ماهية الواقعية السحرية:
في النصف الأول من القرن العشرين المنصرم وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية أطلق المفكر الألماني «فرانزو» مصطلح الواقعية السحرية على نمط من الفن التشكيلي يتخطى التعبيرية ويفرق الدكتور صلاح فضل بين الواقعية السحرية والتعبيرية لأن التعبيرية أولت اهتماماً بالغاً للعناصر الخيالية المعرفة وللجوانب الاجتماعية معاً في حين الواقعية السحرية تفادت عالم ما وراء الطبيعة ولا تبرر سلوك الإنسان بالتحليلات الاجتماعية بل يتمثل هدفها الأساس في التقاط الأسرار التي تختفي تحت مظاهر الواقع وأكثر ما يتبدى ذلك في الرسم، فإن الفنان التعبيري يطمح إلى الهروب من الواقع إلى عوالم غير واقعية، أما الفنان في الواقعية السحرية فيواجه الواقع محاولاً فك طلاسمه وأسراره، وكذلك في الأدب القصصي فإن الأحداث المهمة في القصص التي تتكئ على الواقعية السحرية لا تخضع للشروح المنطقية أو الاجتماعية، فالكاتب لا ينقل الواقع حرفياً ولا يبعد عنه تماماً الى عوالم أخرى غير متماسكة كما في السريالية ولكنه يلتقط السر المهم الكامن في أحشائه(1).
وإذا كانت التعبيرية تتجلى في لون من ألوان العبث الكافكاوي الذي يقوم منهجه على استعمال المنطق لقلب المنطق، فكل شيء في الظاهر يبدو منطقياً غير أنه يخفي واقعاً آخر تشيع فيه الفوضى والغموض، هذه الرؤية العدمية تتضمن شكلاً من أشكال الفكاهة السوداء، أما الواقعية السحرية فإنها تتجاوز هذا المفهوم لتوغل في عمق التراث الأسطوري»(2).
«والصورة التعبيرية تقوم على حالة خوف أو قلق أو إحباط تنطلق منها، ولكن دون أن يكون سببها عثرة سيكولوجية متعلقة بنفسية البطل، إن الصورة التعبيرية قد يبدو فيها البطل في حالة خوف من خطر مبهم دون أن يرجع هذا الخوف إلى سبب حقيقي مؤثر، وهذه الأحاسيس والهواجس يكون مردها حالة احتجاج إزاء عدوانية خارجية والفارق بين الصورة التعبيرية والصورة السيريالية فارق بين ما يثير الاحتجاج وما يثير الغربة، وقد رأى عشاق السيريالية أن المألوف يفقد قدرته الجمالية، وأن الجمال ينبع من الربط بين أشياء متنافرة بعد تخليصها من استعمالاتها النفعية يفضي إلى صور تتضمن أكبر قدر من التضاد في مظهرها وتتسم الصور السريالية بمسحة شعرية عميقة، وقد وجد السرياليون في أول الأمر نبعاً سخياً للصور في اللامعقول والعقل الباطن بجنونه وأحلامه وهلوساته، وقد غاصت السريالية إلى اللاوعي، ذلك المخزون الذي توجد فيه الأشياء في أكثر العلاقات غرابة وفجائية»(3).
ويشير «دليل الناقد الأدبي» إلى أن مصطلح الواقعية السحرية في الرسم استعمل في ذلك الحقل للدلالة على نوع من الرسم القريب من السريالية حيث تكون الموضعات المرسومة والأشياء قريبة في غرابتها من عوالم الحلم وما يخرج عن المألوف من رموز وأشكال، فهذه الغرائبية جزء أساسي من دلالات الواقعية السحرية كما شاعت في الأدب خاصة في القصة، غير أنها تنضاف هنا بصورة أساسية إلى تفاصيل الواقع إذ يرسم القاص تفاصيله رسماً موغلاً في البساطة والألفة»(4).
أما فيما يختص بالأسطورة فإنه لا ينبغي أن نفصلها عن الواقع إذ أنها كما يقول أحد كبار النقاد «اشتراك دائم في ميدانه وانفتاح على الوعي به، فالعنصر الأسطورى خروج من التاريخ وعودة إلى الوقائع الأساسية بطريقة تهدف إلى اكتشاف بنيتها العميقة الدائمة في الحياة والكائنات»(5).
فالواقعية السحرية تتبدى في الأعمال الأدبية التي تعبر عن رؤية كونية سحرية للعالم، رؤية لا تاريخية تنمحي فيها الحدود بين الأحياء والجماد أو بين الثقافة والطبيعة حيث تكتسب الأشياء والظواهر خواص وقدرات مميزة، وحيث نشاهد جانباً من هذا الواقع السابق على مبادئ العقل والمنطق وقوانين السببية، ويبدو أن تخصيص هذا اللون من ألوان المعالجة الفنية بأمريكا اللاتينية له ما يبرره، فإن حياة الشعوب البائسة المكونة من هنود وسود ومولدين بتقاليدهم الخاصة وسحرهم وأساطيرهم يعيشون خارج التاريخ، تحكمهم روح أخرى لا تكاد تمت بصلة لمن يعايشونهم في الحدود الجغرافية، وإن عدسة الفنان تركز الضوء على تلك المرائي السحرية التي تعكس الأشياء الحالمة والمناظر الخارقة للعادة والأحداث الخيالية أو المهنية في ضمير الجماعة السحيق.
ومما يجدر ذكره هنا أن الواقعية السحرية لها صلة قوية بثقافتنا وتراثنا، خاصة إذا عرفنا أن معظم ممثلي هذا التيار تحدثوا عن شغفهم بحكايات «ألف ليلة وليلة» وتأثيرها الكبير عليهم، لدرجة «أن الكاتب الأرجنتيني الشهير خورخي لويس بورخيس كان يحمل كتاب ألف ليلة وليلة معه –ضمن بضعة كتب أخرى- أينما حل»(6).
أما جابرييل جارثيا ماركيز فالتأثيرات الواقعة عليه جاءت من ثلاثة مصادر أساسية كما يقول الناقد الدكتور حامد أبو أحمد.
1- «حواديت جدته التي لم يمل الحديث عنها وفي هذا يقول لنا إن جدته كانت تحكي له أكثر الأشياء فظاعة دون أن تتأثر، وكأنها تحكي عن شيء رأته منذ قليل. ويضيف: وقد اكتشفت أن هذه الطريقة في الحكي الجميل، وهذا الثراء في الصور هو الذي كان يسهم أكثر من أي شيء آخر في منح حكاياتها مصداقية. وباستعمالي نفس هذه الطريقة المأخوذة عن جدتي كتبت رواية «مائة عام من العزلة».
2- قصص ألف ليلة وليلة التي قرأ مختارات منها في طفولته ثم فتن بها بعد ذلك، وأعمال الروائي المشهور فرانز كافكا وهو أول من حفزه إلى كتابة أول قصة في حياته ويحكي هذه الواقعة صديقة بلينو ميندوثاً فيقول إن اهتمام ماركيز بالقصة بدأ في ليلة قرأ فيها رواية «المسخ» لكافكا وعندما قرا الجملة الأولى في الرواية التي تقول «عندما استيقظ جريجوريو سامسا ذات صباح، بعد حلم مزعج، وجد نفسه وقد تحول في سريره إلى حشرة هائلة» أغلق جابرييل الكتاب قائلاً لنفسه: يا للهول! هل يمكن أن يحدث هذا !! وفي اليوم التالي كتب أول قصة في حياته.
3- المفهوم الشعري للواقع: وهناك عبارة مشهورة لجارثيا ماركيز تقول: «إن أفضل القصص هو ما كان تعبيراً شعرياً عن الواقع»(7).
وهناك مكونات أخرى في تشكيل العالم القصصي عند جارثيا ماركيز وقد عرض لها كثير من النقاد بتوسع وكل ما أردنا أن نقوله هو أن الكاتب ماركيز هو من أهم رواد الواقعية السحرية على مستوى العالم ويتميز إبداعه القصصي بالثراء والتنوع إن عالمه شديد الخصوبة وخياله خلاق استطاع من خلاله إبداع أعمال خالدة شدت انتباه القراء على مستوى العالم.
والواقعية السحرية: هي التوازن الدقيق والمحسوب بين عنصرين هما الواقعي والفانتازي أو الخيالي، الواقعي هو ما يجري من أحداث على أرض الواقع، ولهذا قال جابرييل ماركيز «ليس في أعمالي سطر واحد لا يقوم على أساس واقعي»(8)، أما الجانب الفانتازي فهو استعمال عناصر غير واقعية ولابد أن يتم المزج بين الواقعي والفانتازي من خلال تقنيات وأساليب حداثية متقدمة مثل تحويل العمل القصصي إلى عمل شعري، بمعنى «أن يكون العمل على درجة من الاتقان، واكتمال عناصر الفن، وثورية الرؤية والتغلغل في عمق الذات والسيطرة على اللغة حيث يشعر القارئ أنه أمام عمل قصصي فذ ومؤثر وفيه قدر كبير من الامتاع وإثارة الدهشة، وتفجير القدرات الإبداعية عند القارئ»(9).
ويرى استيفان تودورف في كتابه مدخل للأدب السحري 1970م «أن القصة السحرية تصف عالماً شديد الشبه بعالم الواقع اليومي الذي نعيش فيه جميعاً وفجأة نرى مشهداً يتم فيه خرق قواعد المنطق وقوانين الطبيعة كيف يمكن تفسير ما حدث؟ إننا نجد أنفسنا مترددين بين حلين: الأول: إنه نوع من الهذيان أو الرؤية غير الصحيحة وبالتالي تظل قوانين الطبيعة سارية المفعول. الثاني: أن هذا الخرق غير المنطقي وغير الطبيعي حدث بالفعل وفي هذه الحالة علينا أن نقر أن العالم فيه قوى غامضة»(10).
إن السحري هو التذبذب الذي يعيشه إنسان يعرف فقط قوانين الطبيعة وعندما يقع أمامه حادث غير طبيعي من الناحية الظاهرية يصاب هذا الإنسان بالحيرة ازاء هذا الحدث الغريب عليه وهذه الحيرة هي الملمح الأساس في القصة السحرية التي تحتوي على أحداث غريبة وعجيبة يقول زكريا القزويني: «العجب حيرة تعرض للإنسان لقصوره عن معرفة سبب الشيء أو معرفة كيفية تأثيره فيه»(11) وفي معنى الغريب يقول القزويني «الغريب كل أمر عجيب قليل الوقوع مخالف للعادات المعهودة والمشاهدات المألوفة، وذلك إما من تأثير نفوس قوية أو تأثير أمور فلكية أو إجرام عنصرية. كل ذلك بقدرة الله تعالى»(12).
ومثلما أشار أحد نقاد العالم الثالث، في معرض حديثة عن مغزى ظهور الواقعية السحرية خطاباً ما بعد كولونيالية، «فإن الواقعية السحرية بدمجها الواقع في الفنتازيا إنما تقوم بتحدي قيود النوع وأعراف الواقعية، كما استخدمها الخطاب الغربي. وإذا كان هذا التطوير الأسلوبي الحاسم قد اقترن في بداياته بالرواية الأمريكية اللاتينية، فإنه اليوم شديد الشيوع في النصوص ما بعد الكولونيالية، ويميل أكثر فأكثر إلى إدراج السياسي والتاريخي والتسجيلي في صميم اشتباك الواقع مع الفنتازيا، حيث يقوم كتاب العالم الثالث الذين استلموا من المركز الإمبريالي أقانيم النظام والجمال والمنطق والحساسية والواقع إجمالاً، وهي عملية قد تمت بالقسر والقهر وبطمس الثقافة الوطنية، يقوم هؤلاء الكتاب الآن بإعادة رد البضاعة اليوم إلى المركز عبر نفق الماضي الوطني الذي بات أقرب إلى الفنتازيا منه إلى واقع معقلن»(13).
ثم ان حضور الواقعية السحرية في القصة العربية هو ذو مستويات وليس متجانساً، يرتبط بالمتخيل العربي العام والمحلي كذلك «للتعبير عن رؤية مغايرة تقدم تحولا في العلائق مع الطبيعة وما فوق الطبيعة، مع الذات الخفية ومع الآخرين، مع الواقع واللاواقع… ومثل هذا التحول على مستوى بنيات المجتمع هو الذي يبرر التحول مع متخيل «سائب» إلى جنس تخييلي يسنده وعي ولغة متميزة وتيمات تستكشف المجهول وتوسع من دائرة الأدب»(14).
إن الواقعية السحرية تسعى لتأسيس خطاب أدبي وطني لا يكتفي بإعادة ما يقدمه خطاب الآخر وإنتاجه وتداوله استهلاكه وإنما تهدف إلى إنشاء إبداعات قصصيه وإبداعات شعرية نابعة من خصوصية التجربة الوطنية والقومية تاريخياً وثقافياً وتتجلى هذه الخصوصية في مجال السرد العربي الحديث والقصة القصيرة تحديداً، في محاولة صياغة إبداعات قصصية جديدة لا تقف عند حدود المنجز الفني لقالب القصة القصيرة في الآداب الغربية والأوربية، بل تتفتح على ما هو جوهري في عقل الأمة وضميرها وتاريخها وموروثها وفولكلورها، وعلى ما تختزنه من قوى روحية عميقة، ومن اعتماد على البداهة والحس الشعبي وعلى طرائق الصوغ الشفوي التي تمتلك جذوراً عميقة في الوجدان الشعبي والموروث الوطني والقومي.
وما تفعله الكتابات القصصية العربية اليوم، ومنها القصة القصيرة في اليمن التي تحس بالضغوط الاقتصادية والثقافية والصدام اليومي مع «الآخر» إنما هو مسعى جزئي في هذا الاتجاه يطمح إلى تأسيس هوية ثقافية وفنية ورؤية مضادة تعيد تشكيل خطاب قصصي بديل يضع الواقعي إلى جانب الغرائبي والتاريخي إلى جانب المعاصر والغنائي إلى جانب الوثائقي والحلمي والصوفي إلى جانب المادي…إلخ.
إن فحصاً دقيقاً للتجارب القصصية المتنوعة في القصة القصيرة في الأدب العربي تؤكد خصوصية هذا الاتجاه وثرائه وعمقه واتساعه أفقياً وعمودياً وإذا نظرنا إلى القصة القصيرة في مصر نجد من يمثل ذلك الاتجاه هو يحيي الطاهر عبد الله والقاص محمد مستجاب والقاص خيري عبد الجواد وغيرهم أما في سوريا فيمثله زكريا تامر وفي السعودية محمد علوان وعلي الدميني وفي اليمن عبد الكريم الرازحي وصالح با عامر.
ويرى الدكتور سمر روحي الفيصل أن الأسلوب السحرئي الغرائبي «ليس نمطاً واحداً لدى أتباعه من القاصين العرب، بل هو أنماط عدة، يتزيا كل نمط بزي صاحبه، ويحمل طابعه. فالتكثيف الشديد، والإيحاء العميق، والارتفاع فوق الواقع وتوظيف التراث والتاريخ والحيوان وأشياء الطبيعة، أبرز سماته»(15).
ويقول: «وهناك تعليلات كثيرة لسيادة هذا الأسلوب الغرائبي السحري أبرزها التضاد بين رغبة القاص في نقد النظام السياسي، ورغبة النظام نفسه في منع النقد من أن يكشف حقيقته. ولا حل منطقي للتضاد بين هذين الطرفين، لأن النظام مستعد دائماً لإسكات القاص، ومن مبادئ القاص ألا يسكت عن فضح الدمامة في المجتمع، ولكنه إنسان يخاف كما يخاف كل إنسان فيتقد بأسلوب غرائبي قابل لتأويلات شتى، وإيحاءات كثيرة، كل تأويل منها ينجيه من العقاب، لأنه دال على الشيء ونقيضه، فليمسك به الرقيب إذا كان قادراً على فهم شيء واحد ليس غيره من الأسلوب الغرائبي»(16).
الواقعية السحرية في قصص القاص
اليمني عبد الكريم الرازحي(*)
ومن الظواهر الفنية الحديثة في القصة اليمنية القصيرة ظهور نماذج للسرد السحري الغرائبي الذي يتداخل مع الموروث الخرافي والخيال الشعبي بعامة على نحو ملحوظ. إنهما نمطان من القص مختلفان سواء في أساليب السرد أو في الدلالات التي يسير القص باتجاهها فالشعبي واضح الانتماء إلى أرضية المألوف والمتوقع حدوثه في عالم الحياة الشعبية اليومية وواقعيته لا تحتاج إلى تبيين، والغرائبي قريب مما يعرف بالفانتازيا أو الواقعية السحرية.
وليس معنى ذلك أن الجمع بين الواقع والسحر أو الفانتازيا ينتج بشكل ما إلى واقعية سحرية لأن هناك شروطاً أخرى كثيرة لابد أن تتحقق كي تؤدي إلى إبداع قصصي حقيقي، من ذلك التناول الشعري للواقع واستعمال لغة تتواءم مع هذا الواقع السحري وتتناغم معه، والموهبة، والوهج الفني والاستيعاب الأمثل للتراث، ومعرفة استعمال التقنيات الجديدة في فن القص واستيعاب الأعمال الإبداعية البارزة، وانسجام الرؤية بما يتفق مع جوهر الفن، وغير ذلك من شروط وظواهر لا تتحقق إلا عند كاتب متميز.
والقاص اليمني عبد الكريم الرازحي من خلال مجموعته «موت البقرة البيضاء» يعد كاتباً متميزاً وواحداً من جيل المجددين في القصة اليمنية القصيرة الذين حاولوا أن يضخوا في هذا الفن دماء جديدة بعد محمد عبد الولي وأحمد محفوظ عمر إن الرازحي تميز بين أقرانه بأنه حاول تخليق الأسطورة في القصة اليمنية القصيرة وأنه نجح في ذلك بدرجة كبيرة تفوق فيها على أقرانه، وإن قصصه موغلة في استكشاف الوعي «وكذلك اللاوعي» الجمعي اليمني والعربي، وإن قصصه تزخر بالطقوس والغرائب الفانتازية ويستلهم ويستخدم الأمثال الشعبية والحكايات والألغاز والمفارقات في نصه القصصي.
يقول الناقد السعودي الدكتور معجب الزهراني: «لعبد الكريم الرازحي مجموعة قصصية اسمها «موت البقرة البيضاء» حينما يقرأ الإنسان نصاً قصيراً جداً من هذه المجموعة يشعر بأنه يعيش في عالم فسيح عجيب وغريب وواقعي أيضاً»(17).
وللرازحي طابعة الخاص والفريد المتمثل في وعيه الحاد بما يحدث في الواقع من متغيرات وأحداث، وإدراكه العميق لتلك البنى الراسخة في علاقة التابعين بالمسيطرين، وهذا الحس الساخر حد العبث الوجودي بكل ما يحيط بنا، وما يحدث بداخلنا، وفيما بيننا، وهذا الإلمام الشديد بمفردات الواقع والخيال وبمفردات العربية الفصحى والعامية، وهذه القدرة على التعبير المجازي البديع، وعلى تكوين الصور الجديدة واللافتة والمدهشة، هذا الإيغال الشديد في البنية الاجتماعية والسيكولوجية للمجتمع اليمني المعاصر، وفي الوقت نفسه وهذه القدرة على الامتداد بهذا الفهم لهذه البنية إلى تلك الجذور العميقة الضاربة في القدم الخاصة بهذه البنية، وأيضاً الخاصة بالتحولات الهامشية التي طرأت عليها، والخاصة بأفراحها القليلة والعابرة وأحزانها الكثيرة والمقيمة.
ويرتبط التجريب، في إبداعه القصصي، بمحور أساس يتمثل في مراوحة متصلة بين الإفادة من التقنيات والمنجزات المتحققة في الأعمال الإبداعية الفردية، وبين جماليات الإبداع الجماعي الموروث، حيث يمكن القول إن قصص الكاتب تتوزع بين هذين المنحيين، وإن كان القطاع الأكبر من هذه القصص يرتبط بالمنحى الثاني منهما. إن تجريب الكاتب في هذا المنحى الثاني، الذي يتمثل في جماليات الموروث الجماعي ويختلط هذا الموروث بالفانتازيا، هو ما يمنح قصصه التي سارت في هذا الاتجاه «قيمة» متميزة، ويضفي الأخير على دور هذا الكاتب، في الكتابة القصصية في اليمن والوطن العربي سمات خاصة فيما يتصل بالبحث عن طابع خاص، محلي لا ينفصل بالطبع عن كونه إنسانياً يعكس تجارب إنسانية في الوقت نفسه محاولة الكاتب، في هذا الاتجاه، تعد امتداداً لتجارب ظهرت قبله على مستوى الوطن العربي، كما تعد استكمالاً لتجارب ظهرت في المرحلة التي كتب فيها القاص قصصه إلا أن محاولته هذه التي تحققت في معظم إبداعه القصصي تقدم إضافات واضحة للتجارب السابقة عليها والمعاصرة لها على السواء.
لقد جسدت مجموعة الرازحي القصصية «موت البقرة البيضاء» قدرة كاتبها على امتلاك أسلوب خاص في فهم الواقع الذي يحيط به وخاصة واقع القرية اليمنية. وهكذا تطورت النظرة الواقعية، ووصلت عنده إلى أقصى درجات الحرية في طرح وجهة النظر الخاصة به. بل وأصبحت هناك إمكانية لنقل الخرافات الشعبية والفلكلورية التي يمتلئ بها واقع القرية اليمنية الضاربة جذورها في الأعماق وتحويلها إلى رموز فنية، تعبر بعمق عن الرؤى الإبداعية الجديدة. لقد عبرت هذه المجموعة القصصية عن إشكالية الإنسان اليمني في مرحلة مهمة من مراحل حياته في العصر الحديث، وبأسلوب حكاء ماهر يعرف كيف يجتذب قارئة من خلال قصص جميلة مدهشة مثيرة عبرت عن مجمل التبدلات المجتمعية التي يعرفها الواقع اليوم وبخاصة في المناخ القروي في بلادنا.
يقول الكاتب واصفاً قريته «إنني أعتبر قريتي سر العالم وسقف الدنيا.. ولو شرقت أو غربت بحثاً عن قرية أجمل وأكثر سحراً منها فلن أجد. صحيح أنها فقيرة وجرداء ليس فيها ما يلفت الانتباه. لكنها مع ذلك جميلة بشكل غامض وخرافي. إن بيوتها – بعد المطر- تلمع كأنها مدهونة بالسمن. وإن نساءها يتلألأن كأنهن مخلوقات من الدهن لا من الطين. وفي الحقيقة فأنا إنسان قروي رغم كوني أعيش في المدينة. وعلاقتي بالقرية تماثل إلى حد كبير علاقة الفلاح ببقرته. إن القرية هي بقرتي الغالية، فتحتها أجلس في المساء لأرضع حليب الطمأنينة والأمان .. ومنها أحصل على دهن المعرفة وزبدة الحكمة»(18).
لقد أمتعنا وأدهشنا الكاتب عندما تحدث عن قريته واستطاع أن يستميلنا بقوة لأنه من خلال حديثه الجميل ولغته الفنية خلق عناصر من الحكي السلس الذي يشبع حاجتنا ورغبتنا الشغوفة التي تملأ نفوسنا هذه الأيام لمعرفة أشياء جديدة مثيرة، أو الانغماس في أحداث غير مسبوقة، أو التمتع بأي دهشة قادرة على تجديد الحياة، علاوة على روح السخرية والمرح الذي يتميز به أسلوبه.
لقد تمكن الكاتب في مجموعته القصصية «موت البقرة البيضاء» من أن يفكك الواقعية الخاملة ويخترقها ليضيف إليها بعداً جديداً من خلال استيلاد الفانتازيا والرموز ذات الجذور الفلكلورية والمجموعة القصصية بشكل عام تتناص بالفعل مع الحكايات الشعبية والخرافية وروح «ألف ليلة وليلة» والكاتب يلجأ إلى الفانتازيا لأن الحياة كلها اليوم مليئة أصلاً بالفانتازيا على كافة المستويات أخلاقياً وحضارياً وثقافياً واقتصادياً واجتماعياً.
وتمثل تجربة عبد الكريم الرازحي القصصية واحدة من التجارب الأدبية اليمنية التي نجحت في خلق قصة قصيرة تنتمي على وجه الخصوص إلى ما يعرف بالواقعية السحرية في الأدب، وهي طريقة في السرد لا تتخلى عن تصوير الواقع، وعده أحد الخيوط المهمة في السرد، ولكن بطريق المزج بينه وبين ما يعرف بالفانتازيا بكافة أشكالها الممكنة، كالحلم والكابوس والهذيان والجنون، مما يجعل ثمة فرقاً مهماً بينهما وبين أساليب السرد الخيالية الخالصة.
مجموعة القاص اليمني «عبد الكريم الرازحي» «موت البقرة البيضاء» تثير قضايا فكرية، وفنية متعددة .. ولعل الحكم والانطباع العام الذي يخرج به القارئ بعد قراءة هذه المجموعة.. أن هذه المجموعة تنتسب إلى ما يطلق عليه الفن الجميل أو السهل الممتنع. وكما قلنا سابقاً هذه المجموعة تنتسب إلى الواقعية السحرية شكلاً ومضموناً… ولكي نعرف بدقة ونفهم ملامح هذه المدرسة الفنية، يمكن أن نستعرض بسرعة، وكذلك ببساطة ملامح هذه المدرسة من خلال ما كتبه الناقد حامد أبو أحمد وتتمثل هذه الملامح فيما يلي:
1- إن وجود الواقعي العجائبي هو الأساس في ظهور أدب الواقعية السحرية.
2- الواقعية السحرية هي أكثر من أي شيء موقف إزاء الواقع، ومن ثم يمكن التعبير عنها في أشكال شعبية أو مثقفة، وفي أساليب مصوغة بدقة أو عامية، وفي أبنية مقفلة أو مفتوحة.
3- في الواقعية السحرية يتواجه الكاتب مع الواقع ويحاول أن يسبر غوره، وأن يكتشف ما هو سري في الأشياء، وفي الحياة وفي الأفعال الإنسانية.
4- في الواقعية السحرية نجد الأحداث الرئيسية ليس لها تفسير منطقي أو سيكولوجي.
5- الواقعي السحري لا يحاول أن ينسخ (كما يفعل الواقعيون أو يجرح الواقع) كما يفعل السيرياليون وإنما يحاول أن يقتنص السر الذي ينبض في الأشياء.
6- وفي الأعمال ذات التوجه الواقعي السحري نجد المؤلف في غير حاجة إلى تبرير ما هو سري في الأحداث.
7- والكاتب الواقعي السحري لكي يقنص أسرار الواقع يسمو بأحاسيسه نحو حالة قصوى تسمح له بالتنبؤ بالصبغات غير الملحوظة للعالم الخارجي، هذا العالم متعدد الأشكال الذي نعيش فيه»(19).
«موت البقرة البيضاء» هي هذا المزيج كله.. من الحب والحلم والذكريات الجميلة هي إيقاع الحياة الهارب، هي الرؤيا الجديدة للحياة هي التسجيل الفوري للحالات النفسية التي كان مستعصياً من قبل التعبير عنها هي اللون الجديد للقصة «هي شعر الدنيا الحديث لمرونتها واتساعها لجميع الأغراض مما يجعلها أداة صالحة للتعبير عن الحياة الإنسانية في أشمل معانيها، فالقصة أبرع فنون الأدب التي أوجدها الإنسان المبدع في جميع العصور»(20).
وقصص مجموعة «موت البقرة البيضاء» تكشف لنا منذ البداية –عن فهم عميق للبناء القصصي المحكم، ووعي بمفردات اللغة القصصية ذات الإيحاء والدلالة، ويقدم لنا «عبد الكريم الرازحي» –من خلالها- نماذج إنسانية في لحظات التذكر والتمني والرجاء والأشواق والأسى، والحزن، ويختلط فيها عالم الإنسان بعالم الحيوان والفانتازيا. المجموعة القصصية بشكل عام تقدم لنا لحناً واحداً بعدة تنويعات فأبطال القصص كلهم يعيشون لحظات الشوق إما في الماضي، وإما في الحاضر والمستقبل، ولكن تلك الأشواق تصطدم بالأسى والحزن الذي تشعر به الشخصية وتعيش فيه. وهذه النقطة هي التي جعلت اللغة عند الكاتب قريبة – إلى حد كبير- من لغة الشعر. بمعنى أنها لغة شاعرية، وأن ذات الكاتب اندمجت بالتجربة القصصية حيث إننا لا نستطيع أن نفصل بينهما على الإطلاق.
وسوف يتضح لنا أكثر من خلال تحليل النماذج القصصية التي تحتويها المجموعة حيث نراه في قصته الأولى «عام الحمار» يقدم من خلال الراوي بضمير المتكلم، تلك القرية اليمنية التي ربما تكون قريته هو، يقدمها بكل ما تحمله من متناقضات وبما تختزنه من عاداتٍ وتقاليد وأساطير ذات صبغة خاصة، وينجح الكاتب باللغة القصصية الموحية في أن يقدم لنا ذلك الأسى الذي يشكل ملامح تلك القرية بناسها بفقرهم وبساطتهم، وفي هذه القصة يتداخل الواقع مع الكابوس، ويتعامل الكاتب مع ما هو فانتازي على نحو يشعرنا بأنه واقعي بل إنه ليتداخل مع الواقع ويتفرع منه كما لو كان مماثلاً بالفعل وهذا المنحى القصصي عرف به الكاتب ويتجلى في هذه المجموعة القصصية على أتم وجهٍ.
يقول الراوي «كان أهالي قريتنا كلما شاهدوا «زهرة» قادمة.. يعرفون للتو أنهم في يوم الثلاثاء وأن الوقت هو الساعة التاسعة صباحاً. أما نحن الصغار فقد كان مجيء زهرة إلى قريتنا كل يوم ثلاثاء يعد بالنسبة لنا حدثاً خارقاً. ذلك لأن قريتنا كانت معزولة إلى حد الموت.»(21)
والراوي بضمير المتكلم في القصة يحكي لنا عن الشخصية القصصية «زهرة» وما يذيع صيته في القرية حولها، وما تتلقفه الإشاعات وما تنقله الأقاويل، نحو وجود علاقة محرمة بين زهرة وحمارها: «لقد كانت أعظم إشاعة اجتاحت قريتنا وكانت من القوة بحيث هزت أركان القرية وأحدثت ردود فعل عنيفة، بل راح الناس كعادتهم يغذون هذه الإشاعة بحليب خيالاتهم المريضة، إلى أن صارت بحجم يفوق حجمها الحقيقي عشرات المرات.
قال بعضهم إنه رأى الحمار ذات مرة يتشمم زهرة باشتهاءٍ ويهم بركوبها. وقال آخرون: إنهم رأوا زهرة بين أشجار الأثل الكثيفة تمسك برأس حمارها وتقبله بحنان مثير. وأشاعت إحدى قريبات المرأة السليطة اللسان أنها رأت زهرة ذات يوم هي ترفع يديها بابتهال وسمعتها تقول: اللهم قو حماري وأطل عمره ولا تحرمني منه…»(22).
القصة ذات منحى فنتازي فالأحداث لا تخضع لسياق منطقي أو عقلي أو واقعي، على الرغم من أن الإطار العام لحركة الأحداث والشخصيات هو إطار واقعي وحسي، لذا تتخذ الأحداث اللاحقة مساراً غرائبياً فنتازياً لا يخلو من سخرية مبطنة.
الإشاعات والأقاويل التي نقلها إلينا الراوي حول علاقة زهرة بحمارها والتي اقتنع كل أهالي القرية بأنها متينة ومحرمة بعد أن قذفتها امرأة سليطة اللسان كانت قد تشاجرت معها ذات ثلاثاء على دجاجة اشترتها منها، لقد سمع الراوي تلك المشاجرة ونقلها إلينا إلى أن كبرت الإشاعة وتناقلها الناس وأفتى فيها فقهاء القرية فتاواهم الفانتازية «قال الفقيه وكان إلى جانب كونه فقيهاً…ينظر إليه كخبير في شؤون العالم الخفي. بأن حمار زهرة ما هو إلا زوجها الجني يتنكر في النهار ويظهر بشكل حمار. وأن ما يحدث بين زهرة وحمارها أمر حلال ليس فيه ما يناقض الشرع وأضاف الفقيه بأن أي اعتداء على زهرة أو حمارها سيكون له عواقب سيئة. إذ سيتسبب ذلك في نشوب حرب طاحنة بين قريتنا وقرية الجن. وقال بأن الجن فيما لو نشبت الحرب سيقذفون قريتنا بالجمر ويحرقون كل شيء. وذكرهم بحربٍ كانت قد نشبت بين قريتنا والجن في الأزمان الغابرة… بسبب قتل إنسي من قريتنا بطريق الخطأ جنياً كان يظهر أمام بيته بشكل «عردان» ونصح الفقيه أهالي القرية بأن يعودوا إلى بيوتهم، وأن لا يصدقوا مرة أخرى كلام النسوان. وفيما كان القوم ممتقعي الوجوه، على ملامحهم علامات التعجب والانبهار…»(23) ويمكن القول إن الغرائبي في هذه القصة باختراقه بنية الحدث الواقعي إنما يفرض لوناً جديداً من القراءة وضرباً جديداً من القراء الذين يتحولون إلى منتجين فعالين لدلالة النص القصصي ذاته ومشاركين إيجابيين – وغير سلبيين للفعل القصصي والإنساني وهذا ما نجده بشكل جلي في هذه القصة.
يقول الراوي في فقرة أخرى من القصة «كانت زهرة التي لاذت بحائط الصمت لحظة قذفتها المرأة السليطة اللسان بحجر التشهير الذي هشم زجاجة سمعتها .. قد غادرت القرية وهي تترنح من الألم. وفي العادة كانت زهرة حين تفرغ من بيع دجاجاتها، وتقفل عائدة إلى قريتها وراء الجبال، تطلق في سماء قريتنا أغنية خضراء تنم، عما في قلبها من فرح وحنين. أما هذه المرة فقد غادرت وهي تبكي بصمت، وكأنها تودع كل شيء لقد بقينا نحن الصغار نراقبها من على سطح المدرسة وهي تهبط المنحدر مع حمارها باتجاه الوادي. وانتابنا في تلك اللحظة إحساس بأن زهرة» مظلومة .. كادت قلوبنا تقفز من بين جوانحنا لتلحق بزهرة وحمارها. ولأول مرة يجتاحنا حزن شديد مخلوط بخوف غامض، وتعصف بنا رغبة للبكاء»(24).
ويقول الراوي: «تناهى إلى أسماعنا صوت نهيق حمار زهرة ونحن في المدرسة فتقافزنا كالجداء لاستقبالها. كان شوقنا إليها هذه المرة أقوى وأشد، وكانت مشاعرنا نحوها وحمارها –بعد حديث الفقيه وقد اتخذت شكلاً غامضاً ومعقداً. لكن زهرة التي كنا بحاجة إليها أكثر من أي وقت مضى لم تكن موجودة، الحمار وحده هو الذي جاء. وفجأة وفيما كان قرص الشمس الملتهب يتوارى مختفياً وراء قمم الجبال والمؤذن يؤذن لصلاة المغرب حدث هرج ومرج وراح الناس وقد أشرأبت أعناقهم يتدافعون هنا وهناك ويصرخون مذعورين. الله أكبر الحمار طار الله أكبر طار الحمار .. لقد كان يوما لا ينسى. وحتى الآن ما زال أهالى قريتنا يتذكرون حمار زهرة الذي طار واختفى بين الغيوم وما زالوا يؤرخون لكل شيء بهذا العام الذي يسمونه: عام الحمار»(25) وهكذا يخرق القاص النسيج الواقعي للقصة بفعل فنتازي يشكك بالوثوقية المرجعية للعالم الواقعي الذي أسس له السرد القصصي في البداية، وتعقب ذلك بسلسلة من الأفعال الفنتازية الغربية التي انتهت عند ما طار حمار زهرة واختفى بين الغيوم.
أما قصة «الكيس» يسيطر أسلوب السرد الذاتي على نسيج هذه القصة الثانية من قصص المجموعة -قيد الدراسة- ومنه ينطلق الراوي بضمير المتكلم «أنا» يكشف فيها الراوي عن حالة رافقت عهد طفولته وهي حالة «التبول» في فراشه التي رافقته حتى بلوغه سن العاشرة ونلاحظ أن الراوي يحاول إقناعنا فنياً بأن ما يرويه أمر واقعي وليس متخيلاً عبر سرده للأحداث والمواقف الشخصية التي مر بها سارداً لنا أحداثاً مألوفة وعابرة ويومية واقعية في صميمها ولكنه يمزجها بالمتخيل والوهمي ويصعد بها إلى مشارف الفانتازيا والمجاز والحلم والأسطورة.
يقول الراوي بضمير «أنا» المتكلم «بقيت داخل كيس نومي المبلول…ولم تنفع محاولات أمي لإخراجي منه … بقيت معتصماً بكيس النوم، وممتلئاً بالحقد والخوف من كل شيء خارج الكيس المبلول، على السادة والأولياء الذين لم يشفوني من عاهة التبول، على عساكر الإمام الذين كلما رأيتهم في الحلم وهم يقتحمون بيتنا كالذئاب، ويسحبون أبي من رجليه .. أصبح وقد ابتل كيسي من الرعب، وانتابني إحساس بأن الكيس الذي راح يخفق ويهتز ويتحرك شيء آخر، وليس مجرد كيس. إنه لا شك كيس طائر…ومشى الكيس… خرج من شباك غرفة نومي ثم امتلأ بالهواء وطار … وحين وصل بي الكيس إلى ارتفاع شاهق في السماء… أحسست به يطول ويعرض ويتسع وكم كانت دهشتي حين اكتشفت وأنا على ارتفاع شاهق أنني لست الوحيد الذي ينام ويبول في هذا الكيس.. فالقرية كلها تنام فيه وتبول. جميع سكان القرية يشاركونني النوم والبول فيه … والشيء الأغرب من الخيال، هو أن الكبار وهم الذين يبللونه أكثر مني أنا ابن العاشرة، لا يعرفون أنهم يبولون فوق أنفسهم كالماشية. وحين اكتشفت هذه الحقيقة ازددت ثورة وسخطاً واختلط هواء سخطي بهواء الكيس، فانفجر من شدة الضغط. وعلى دوي انفجاره استيقظت مذعوراً من النوم لأسمع أمي تناديني … هيا اخرج من الكيس. لقد خرج أبوك من الحبس وعمك عاد من قفا البحر…»(26).
تقول الدكتورة ثناء أنس الوجود في استعراضها لهذه القصة: «والحل المتصور قد يأتي بالمثل من الانفجار، فهو الوسيلة الوحيدة للخروج من رحم الضيق والبلادة من داخل «كيس النوم» المبتل بماء النوم، والمعادل بالمثل للواقع … «القرية كلها تنام وتبول فيه» والأمر هنا أيضاً لا يخلو من دلالة. فالواقع أصبح أشبه بكيس للنوم، وهو كيس كريه. لأن الجميع بداخله يبولون فوق أنفسهم كالماشية وهم لا يشعرون. وهذا الواقع يولد الغيظ والثورة في النفوس، وتختلط هذه الثورة بعذابات النفس اللاشعورية القادمة من أعمق أعماق التجربة الإنسانية المريرة أيام الإمامة، حين كانت الكرامة الإنسانية تسحق وتوطأ بالأقدام، ولم يتحمل قادة الجماعات، وأهل الرأي في المجتمع مسئوليتهم تجاه احتواء هذا الواقع. فلم يعد سوى الانفجار خلاصاً من كل هذا. وعندما ينفجر الكيس يخرج الأب المظلوم من حبسه، ويعود المهاجر الذي طال غيابه إلى أحضان الوطن الأم مرة أخرى. لقد حدث التعادل المطلوب الذي يعيد الأشياء إلى نصابها المتوازن، فلا مجال للظلم أو الهجرة بعد الآن وقصة الكيس هي تجربة ثرية بالرمز والإيحاء وأبعد ما تكون عن النثرية الدعائية المباشرة»(27).
ونظن أن لجوء الكاتب إلى استعمال الحلم في قصة «الكيس» جعله يلجأ إلى الأسلوب الذي يعتمد على تداعي الصور والمعاني والخيالات والذكريات وجنحت هذه القصة إلى تصوير عوالم الذات الداخلية والخارجية وربطت الأنا الفردية بالجماعية.
يقول الدكتور عبد الحميد إبراهيم حول توظيف الحلم في الأدب المعاصر: «الإنسان المعاصر لا يقبل الأشياء من خلال المنطق المألوف –وجنح إلى اكتشاف اللاشعور، من خلال تعقد العلاقات الاقتصادية .. وكان لأبد أن نرى وسائل جديدة غير مألوفة، على شكل القصة، وعلى لغتها وعلى أسلوبها فتكتشف ما تستطيع به أن تستوعب التجربة من لغة الأحلام ومنطق اللاشعور»(28).
ولا شك أن اختيار إطار الحلم أو الرؤيا لا يعد غريباً عن تراثنا الديني خاصة في المجال الصوفي وعنصر الحلم ينجح في إيهام القارئ بواقعية ما يسرد. ويصبح النص بذلك مرتبطاً بالممكن أو المحتمل وعلى الرغم من وقائعه الغريبة، وشخصياته غير الواقعية ويسمح بدوره للمتخيل، أن يعالج القضية المطروحة باستقصاء لا تحده حدود. كما أنه وقاية للكاتب من الأجهزة الرقابية السلطوية.
أما فى قصة «أختى الشجرة» يقترن أسلوب السرد الذاتي في هذه القصة بالخيال الفني المبني على الصور البلاغية، مع الحضور الفني لحلم اليقظة ويتداخل نسيج الأحداث الواقعية بالفانتازي أو الواقعية السحرية.
يقول السارد بضمير الأنا المتكلم لأبنائه الصغار وهو يحكي لهم عن أخته الشجرة: «إن الشجرة امرأة خضراء ليس لها أرجل. وإن الأزهار أولادها وهي تبكي وتتألم إن حدث لأحدهم مكروه.. لكننا لا نسمع بكاءها إلا في الخريف إذ أنها تكتم أحزانها إلى أن يأتي الخريف حيث تنفجر باكية وتتساقط جميع دموعها المصفرة من الألم والحزن. إن الشجرة هي أختي كما قلت لكم. وإني أحلم أن يأتي اليوم الذي أرى فيه أولادي الخمسة وقد كبروا وشبوا وأخواتي الأشجار الخمس وقد كبرن وأثمرن…» (29).
وفي الفقرة الأخيرة من القصة يقول الراوي: «وذات مرة في حلم ليلة من ليالي الربيع زرت أختي الشجرة لأطمئن عليها. فوجدتها مشتعلة بالزهور، ممتلئة عروقها بدماء جديدة، ساخنة. كان جرس جذعها يرن رنيناً ساحراً. وكانت العصافير التي عادت للتو من أصقاع غربتها تؤسس فوق الأغصان المزهرة بيوتها وقراها التي هدمتها حكومة الريح»(30).
استخدم الكاتب عبد الكريم الرازحي في قصته «أختي الشجرة» أساليب وتقنيات الحكاية الشفوية واستفاد منها فائدة كبيرة في بناء قصته وتسلسل أحداثها واعتمادها على عنصر التشويق للقارئ أو المستمع، والحكاية ليست وسيلة من وسائل المتعة وقضاء وقت طيب في رحاب حركة السرد وتموجاته، كما يفهم بعضهم بل أن الحكاية موقف من العالم الذي يشغل فيه الإنسان حيزاً هاماً، تزداد أهميته بواسطة السرد الحكائي وسيلة للتعامل مع مختلف قضاياه واللغة الحكائية –إذن- استعمال فردي- مثل باقي الأشكال الأدبية- داخل أنماط ثابتة في الحكي أو أصبحت متسمة بالثبات بعد أن ترسبت في ذاكرة الجماعة، وأصبحت تقاليد أساسية لا غنى عنها فـ «الشكل الأدبي لا يتحقق إلا من خلال مجموعة الأنظمة اللغوية. لأنه هو نفسه أصبح نظاماً اجتماعياً، شأنه شأن اللغة»(31).
لقد استطاع الكاتب في القصة السابقة وفي قصص أخرى أن يحدث حلقة تواصل بين العناصر الفنية للحكاية الشعبية والعناصر الفنية للقصة القصيرة المعاصرة المتأثرة بالآداب الغربية وهدفه من ذلك اكتشاف شكل جديد ونسق تعبير جديد يثري عالمه القصصي.
أما قصة «جليلة» فهى تسلط الضوء على الفوارق الاجتماعية وقسوة الفقر وتبني نموذجها على قاعدة رصد المواقف والأزمة الإنسانية التي تمر بها الشخصية القصصية وحرص الكاتب على الغوص في عمق المعاناة التي كان يتحملها الناس إبان تلك الفترة الحرجة من التاريخ اليمني في عهد السلطة الإمامية المتخلفة وتتداخل العناصر الواقعية مع الأسطورية والغرائبية في النسيج القصصي مما يعكس تعددية وثراء في الأداء والرؤية، والتداخل بين الأسطوري والواقعي والشعبي والغرائبي سمة بارزة في قصص عبد الكريم الرازحي.
يقول الراوي بضمير الأنا وهو يتذكر حبيبته «جليلة» ابنة الحداد التي رفضت أمه تزويجه بها «دار حجر الذاكرة وأنا أركض نحوها، فرأيتني وجليلة نلتقي صدفة ولأول مرة عند النبع وقت الغروب كانت هي تملأ جرتها وأنا أسقي حماري. وعلى ضوء فانوس الشمس، عند الغروب، رأيت جليلة وكأنها غزالة تشتعل أو أنها امرأة من الجن. فتعوذت من الشيطان واستدرت استفهم من حماري الذي كان هو نفسه مذهولاً بجمالها…»(32).
ونلاحظ في هذه القصة أن عنصر الحوار الفني هو المسيطر على النسيج القصصي وقد استطاع القاص من خلال الحوارات التي يقيمها على ألسنة شخصياته أن يعبر عنهم وعن مستواهم الاجتماعي والثقافي ومن ثم يتحول الحوار من وسيلة لغوية إلى أداة مهمة لفهم الشخصية القصصية. ونتأمل الحوار التالي بين الطائر الأخضر وبطل القصة «.. وهل أمي راضية؟
كلا إنها زعلانة منك وغضبانة فهي لا تريد أن تربط روحك بروح الحدادة.
وما لها «جليلة» أليست إمرأة مثل بقية النساء؟! أمك تفضل أن تتزوج بواحدة من بنات الناس وليس بابنة حداد.
ومن قال إن الحداد ليس بإنسان. إنه أكثر إنسانية من معظم الناس في القرية. كما أن «جليلة» امرأة أجمل من كل نساء قريتنا. وإنني أحبها. ولن أتزوج بغيرها مهما حدث»(33) ورغم أن هذه القصة واقعية إلا اننا نجد في بعض فقراتها العنصر الفانتازي ظاهراً بشكل واضح وهو أداة فنية غير واقعية لتصوير واقع مرعب وغريب.
يقول الراوي بضمير المتكلم في فقرة فانتازية «ورحت بلا وعي أدور حول هذه الحفرة إلى أن وجدتني أسير في نفق يضاء بديدان تخرج من جرح في خاصرتي. كنت أسير بلا أرجل.. وكان رأسي قد انطفأ وتحول إلى كرة من الفحم المحروق. أما فمي فقد انفصل عن وجهي وأخذ هيئة عصفور من الدخان يلاحق ديدان الضوء الطالعة من جرح خاصرتي الملتهب»(34).
وفي قصة «موت البقرة البيضاء» التي تحمل اسم المجموعة القصصية نرى فيها الراوي يسرد لنا مشاهد متقاطرة من عالم القرية اليمنية تتشكل من منظور وجداني ذاتي وهذه المشاهد تضعنا وجهاً لوجه أمام المجرى العريض للحياة في القرية، وهو لا يقتصر على القاعدة الإنسانية فقط وإنما يتناول معها عالم الحيوان وفي هذه القصة أيضاً تتحول البقرة البيضاء إلى أسطورة تحكي تفاصيلها العمة «جودلة» مجنونة القرية المسالمة تقول:
«كانت نور البيت –ياأولادي- وسراج القرية. طوال عمري. لم أر بقرة مثلها .. كانت سحابة من سحب ربي .. سحابة خير وبركة.. تمطر في الصيف وفي الشتاء، وفوق كل البيوت كان لبنها قمراً وسمنها نجوماً .. قبل موت البقرة البيضاء، الدنيا كانت جنة، والناس كانوا ملائكة. البقرة البيضاء يا أولادي كانت شمس القرية. بعد موتها أظلمت الدنيا وأهلكنا البرد لا تنسوها. حذار أن تنسوا البقرة البيضاء، إنها أمكم الكبيرة»(35).
في هذه القصة تبرز خصائص الحكي الشفاهي وتأتي هذه الخصائص في سياق قصصي حديث، حيث نلاحظ التحام هذا الحكي الشفاهي مع عناصر القصة الأخرى، في وحدة عضوية متماسكة تستمر حتى نهاية القصة وإذا كان الغالب على منهج الرازحي في القص الرغبة في التأصيل والانطلاق من الجذور فإن الرؤية التي بنيت عليها القصة لا تقتصر على هذا الموقف فحسب، بل إنها تغوص إلى عمق الروح الشعبية لترصد حركة التحول الاجتماعي والحضاري اليمن.
وفي مقطع آخر من القصة يقول الراوي «رأت العمة «جودلة» أن الحياة في قرية «النجد» لا تسير حسب مشيئة بقرتها. رأت كل شيء يسير. بالمقلوب، فالناس يقبلون أقدام شيخ القرية، ويتملقون تاجرها، ويرتجفون خوفاً من أولاد الحكومة.. رأتهم يكذبون، وينافقون، ويتجسسون على بعضهم بعض.. شعرت بان كل شيء لم يعد نظيفاً يلمع كما كان في عصر البقرة البيضاء، فقد دخلت مكائن عجيبة أفسدت الهواء، وبهائم من حديد تتغذى بالنار والسليط، وسخت بروثها ومخلفاتها الأزقة والدروب، وسماء القرية، والليل، والقمر، والنجوم»(36) في الفقرة السابقة لاحظنا رفضاً للواقع الاجتماعي والحضاري الراهن فهو واقع اجتماعي متفاوت، وضاغط، وينطوي على علاقات جائرة بين الناس ويغدو التطلع والحنين إلى العالم البدائي القديم واستعادة فردوس غامض ما، واتحاد مع طبيعة أولية، واسترداد تناغم قديم في الوجود هو ما ينشده ويتطلع القاص إليه فهل يتحقق ذلك؟
وفي قصص هذه المجموعة تتجلى الأقاصيص المعنونة بـ «كوابيس الرازحي» لتدل على نموذج من القصة القصيرة جداً هذا النوع من القص الذي يقتصد في استعمال الكلمات والأحداث. وتحت هذا العنوان الرئيس تبرز مجموعة الكوابيس الواقعة تحت أربعة عنوانات فرعية، هي:
البرميل، المرأة الأفعى، يوميات تحولي إلى شجرة، انتفاخ. ونمثل في هذا الصدد بقصتين أولاهما قصة البرميل والثانية قصة المرأة الأفعى.
ففي قصة «البرميل» يقول الراوي في هذه القصة «كان الوقت بعد منتصف الليل، وكنت نائماً أحلم بامرأة تتسلق شجرة مثمرة تحت سرتي فجأة رن الجرس فانكسرت زجاجة الحلم. رن للمرة الثانية.. فنهضت مفزوعاً من النوم وهرولت شبه عار باتجاه الباب. فتحت الباب، وإذا ببرميل قمامة يصافحني ويقول لي متسائلاً وبلطف: معذرة، هل هذا رأسك؟ وللتو، رأيت رأساً يتدحرج في قاع البرميل»(37).
وفي قصة «المرأة الأفعى» يقول الراوي بضمير المتكلم «في الساعة الواحدة ليلاً. وصلت البيت قادماً من سفر فوجدت امرأة طويلة القامة، شعرها أسود منفوش واقفة عند الباب. قلت لها: صباح الخير فلم ترد سألتها ماذا تريد ومن تنتظر فلم تجب. فتحت الباب ودخلت فدخلت بعدي دخلت غرفة نومي فتبعتني، خرجت من غرفة النوم متجهاً إلى الحمام فلحقت بي. وحين خلعت ملابسي، استلقيت على السرير لأنام.. خلعت ملابسها واستلقت بجانبي. وفي الصباح.. وقد غسل النوم غبار التعب عن جسدي … استيقظت ملتفاً بجثة أفعى مقطوعة الرأس»(38).
الواقعية السحرية في هاتين القصتين قائمة على أحداث غرائبية. فانتازية يريد الكاتب من خلال هذه الأحداث الواقعية والفانتازية التعبير عن حالة هي حالة الرعب في عصرنا الحاضر وقد تشخص … فالغرائبية هنا كشكل تجريبي، هي الموقف من العصر الذي نعيش فيه وليست أبداً مجرد شكل ولعب فني.
لقد تداخل الفانتازي بالواقعي في هاتين القصتين ومن خلال تداخلهما تم خلق نص قصصي قصيراً جداً محرض للوعي والتفكير والمشاركة هو امتياز انفردت به قصة «البرميل» وقصة «المرأة الأفعى» وكوابيس الرازحي هي كوابيس عصرنا بشكل عام.
ومجموعة الكوابيس الواقعة تحت أربعة عنوانات فرعية: هي عبارة عن قصص قصيرة جداً وهذا النوع من القصة القصيرة جداً لم يجئ عند الكثيرين –لضرورة فنية، بقدر ما جاء تلبية لاحتياجات الصحافة الأدبية التي تشجع هذا اللون من الكتابة لاعتبارات ضيق المساحة. ولكن بعد فترة من الزمن أصبح هذا النوع من القص شكلاً من أشكال القص له رواده منهم على سبيل المثال زكريا تامر في سوريا، يوسف الشاروني ومحمد مستجاب ومحمد المخزنجي ويحيي الطاهر عبد الله في مصر.
يقول الناقد فرانك أوكونور في كتابة الصوت المنفرد «القصة القصيرة تستمد مادتها الرئيسة من الحياة ولذلك فإنه لا يوجد لدى كاتب القصة شيء ينظر إليه على أنه قالب جوهري، لأن إطاره الذي يرجع إليه لا يمكن أن يكون الحياة الإنسانية برمتها، هو لابد أن يختار دائماً الزاوية التي يتناولها منها. وكل اختيار يقوم به يحتوي على قالب جديد»(39).
وليوسف إدريس عبارة يقول فيها «إنني في كل قصة قصيرة اكتبها أشعر أنها إنما هي محاولة جديدة لتعريف جديد للقصة القصيرة لم أقله.. إن كل قصة قصيرة قرأتها وهزتني تماماً. كانت دائماً لحظة تركيب كوني متعدد المكونات، يؤدي إلى خلق مادة جديدة تماماً عن كل المواد العضوية وغير العضوية … مادة جديدة اسمها الحياة»(40).
ويقول نجيب محفوظ في هذا الصدد: «إن الشكل الذي تخرج به القصة القصيرة في الوقت الحاضر يخضع لقواعد الفن والتي تتميز في المقام الأول بالمرونة، وهي تتسع دائماً لكل جديد»(41).
إن الخروج على القوالب التقليدية، لا يعد خروجاً مطلقاً على مجمل القواعد التي تحكم الكتابة الفنية وهذا المعنى ما أكده نجيب محفوظ. والقصة القصيرة جاءت لتؤكد تلك المرونة التي تتميز بها الكتابة الفنية، ولم تأت مجرد بدعةٍ خالية من القواعد، إذا جاءت هكذا كانت مجرد كتابة مجانية لا تقدم شيئاً له قيمة والقصة القصيرة جداً محاولة ممن كتبها لتكثيف تجربته وهي أيضاً نوع من اطمئنان القاص إلى قدرته على تجريب لون آخر مرتبط شكلاً بالتجريب القديم الذي كان يمارسه ولجوء بعضهم إلى كتابتها بسبب من سهولة طروحاته وعدم قدرته الذاتية على الدخول في بناء وتفاصيل القصة الاعتيادية الأطول.
كوابيس الرازحي تلك القصص القصيرة جداً وقصص مجموعة موت البقرة البيضاء بشكل عام هي قصص مثقلة بالحزن والقهر والمطاردة والرعب ويضم جميع أحداثها خيط واحد وهو أن حياتنا الحاضرة غاشمة وعبثية ولا سبيل أمامنا سوى ذلك العبث. فهي قصص جميلة ورائعة ومشوقة تسرد علينا بشكل سحري فانتازي بعض ما جرى لنا في هذا العالم الغاشم المقلوب عالم لا منطق له ولا أمن فيه، عالم الفقراء الخالي من أي قطرة فرح، إنه عالمنا الحاضر الذي نعيش تحت سمائه.
إن قصص «موت البقرة البيضاء» للكاتب «الرازحي» قصص تؤكد عمق التجربة عند كاتبها بما تحمله القصص من رؤى فكرية وإنسانية وجمالية تتميز بها قصص المجموعة إذ ترصد أساليب الحياة وطقوسها المختلفة تخاطب وجدان القارئ وتؤجج تواصله مع المحكي والمتخيل في لغة شاعرية لكاتب متمرس يعرف ويمتلك مفردات الفن القصصي وأدواته وسحره الجذاب ويمسك بتلابيب الفن الجميل ليجعلنا أمام رؤية ثقافية جمالية لها سماتها المتميزة والمتفردة أيضاً لقد قدم لنا في هذه المجموعة قصصاَ ممتعة تفتح مسارات جديدة لفن القصة القصيرة في اليمن الذي تطور في السنوات الأخيرة ونضج بصورة تثير الإعجاب كما تثير الانتباه.
وفي الأخير نقول بشكل عام، يمكن عد الواقعية السحرية سمة مميزة في القصة العربية نلاحظها في أعمال الطيب صالح، وجمال الغيطاني، وزكريا تامر، ومحمد مستجاب… إلخ ونلاحظ ورودها في قصص هؤلاء وغيرهم بصيغ متفاوتة ومتعددة، ولكن
الملفت للنظر أن هذه الواقعية لم يتم استثمارها بشكل موسع وكامل، وأيضاً لم يتم تطويرها حتى تصبح علامة مميزة للأدب العربي، وذلك نظراً لغياب كم قصصي في هذا الاتجاه بالإضافة إلى غياب نقاش نقدي يضع هذا السحري الغرائبي ضمن قائمة الأسئلة المطروحة على الإبداع العربي.
الهوامش
(1) انظر: صلاح فضل، منهج الواقعية في الإبداع الأدبي، صـ31 وما بعدها وراجع أيضاً: د. ميجا الرويلي، وسعد البازعي، دليل الناقد الأدبي مطابع العبيكان الرياض، 1995م، صـ173 وما بعدها.
(2) منهج الواقعية، مرجع سابق، صـ313 وما بعدها.
(3) نعيم عطية، مؤثرات أوروبية في القصة المصرية في السبعينات، مجلة فصول «مجلة النقد الأدبي»، القاهرة المجلد الثاني، العدد الرابع، 1982م، صـ209 وما بعدها.
(4) دليل الناقد الأدبي، مرجع سابق، صـ173-174.
(5) تزفيتان تودوروف: مدخل إلى الأدب العجائبي. ترجمة الصديق بو علام، دار شرقيات القاهرة، 1994، صـ49.
(6) انظر: د/ حامد أبو أحمد «الواقعية السحرية»، ط أولى، دار سندباد القاهرة، 2002، صـ16.
(7) المرجع السابق، صـ43-44-45.
(8) حوار مع جابرييل جارسيا ماركيز «رحلة رجوع إلى المنبع»، ترجمة حسين عيد، مجلة الفيصل السعودية، العدد 350، سبتمبر 2005م، صـ110.
(9) حامد أبو أحمد «الواقعية السحرية»، مجلة الهلال، أغسطس 2005، صـ148.
(10) نقلاً عن كتاب «إنريسكي أندرسون إمبرت»، القصة القصيرة النظرية والتقنية، ترجمة علي منوفي، مراجعة صلاح فضل المجلس الأعلى للثقافة القاهرة، ط1، 2000، صـ240.
(11) زكريا القزويني: عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، مصر، ط5، مكتبة الحلبي وأولاده، 1980م، صـ10.
(12) المرجع السابق، صـ15.
(13) صبحي حديدي «الخطاب ما بعد الكولونيالي في الأدب والنظرية النقدية»، «مجلة الكرمل»، العدد 47 عام 1993م، صـ66.
(14) محمد برادة، مقدمة كتاب «مدخل إلى الأدب العجائب»، تزفيتان تودورف، مرجع سابق، صـ6.
(15) سمر روحي الفيصل: السحرية والغرائبية، صحيفة «الأسبوع الأدبي»، دمشق، عدد 10 أكتوبر، 2005م، موقع الصحيفة على الانترنت، صـ1.
(16) المرجع السابق، صـ1.
(*) قاص وشاعر يمني، من مواليد 1952م درس في عدن حتى الاعدادية وواصل دراسته الثانوية والجامعية في صنعاء تخرج من قسم الفلسفة والاجتماع عام 1979م من دواوينه الشعرية «طفل القواير» و «نساء وغبار»، أصدر مجموعته القصصية عام 1991م، اشتهر بمقالاته الصحفية الساخرة، يعمل الآن باحثاُ في مركز البحوث والدراسات اليمنية.
(17) مجلة قوافل كتاب دوري يصدر عن النادي الأدبي بالرياض السنة الثالثة، العدد الخامس، عام 1995، صـ130.
(18) حوار مع القاص عبد الكريم الرازحي اليمن الجديد العدد 6، السنة السادسة عشرة، يونيو 1987م، الصفحة 120.
(19) د/ حامد أبو أحمد «الواقعية السحرية»، مرجع سابق، صـ36-37.
(20) جابر عصفور، مجلة فصول، مجلة النقد الأدبي، مجلد 11، عدد 4 شتاء، 1992، صـ11.
(21) عبد الكريم الرازحي، مجموعة موت البقرة البيضاء، ط1، دار الفارابي، بيروت عام 1991م، صـ7.
(22) نفس المصدر السابق، صـ10.
(23) موت البقرة البيضاء، صـ12.
(24) موت البقرة البيضاء، صـ13.
(25) المجموعة القصصية «موت البقرة البيضاء»، صـ14.
(26) المجموعة القصصية «موت البقرة البيضاء»، صـ20-21.
(27) د/ ثناء أنس الوجود «قراءات نقدية في القصة المعاصرة»، صـ161-162.
(28) د/ عبد الحميد إبراهيم، مقالات في النقد الأدبي، جـ2، دار حراء المنيا، 1983م، صـ83.
(29) موت البقرة البيضاء، صـ32.
(30) نفس المصدر السابق، صـ25.
(31) د/ نبيلة إبراهيم سالم، لغة القص في التراث العربي، مجلة فصول، مجلة النقد الأدبي، المجلد2، العدد الثاني، عام 1982م، صـ17.
(32) مجموعة «موت البقرة البيضاء»، صـ29.
(33) نفس المصدر السابق، صـ27-28.
(34) مجموعة «موت البقرة البيضاء»، صـ26.
(35) مجموعة «موت البقرة البيضاء»، صـ41-42.
(36) نفس المصدر السابق، صـ45-46.
(37) مجموعة موت البقرة البيضاء، صـ56.
(38) مجموعة موت البقرة البيضاء، صـ56-57.
(39) فرانك أوكونور –الصوت المنفرد- ترجمة د. محمود الربيعي- مرجع سابق، صـ11.
(40) يوسف إدريس، القصة القصيرة أكثر الفنون تعقيداً، صحيفة الأهرام، العدد الصادر في 19 أبريل 1982م، صـ11.
(41) نجيب محفوظ، الإبداع الفني ليس له حدود، صحيفة الأهرام، عدد 10 مايو 1982م، صـ11.
باحث وأكاديمي من اليمن