرطي في سيارته المكيفة، لا يريد أن يسمع رجاء الرجل الذي يتلظى من شدة الحرارة وهو يطلب منه أن يفسح له الطريق. لا ينزلق الكاتب إزاء هذه المشكلة في شرك الخطب الأخلاقية، كما يحدث في بعض الأعمال الواقعية الساذجة، ليتحدث عن حقوق المواطنة أو واجبات السلطة، وإنما يعمد إلى أسلوب ساخر ليعمق الهوة بينهما، مستعينا بمخيلته الخصبة في نسج مصير خرافي، يقصي به الشرطي-السلطة إلى أعماق العدم.(17) يقف المواطن «أبو راس» تحت لفح الظهيرة ليسرد على الشرطي علي بن سالم، في سيارته المكيفة، نبوءته بالمصير الحتمي الذي سيلاقيه. لا يمكن اختزال هذه النبوءة الشرسة، لأن كل كلمة منها ترتبط بكارثة تسلم إلى كارثة. يبدأ مصير الشرطي باستدعائه من قبل قيادته لمراقبة حادث في مكان آخر، حيث ينطلق مسرعا، ويعترض طريقه سيل عارم، يقرر أن يجتازه رغم تحذيرات الناس له ونصحهم بعدم اجتيازه، في وسط الوادي يصطدم بتيار جارف يلقي به في جرف واسع، ثم يقلبه السيل هو وسيارته ويدور به مئات المرات فوق الصخور حتى يعلق بجذع شجرة. بعد أن يهمد السيل، يأتي رفاقه للبحث عنه، وينتشلونه قطعة قطعة، ويضعونه في كيس أسود ويعلقونه على غصن شجرة، ولكنهم ينسونه معلقا هناك مشتغلين برفع حطام السيارة. كان من الممكن أن ينتهي المصير عند هذا الحد، ولكن مخيلة «أبو راس» خصيبة بما فيه الكفاية لتجعل أحد العابرين، وفي يده «جُوَال» يجمع فيه ما سقط من حديد السيارة مضيفا إليه الكيس الأسود، ليذهب به إلى مصنع الحديد، وهناك تبدأ سلسلة من العذاب الفنتازي لا حدود لها. حيث يأخذ عامل المصنع الجوال كاملا دون أن يتأكد من محتوياته، ويلقي به في الفرن. يؤخذ معجون الحديد ليصنع منه «مسامير ملساء عريضة»، تستخدم لتنبيه سائقي السيارات في وسط الشوارع، وسيكون أحد هذه المسامير هو الشرطي علي بن سالم. يقول أبو راس: «ستحرقك الشمس كما تحرقني الآن، وستدوسك السيارات، كل يوم وكل ساعة وإلى أبد الآبدين»، ثم يتركه مصعوقا بهذا المصير، ويولي راجعا مخلفا وراءه سحابة من الغبار.(18)
في قصة أخرى بعنوان «حافلة النوم» يلتقط أحمد الرحبي مشاهد من «مرارة العيش» اليومي كما يسميها، عبر رحلة في حافلة صغيرة من نوع ميني باص. يبدأ مشهد البؤس بانتظار رجل في محطة الحافلات، تحت حرارة طقس لا تقل عن تسع وأربعين درجة، وفي غضون الانتظار يتناول فطيرة بيض من عامل آسيوي عطس فيها بما فيه الكفاية. يستقل الرجل الحافلة، ليجدها خالية من الركاب إلا من ثلاث عمائم عملاقة، لاثنين من الهنود السيخ وآخر عماني، كانوا ينوسون تحت خدر التكييف. تلتحق بالركب عجوز عمانية سمينة، «العرق يسيل من وجهها المنتفخ، وتنضح منه ملابسها الكثيرة، وكانت تبدو كمن نجا للتو من حادثة غرق»، على حد وصف الكاتب. ويتفنن الرحبي هنا بلغة ساخرة في وصف تناوس رؤوس الركاب تحت تخدير التعب والطقس والتكييف وبطء حركة الباص. تقف الحافلة مرة أخرى لتمتلئ بالركاب من مختلف الجنسيات، يكتظون داخلها، باكستانيين وأفغان وعمانيين وهنودا. وتأتي هنا أيضا لغة السخرية لتختزل مشهد هذا الاكتظاظ، يقول الكاتب «شعرت بجسدي ينكمش ويغوص إلى الأسفل حتى انحشر في أعمق زاوية، ولم أكن الوحيد من شعر بذلك، فجميع الركاب، ومعهم السائق، كانوا يعصرون أجسادهم وينكمشون على أنفسهم، ولم يكن ثمة مفر من رائحة الأجساد: رائحة استقرت في جوف الحلق وتشبثت بجدرانه». طبعا، لا يكتفي الرحبي باستخدام السخرية في تعرية مشهد «مرارة العيش» التي تعيشها الطبقة الكادحة يوميا في مثل هذه الحافلات، وإنما يمعن في تعميق مأساتهم بإنهاء الرحلة بحادثة هلكت فيها «غابة الرؤوس المتمايلة»، كما يقول، بسبب استسلام السائق للنوم.(19)
يقدم الكاتب سلطان العزري في مجموعته (تواطؤ) نموذجا آخر للواقعية النقدية، عبر قصة «عرق شمس وأوراق». في هذه القصة، يتجلى الصدق الفني لدى الكاتب في فضح الفساد الإداري المعروف بـ«نظام الواسطة» وقسوته وبطشه بطبقة الكادحين من المجتمع، الذين تعوزهم العلاقات القائمة على المحسوبية في الحصول على حقهم من الحياة الكريمة.(20) بطل القصة سعيد بن علي، جائع يعيل «تسعة أفواه جائعة»، ورد اسمه في الصحف اليومية، في أول أسماء قائمة تم تعيينها في مهنة عامل من الدرجة العاشرة، فذهب إلى جهة العمل للمقابلة الرسمية. يحرص سلطان العزري في هذه القصة على حشد كل التفاصيل التي تعري الواقع المزري الذي يعيشه هذا الرجل. فعند استعداده للمقابلة، استعار دشداشة نظيفة ومكوية من ابن عمه، الذي أقرضه أيضا خمسة ريالات ليستعين بها على الطريق، والرجل يحتفظ بنعال رخيصة للمناسبات، قد قام بخصفها ثلاث مرات، وأخرجها لهذه المقابلة، كما أنه يستخدم عطر ليمون رخيصا، معدا أصلا كعطر للسيارات. ونعلم من القصة أيضا أن الرجل قد تجاوز الثلاثين من عمره، وأن هذه المقابلة ليست الأولى وإنما سبق أن رفض طلبه في مقابلات عدة، وحين يصل المؤسسة التي سيعمل بها، ينتهره حارس المبنى ويطلب منه الابتعاد عن «سيارة العود»، بمجرد اقترابه من سيارة فارهة، ربما لمدير المؤسسة. يجري الرجل مقابلته ويغادر المبنى، وهو مطمئن هذه المرة من النجاح، لأنه قد أعد له العدة، فهم يتذكرون اسمه الآن؛ فهناك أكثر من توصية بحقه وأكثر من خروف قدم قربانا لرغيف الخبز الذي سيأكله، يقول سعيد بن علي: «اللي بيده القلم ما يكتب نفسه شقي.. أنفقت كل خرافي وعنزاتي وشياهي للحصول على الخبز، الخبز تبذل له الذبائح، الكبش أبو قرون لولد السرح يوم رجعنا من عند الشيخ الذي أعطيته الكبش الهديد وجراب تمر خلاص..». يخرج الرجل حالما برغيف الخبز، ولكن الكاتب يعد له نهاية تليق بدائرة شقائه الإنساني السرمدي، فبعد خروجه من المبنى «فجأة توقف العرق والكبش والخبز، تطايرت أوراق رطبة فوق جثة سعيد بن علي وهي تتدحرج أمام سيارة ظلت إطاراتها تصرخ…».(21)
ثانيا: على مستوى المجموعات:
إن المجموعة القصصية «كورون..أو الماء باتجاهين» للكاتب علي الصوافي، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عام 2006، من صميم الأعمال الأدبية، التي تنتمي إلى الواقعية النقدية.(22)
إن شخصيات علي الصوافي في هذه المجموعة شخصيات فقيرة، ومدمرة، ومستغلة، ومهمشة، وتنتهي نهايات سوداويةً إما بالتشرد، أو السجن، أو الإدمان. وقد وظف الكاتب في تصويره للواقع لغة ممعنة في السخرية، تقوم على التشبيه، والاستعارة، وبعض الصور العامية الدارجة. سأتتبع تجليات الواقعية النقدية في مجموعة «كورون»، وأنماط البلاغة الساخرة التي وظفها الكاتب.
تجليات الواقعية النقدية في المجموعة:
في قصة «تاكسي وغرفتان وصالة» يختزل الكاتب حياة موظفة فقيرة، يختار لها بعناية فائقة اسما من واقع الحياة البائسة في عمان، هي فخرية بنت لال مراد، كما أنه يمعن في بؤسها مكانيا، ويجعلها تسكن في شقة بحي شعبي فقير، بالمعبيلة الجنوبية.(23) والشقة ذاتها، غارقة في الشقاء، ستائرها عبارة عن (شراشف) قديمة معلقة على حبال من النايلون، وبعض النوافذ من شدة الفاقة مغطاة بأوراق الجرائد، تتكون فقط من غرفتين وصالة، ينحشر فيها ستة أشخاص، لا عائل لهم إلا فخرية التي تكسب دخلا زهيدا من عملها في أحد المكاتب العقارية بروي. ونلاحظ أن الكاتب يتفنن في نسج مظاهر الفقر على هذه الأسرة، فإفطار الصباح عبارة عن قطع من الخبز المتبقية من العشاء، ومكيف الهواء الوحيد في الشقة، الذي من فرط تداعيه «يبدأ بالهدير وإلقاء قطع الفلين» كما يصفه الكاتب، لا يعمل إلا ساعتين ونصف في اليوم، توفيرا لفاتورة الكهرباء. كما أن الدخل اليسير للأسرة، الذي تتقاسمه الفواتير، لا يتم الحصول عليه إلا بالمشقة والمذلة. تشترك في تحصيله فخرية بقطع مسافة طويلة ومكلفة عن طريق التاكسي إلى روي، وبتول، أختها الصغرى، عن طريق استجداء أصحاب السيارات عند محطات البنزين بعرض علب البخور الصفراء عليهم، ومال الله، أصغر فرد في العائلة، عن طريق العربة التي يحمل عليها أكياس الزبائن في محلات الخضار.
لا يكتفي علي الصوافي بالرصد الساخر لمظاهر الفقر على شخوصه، وإنما نجده يستبسل في الدفع بهم إلى نهايات معتمة، وقاسية. ففخرية، مثلا حين تعشق، تتورط في حب سائق تاكسي. وهي حين تقطع المسافة الطويلة من المعبيلة إلى الحي التجاري، لا شيء من مظاهر الثراء، من العمران والسيارات الفاخرة يلفت نظرها، لأنها تكون طيلة الطريق مشغولة بتأمل سائق التاكسي وحده «بنظارته الشمسية، وشاربه الدقيق، وذراعه الطويلة التي يطوق بها الكرسي الجانبي». والتصور الذي يمكن توقعه في علاقة كهذه، أن يتطور الحب بين الكادحين من نفس الطبقة إلى استقرار وزواج، ولكن الكاتب إمعانا منه في رسم النهايات المأساوية لشخوصه، يجعل من سائق التاكسي، رغم سمة الفحولة التي يخلعها عليه، خجولا، مترددا، لا يتمتع بروح المبادرة في الإفصاح عن مشاعره، ويكتفي من فخرية بمراقبتها، حتى تدخل مكان عملها، وإن حدث اتصال أعمق من ذلك فهو التقبيل أحيانا. ويترك الكاتب مصير فخرية ليبدأ باستغلالها جنسيا، من قبل الضابط العسكري المتقاعد، صاحب المكتب العقاري الذي تعمل فيه، ثم لتنتهي لاحقا إلى بائعة علب بخور عند محطات البنزين، حيث ينهي أيضا مصير سائق التاكسي الخجول بمهنته ذاتها، دون أي تطور رغم مرور الزمن.(24)
ونجد الصوافي في قصة «تلويحة الرصيف» يرسم لنا صورا مماثلة من واقع، غارق في البؤس والوحشة. «كل يمارس وحشته، وأحاديثه، وقهقهاته، كما يكره، أو يكره»، يقول الكاتب. بطل هذه القصة، رجل مجنون اسمه حامد حمد، لا يفصح الكاتب عن اسمه إمعانا في تغريبه وإقصائه عن إيقاع الحياة السائدة في المجتمع إلا في النهاية بعد أن تعتقله دورية الشرطة نتيجة صراخه في الشوارع بأن الملك سيموت، «بعد آخر مضاجعة له». من يحمل هاجسا رافضا للواقع، بترهلاته السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية لا يمكن أن يكون إلا مجنونا،حسب رؤية الكاتب في هذه القصة على الأقل. ويفيض الصوافي، كعادته في بقية القصص، في خلع لبوس السخرية على أبطاله، فحامد حمد يذرع الشوارع ملوحا للسيارات والمارة بحديدة طويلة، حاملا حقيبة على ظهره، تحت عين الشمس وهي تفرش أشعتها على صلعته الملساء» التي تعكس خرائط المدينة، بكل انحناءاتها وخباياها». ثم أن الرجل لا يتحدث إلا مع نفسه، وإذا كلمه أحد «يرفع ثوبه إلى نصف ساقيه، ويجري تاركا غبارا من الأسئلة وعيونا تركض وراءه، وضحكات تتداخل مع ضربات نعاله على اسمنت الشارع». وحتى الجمهور الذي استمع للسر الذي أباح به حامد، لم يرد الكاتب أن يجعله إلا من العاطلين والسكارى وسائقي الأجرة.
ولا ينسى الكاتب، هنا أيضا أن يتدخل في رسم المصير السوداوي لبطله، وإن كان مصيرا يتشح بالغموض هذه المرة. فلا أحد يستطيع أن يجزم بالنهاية التي آل إليها حمد حامد، لأن الكاتب يترك للقارئ تحديد هذا المصير عبر الشهادات التي اقتبسها لأحد أصدقاء الرجل، وخطيبته زينب، وأحد المارة. ورغم أن الشهادات يمكن أن تكون من مكتب التحقيقات في الشرطة، وعليه سيكون مصير الرجل إما القتل، أو الاعتقال، إلا أن كلا منهما مأساوي وغامض، يتفق مع الصورة العامة التي رسمها الكاتب لبطله من أول القصة.(25)
وأكثر ما تتجلى الواقعية النقدية عند الصوافي، في قصة « أيام كورون»، وهي نص طويل، يعتمد على تكنيك اليوميات، مما يؤكد بأنها يوميات الكاتب نفسه في ذلك المكان، وإن جاءت في سرد قصصي.(26) في هذه اليوميات، كان الكاتب بارعا في رصد ملامح البؤس والشقاء للقرية. بؤس يغرق فيه الشخوص، والمكان، والزمان. فالشخوص يمثلهم الكحالي، بفقره، وبساطته. وهو رمز للرجل القروي الكادح، الذي يرعى أسرة كبيرة من الأطفال يرمز لها الكاتب بكلمة «الفريخات»، يخرج «مترنحا من المنزل»، من شدة وطأة المسؤولية، وضيق ذات اليد، يكاد يتخطفه الناس بما فيهم الهنود، لاصطدامه بفتاة برجوازية في محل، وإسقاطه لسلتها التي كانت تحمل فيها «مقابض شعر، إصبع شفاه ماركة ديور، بطاقة تهنئة بحجم طابع بريدي، علبة ديوركس لون وردي، زوائد أظافر، محلول عدسات لاصقة». تبصق عليه الفتاة، وتنعته بالحمار، والآخرون ينتهرونه، ويزدرونه، ويسبونه. ثم يختار له الكاتب نهاية تليق بشقائه الإنساني، أو هكذا أراد أن يفهمنا، وهي وقوعه في أيدي بعض صعاليك كورون، كانوا يختبئون في مزارع «المسيبلو» يشربون زجاجات العطر، عوضا عن البيرة، التي لا يمتلكون ثمنها دون شك. ثم يتعطر معهم الكحالي، طبعا، كل يوم، ليزيل عفونة بؤسه وفقره. لم يكن الكحالي وحده، في هذا البؤس، وإنما عامة القرويين، وهم صيادون، بؤساء. ومن العبارات القاسية، التي تعبر عن تدهور حياة هذه الطبقة، وحضيض معيشتها، وصف الكاتب لهم بقوله: «بدأ المارة ينتشرون كالملاريا على الأرصفة، ويندلقون كمياه المجاري على أروقة المحلات والمنازل المجاورة». وهي عبارة، لو أن ناقدا اشتراكيا قرأها، لهاله احتقار الصوافي لهذه الطبقة الكادحة، وازدرائها بأوصاف الملاريا ومياه المجاري. ولكنني أقرأ من وراء سطورها إحساسا صادقا ومريرا بتردي حياة القرويين، وانحطاط المستوى المعيشي الذي يغرقون فيه.(27)
ويمتد وصف الشقاء الإنساني، في هذه القصة ليشمل الأيدي العاملة الآسيوية الكادحة، خاصة الهنود والبنجالية. حيث يقدم لنا الكاتب صورا مفرطة في السخرية، تفصح عن سوء حالهم، وشظف الحياة التي يكابدونها. ومع أن هذه الصور صور نمطية، متناسخة، كرستها شعوب منطقة الخليج حول هذه المخلوقات البائسة، فإنها أيضا تأتي ضمن تقنية الصوافي في تعميق صورة واقع، غارق في الوحل، والحرمان. وتبدأ سخرية الكاتب من هذه الطبقة بمشهد الكحالي وهو يركب مع أحد الهنود الميكانيكيين، ويسميه بـ«هندي المكاين»، إمعانا في تهميشه، فهو لا يذكره باسمه أو يكتفي بمهنته، وإنما يستعير له لقبا عاميا دارجا، يربطه بالمكينة ربطا آليا، لا فكاك له منه. ثم تأتي الجملة التي يصنع له فيه وصفا يثير الشفقة والضحك، يقول الصوافي: «ركب بجوار الهندي الذي كان مليئا (بالجريز والحلط) تفوح من فمه رائحة شبيهة برائحة (السيور)». وفي مشهد آخر، يصف الكاتب فيه عمال النخيل من البنجالية، وهم يخرجون مساء من المزارع، فرادى وجماعات، بعد يوم طويل من الكدح والمشقة. يقول: «كان الوقت قد قارب الغروب، وأصوات المكائن بدأت تعلو في المزارع المحيطة، وبدأ البنجاليون بمشارطهم يسيلون على الشارع وأمام المزارع، ويتكاثرون، في الممرات الفاصلة بين النخيل كبيض الصراصير». وبعض هؤلاء العمال لا يخرجون، أحيانا، من مزارعهم، ولكن لا بد أن ينالهم نصيب من سخرية الكاتب، حيث يصف مساكنهم، وهم يحرسون المزارع من الداخل بـ«أقنان الدجاج». ولا ينسى الكاتب أيضا مأساة الحرمان الجنسي الذي يعاني منه هؤلاء العمال، فنراه يختلق له صورة بالغة في الغرائبية والإيروتيكية، حيث يقدم هذا المشهد: «الشارع وما حوله قد امتلأ بالضجيج والبشر والسيارات، وببعض الأغنام القادمة من المراعي خلف المزارع باتجاه المنازل تقودها عجائز أو بنجاليون شهوانيون يركضون خلف القطيع، وعيونهم ملتصقة بمؤخرات الأغنام الصغيرة أو بمشهد تيوس القطيع وهي تعلو الشياه». ومأساة الحرمان الجنسي ليست مقتصرة على العمال وحدهم، وإنما تمتد في وصف الكاتب إلى خادمات المنازل، مثل نور حياتي، التي يصورها بأنها «تقف فاتحة عينيها الصغيرتين على اتساع الشاطئ، تسجل بخبثها والتواءاتها المشاهد المختلفة، وحركة من تبقى من الشبان بجانب الشاطئ الذي رصدت حركة امتداده كاملا من فوق السطح، لتسرده فيما بعد للخادمات في المنازل المجاورة». وهي ثرثارة، تعرف أخبار المنطقة كلها، وتنقل أسرار البيوت ومشكلاتها، من بيت إلى بيت: «تعرف لماذا انتقل الساكنون خلف المنزل، ولماذا تأخرت الجارة الثانية عن العمل هذا الصباح، ومن زار الجار الرابع، وكيف وجدت بنت الجيران مع البنجالي في عربة الحمير تحت تلال من (القت)».
ويعمد الصوافي أحيانا إلى خلق صور كاريكاتورية لضحاياه من الهنود والبنجالية، واضعا إياهم في أطر ثابتة، لا تتزحزح، ويصعب تفريغها من فكرة الهجاء الاجتماعي اللاذع، الذي يمارسه على العمال العمانيين أيضا، كما سنرى في قصة الداموكي لاحقا. لنقرأ هذا المشهد لأحد البنجالية في كورون: «أما البنجالي الذي يقود العربة فينحشر في المقدمة ماغطا يده بعصا طويلة يهرش بها ظهره، أو يضرب بها مؤخرة الحمار كلما تباطأ أو غير مساره، مؤرجحا رجليه من فوق العمود الذي يربط الحمار بالعربة الخشبية المثبتة على إطاري سيارة قديمين، وقد يحدث أحيانا أن يتسمر الحمار في منتصف الطريق، أمام السيارات، التي تمر بالشارع العام، فتعلو أصوات الأبواق أو السباب الذي يلقي به السائقون من نوافذ السيارات، وقد يتطور الأمر إلى ضربة عابرة على رقبة البنجالي الذي يلوح برأسه، ثم يلقي ببصقة حمراء مخزنة بين أوداجه المنفوخة خلف السيارة».(28)
مثل هذا النص يعج بصور، قد تبدو من أول وهلة أنها مادة للتسلية والفكاهة، يلجأ إليها بعض الكتاب لإضحاك القارئ، وقد يتحقق هذا الهدف عرضا في هذه المجموعة التي متى قرأتها لا تملك نفسك من الضحك. ولكنها في العمق تنطوي على نقد لاذع للمصير العبثي الذي يتورط فيه الكائن. وقد يتلقف مثل هذه الصور بعض المشتغلين بالدراسات المقارنة، لتشكل لهم مادة دسمة في نقد الصور العنصرية والاستعلائية التي تكونها بعض الشعوب تجاه شعوب أخرى، ولكني أقرأها في سياق مختلف، سياق أشرت إليه منذ بداية هذه القراءة، وهو أن الصوافي يمعن كثيرا في رصد تشوهات المجتمع بأسلوب ساخر، يسعى من خلاله إلى إبراز فظاعتها وقسوتها، دون أن يكون بالضرورة في ذلك يصدر عن اتجاه عدواني تجاه طبقة أو جنس. والدليل على هذا أن جميع شخوصه في هذه المجموعة، عمانية كانت أو غير عمانية، يجلدهم بسياط لاذعة من السخرية، والنهايات المدمرة.(29)
في قصة «الزمزمية» يستأنف الكاتب منهجه في التعامل مع الواقع، وهو خلق شخصيات من الطبقات الفقيرة المعدمة، يصور مآسيها ببلاغة ساخرة، ثم يسوقها إلى مصيرها العبثي. القصة بطلها طالب مدرسي، ينتمي إلى أسرة كادحة، تفرط في وصاية ابنها وتهديده بالضرب، إن أضاع أيا من لوازمه المدرسية، والتي دون شك قد كلفتها مبلغا غاليا من دخلها المتواضع، ومن هنا تبدأ المأساة. يتحرك المشهد في وصف الفصل الدراسي الضيق الذي لا يتسع لنصف التلاميذ الذين انحشروا فيه. يقضي الولد كل يومه الدراسي في مراقبة أدواته، حتى لا تسرق منه، ويتعرض للعقاب. ويصر الكاتب هنا على سرد تفاصيل دقيقة، حرصا منه على تعميق بؤس الحياة التي يعيشها بعض تلاميذ المدارس. فالحافلات يتكدس فيها الطلاب «وقوفا أو جلوسا، كما أن بعضهم يتعلق بالنوافذ المسيجة بأسياخ حديدية محكمة، مخرجين رؤوسهم من بين الأسياخ كالمساجين». وتلعب السخرية مرة أخرى في تأزيم المشهد، حيث نعلم أن الولد يحرص أيضا بوازع من والديه على عدم اتساخ دشداشته الجديدة، التي ستكون سببا في هلاكه لاحقا. تتطور الأحداث بأن يركض الولد، بعد انتهاء اليوم الدراسي، ليلحق بالحافلة، وحين يصل، يتذكر زمزميته، التي نسيها في الفصل، يترك حقيبته، ثم يرجع ليستعيد الزمزمية، وحين عاد لم يجد الحقيبة، وفي غمرة التفكير بالعقوبة البيتية، ينسى وهو نازل من على السلم أن يرفع دشداشته الجديدة، فيتعثر ويسقط، وهنا يستبسل الكاتب في وصف النهاية، بتفاصيل مؤلمة، يقول:» فسقط….و سقطت النقود المعدنية، خمسون بيسة، وخمس وعشرون بيسة وعشر بيسات لامعة من المحفظة التي كان يضعها في جيبه، وسقطت زمزمية الماء التي كان يعلقها على رقبته، سال الماء على الدرج، ثم على أرضية الممر، وسال الدم من أنف الولد بعد أن ارتطم بالعمود الجانبي للسلم. سال الدم والماء باتجاهين منفصلين، ثم اختلطا عندما اصطدما بحائط غرفة المدرسين».(30)
إن علي الصوافي بهذا الوصف يحسن، التقاط مفردات العذاب من الواقع اليومي لشخصياته، فدلالة البيسات التي سقطت من جيب الطفل وهو يسقط على درجات السلم، عميقة، وتخلع على المشهد برمته هالة من القسوة التي يمارسها الكاتب في انتقاده لهذا لواقع. ولا أحسبه هنا يستدر عطف القارئ للتعاطف مع الطفل، بقدر ما يستثير نقمته ورفضه لعالم تغيب فيه العدالة الاجتماعية، ويستفحل فيه الفقر.
ومن المظاهر الفاسدة للواقع، التي يلفحها الكاتب بنيران نقده وسخريته، البيروقراطية في العمل، واستبداد مديري العموم، وقمعهم لصغار الموظفين، حتى في حالة الإبداع والتطوير للعمل. ويتجلى ذلك في شخصية ناصر بن سعيد بطل قصة «المنبه على الطاولة»، الذي رفع للمدير العام في عمله «اقتراحين يشكلان دراستين مكتملتين لتطوير العمل»، ولكنه تجاوز مسؤوله المباشر، لأنه كان في إجازة سنوية، فتلقى جلسة تأديبية نقل بعدها مباشرة من دائرة الموارد البشرية إلى قسم الأرشيف، ويقوم المدير العام بسرقة المشروع الذي اقترحه ناصر، والمشاركة به في مؤتمر خارجي حول تطوير العمل. ورغم أن مشكلات البيروقراطية، والمحسوبية، والاستبداد في العمل، من قضايا الفساد الإداري التي استهلكت على مستوى السرد في عُمان، إلا أن الأسلوب الذي انتهجه الصوافي في انتقادها وتعريتها، يقوم على المفارقة والسخرية، مما يميزه عن أسلوب التسجيل والنقل لمباشر.(31) نلمس ذلك من خلال المشهد الذي يصور فيه الكاتب شخصيته ناصر بن سعيد، بداية من نهوضه من النوم متخاذلا في الصباح، يفرقع عظام أصابعه، وظهره، ورقبته، ويرمي منبهه من النافذة ليسمع حطامه في الشارع، رفضا لزمن مترهل، ليله كنهاره، ونهاره كليله، يضيع فيه الإنسان مهما عمل وشقي. يستخدم الكاتب لغة لاذعة وساخرة، في انتقاد هذا الترهل والعبث، حيث يظهر ناصر، صاحب مبادرة التطوير والنهوض بالعمل والأداء الوظيفي، رجلا سطحيا يفرط في الاعتناء بالمظهر والشكليات، فهو ينتصب أمام المرآة يوميا ليلبس «مِصرّه» (عمامته) الذي يحرص أن يكون بلون تطريز «الدشداشة»، كما يراعي أن يكون «مشدودا بإحكام مبرزا الجزء المثلث من الخلف، والذي يتدلى كأذن الكلب».و في طريقه إلى العمل يقوم بتجاوز السيارات يمينا ويسارا، ليصل في الوقت المحدد دون تأخير. وحتى عندما يصل إلى العمل، فلا بد لناصر أولا من دخول دورة المياه ليتأكد من أن مظهره على ما يرام، وأن أظافره مقلمة، والدشداشة من حدودها المكوية مشدودة، وأن طربوش دشداشته مازال معطرا، وهو يحمل في جيبه ربع «تولة» عود ليجدد العطر فيها من حين لآخر. وحين يحرص الكاتب على هذه التفاصيل، فهو دون شك يعتمد على المفارقة ليقدم نقدا لاذعا ومريرا للواقع الذي ينتمي إليه ناصر بن سعيد، فهاهو الرجل قد استوفى المتطلبات الدقيقة لمجتمع يقدس الشكليات، ويزن الناس بموازينها، ومع ذلك لم يشفع له مظهره، كما لم يسعفه مخبره، حين فكر وسعى إلى تطوير عمله. وهكذا يجعل الكاتب من شخصية ناصر رمزا للإنسان الكادح الذي يضيع جهده، مهما حاول الانسجام مع مجتمع يهيمن عليه العبث واللاجدوى.(32)
لا يكاد يخرج الصوافي في مجموعته هذه عن خط المواجهة، مواجهة الدمار الذي يحيق بالطبقات الضائعة في المجتمع، لكنها مواجهة تتجنب الوعظ والإرشاد، وتلمُّسَ الحلول. لا حلول لديه، فهو كما أشرت سابقا ليس واقعيا اشتراكيا يؤمن بانتصار المسحوقين والمظلومين، ولا يعطيهم مساحة في حكاياته وسرده نحو الأمل والمستقبل المشرق. يكتفي بنقض خيوط الخراب الذي يحاصرهم ليجعلهم عراة أمام الله والخلق.(33) وفي قصة «الكرسي» يظهر لنا أحد شخوصه المدمرين، ويقدمه لنا عاطلا عن العمل، والاسم، والمكان هذه المرة. رجل بلا هوية، وإن كان من صنيع الواقع. يشير إليه الكاتب بضمير الغائب «هو»، ويتفنن في وصف ملامحه، بشكل يليق بتشرده وضياعه، فقد كان «يتهدل على الكرسي بشكله القديم، وعينيه المترقبتين، نافضا فخذيه وساقيه الناشفتين، واضعا كفه المرتعش ما بين شفته السفلى ومقدمة أنفه الملتف نحو الجهة اليسرى قليلا». ويقول عنه أحيانا: «ألتفتُ نحو الكرسي لتواجهني دمعتاه المتعبتان، ودشداشته المتكلسة من شدة العرق، وإصبعاه المفتوحتان اللتان أشهرهما في وجهي ليشير إلى رغبته في التدخين، فمغط يده النحيفة جدا والتي بدت أشبه بعصا (الروغ)، كانت يده خالية من الشعر، لذلك كان بإمكاني أن أحصي عدد العروق ومساراتها، التي كانت أشبه بأنابيب صغيرة وملتوية يسهل كسرها أو شدها أو برمها». ما من هوية للرجل عدا هذا البؤس والضياع، وما من قضية لديه سوى الحصول على «فليت مال وطية»، أو ملمع الأحذية، ليشمه ويخفف من وطأة ثقل العالم على صدره، وكما حدث مع الكحالي سابقا حين تعاطف، الكاتب، أو الأنا السارد، معه بزجاجة عطر باكستاني، يتكرر المشهد هنا أيضا بأن يشترك الحاكي مع المحكي عنه في شم ورقة مبللة ببخاخ الأحذية، ليضحكا معا من العالم، ويغوصا في زحام الهنود والعمانيين والأطفال، الذين كانوا «يجرون عربات تفيض منها كراتين وعلب فارغة».(34)
إن من الشخصيات المحورية في مجموعة «كورون» شخصية الداموكي، الذي أفرد له الكاتب قصة «الماء باتجاهين». والداموكي يجسد شخصية «البيدار» المعروف في كثير من مناطق عمان، وهو كما يصفه الكاتب بعبارة ساخرة «حارس الفلج وذكر النخيل، ما من ساقية إلا وفرش عليها يديه الشبيهتين بـ(مغراف الضيفة)، ما من نخلة إلا وعرفت لقاح الداموكي». والصورة التي رسمها الكاتب للداموكي، ومن معه من القرويين البسطاء، صورة كاريكاتورية، تنطوي على السخرية والشفقة. وقد استغل الصوافي كل إمكانياته، من ذكريات قروية، وإتقان للهجة الدارجة، ومعرفة عميقة بالنسيج الاجتماعي المتشابك، في رسم هذه الصورة. ومن يقرأ هذه القصة يستبد به الضحك، من جراء الأسلوب الفكاهي الذي يجريه الكاتب على ألسنة شخصياته. ولكنه في الحقيقة «ضحك كالبكا» كما يقول المتنبي. والقراءة العميقة للقصة، تجعلنا نستبعد فكرة أن الصوافي قد قدّم البيدارَ، ومُحفّظ القرآن، والمؤذن، وشخصياتٍ أخرى من قريته قرابين للتسلية، يُضحك بهم قُرّاء مترفين في مسقط. فالداموكي، وإن بدا في صورة الفحل «الذي ينثر طلعه مع بداية الموسم حتى على الجدران، كل نبتة على امتداد الفلج وفي بطون الضواحي لها لمسة بعيدة أو قريبة» من يده، إلا أنه أيضا على المستوى الاجتماعي، وحيد، ويعاني من الحرمان، ويكون أضحوكة للأطفال في الطرقات. ولعل الفقرة الآتية من القصة، تعبر عن مدى الحرمان الجنسي الذي يعاني منه «ذكر النخيل» في القرية. يقول الكاتب:»و يبدو أن الداموكي لكثرة ما لقح النخيل فإن رائحة الطلع تدفعه أحيانا إلى أن يعمد إلى طلوع بعض النخيل على الممر المحاذي (للمجازة)، أو على إحدى الضواحي المجاورة بنية تشذيب النخل، ولكن ما إن يصل إلى الأعلى ويفتح قدميه على اتساع مساحة الإزار حتى يسمع له فحيح كفحيح الثعبان، وهو يتلصص على البنات، وهن يكركرن في المجازة، ويقرص بعضهن بعضا من الأفخاذ، فيسيل لعابه على حواف شفتيه، وعلى ذقنه الطويلة الناعمة كما لو أنها مكنسة».(35)
وهكذا يمضي الصوافي في هذه القصة، يقدم لنا صورا للبسطاء من القرويين، في ظاهرها الفكاهة والدعابة، وفي باطنها من قبلها العذاب. وصورة معلم القرآن الضرير، مثلا، ليست ببعيدة عن صورة الداموكي. فهو من الشخصيات التي تكالبت عليها مكائد الصبية، والوحدة، والحرمان، حتى وإن أسبغ عليها المؤلف لبوسا من المرح والفهلوة.
إن اللغة الساخرة عند الصوافي، تكون أحيانا درعا تتحصن به شخصياته ضد عنف الواقع، وعبثيته.(36) وما الفكاهات البليغة التي يقذفها الداموكي، أو معلم القرآن الضرير، أو باعة السمك، في وجوه من يستفزهم من الكبار والصغار، إلا أمثلة على هذا التشبث بالسخرية في مواجهة العجز، والعوز، والوحدة، والحرمان. كما أن السخرية عند الكاتب، تتغذى أحيانا على المفارقة، إمعانا منه في كشف العُوَار، والفقر، الذي يعاني منه المجتمع، فبائع السمك الذي وصفه في قصة «حمدون أو حديقة الشمس» بأن له كرشا «تشبه حوض الأسماك»، نراه يخف في مطاردة قطة اختلست منه سمكة، ويلاحقها في أزقة «مطرح»، ليسترجع سمكته المفتتة من فمها.(37)
إن السخرية ودلالاتها العميقة عند الصوافي تمتد أيضا إلى أسماء الشخصيات. فهو يضفي على شخوصه أسماء يختارها بعناية وحرص شديدين، لكي تكتمل عليها دائرة البؤس، ولا يبقى لديها منفذ منه حتى في الاسم. أسماء هي مثل حماديه درّاجة، محمود ود متوه، صالوح عسكر النايب، حمدان ود الحمر، أحمدوه، محينوه، لولوه السمرا، شنونه، سلاموه، الداموكي، عبيد ما شاء الله، ود الشاروخي، سعدون الطناف، يعقوب الزمعي، حمدان ود النار، شواخ، سلطان كشخة. مثل هذه الأسماء التي قُدّتْ من صميم البؤس الاجتماعي العماني، لم تأت اعتباطا في مجموعة «كورون» وإنما اختارها الكاتب عن إصرار وسبق ترصد، ليحكم بها قبضته على واقع يفيض بالمشردين، والمسحوقين، والمحرومين.
الخاتمة
سعت هذه الدراسة إلى رصد تجليات الواقعية النقدية في القصة العمانية الحديثة، وخلصت إلى النتائج الآتية:
– تتجلى الواقعية النقدية، بمفهومها القائم على تعرية الواقع ورصد تشوهاته، في القصة العمانية الحديثة على مستويين: مستوى نماذج قصصية متفرقة من مجموعات مختلفة، ومستوى مجموعة بأكملها.
– تمثل مجموعة «كورون» للقاص علي الصوافي صميم الواقعية النقدية، لغة، وأسلوبا، وموضوعا.
– تركزت موضوعات القصص، التي شملتها الدراسة، على نقد تفاصيل الحياة اليومية في الواقع، مثل: الفقر، والمحسوبية، والحرمان، والفساد الإداري، والاستبداد، والإقطاعية، والتخلف.
– ابتعد كتّاب القصة عن أسلوب التسجيل، والنقل المباشر، للأحداث، مما يؤخذ غالبا على الأعمال الواقعية الساذجة، واستخدموا عوضا عن ذلك تقنيات قصصية حديثة، تقوم على الحوار، والفلاش باك، واليوميات، وإفساح المجال للشخصيات لأن تصف سلوكها بنفسها، دون تدخل من الكاتب بتقديم أوصاف جاهزة لها.
– غلب على الأعمال القصصية التشاؤم، ولكنه تشاؤم مقصود، ليس اعتباطيا، يهدف إلى ضرورة التغيير والتطوير، دون الوقوع في فخ المواعظ الأخلاقية، والخطب السياسية، والتبشير بالجنة.
– هيمن على لغة القصص أسلوب السخرية، والهجاء الاجتماعي اللاذع، بشكل ساهم في تعميق تعرية الأوضاع الاجتماعية المعطوبة، بغية تغييرها والتقدم بالمجتمع نحو المستقبل.
الهوامش
1 – بلغ عدد المجاميع القصصية التي نشرت خلال الفترة من 2000 إلى 2006 حوالي أربعين إصدارا.
2 – ميجان الرويلي، وسعد البازعي، دليل الناقد الأدبي (بيروت: المركز الثقافي العربي، 2000) ص. 253.
3 – تتوفر قواعد البيانات الإنجليزية على كم هائل من الكتب، والدوريات العلمية، ورسائل الماجستير والدكتوراة، حول الواقعية النقدية ولكنها تقتصر على حقلي الفلسفة، والاقتصاد، أما ما يتعلق بمعالجة هذا المفهوم في الأدب والنقد، فهو للأسف جد قلبل، وسنشير إليه في هذه الدراسة حسب الاحتياج إليه.
4 – انظر على سبيل المثال: شبر بن شرف الموسوي، القصة القصيرة في عمان من عام 1970 وحتى عام 2000م دراسة فنية موضوعية (مسقط: وزارة التراث والثقافة، 2006).
5 – انظر على سبيل المثال: آمنة الربيع، البنية السردية للقصة القصيرة في سلطنة عمان 1980-2000 (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2005). وانظر أيضا: مجموعة من الكتاب، قراءات في القصة العمانية المعاصرة (مسقط: المنتدى الأدبي، 20006).
6 – يمثل هذا النوع من الدراسات دراسة الدكتور أحمد الشتيوي، كما يعترف بذاته في مستهل الكتاب «و لما راودتني فكرة الجوس في دنيا القصة العمانية لم يكن قد ترسخ في ذهني خط أتبعه ومسلك أتخذه. وإنما كنت أستجيب للقراءة تدعوني، ولغواية النص تأسرني.» انظر: أحمد ساسي الشتيوي، جدلية الزمان والمكان في القصة العمانية، دراسة تتناول القصة العمانية من 1974م إلى 1998م (مسقط: جامعة السلطان قابوس، 2004)، ص. 9.
7 – انظر للتفريق بين الواقعيتين، إبراهيم السعافين وخليل الشيخ، مناهج النقد الأدبي الحديث (عمّان: جامعة القدس المفتوحة، 1997) ص105. في الرواية العربية، نجد صدى الواقعية النقدية بارزا في أعمال نجيب محفوظ؛ ولذلك فإن الناقد عبد المحسن بدر- منطلقا من منهجه الواقعي الاشتراكي- انتقد محفوظا في رواية «زقاق المدق» نقدا لاذعا، فهو يرى بأن نجيب محفوظ ثبت الطبقة في هذه الرواية تثبيتا مطلقا لا يريم، وإذا حدث تغير في مصيرها فهو إلى الأسوأ دائما، يقول:»و كل تغير في رواية زقاق المدق هو تغير إلى الأسوأ. أو ليس غريبا أن يتحول المعلم «كرشة» من ثائر مناضل وطني، يمارس العنف الثوري ضد جنود الاحتلال، إلى تاجر حشيش شاذ جنسيا وسمسار انتخابات.» كما يرى عبد المحسن بدر أيضا أن محفوظا جعل جميع البشر مقهورين، وإن اختلفت أسباب القهر لديهم، يقول: «و قد ادخر المؤلف لأغلب شخصيات الزقاق ضربة قاسية أعدها لكل شخصية منها بعناية بالغة ليدفع بها إلى الموت أو إلى الخراب، حميدة تتحول إلى عاهرة، ويتحول عزاؤها في حب القواد إلى سراب، حتى لتغري الحلو باغتياله، وأعد المؤلف للحلو هذه الميتة القاسية وهو المسالم طول حياته. وأسلم زيطة والدكتور بوشي للسجن، وأوشك أن يصل بسنية عفيفي للجنون بعد أن اكتشفت مصدر طقم الأسنان الذهبي الذي ركبه لها د. بوشي..الخ». انظر: عبد المحسن طه بدر، الرؤية والأداة: نجيب محفوظ (القاهرة: دار المعارف، 1984)، ص. 338، وص. 353.
8 – يرى شكري عياد بأن أدب الواقعية الاشتراكية، خاصة عند مكسيم جوركي، غلبت عليه فكرة «البطل الإيجابي» و«الدعاية السياسية». انظر: شكري محمد عياد، المذاهب الأدبية والنقدية عند العرب والغربيين (الكويت: عالم المعرفة، 1993)، ص 177.
9 – يقول جورج بيكر: «الواقعية النقدية توجد عند بلزاك، وفلوبير، وتورجنيف، وتلستوي، وفي الحقيقة، توجد في أي عمل يصف سلوك المجتمع البرجوازي، ويفضح مظاهره القبيحة والقمعية.» انظر:
George Becker, ed. Documents of Modern Literary Realism. 2nd ed. (Princeton: Princeton University Press, 1967), p. 21.
10- جورج لوكاش، دراسات في الواقعية الأوروبية، ترجمة أمير اسكندر (القاهرة: الهيئة المصرية للكتاب، 1972) ص 46.
11- واسيني الأعرج، النزوع الواقعي الانتقادي في الرواية الجزائرية (دمشق: منشورات اتحاد الكتاب العرب، 1985) ص 15.
12- محمد كمال الخطيب، وعبد الرزاق عيد، عالم حنا مينه الروائي (بيروت: دار الآداب، 1979) ص 150. يرى عبد المحسن بدر أن أول صورة للواقعية النقدية ظهرت في مرحلة الرومانسية، أي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وكان طبيعيا أن يجد الرومانسيون مجالهم في الشعر في حين وجد الواقعيون مجالهم في الرواية، و«و تأثرت أول صورة من صور الواقعية بالثورة على التقاليد ونقد المجتمع مما جعلها أكثر ميلا إلى التركيز على جوانب النقص في الطبيعة البشرية وصبغها بصبغة تشاؤمية.» انظر: عبد المحسن طه بدر، الروائي والأرض (القاهرة: دار المعارف، 1979)، ص 22.
13- محمود الرحبي، بركة النسيان (مسقط: وزارة التراث والثقافة، 2006)، ص15-18.
14- رغم تحمس الدكتور واسيني الأعرج للواقعية الاشتراكية ودفاعه المستميت عنها، فإنه يقر بأن أشهر الروائيين العرب الاشتراكيين قد سقطوا في فخ الخطابية والتقريرية، فهو يقول عن الطاهر وطار بأنه «سقط في مواقع كثيرة في المباشرة التي تعني اللافن، وفي الخطابة، والنزعة التعليمية»، ويقول عن الروائي السوري حنا مينه: «و حنا مينه على عظمته لم ينج من حبائل المباشرة والتعليمية». واسيني الأرج، الأصول التاريخية للواقعية الاشتراكية في الأدب الروائي الجزائري (بيروت: مؤسسة دار التاب الحديث، 1986)، ص 184.
15- عبد العزيز الفارسي، جروح منفضة السجائر (الأردن: دار الكرمل، 2003) ص 36-39.
16- ترى ليلاند مي أن هناك تلازما بين الواقعية النقدية والسخرية، خاصة في أعمال الروائية الإنجليزية جين أوستين. يظهر هذا التلازم على مستوى «الفاصلة، والكلمة، والجملة، مضيفا لونا، وقوة، وبهاء، لكتابتها.» انظر:
Leland Chandler May, Parodies of the Gothic Novel (Doctoral Thesis, Oklahoma State University, 1969), p. 36
17- تجنب الكاتب للوعظ الأخلاقي في سرده، يكاد يكون سمة تطبع الأعمال ذات الاتجاه الواقعي النقدي. وفي هذا السياق، خلص واسيني الأعرج إلى أن القصة القصيرة في الجزائر أيضا نجت من فخ السقوط في المثاليات والدروس الوعظية، التي تخفي وراءها دون شك «ضعفا كبيرا وقدرة محدودة في فهم جوهر الواقع الاجتماعي». واسيني الأعرج، النزوع الواقعي الانتقادي، ص.46.
18- أحمد محمد الرحبي، أقفال (مسقط: وزارة التراث والثقافة، 2006) ص 7-10.
19- المرجع السابق، ص 35-38.
20- يقول فيصل سماق: «الفن الواقعي حين يقدم صورة صادقة عن الحياة، فإنه بشكل حتمي سيكون ناقدا للواقع البرجوازي. فالتصوير الصادق يعني التعرية لهذا المجتمع وفضحه». فيصل سماق، الواقعية في الرواية السورية (دمشق، 1979)، ص. 24.
21- سلطان العزري، تواطؤ (مسقط: وزارة التراث والثقافة، 2006) ص 8-11.
22 – علي الصوافي، كورون..أو الماء باتجاهين (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2006).
23- يحرص الصوافي في مجموعته، وفي هذه القصة بالذات، على ذكر تفاصيل الأمكنة، مثل رقم الشقة، اسم الشارع، اسم الحارة، الخ…و هذا يذكرنا بأسلوب كبار الواقعيين الغربيين مثل بلزاك، فقد كان من مظاهر الواقعية عنده، كما يؤكد إي. بريستون دارجان، «رحلاته باحثا عن الصبغة المحلية لأعماله، وتحمسه الواضح في الحصول على المنزل الصحيح، والشارع الصحيح، واسم الشاهد الصحيح، الخ..». انظر:
E. Preston Dargan, “Studies in Balzac. II. Critical analysis of Realism”, Modern Philology, vol. 16. No. 7 (Nov., 1918), pp. 351-370. (p. 88).
24- علي الصوافي، كورون..أو الماء باتجاهين، ص 7-12.
25- المرجع السابق، ص 13-18.
26 – يسلم نجيب العوفي بأن «القاص-الكاتب ليس هو الراوي كما ليس هو الشخصية القصصية بالضرورة. فلكل من هؤلاء هويته الخاصة وكل منهم مستقل ومتميز عن الآخر.»، ولكنه يؤكد أيضا بأن تسليمه بهذا « لا يعني انبتات الصلة بين الأطراف الثلاثة (القاص-الراوي-الشخصية)، ولا انعدام التطابق والتوافق بينها». انظر: نجيب العوفي، مقاربة الواقع في القصة القصيرة المغربية من التأسيس إلى التجنيس (بيروت: المركز الثقافي العربي، 1987)، ص. 504.
27- يحاول بعض النقاد، الذين يتبنون الواقعية الاشتراكية، إملاء تصوراتهم للأدب على الكتاب، فعبد المحسن طه بدر في نقده لرواية «جيل القدر» للروائي السوري مطاع صفدي، لم يكتف بتحليل الرواية، وإنما اقترح على الكاتب تجنب التشاؤم والسوداوية في صنع أبطاله، يقول: «هل جرب مطاع مرة أن يجلس على المقهى وليس في جيبه ما يكفي لدفع ثمن كوب من الشاي، وفي وجهه صفرة من لم يذق الطعام منذ الصباح، وهو مع ذلك يحاول الابتسام لرفاقه ويتناقش معهم في قضايا السياسة والأدب، أو لم يلتق مطاع بهذه البطولات الحقيقية لأبناء هذا الجيل أم أنه حين التقى بهم رفضهم كما رفض الواقع كله على اعتبارهم ظواهر تافهة تمنع تفكيره الميتافيزيقي في الحرية المثالية لذاته من الانطلاق إلى آفاقه الهلامية الغامضة!!». انظر: عبد المحسن طه بدر، حول الأدب والواقع دراسة تطبيقية (القاهرة: دار المعرفة، 1971)، ص. 97.
28- المرجع السابق، ص 19-35.
29- من الصدق الفني في الأعمال الواقعية، أن يلجأ الكاتب إلى السخرية من خداع الواقع وتناقضاته، وكما يقول جورج لوكاتش: «الجسارة في إعلان هذا الخداع هي الصدق الأكيد». انظر: جورج لوكاتش، الرواية التاريخية، ترجمة صلاح جواد الكاظم (بغداد: منشورات وزارة الثقافة والفنون، 1978)، ص. 13.
30- المرجع السابق، ص 37-39.
31- دون شك، فإن مجرد تسجيل الأحداث ونقلها من الواقع يبتعد بها عن روح الفن، وهذا ما جعل الناقد الأميريكي رينيه ويليك يصب جام غضبه ونقده اللاذع للواقعية بشكل عام، حيث يقول: « لكن مآزق الواقعية لا تكمن في تقاليدها المتعنتة فحسب، وفي ما تقصيه من أمور بل في الخوف من أن تنسى، اعتمادا على نظريتها، التباين بين الفن ونقل المواعظ العلمية.فالروائي عندما تحول إلى عالم اجتماع أو إلى داعية سياسي أنتج فنا روائيا مملا، لأنه قدم سلعة ميتة وخلط بين الرواية والريبورتاج والتوثيق. لقد انحدرت الواقعية في مستوياتها الدنيا إلى صحافة، إلى أطروحات، إلى وصف علمي، وباختصار إلى لا فن.» انظر:
Rene Wellek, Concepts of Criticism (New Haven: Yale University Press, 1963), pp. 254-255.
32- المرجع السابق، ص 61-68.
33- يتحدث جورج لوكاتش عن «الواقعيين الكبار» في عصر الرأسمالية، ويرى بأنهم «قد تحتم عليهم، من حيث هم مصورون صادقون للواقع، أن يتخلوا بصورة حاسمة عن تقديم عرض للحياة الجميلة والانسجام المنسجم. وقد استطاعوا، إذا أرادوا أن يكونوا واقعيين كبارا، أن يصوروا الحياة المتنافرة الممزقة، الحياة التي تسحق كل ما في الإنسان من عظيم وجميل بلا رحمة، بل تفعل ما هو أسوأ من ذلك، تمسخه داخليا وتفسده وتشده إلى القذارة. وكانت النتيجة النهائية التي وصلوا إليها أن المجتمع الرأسمالي مقبرة كبيرة للأصالة والعظمة الإنسانيتين الصريعتين.» انظر: جورج لوكاتش، دراسات في الواقعية، ترجمة نايف بلوز (بيروت: المؤسسة الجامعية، 1985)، ص. 15.
34- المرجع السابق، ص 69-71.
35 – المرجع السابق، ص 73-94.
36- حول أهمية السخرية، ودورها في النص الأدبي، انظر:
Wayne C. Booth, A Rhetoric of Irony (Chicago: University of Chicago Press, 1975).
37- المرجع السابق، ص 60.
هــلال الحجـــري
شاعر وأكاديمي من عُمان