بعدما يقارب خمسة عشر عاما على اصدار كتابه "العابر الهائل بنعال من الريح"، الذي اختار فيه مجموعة من رسائل رامبو، وأدخل عليها مواد من كتب أخرى، تتناول جوانب من حياة الشاعر في الفترة نفسها التي تناولتها رسائله، فيما يشبه عملية اعادة التأليف لمقطع مهم من شخصية الشاعر الفرنسي المتشرد، ها هو الشاعر والناقد والمترجم شربل داغر يقدم على خطوة شبيهة، فيتناول الشاعر (راينر ماريا ريلكه)، في كتاب يحمل عنوان "الوصية" وينطوي على "كتابين" مختلفين ومتشابهين في آن. فالكتاب الأول كان ريلكة نفسه هو من أعطاه عنوان "الوصية" وهو النص الذي كتبه عام 1920 ولم ينشر حتى عام 1974، أما ترجمة حياة: توليف نصي"-عنوان الكتاب الثائ- فهو من وضع داغر الذي جهد في ترجمة رسائل متبادلة بين ريلكه من جهة، والشاعرة الروسية مارينا تزفيتاييفا، والشاعر الروسي بوريس باسترناك، من جهة ثانية، وعمل على اقتطاف ما يصلح منها لكتاب "قصة علاقة" بين الشعراء الثلاثة، وخصوصا قصة العلاقة بين تزفيتاييفا وريلكه، معتمدا اسلوبا خاصا في الترجمة والتوليف، يقوم على فهم خاص لهاتين العمليتين. فهو، في الترجمة، ينطق من المعنى المتمثل في عملي"التوسط" (بين نصين / لغتين)، وليس "النقل" من لغة إلى أخرى، ويجمع اليها ما عبرت عنه الشاعرة تزفيتأييفا، في أحدى رسائلها الى ريلكه، بقولها عن الترجمة إن أفضل ما يعبر عنها هو ما تتضمنه الكلمة الألمانية( Nachdichte) التي تعني "تتبع طريق شاعر، شق الطريق عينها التي سبق له ان شقها و.. اعادة شق السبيل فوق الخطوات التي غمرها العشب للتو"،وكانت عبرت عن المسألة، في الرسالة نفسها، تعبيرا شعريا حين قالت "ارغب،اليوم، بان يتكلم ريلكه عبري. هذا ما نسميه في اللغة الاعتيادية الترجمة (..) هكذا أنقل ريلكه الى الروسية، كما سيقوم بنقلي بدوره، يوما ما، الى العالم الآخر". كما يضيف داغر، الى هذه المعاني، معنى الترجمة في العربية، أي النقل من لغة الى أخرى والابلاغ (النفسي والاخباري وغيره) عن آخر، وربما عن الذات كذلك (ترجم عنه: أي نقل أمره، كما تعني كذلك "سيرة" شخص، مثل "ترجمة حياة" وغيرها.
وفي التوليف، يستند داغر على معرفته بالشاعر، بوقائع حياته
وبأنماط كتاباته، كما يستند –أساسا- على معرفته بما يسميه الوقوع على "المبنى الحواري" الذي نهض عليه الكتاب الأول (الوصية)، بما يسمح بالتوليف في الكتاب الثاني (ترجمة حياة). وهو – نفسه – ما يسمح بخلق روح مشترك بين الكتابين، رغم اختلافهما الكبير في الأصل، لجهة أسلوب الكتابة وشكلها والغرض منها والدافع اليها. ف"الوصية" التي كتبها الشاعر تحت وطأة إحساس باقتراب النهاية، وخشية من انقطاع الحياة والشعر، بعد انقطاع حقيقي عن العمل على كتاب "المراثي". في أثناء الحرب العالمية الاولي، الوصية هذه هي كتاب من تأليف ريلكه نفسه، وقد كتبها لتكون نصه الذي يعبر عن أزمته وخشيته، اما "ترجمة حياة"، فرغم اشتمالها على الرسائل من الشاعر واليه، فان جهد الترجمة والتأليف (الاختيار والحذف والتنسيق..) يجعل النص عملا جديدا غير الذي كانت عليه الرسائل.
من هنا، يبدو عمل داغر هذا، وصنيعه عموما- وبصرف النظر عن الدقة في اللغة، الأمر الذي لا ادركه انا، اذ لا يدركه إلا من يعرف اللغة التي تمت الترجمة عنها، فضلا عن اللغة العربية المترجم اليها- فوق ما تعودنا من الترجمة والتقديم في تصنيع المترجمين الحرب، انه توغل في النص، وحضور للمترجم – المؤلف الثاني فيه، بقدر ما يكون النص (الأصلي) حاضرا في روح المترجم وفي وعيه، وبقدر ما هو المترجم مهيأ ليكون صاحب نص، وليس مجرد ناقل / أو وسيط. هذا فيما يخص العمل الذي قام به المترجم – المقدم، فماذا عن نص ريلكه "الوصية"، وعن رسائله الى تزفيتاييفا، ثم ماذا عن رسائلها هي اليه؟ ماذا عن العلاقة التي جمعتهما رغم أنهما لم يلتقيا أبدا، ولكنهما كأنا على وشك اللقاء، وكانت الرسالة الأخيرة من تزفيتاييفا تلح على اللقاء، وتقترح زمانه ومكانه، لولا الموت الذي داهم ريلكه؟
الوصية
يستعير ريلكه، لافتتاح نص الوصية، عبارة جان موريياس "إلا انني أتهم خصوصا من يتصرف ضد ارادته"، وهو، في ذلك، لا يفعل أكثر من تصوير حاله هو مع هذه الإرادة – ارادته – التي اغتصبت حين ارسلوه الى الجبهة، وفرضوا عليه خوض الحرب. وهاهو، حين اختار أن يعتكف معتزلا، يصرخ "سكينتي تخربت"، لسبب اقل هولا من الحرب بكثير، سبب قد يكون سخيفا لأي إنسان عادي، وهو أن البناء المجاور له تحول الى "منشرة، وهي تعمل منذ عشرة أيام، محدثة طنينا ودويا من دون توقف". واذا كان يبدو معتدلأ هنا، فهل هو كذلك حين يعلن، في تساؤل، وربما في حيرة "العاشقة"، التي لا تعترض طريقه، أو تكبحه، أو التي لا تحول مساره الى استراحات الحب،أهي موجودة؟… آه ! لو كانت موجودة، لكانت أعانته؟
ما الذي كان يريده هذا الشاعر، حبا وحريه مطلقة في آن؟ هذا المستحيل إذن؟ ولكنه مطلب المبدع، الشاعر الذي لن يتخلى عن إبداعه حتى من أجل الحبيبة.. فالفنان هو "من الذين تخلوا، بفعل طوعي، واحد ومحتوم، عن الربح والخسارة". وفي مسودة رسالة يكتب "لو كنت حرا، لو لم يكن قلبي عالقا مثل كوكب بعلاقات الفكر غير القابل للدحض. لكانت أعلنت كل كلمة معروفة، هنا، بوصفها مقاومة، رفضا وشكوى، مجدك، ولكانت أعلنت العصيان لصالحك، والتأييد والاندفاعة صوبك – للموت والانبعاث فيك ".
فالحب، مثل الحياة (والموت)، وهما مثلا الابداع، ينبغي أن تكون جميعا سبيلا للانبعاث، لمزيد من الحرية والالتصاق بالذات الحقيقية. والشاعر واضح في فهم علاقة الحب، وفهم ذاته داخل هذه العلاقة، ف"بقدر ما تبدل الحبيبة اتجاه كل حدث صوبها، أتوقف عن أن ا أكون حقيقيا". ويذهب أبعد من ذلك وهو يعتقد أن "اسوأ السجون هو الخشية من ايذاء من نحب". لكن هذا لا يعني سوى الخشية من الآثار المدمرة للحب. فهو، إذن، يريد «ا لحب المطلق، من دون أن تخدشه الآمال، الانتظارات، وطلبات هذا القلب الذي، من فرط خشيته من الفقدان، يبدو عاجزا عن امتلاك سعادته". هو يريد هذه "السعادة"، مهما كان السبيل والثمن، السعادة التي تتألق بفعل الابداع أساسا، لكنها قد تتطلب حبا غير الحب المتطلب.
ويظل الشاعر والإنسان في ريلكه، كأنهما كيانان مختلفان، يقاوم الواحد منهما الاخر، فالأول يشتاق ويشتهي ويحتاج، والآخر يقاوم ويرفض ويعتزل. ويستمر التردد هذا بين الكيانين الى حد السأم "كم أنا سئم لاقامة هذه الألغام المضادة لتطاولات الحب"، والصراخ بيأس ربما "أين هو هذا القلب الذي، بدل ان "يوجهني" صوب هذه السعادة المتقلبة او تلك، يدعني اهيئ له، "هذا"الذي ينبجس دون توقف؟". وهو في مسعاه وغايته، مهما تغيرت عباراته، تبقى أسئلته الكبرى تدور في مجال الحرية التي تعني له أشياء كثيرة، وترتبط – أيضا- بأمور عدة، فيصرخ – أو يهمس "إلى أين الذهاب للفوز بالحرية؟ إلى اين للفوز باعتدال مزاج وجودي الحقيقي، وبالبراءة التي لا احتمل فقدانها طويلا؟".
وانه ليبدو غريبا عن نفسه غربة كبيرة، حين يجد نفسه هذه بين ذراعي المرأة التي يحب. فلغربة هذه تتجسد في صورة التخلي عن النفس، وفي التحول شخصا آخر غيره هو"إذا تخليت عن كل شيء، عن كل ما يؤلفني، وأسلمت نفسي في صورة عميا، كما أرغب أحيانا، إلى ذراعيك، وضعت – فإن واحدا آخر تخلى عن نفسه هو الذي يمسك
بك: لا أنا، لا أنا!".
هذه الخشية من الاتصال والتواصل، عبر التخلي عن النفس، تترافق مع رغبة عالية في العزلة، عزلة يعتقد الشاعر أنه خارجها لا يستطيع أن يكون سيد نفسه، لماذا؟ لأن غايته الحقيقية في الحياة، وفي الحب حتى، هو أن يكون راضيا عن نفسه، وهو لا يكون كذلك إلا في العمل "في عملي" يقول. ولذا، ومادام لا يقوى "على التخفي ولا على التبديل" فإن كل ما يتمناه، بل يصلي لأجله، هو أن يجنبه من يحبونه ذلك التواصل الذي يجعله فاقدا نفسه. وعلى الآخرين، الحبيبة وكل من يحب الشاعر، أن يراعوا هذا الجانب، والا يسيئوا معاملته من أجل سعادتهم، وأن يعينوه على تنمية السعادة العميقة والمتوحدة في نفسه وهو يفترض أن كل من أحبه يدرك هذه المسألة فيه، ويملك أدلة كبيرة عليها.
ترجمة حياة
(توليف نصي)
يطلق شربل داغر على القسم الثاني من الكتاب اسم "حياة بالمراسلة "، معتمدا- كما يقول- تدبيرا كتابيا "أتاحه لي كون المواد التي يعتمد عليها لم يتم ضبطها وتثبيتها في كتاب، في عنوان، من أي من الشعراء الثلاثة المعنيين بها، أي راينر ماريا ريلكه وبوريس باسترناك ومارينا تزفيتاييفا، في حياتهم، ولا تنفيذا لوصية أحدهم أو ثلاثيتهم بعد وفاتهم. ظلت الرسائل بذلك نصا "مفتوحا" إذا جاز القول، على الرغم من جمعها لاحقا، بعد عدة عقود على تبادلها، في كتاب صدر بالفرنسية في عام 1983م عن دار غاليمار". ويعود المترجم ويذكر، في تقديمه النص الثاني هذا، عدا ما ذكره في مقدمة الكتاب العامة،
أنه من أجل انجاز كتابه هذا استعمل مقاطع من رسائل بعينها، وليس جميع الرسائل المحققة في الكتاب الفرنسي المذكور، وذلك كي يتمكن من حبك "الحكاية" التي يريد. ومع ذلك فإن القارئ سيلحظ – بلا شك – أن داغر قد استبعد باسترناك ورسائله بشكل يكاد يكون كاملا، وركز جهده على صوغ القصة الغرامية – الابداعية بين ريلكه ومارينا تزفيتاييفا، من خلال رسائلهما المتبادلة.. مبررا هذا (التغييب) لرسائل باسترناك، في كون باسترناك نفسه الذي تدبر المراسلة بين الشاعر والشاعر، قد أبعد عن هذه المراسلة لبعض الوقت، بل ولدت مشاكل بين الشاعرين الروسيين (باسترناك وتزفيتاييفا) على الرغم من الاستدراكات اللاحقة. لكن المسألة – من وجهة نظري- تحتمل وجهة أخرى، إذ كان يمكن لحضور رسائل باسترناك ان تضيء مفاصل أخرى في العلاقة الثلاثية، بدلا من اقتصار الأمر على العلاقة الثنائية. لكن هذا ما اراده داغر في صنيعه، وله الحرية فيما أراد.
هذه هي قصة أربعة أشهر ونصف الشهر من المراسلات، عالية النبرة وعميقة التناول، ومأسوية النهاية (تنتهي بوفاة ريلكه). في الرسائل قدر من الحذر في البداية، وقدر من التواصل والتعمق بالتدريج، والتقدير العالي والرغبة في اللقاء- خصوصا من قبل تزفيتاييفا- لتغدو المراسلة "بديلا عن الحياة، أو تمثيلا لها". فالشاعر، هنا، لا يختلف عن الشاعر صاحب "الوصية"، رغم ما يبدو، في رسالته الأولى الى الشاعرة الروسية، من رغبة في اللقاء. فهو يتساءل بإلحاح "لماذا ما أتيح لي سابقا اللقاء بك، مارينا تزفيتاييفا؟ ولو صدقت ما تقوله رسالة باسترناك، لجلب لقاؤنا، لك ولي، فرحا عميقا وحميميا، هل يمكن تعويض ذلك في يوم ما؟». ففي رسائله التالية، سنجد الشكوى من التواصل، فهو يطلب منها «دسامحيني، يا عزيزتي مارينا،.. في حال توقفي فجأة عن الكتابة وخلودي إلى السكوت، وهذا لا يعني أن عليك التوقف عن مكاتبتي، غالبا وفق ما تشتهين "التحليق "..".
وحين تعرض تزفيتاييفا، برجاء والحاح، مسألة اللقاء، فان ريلكه، وعلى خلاف ما تعتقده من "حصول الاندغام" يعلن خوفه من "الخطوة الاولى" تجاه هذا اللقاء، فهو في حاجة إلى معونة خاصة للغاية، ونجده وفق احتياجاته هو، الأمر الذي يجعله لا يرفض اللقاء، لكنه يتردد في تحديد زمانه ومكانه. وفي الأثناء، يخوض الشاعر والشاعرة في بحر النقاشات الشعرية والإنسانية، فتبدو الرسائل بينهما صدى لقاءات تتم في الحلم، تعويضا عن اللقاء في الواقع. وكأن عبارة الشاعرة "يعيش الحب من الكلمات، ويموت من الوقائع"، هي في العمق، أكثر من تبرير لعدم تحقق حلمها بلقاء الشاعر. وحين تحس الشاعرة بما تعتقد أنه هروب الشاعر من الالتزام بأي شيء تجاهها، تطالبه بالمبادرة "سأكون في هذا المكان أوذاك، بعد أسبوعين، فهل تأتين؟.. يجب أن يصدر هذا الأمر عنك" وكأنما شعرت بانتفاض كبريائها، فقررت أن يبادر هو الى تحديد زمان اللقاء ومكانه، لا أن ينتظر المزيد من الإلحاح من قبلها! وفي الرسالة قبل الأخيرة (فالأخيرة هي التي كتبتها له بعد موته) تكتفي تزفيتاييفا- على أثر عدم تلقيها ردا على رسالتها- بالتعريف بعنوانها والسؤال "هل تحبني بعد؟". وكم كان شعورها بالفقد عظيما حين علمت بخبر رحيله، فكتبت له رسالة تبدو فيها غير مصدقة، ولا تريد تصديق رحيله، مؤمنة أنه يقرؤها من دون بريد، وتدعوه أن يكتب لها، وتتمنى له – رغم ذلك "مشهدا باهرا للعام الجديد في السماء" (مات ريلكه فجر اليوم التاسع والعشرين من كانون الاول 1926).
هذه هي أبرز معالم الكتاب الذي يقدمه شربل داغر، ويزوده مقدمات ذات قيمة، ومجموعة مفيدة من الهوامش التي لا غنى عنها، وينهيه بنبذة عن حياة كل من الشاعرين تنطوي على المفاصل الأساسية في حياته / حياتها.
عمر شبانة (شاعر وناقد من فلسيطين)