جليلة طريطر*
مقدّمة
اليوميّة الخاصّة نصّ يدرج في كتابات الأنا، وتعتبره النّاقدة الفرنسيّة بياتريس ديدياي([i])Béatrice Didier وليد القرن التّاسع عشر بامتياز، علما وأنّها أرّخت لنشوئيّته التّاريخيّة انطلاقا من استقرائها لمدوّنة أوربيّة ارتبطت ارتباطا عضويا بسياقاتها الأوربيّة المخصوصة، سواء التّاريخيّة منها أو الثّقافيّة. ولئن اعتنت بمناقشة مفهوم الخاصّ / الحميمIntime باعتباره فضفاضا لا يسمح البتّة‑ في نظرها‑ باستبعاد الحياة الفكرية لكاتب اليوميّة Diariste فضلا عن إقصاء الآخر بما هو واقع نظريا خارج مجال الذّات الفرديّة الخاصّة، فهي قد ألحّت على تجنيس اليوميّة وفق خصيصتين أساسيّتين : أولاهما اعتبارها كتابتها أشبه ما تكون بتمرين يوميّ متواصل ( الكتابة يوما بيوم) رغم ما قد يعتريه فعليا من انقطاعات قد تطول أو تقصر، و ثانيتهما هو كونها تقدّم لنا دون سواها من كتابات الذّات الأخرى تجربة معيشة حيّة يقترب فيها زمن الحكاية/ الأحداث المرويّة من زمن الخطاب/ مقام التّلقّظ، بحيث لا يتجاوز الفاصل الزّمنيّ بينهما أكثر من ساعات معدودات، خلافا للسّيرة الذّاتيّة مثلا الّتي تكون فيها عمليّة الاسترجاع على المدى الطويل، خاصّة في مستوى رواية محكي الطّفولة الّذي يمثّل عادة مرتكز البداية فيها. وقد أشارت ديدياي إلى مقاربتين سابقتين لنّصها المذكور، إحداهما ل ميشيل لولو Michèle Leuleu اعتنت فيها بتفحّص طباع الكتّاب في يوميّاتهم، في حين عنيت الثانية، وهي ل آلان جيرار Alain Girard بتتبع تاريخيّة مفهوم الشّخص. ولكنّ ديدياي حادت عن هذا المنحى باعتباره يؤكد القيمة الوثائقيّة والسيريّة لليوميّة، وفضّلت مقاربة اليوميّة باعتبارها أوّلا وأخيرا نصّا مكتوبا، وهو ما كان ملائما لسياقها النّقديّ الفرنسيّ الّذي هيمنت عليه في ذلك الوقت التوجّهات البنيويّة على نحو مخصوص.
نشير في البدء إلى أنّ هذه المقرّرات النّظريّة لديدياي، تبقى على أهميّتها نسبيّة، لأنّها موصولة بداية بإطارها الثّقافيّ والتّاريخيّ الأوربيّ المختلف نسبيا عن السّياقات العربيّة، فضلا عن كونها خاضعة حتّى داخل أطرها الأوربيّة المخصوصة إلى تباين التوجّهات النّقديّة (2) المهتمّة لاحقا بكتابات الذّات، إضافة إلى تنوّع النّصوص الّتي قد لا تستجيب في كلّ الحالات لمثل هذه التوجّهات المنهجيّة والمعنويّة، بل وتتجاوزها في عديد الحالات. وفي هذا السّياق بالذّات نتساءل من موقع مغاير ثقافيا عن ممارسة كتابة اليوميّة الخاصّة، مثلما تجلّى لنا لدى الكاتبة التّونسيّة حفيظة قارة بيبان (3) في نصّها الموسوم ب النّجمة والكوكوت (4) وعن مدى خصوصيّة تجربتها الكتابيّة هذه في ارتباطها عضويا بحدث تاريخيّ متميّز في سياقها عرف ب «ثورة الياسمين” التي مثّلت في 14 جانفي 2010 منطلق ثورات “الرّبيع العربيّ”، فضلا عن كونها تجربة تنخرط في كتابات المرأة لذاتها، بما هي كاتبة تونسيّة عربيّة معاصرة. فإذا كانت بياتريس ديدياي لم تستعرض في تصنيفها المضمونيّ ليوميّات مدوّنتها أكثر من عدد محدود من الأنماط مثل يوميّة السّجن، والمخدّرات، والمرض، والسّفر على سبيل المثال، فهل يمكن أن نضيف إليها نمطا آخر غير ما ذكرت، وهو ما اصطلحنا عليه ب اليوميّة الإيديولوجيّة” (5) وهي صنف استقرأناه فعليا صلب النصّ المذكور. فبماذا يمكن تحديد المقوّمات الأجناسيّة (6) الخلافيّة لهذه اليوميّات الموسومة عندنا بالإيديولوجيّة في يوميّات حفيظة قارة بيبان؟ ألا يمكن أن يتعارض هذا التوصيف الإيديولوجيّ مع ما عرفت به اليوميّة الخاصّة من جنوح إلى محاورة الذّات، وانغلاق شبه مرضيّ على الحميم والفرديّ، غالبا ما يجعلها أقرب إلى ما تسميه ديدياي ب “الملجأ الرحميّ”، وأبعد ما تكون عن الاستدعاء المركزيّ للآخر، بما يقتضيه من استحضار مكثّف للشّأن العامّ، والمرجعيّات التّاريخيّة؟ إلى أيّ حدّ يمكن التّسليم بأنّ أفق اليوميّة المخصوص هو أساسا أفق “الدّاخل” أو الجوانيّ، مقابل” الخارج”، أو البرّاني، لأنّ هذا الخارج هو في الأصل الأفق المرجعيّ المميّز للمذكّرات تحديدا؟ وبما أنّنا إزاء كاتبة، فهل يمكننا أن نتغاضى من هذه الجهة النوعيّة بالذّات عن وظائف مقام التّلفّظ الجندريّ في توجيه الفعل التّسجيليّ للحياة اليوميّة لدى المرأة كاتبة ليوميّاتها؟ فقد لاحظت ديدياي أنّ ممارسة كتابة اليوميّة كانت موصولة دائما في التّاريخ بالمرأة، نظرا لكونها مقصيّة تجد في تدوين مشاعرها وأفكارها بديلا ورقيا من هذا الإقصاء الاجتماعيّ. وهو ما يدلّ في نظرنا على أنّ ما نسمّيه داخلا مقابل ما هو خارج في اليوميّة ليس في واقع الأمر سوى حوار جدليّ، لا يغيب فيه التّاريخ الخارجيّ بقدر ما ينقاد فيه انقيادا إلى منظور كاتب اليوميّة الذّاتي، هذا المنظور ذاته تكيّفه مختلف تراتبيّات الأنا المتكوّنة من تموقعاته الاجتماعيّة مثل (الطبقة، الجنس، المهنة…).
إنّ السّؤال الإيديولوجيّ هو في باطنه سِؤال هوويّ في الصّميم، يطرح إشكاليّة تعالق الدّاخل والخارج في علاقتهما بآليّات كتابة الذّات في اليوميّة الخاصّة، ولكنّه في الآن ذاته سؤال لا يمكنه أن يتغافل عن مساءلة علاقة الشّكل في اليوميّة بإنتاج مضمونها الإيديولوجيّ. فإذا سلّمنا بأنّ اليوميّة “كتابة حرّة”، مختلطة اللّغة والأساليب، أو عارية من الأدبيّة ” لا بنية لها”، مثلما قالت بذلك ديدياي، فهل سيؤدّي ذلك بالضرورة إلى تأكيد تشظّي اليوميّة وتجزّئها في كلّ الحالات، بما يجعلها عاجزة عن بناء هويّة سرديّة عضويّة، تلمّ دفق الكلام فيها حتّى وإن كانت إيديولوجيّة المنزع؟ هل يستحيل على اليوميّة الخاصّة حتّى على نحو أعمّ أن تكون أكثر من شتات مبعثر عاجز عن منحنا صورة لهويّة متماسكة يبنبها السّرد؟ وهل يستحيل تبعا لذلك على هذا الشّتات اليوميّ المنثور على خطّ الزّمن التّصاعدي، أن يبلغ مبلغ المشهد الأدبيّ التّمثيلي للأنا، وهو يصطرع يوميا مع أمواج الزّمن المتلاطمة؟ هل يتعارض التّوجّه الإيديولوجيّ فعلا مع الأدبيّة تأكيدا لاستبعاد نزوع كتابة اليوميّ للهاجس الفنّي الجمالي؟
هذه الأسئلة المترابطة في واقع الأمر، نطرحها وفق خطّة نقديّة تسعى في بدايتها إلى الـتّعريف بحيثبّات نشوئيّة النّجمة والكوكوت وتوصيفه نصّا يكتب اليوميّ، وهو ما يؤّدي إلى مقاربة ثلاثة مستويات متشابكة: تشكّل اليوميّة الإيديولوجيّة في النّص في المستوى الأوّل من حيث هي مضمون، أو فضاء يحتفي بقول مرجعيّات العالم في علاقة متينة بمنواله الشّكليّ المنتج لهذا المعنى. أمّا المستوى الثّاني، فيتعلّق بمساءلة مدى أدبيّة النّص استجلاء لمدى وجاهة التّسليم عامّة بعدم نزوع اليّوميّات إلى تحقيق شرط الأدبيّة على أساس أنّها كتابة حرّة، خاصّة وأنّنا ندرس في هذا الصدد يوميّات ذات توجّه إيديولوجيّ؟ ثالثا وأخيرا نطرح خصوصيّة السّؤال الهوويّ الإيديولوجيّ لدى حفيظة قارة بيبان باعتباره سؤالا لا يمكنه أن ينفصل عن مقام تلفّظّه الأنثويّ
في تجنيس النّجمة والكوكوت وتوصيفها
نشتغل بنصّ النّجمة والكوكوت للمؤلّفة حفيظة قارة بيبان في طبعته الثّانية الصادرة في تونس عن رسلان للطّباعة والنّشر سنة 2018. وقد جاء في الصفحة الأولى من الغلاف، وهو مصاحب نصّي ما يفيد صراحة تجنيس النصّ في عداد اليوميّات الخاصّة، بما من شأنه أن يجعل اسم المؤلّفة الماثل أعلى الصفحة في مقام تلفّظ مرجعيّ ذاتيّ محمول على بسط الهويّة المدنيّة لكاتبة اليوميّة، وهو ما يؤدّي حتما إلى معاملة الاسم العلم هنا معاملة الأنا الأصليّ الواقعيّ (7) الّذي يتحمّل بالكامل مسؤوليّات كلّ ما يرد على لسان قلمه من أقوال، أو مرويّات. ولا يفوتنا هنا، ونحن نستدلّ على مرجعيّة النصّ الذاتيّة أن نشير إلى عدد من الملاحظات المبدئيّة الّتي تسم هذا التّعريّ الاسميّ بسمات خلافيّة لافتة بداية من عتبات الغلاف.
لقد اقترن الاسم العلم هنا بالاسم التّأليفيّ (8) Auctorial المستعار: بنت البحر. وفي مثل هذه الحالة يبطل التّجاور القائم بين التّصريح باسم العلم المدنيّ والاسم المستعار/ القناع الاسميّ، الالتباس الهوويّ الّذي يدور عليه التّقنّع الاسميّ الاستعاريّ عادة، وخاصّة لدى المرأة الكاتبة، ليصبح هذا التّجاور التّراتبي مفصحا عن تراتب هويتين متداخلتين في النصّ، هويّة تأليفيّة تتصدّر الغلاف لتذكّر بأنّ بنت البحر لافتة اسميّة مشهورة لمؤلّفة معروفة، أو إمضاء تأليفيّ لأديبة تتمتّع بموطن قدم راسخة في مجال التّأليف الرّوائي والقصصيّ التّونسيّ المعاصر. وهو ما يعني أنّ الاسم المستعار لا يشتغل هنا مطلقا بوصفه قناع تعتيم هوويّ، مثلما هو معروف في كتابات المرأة العربيّة الرّياديّة (9) بل على العكس من ذلك هو نوع من التّجلّي الّذي يقوم على إبراز الهوية التّأليقيّة/ القلميّة والاحتفاء بها من ناحية، وتمحيضها من ناحية أخرى لرفع الغطاء عن الهويّة المدنيّة الأصليّة، بما هي خلفيّة مرجعيّة تريد بنت البحر تقديمها هذه المرّة‑ خلافا لسائر إنتاجها الرّوائيّ السّابق‑ موضوعا لكتابها وقرّائها.
المؤلّفة هي إذن صورة مقاميّة من صور الاسم العلم، لأنّها تحيل تحديدا على ذات فاعلة في الثّقافة، تتمتّع برصيد تأليفيّ وكفاءات قلميّة مشهود بها. ولأنّها تمارس فعل الكتابة الذّاتيّة هنا، فإنّ حفيظة الإنسانة، هي موضوع الفعل الكتابيّ، تتعامل معها المؤلّفة باعتبارها شخصيّة واقعيّة مركزية في نصّ يكتب يوميّاتها، أي حلقات من تسلسل معيشها اليوميّ في فترة محدّدة زمنيا، وهي الفترة المصرّح على الغلاف بامتدادها من ديسمبر 2010 إلى ديسمبر 2013. وبمعنى آخر تكون كتابة يوميّات حفيظة قارة بيبان موكولة إلى المؤلّفة المعروفة ب بنت البحر، وهو ما يتحقّق فعليا في مستوى مؤشّرين: مؤشّر النّشر، فاليوميّات غادرت المخطوط وصارت كتابا منشورا لا يمكن أن يعزى لغير مؤلّفته. مؤشّر صياغة العنونة: النّجمة والكوكوت، صياغة، الأرجح أنّها مابعديّة، محايثة للنّشر، ذات أبعاد أدبيّة، نظرا لما يكتنفها من غموض وإلغاز في هذا الطور الأوّلي من تشكّل النصّ المكتنز داخل صيغة عنونته. إنّنا أبعد ما نكون عن صيغ العنونة المباشرة ذات الإحالة الأجناسيّة المباشرة من نوع يوميّاتي قياسا على حياتي (10) في السيرة الذاتيّة. بل على العكس نقف بداية على ضرب من الأدبيّة القائمة على الرّبط الملغز بين شيئين لا يربط بينهما رابط عقليّ، النّجمة جسما سماويا، والكوكوت أداة في المطبخ. وهو ما سيقودنا لاحقا إلى فكّ جزئيّ لهذا الإلغاز على اعتبار أنّ النّجمة والكوكوت كليهما بمثابة مفتاحين مرجعيين بهما يتمّ فكّ شفرات النصّ بعد تجاوز عتباته والإيغال فيه، ولكن العلاقة التّرابطيّة بين العلامتين تظلّ نقطة استفهام لأنّها تحتاج إلى تفكيك ما بعديّ يتجاوز مجرّد التّرابط الذّي يفيده العطف إلى تأويل قرائي في مستويات ضمنيّة أعلى.
إنّ إندراج استراتيجيّة العنونة ضمن صيغة متعدّدة الأبعاد الدّلاليّة يؤشّر على أنّنا إزاء مؤلّفة تعيد إنتاج فترة من حياتها وقفا لآليات كتابيّة غير مسطّحة، إذ لا تعتمد أساسا على التّواصل الإخباري المحض بما هو تواصل من درجة أولى، بل تنشد بداية إدراج معيشها في أبعاد كتابيّة أدبيّة منفتحة على التّأويل. وتتأكّد لدينا سطوة المؤلّفة / الكاتبة على اسم العلم عندما ننزل إلى أسفل الصفحة الأولى من الغلاف حيث يتفرّع المشروع اليوميّاتي إلى عناصره التّكوينيّة المراد توجيه فعل القراءة إليها، فإذا حفيظة/ المؤلّفة: (روائيّة وقاصّة) تعلن بأنّها تنشر يوميّات حفيظة/ الكاتبة محدثة علاقة استبداليّة بين اسم العلم حفيظة، والمقام التّأليفيّ/كاتبة، وهو ما يؤدّي إلى الإلحاح على تنزيل المشروع الكتابيّ في سياقاته الإيديولوجيّة الفكريّة والأدبيّة، بدلا من تمحيضه لسرد الأنا اليوميّ في أبعاده الحميمة أو السريّة. هذا التّوجّه الّذي يجعل من الأنا الكاتبة بؤرة السّرد المركزيّة في اليوميّة، هو أنا مشارك وليس أنا منفردا بهذا المشروع الكتابيّ، فظهور حليم قارة بيبان الفنّان التّشكيليّ (فنّان تشكيليّ متعدّد الاختصاصات والتّعبيرات)، وهو أخو حفيظة باعتباره أنا متلفّظا مشاركا في النصّ من شأنه أن يوسّع من حدود الدائرة التّلفّظيّة المرجعيّة الذّاتيّة لليوميّات، فضلا عن أنّ تفعيل هويّته الفنيّة حصريا هو مؤشّر واضح على تأكيد الهيمنة الثّنائيّة للتموقع الهوويّ الثّقافي على حساب التّموقع الإنسانيّ الحميم أو الجوّانيّ. أو لنقل على الأقلّ إنّ الخطّ الموجّه للفعل الكتابيّ، هو إدراج الخاصّ (بما هو أشمل من الحميم والسرّي) في الشّأن الثقافيّ والتّاريخيّ العامّ.
إنّ طرافة يوميّات حفيظة قارة بيبان اللاّفتة تنشأ بدءا من هذه الازدواجيّة التلفّظية الّتي ستقود فعل كتابة اليوميّ باعتباره فعل اشتراك ومشاركة بين أخوين لا توحدّ بينهما الرّابطة الأسربّة أو الدمويّة فحسب، بل توحّد بينهما بالأخصّ زاوية النّظر الثّقافيّة/ الفنيّة للعالم، كلّ يساهم في بناء المعنى من داخل فضائه النّسقي السّيميائي: النّسق اللّغوي من ناحية، والصّورة من ناحية أخرى بما هي نسق سيميائيّ بصريّ متعدّد الأبعاد، وإن لم تكن عارية في اليوميّات من المصاحبات اللّغويّة المواكبة لها. النسقان متداخلان مشتبكان يضفيان على إنتاج المعنى سمكا وعمقا طريفين. ويمكن اعتبار الّلوحة المتصدّرة لوسط صفحة الغلاف الأولى الّذي تتجلّى فيها صورة الكوكوت محاطة بجسيمات سوداء كثيفة ومحلّقة حولها، مركزا بصريا للانتظام التّشكيلي في الصورة، وتشتغل اللّوحة هنا باعتبارها أيقونة تؤشّر على حضور الهويّة الفنيّة لحليم مشاركة في توجيه الكتابة، ومؤثّثة لمساحات نصيّة بيضاء في فضاء اليوميّة. لقد تحدّثت ديدياي عن اليوميّات الأسريّة، واستشهدت بأسرة ليون تولستوي Léon Tolstoïالّتي كانت فيها الزوجة والبنت كلتاهما تمسك يوميّة مدارها على حياة الأسرة وعلاقاتها المشكليّة بين أفرادها، ولكنّها ثلاثيّة منفصلة، في حين أنّ يوميّات النّجمة والكوكوت اتّصاليّة يتناغم فيها صوتان، و منظوران إزاء حدث واحد : الثورة، يتداخلان، ويتناوبان في سمفونيّة واحدة متعدّدة الأبعاد، إلى حدّ أنّه يحقّ لنا أن نتساءل عن مدى وحدة هذه اليوميّات المشتركة، و إن اجتمعت في حامل ورقيّ موحّد؟، بل و مدى وجاهة إنمائها إلى دائرة كتابة الذّات حصريا باعتبارها تطمس الحدود المسيّجة لاستقلاليّة الهويّة الفرديّة، وهي تحفر داخل كتابة اليوميّ مساحات اغترابها، وخصوصيّاتها الخلافيّة، مثلما هو الشّأن عادة في تقاليد كتابة اليّوميّات الخاصّة الشائعة؟. فكيف يمكن لاستدعاء الآخر، حتّى وإن كان ذلك تحت لافتة الشّبيه، أو الصنو غير متعارض مع استراتيجيّات قول الأنا المنغلقة الّتي عادة ما تستدعي الآخرين من أجل محاكمتهم أو طردهم، أو الإمعان في استبعادهم من عوالم الذّات المنطوية على ذاتها. اليوميّة كانت دائما تحضر باعتبارها مساحة تملّك أكثر من كونها مساحة استضافة للآخر.
إنّ العنوان الفرعيّ الوارد أسفل الصفحة: من يوميّات كاتبة وفنّان، يثير قضيّة شائكة في علاقة متينة بما يصطلح عليه ب «نشوئيّة اليوميّة” (11) .إنّ تصدّر من العنوان الفرعيّ، وهي تفيد التّبعيض يحيل على فترتين أو نصين: فترة ما قبل النّشر، ويوازيها نصّ اليوميّة الخامّ/ المخطوط، وفترة ما بعد النّشر ويمثّلها الكتاب المنشور لليوميّات في مختلف طبعاته الكائنة والآتية على حدّ سواء. إنّنا إذن إزاء نصّ متولّد من نصّ أوّل أشمل، أعادت الكاتبة كتابته وفق استراتيجيّات لا يمكن النفاذ إلى حقيقتها إلاّ من خلال إجراء مقاربة نشوئيّة يخضع فيها الكتاب منشورا إلى مقارنات دقيقة على كلّ الأصعدة مع اليوميّات نصّا مخطوطا خاما. ولكنّنا نستطيع بدءا أن نفترض أنّ ما اصطلحنا عليه باليوميّة الإيديولوجيّة يحيل في هذا السّياق بالذّات على عمليّة تحويل (إعمال مقصّ) تقوم على مبدأ توحيد للمادّة المنتخبة وفق معيار مضمونيّ أساسا، ذلك أنّ اليّوميّات بما هي مجال حرّ لسرد اليوميّ، يستحيل أن تكون موحّدة، لا في مضامينها، ولا في أساليبها، فهي كتابة قوامها الانسياب والتّراكم (كتابة مركومة). البحث عن وحدة اليوميّة يصبح وفقا لهذه الاعتبارات الأجناسيّة القاعديّة مجرّد وهم، أو سباحة ضدّ التيّار. ممّا يجعلنا نحدس بأنّ الكاتبة أعملت المقصّ لحذف عدد من يوميّاتها لا ينسجم مع مشروعها النّشريّ، أو لعلّنا إزاء تبعيض نوعيّ، يفيد دلالة الجزء على الكلّ، وكلّها فرضيات عمل واردة لا تحسمها غير المقاربة النّشوئيّة الّتي تمكّن من تدقيق المرجع في كتابات الأنا. ولكنّ “من” تفيد في تقديرنا عامّة خروج اليوميّة المنشورة هنا بما هي يوميّة ايديولوجيّة من رحم المخطوط باعتبارها نوعا من التّقطيع المابعديّ الّذي لا يمكن تفسيره إلاّ بمعرفة سياقات الكاتبة المخصوصة الّتي حفّت بآليّات التّحويل والتّفكير في النّشر. هل طال هذا التّصرّف أيضا الفترة الزّمنيّة الّتي تغطيها كتابة اليوميّ في الكتاب المنشور، وهي الفترة الممتدّة من ديسمبر 2010 إلى ديسمبر2013؟ هنا أيضا يحضر افتراض آخر مفاده أنّنا إزاء تقطيع زمنيّ محض أريد له أن يكون موافقا لفترة تاريخيّة استثنائيّة مرّت بها البلاد التّونسيّة، هي «ثورة الياسمين” الّتي اندلعت شرارتها في تونس قبل أن تجرّ خلفها بلدانا عربيّة أخرى.
إنّ ما اصطلحنا عليه باليوميّة الإيديولوجيّة، لا يمكن إلاّ أن يكون كتابة محدودة بفترة زمنيّة معلومة، مثلها في ذلك مثل يوميّة المرض، أو يوميّة السفر أو يومّية السّجن، لأنّ وحدة الموضوع مستحيلة في كتابة اليوميّة سيّما إذا كانت هذه الكتابة بمثابة التّمرين المستمرّ في الزّمن استمرار حياة كاتبه مثلما كان شأن أستاذ الفلسفة السويسريّ هنري فريدريك أميال (1821 -1881) Henri-Fréderic Amielالّذي مارسها دون انقطاع يذكر حتّى تكدّست منها مجلّدات هائلة الحجم(16847 ص. كتبها من 1839- 1881)يعجز القارئ عن قراءتها كلّها، لأنّها ستستغرق منه ما استغرقته حياة أميال في كتابتها! إضافة إلى ذلك، نشير إلى أنّ اليوميّات هي المعين الّذي ينهل منه المؤلّف في فترات عمريّة لاحقة من أجل كتابة سيرته الذّاتيّة أو مذكّراته، لأنّها عمل تسجيليّ خامّ في جوهره (ذاكرة، أرشيف ورقيّ)، لا يمكن أن يخضع لتصميم ماقبليّ. عامل الزّمن وحده هو الّذي يمكن أن يتحكّم بموضوعاته أو بوحدة موضوعه، وذلك عندما تنقدح كتابة اليوميّ بفعل حدث طارئ أو مفاجئ يهتزّ له توازن الحياة الفرديّة. لا شكّ من هذا المنطلق أنّ الاندلاع المفاجئ لحدث الثورة التّونسيّة كان السّبب الرّئيس في تكوّن اليوميّة الإيديولوجيّة لدى الكاتبة، سواء مثّلت هذه اليوميّة جزيرة عزلت ما بعديا داخل فضاء يوميّاتيّ أرحب، أو أنّ نشوئيّتها ارتبطت باستحداثها كتابة طارئة تستمدّ خطواتها وإيقاعاتها من سياق سياسيّ استثنائي حادث زامنته، وزامنها.
نستخلص بدءا من كلّ ما ذكرنا أنّ اليوميّة الإيديولوجيّة لا تكون إلاّ حادثة أو طارئة، ومحدودة بفترة زمنيّة ما، وهما السمتان الّلتان تقرّبانها، من وجهة نظرنا، من كلّ اليوميّات القائمة على وحدة الموضوع.
السّؤال الأوّل المطروح الآن، ماهي خصوصيّات إنتاج المعنى في النجمة والكوكوت باعتبارها يوميّة إيديولوجيّة، وإلى أي حدّ يمكن اعتبار شكل اليوميّة هو بذاته شكلا أيديولوجيا يمكن دراسة مضمراته الصوريّة، بما هي تعبيرات ذات أبعاد إيديولوجيّة؟ نفرّق إذن بين مستويين متعالقين يتظافران في نحت الإيديولوجيّ: الإيديولوجيا موضوعا يؤثث فضاء المعنى في اليوميّة وإيديولوجيا اليوميّة بما هي شكل، أو منوال أجناسي من مناويل كتابة الأنا.
- الإيديولوجيا في اليوميّة
خلافا لما يذهب إليه نقّاد اليوميّة من كونها كتابة يوميّة منتظمة- إلى حدّ ما- حتّى أنها صارت عند ديدياي بمثابة “التّمرين اليوميّ “، فضلا عن اختصاصها تبعا لذلك بانفتاح (12) لا يحدّه نهائيا سوى موت كاتبها، فإنّ اليوميّة الإيديولوجيّة، مثلما تجلّت لنا في النّجمة والكوكوت، هي يوميّة مقترنة بحصول حدث خارجيّ سياسيّ له أبعاد إيديولوجيّة، وهي مسيّجة، تتمتّع بحدود بيّنة واضحة مكانا وزمانا: إنّ أحداثها المرويّة محدّدة في المكان ب تونس، وفي الزّمان ب ثلاث سنوات، وهي الممتدّة من ديسمبر 2010 إلى ديسمبر 2013. نحن إذن إزاء يوميّات محدّدة الإطار، تتمتّع باستقلاليّة سياقيّة، ومرجعيّة تاريخيّة خارجيّة، ذات أبعاد سياسيّة واضحة المعالم. وهو ما يكفل مبدئيا وحدتها العضويّة الّتي تناي بها عن أن تكون شتاتا يوميّا مبعثرا يتنامى في اتّجاهات عدّة لا حصر لها مثلما هو شأن اليوميّة الخاصّة عادة. إنّ حدث الثّورة التّونسيّة بما هو حدث جلل، ومباغت هيمن على الواقع اليوميّ للتّونسيين، خاصّة في لحظات تشكّلاته التّاريخيّة الأولى، وكلّ ما تلاها مباشرة، هو إذن العامل الخارجيّ المشكّل لوحدة هذه اليوميّات الاستثنائيّة. يمكن أن نقول تبعا لهذا، إنّها يوميّات تتحرّك داخل فضاء مبأّر إيديولوجيا. ومن ثمّة يكون أنا الكاتبة، أنا متمركزا في قلب الحدث المرجعيّ السّياسي، يحاوره باعتباره حدثا محوريّا يستقطب اليوميّ، ويؤثّثه، ويمحّض الفرديّ للتّفاعل معه على نحو ما، يوما بيوم. الأنا لا يكون هنا إلاّ منفتحاعلى الجمعيّ، إنّه خليّة متحرّكة في عالم متوتّر تتداخل فيه الأصوات، وتتحاور لأنهّا جميعا واقعة تحت سطوة جاذبيّة مرجعيّة موحّدة، تستقطب الكلّ في بؤرتها المركزيّة. إيقاع اليوميّ في النّجمة والكوكوت، أو ما يعرف بتواتر كتابة اليوميّ، يستمدّ – تبعا لذلك – كثافته الكميّة من العلاقة الوطيدة القائمة بين كثافة وقائع الخارج في سيرورتها التّاريخيّة المتوثّبة، واندماج الأنا بها فاعلا ومتفاعلا في آن. لذلك يمكن اعتبار السّنوات الثلاث الممتدّة من 2010 إلى 2013 بمثابة فترة ذروة ذات أبعاد تمثيليّة لما تسمّيه الكاتبة يوميّات البلاد، أو يوميّات السّنوات الثلاث بعد الثّورة. فتوزيع عدد اليوميّات المكتوبة باعتبار كلّ سنة يؤكّد أنّ شهر جانفي 2011 الذّي حظي ب 16 يوميّة محقّقا أعلى نسبة تواتر كتابيّة شهريّة، مثّل لحظة تاريخيّة فارقة، إضافة إلى أن عدد اليوميّات موزّعا باعتبار السّنة الواحدة، كان أقصاه 40 يوميّة في 2010- 2011، ثمّ 23 في 2011- 2012، وأخيرا 23 يوميّة في 2012- 2013. وهو ما يدلّ على أنّ وتيرة الكتابة لم تكن كثيفة جدّا عموما قياسا إلى عدد أيّام السنة الواحدة، أو حتّى الشهر الواحد، ولكنّها داخل الفترة المذكورة منتظمة إلى حدّ كبير في نسبة تواترها، وجميعها متعلّقة عضويا بشهر قادح، هو شهر جانفي 2011.
اليوميّة الإيديولوجيّة عند حفيظة قارة بيبان، هي في جوهرها ضرب من التّقطيع التّاريخيّ لفترة حاسمة عاشتها من تاريخ تونس المعاصر. ولعلّ قلّة هذه الكثافة الكميّة هي أيضا وليدة الانتقاء الّذي خضع له النصّ المنشور من جهة، أو مرتبطة من جهة ثانية بوتيرة الكتابة العامّة لدى الكاتبة الّتي لم تكن لتتفرّغ كليّا وفي كلّ الأحوال للكتابة، وهي أمّ وزوجة، وربّة بيت، ولعلّ هذا السّؤال لا ينفصل عن تفحّص الوضعيّة الخلافيّة للمرأة مؤلّفة وكاتبة لذاتها في العصر الحديث. الكتابة عن الحدث الثّوري هي حدث لا يقل عنه قيمة في حياة الكاتبة. فضعف الكثافة الكميّة، يقابله من منظور آخر توهّج الحرف لدى الكاتبة، وقوّة اندفاعه بما هو في العمق تعبيرة أصيلة عن وجدان حرّرته الثورة من عقاله- أو هكذا كانت تظنّ- غالبا ما يتجاوز النّقل والتّسجيل الواقعيين لبضحي في اليوميّة فعل وجود حقيقيّ يندفع محقّقا لمعنى الحياة الأسمى(المنشود). وفي هذا المستوى بالذّات تفترق كتابات الأنا تلفّظا عن الكتابة الرّوائيّة الملتحفة بجلباب المتخيّل. تقول الكاتبة في ” كلمة أولى”: عادت الكلمات تتّقد، تتوهّج، تركض تحت سماء تونس العاصفة، ذاك الشّتاء كاسرة الحدود والأسوار. عادت الكلمات، وأنا أركض على ضفاف البحر الثائر الهادر كلّ صباح، تكتب يوميّات البلاد، يوميّات الذّات تسكنها الثورة على الدوام، وتطير بها الأحلام المستحيلة الّتي أصبحت ممكنة في وطن خرّبه الاستبداد.” (13) هكذا، عندما تلتحم ثورة الخارج بثورة الدّاخل، تصبح كتابة اليوميّ سؤالا إيديولوجيا في الصّميم. فالسّؤال الهوويّ المضمّن في النجمة والكوكوت يكمن في هذا التّقاطع بين التّاريخيّ العامّ، ممثّلا بثورة عارمة ترفع شعارات الحريّة والمساواة، والعدالة الاجتماعيّة، والديمقراطيّة، رهانها الأوّل التّغيير، والأفق القيميّ الفرديّ وهو بمثابة قاعدتها الثّقافيّة ممثّلا بمطلب الحريّات، والتّحرّر من كلّ أنماط الاستبداد والقبح، والغطرسة الّتي رفضتها حفيظة قارة بيبان إنسانة متمسّكة بإنسانيّتها العميقة، وأديبة ملتزمة انتمت إلى رابطة الكتّاب الأحرار قبل الثورة. ومفاد هذا السؤال بما هو حامل إيديولوجيّ، هو كيف يمكن تخطّي القطيعة الايديولوجيّة والقيميّة بين عوالم الخارج الّتي هيمن عليها الاستبداد والانحطاط القيميّ في أزمنة ما قبل الثّورة، وعوالم المثل الممثّلة لمرجعيّات الذّات الواحدة والمتعدّدة في آن: الذّات الخاصّة في أبعادها الإنسانيّة الحميمة، الذّات التّأليفيّة الممثّلة للانتماء لنخبة ثقافيّة، والذّات التّاريخيّة الفاعلة والمتفاعلة بمستجدّات تاريخها اليوميّ؟ ولمّا كانت الكاتبة تعيش وقتها ظرفا ثوريّا بأتمّ معنى الكلمة، فإنّ هذا السّياق الاستثنائي قد فتح بأعجوبة أمام ناظريها أبواب التّاريخ الموصدة منذ زمان على كلّ الاحتمالات الممكنة: احتمال نجاح الثّورة وتحقيقها لأهدافها المرجوّة، أو فشلها الذريع، والعودة -المثقلة من جديد بالاستبداد- إلى المربّع الأوّل، فيما يشبه المسار السيزيفيّ المخيّم بشبحه على مستقبل واعد بقدر ما هو مخيف في آن واحد.
سؤال الهويّة في هذه اللّحظة التّاريخيّة الحاسمة، سؤال مربك مفتوح على المجهول، فضلا عن كونه يعبّر عن أقصى حالات التوتّر الممكنة الّتي تعيشها كاتبة تعي جيّدا انفصامها الهوويّ، وتصدّع كيانها على مدى سنوات طويلة من القمع، كانت ملجمة لأصوات فئة من المثقّفين المنافحين عن الحرّيات في مجتمع كان يحكمه الصوت الأوحد. الاندماج بالثّورة الواعدة كان تعبيرا عن الأنا مشروعا، وصيرورة ضدّ الاغتراب الهوويّ، وضدّ الشّعور بعدم الإنتماء إلى واقع القهر والاستبداد. هذا الزّمن هو الزّمن الموصول بالذاكرة، لأنّه ليس زمن ما قبل الثّورة القريب، بل له جذور ممتدّة وغائرة في جسد الأمّة العربيّة، وحضور القضيّة الفلسطينيّة بقوّة في أدب حفيظة قارة بيبان، فضلا عن استدعائها لها في يوميّاتها، دليل على أنّ سؤال الهويّة موصول بامتياز في ذاكرة الكاتبة بمحنتي التشتّت والاغتراب في التّاريخ العربيّ الحديث الّذي بقي فيه الفاعل التّاريخيّ إلى اليوم مسلوب الإرادة والفعل، يعيش على الدوام تكرار خيباته السيزيفيّة، وانسداد أفقه الحداثيّ، لذا هو مشروع مؤجّل حتّى لا نقول فاشل. لذلك كلّه بدا سؤال الثّورة متّصلا بزمن آنيّ يوميّ يبشّر بقطيعة تاريخيّة مفصليّة، ولكنّه مهدّد ضمنيا بتكرار السّقوط في المتاهة نفسها، إن هو سار في مجهول العود على البدء، بما يجعل المستقبل وجها من وجوه العودة المقنّعة إلى الماضي. وفي خضمّ هذا التوتّر التّاريخيّ الأقصى، يظهر لنا الأنا في يوميّاته متأرجحا، منفعلا، متقلّبا لا يستقرّ له شأن، لأنّه يعي هشاشة سياقه، ومدى ارتهانه مشروعا يريد أن يكون صائرا نحو الاكتمال في لحظة استثنائيّة إلى تيّارات، ومؤثّرات، وتحوّلات لا قبل له بالسيطرة عليها، أو حتّى توجيهها نسبيا. لذلك أيضا بقي الحلم بترميم الهويّة المتصدّعة سؤالا معلّقا تنبض به اليوميّة يوما بيوم. اليوميّة الايديولوجيّة بهذه المواصفات، هي ضرب من ضروب التأريخ على المدى القصير(14) Micro- histoireيجعلنا نعيش التوتّرات التّاريخيّة الدنيا، وهي تنبض وتتكثّف وتتخثّر لحظة بلحظة في مسار لا نبصر مداه إلاّ متقطّعا في استرساله اليوميّ، متدفّقا من منظور فاعل محدود الفاعليّة، يتخبّط ويصارع، ينفعل ويتفاعل، ولكن دائما في حدود رؤية قصيرة المدى، إن لم نقل في أفق معتّم، مجهول المآل. ورغم ذلك فلحظة التّلفظ هي لحظة نضال واندماج قصوى بموجات التّاريخ، تمنح الأنا شعورا استثنائيا بأنّه يعيش ويتنفّس بملآى رئتيه، وبكيان كامل لا يتجزّأ: إنّه كائن يصنع تاريخه الممكن، ولحظة الممكن التّاريخيّ هي أقصى لحظات الشّعور بالامتلاء التّاريخيّ. ففي هذه اللّحظة بالذّات يغادر أنا الكاتبة عزلته الخاصّة، ويتّجه بقوّة صوب الآخر/الآخرين، ليلتحم البعض بالكلّ، فتذوب الحدود العازلة بين أنا/ نحن بما هي حدود وهميّة، بل زائفة في لحظة استنفار قصوى. الأنا المتشظّي عادة في اليوميّة، يصبح هنا، وفي هذا السّياق الأيديولوجي بالتحديد، أنا موحّدا: العقل، الجسد، النّفس، الحواسّ، جميعها تتناغم في سمفونيّة موحّدة النغمات:” تمضي خطاي واثقة مع الجموع…
يستعيد جسدي قوّته وعنفوانه…يعلو صوتي مع أصوات المواطنين جوقة واحدة تنادي بسقوط النّظام، وتنشد عاليا بصدق وحرارة “نموت، نموت، ويحيا الوطن”، وقبضات الأيدي ترتفع للسّماء لاستعادة حقّها في الكرامة، والحريّة، والحياة…قطرة كنت في بحر هادر…
…رجعت إلى البيت…وأنا أشتعل وأضيء.” (15)
لا يخفى اّننا بإزاء سجلّ الإيديولوجيا وهو يتشكّل في تجربة حيويّة حلوليّة أشبه ما تكون بالتّجربة الصّوفيّة، وهي مفارقة، لافتة، تدلّ على أنّ الحقول الأكثر تباعدا: الدنيويّ-السّياسيّ- /الغيبيّ- الرّوحيّ، تتلاشى عندما تتحوّل إلى تجارب قصوى بعيدا عن السّجال الفكريّ. التّاريخ اليوميّ، هو إذن التّاريخ تجربة نابضة، مقابل التّاريخ ملفوظا مركّبا من عالم يصنعه التّرابط الفكريّ المفسّر لآثار الماضي المتبقيّة. علاقة الدّاخل بالخارج الّتي طرحتها ديدياي باعتبارها علاقة انفصاليّة انفصاميّة في اليوميّة الخاصّة الغربيّة، نراها من هذا المنظور الاستثنائيّ، وعلى الأقلّ في جانب من جوانب هذه اليوميّة الإيديولوجيّة، اتّصاليّة، تفاعليّة بامتياز.
لقد كانت حفيظة قارة بيبان في مرحلة أولى، وهي تلتحم بموجات التّاريخ الهادرة تقاوم من أجل دفع حركة التّاريخ قدما نحو تأسيس المدينة الفاضلة، كانت وهي تلتحق باعتصام القصبة (16) مع نظرائها من الكتّاب الأحرار رافعين معلّقاتهم، تعيش أقصى لحظات انتعاشها و انصهارها في الحلم الجماعيّ، هنا بالذّات لا يكون أنا الكاتبة إلاّ نقطة في بحر(نحن)، هذا الالتحام تتخلّق منه زمنيّة حالمة، واعدة بمستقبل أجمل، زمنيّة قوامها تحرير الفعل من عقاله، و اكتساح الفضاء، والتمركز فيه باعتباره فضاء حاضنا، ينتعش فيه الوجود الحرّ الّذي تنطلق فيه الكلمة دونما شرط ولا قيد في تجربة فذّة أوصدت دونها الأبواب دهرا من الزّمن : ” …فقد عدت خفيفة منطلقة، أكثر قدرة وطموحا، فالعالم أصبح أجمل والغدّ رغم كلّ شيء لنا” (17)الخطّ الإيديولوجي في هذا المستوى مندمج بالممارسة الإيديولوجيّة، بما هي تعبيرة مسؤولة عن خلفيّات فكريّة و قيميّة تتبنّاها الكاتبة داخل مجموعة ثقافية : رابطة الكتّاب الأحرار. ولكنّنا بقدر ما نوغل في الزّمن مبتعدين أشواطا عن سنة 2011، نبدأ رويدا رويدا في استشعار قرائن الانحدار باتّجاه انسداد هذا الأفق الواعد. فالكاتبة تكتشف تدريجيا، وهي تتحوّل من فاعل تاريخي مندمج بالحدث إلى شاهد يرصد حركة التّاريخ متأملا غيره من الفواعل، أنّ هذه اللّحظة التّاريخيّة الاستثنائيّة، لحظة معقّدة إن لم نقل مزيّفة، مجهولة المآل تصنعها إرادات، وتموقعات ايديولوجيّة غير مأمونة العواقب بعيدا عن البراءة، والأحلام الطوباويّة. الصّراع قائم هنا على أشدّه بين إيديولوجيا التّغيير، وإيديولوجيا مقاومة التّغيير. تحوّلت اليوميّات من كتابة تماه إلى كتابة تبعيد، تقوم على تقييم الآخرين ايديولوجيا وتسجيل انحرافاتهم الّتي تقاس في هذه الحالة باتّساع المسافات القيميّة الّتي باتت تفصل الأنا فاعلا تاريخيا ومؤرخا لما حوله، عن غيره من الفواعل المزامنة له في الزّمان والمكان. من أهمّ هذه المؤشّرات، تطاحن اليسار واليمين تكالبا على السّلطة «هل تطوّرت الحرب شبه المعلنة بين اليسار واليمين ليحتال كلّ طرف ويقدّم أعوانه للإساءة للآخر غير عابئ بجرّ البلاد إلى الفتنة، ودفعها إلى الخراب” (18) تطوّر الصراع إلى فتنة تتوّج بالاغتيالات السّياسيّة” مثلّجة أصابعي، معتمة سماء هذا اليوم في وطن يتشظى بين أيدي حكامه الجدد، تكاد تفترس كلّ أحلامه على مائدة الثورة. مثلّجة أصابعي والكتابة تتشبّث بالقلم الراكض علّه يشعل ضوء الكلمات تفضح لصوص الثورات وتقاوم الظلمات القادمة مع الناقمين على الحياة الداعين جهارا “لقطف الرؤوس”. هكذا صرّح أحد الملتحين في تجمّع بأحد الشوارع التونسية في حكم الإسلاميين:” علينا برأس نجيب الشّابي وشكري بلعيد! وها قد بدأت الرؤوس تسقط!”(19)
تحاكم الكاتبة الإعلام باعتباره لم يلعب دوره الثّقافي بل أجّج الفتنة” تعيد كلماتي الماضية خوفي على الثورة جمعتنا فيها المحبّة. المحبّة الّتي تنهال عليها الآن أحجار الكراهية ويتلقفّها الإعلام المرئيّ خاصّة بمنطق الإثارة والمصلحيّة وبنفس أفكاره القديمة الّتي تغذّت من النظام المنهار، ناسيا دوره الثقافيّ والحضاريّ الّذي به يقاس مدى تقدّم الشّعوب مساهما في مزيد زرع الفتن”. (20) هكذا لا تستمدّ اليوميّة الإيديولوجيّة لدى حفيظة قارة بيبان وحدتها من صميم وحدة موضوعها فحسب، وإنّما من التطوّر العضوي الّذي ترصده الكتابة اليوميّة، وهي تسجّل، وتحلّل مسارات الثّورة واتّجاهاتها في البلاد يوما بيوم. أهمّ ما نقف عليه في هذا المستوى، هو التطّور الملحوظ الحاصل في شخصيّة الكاتبة كلّما اقتربنا من نهاية اليوميّات وابتعدنا طردا عن بداياتها الملتهبة. سجلّ الحرارة ومتعلّقاته (التوهّج/ الاتّقاد/الاحتراق/ الاشتعال…) يترك مكانه لسجلّ البرودة (مثلّجة أصابعي) الّتي تستولي على النّفس والجسم معا. كلمة واحدة، -رغم شراسة المقاومة- تختم هذا النزول المطّرد إلى الجحيم ” تعبت”(21)، هذه الخيبة العميقة الّتي نراها بحجم الحماس الفيّاض الّذي عقبته، كانت تعمل كلّ يوم على قلب موازنة البداية: الأنا المنفتح على الآخر، الأنا المفعم بالحبّ، الأنا المتفائل بالمستقبل، ينتكس تحت وطأة الخيبة والألم، فإذا هو عود على بدء، يجترّ زمانه الخادع، إذ لا فرق بين ماض وحاضر ولا كبير أمل يرتقب من مستقبل يطلّ بأشباحه على بئر سحيقة. هكذا رأينا اليوميّة الإيديولوجيّة تسقط من جديد لدى الكاتب في دورتها الكلاسيكيّة المعروفة، دورة الانغلاق على الذّات الفرديّة، وعوالمها الثابتة، لأنّ الآخر يظل مرّة أخرى الغريب الّذي يخيّب الآمال: نسائم الصباح مازالت تحمل براءتها، وأنا على الطريق أتمشى في” رياضتي الصباحيّة…تطايرت أفكار مع خطاي على الرصيف…تكتب يوميّات ثورة كانت وأمست حلما مجرّد حلم.” وفي سياق آخر غير بعيد” نسائم الصباح المنعشة المتخللة الجسد العابرة الروح لا تأخذ معها سحابة الحزن والـأسى المصاحبة انتكاسة الأحلام.
ومع ذلك من حصة رياضتي الصباحيّة، من هيماني على الطريق أعود إلى وحدتي. أحاول أن أحرّرني من صخب العالم الّذي يسكنني، من انكساراته، من خيباته، لأمضي إلى مواعيدي، فقط مع الذات والقلم، علّه يومض بقطرة ضوء تزيح بعض هذا الأسى الصّباحي”. (22)
الوحدة والقلم هما دعامتا كتابة الاغتراب في اليوميّات. ولكنّ الوحدة لدى حفيظة قارة بيبان ليست موقفا مسبقا من العالم، أو هروبا من المسؤوليّة التّاريخيّة، إنّها وليدة تجربة حيّة مريرة، أجبرت فيها الكاتبة على الانفصال عن واقع لم يعد بإمكانها أن ترى فيه ذاتها، ولا أحلامها الإيديولوجيّة. لقد وعت يوما بيوم هشاشة فاعليّتها التّاريخيّة، أي عدم قدرتها على التّحكّم في مجرى الأحداث العامّة، لوجود تيّارات مضادّة للثّورة تعمل على تقويضها، وتحويل مجراها.” حكومة تفتح المجال على مصراعيه للدعوات الوهابيّة تغزو عقول الشّباب الغارق في الفقر والضياع وتتناسى موقف علماء الزيتونة من الوهابيّة…ومعارضة لا تقدّم غير ما يزيد الشّباب ياسا من ثورة تسرق منه من الدّاخل والخارج، يوما بعد يوم، ونخب سياسيّة تتصارع، ولكنّها تلتقي كلّها لرفع نعوش الشّباب الّذي حلم بثورة تعيد له كرامة الحياة”. (23) هكذا تكسّرت المرآة، وما أكثر ما تتكسّر المرآة في كتابات الذّات.
الإيديولوجيا المضادّة في يوميّات حفيظة قارة بيبان، هي المنصّة الثّقافيّة القارّة الّتي تصدر عنها وترتدّ إليها في كلّ حالات الخيبة الّتي تعيشها يوميا: ارتداد الثّورة، وإرهاصات ضياع القيم الإنسانيّة الّتي جاءت لتبشّر بها. هكذا تبدأ الكاتبة في رسم حدود انفتاحها على الواقع الثوريّ المغشوش من خلال الارتداد إلى أفق ثورة أرحب وأكثر أصالة: “الثّورة في معناها المطلق”(24) الّتي هي “شرر” يسكن الكاتب الأصيل وهو يبحث” عن قيم أصيلة في عالم متدهور، كما يقول قولدمان” (25) العودة إلى الذّات بعد اكتشاف خديعة العالم الخارجيّ هي بالأساس عودة إلى القلم. القلم هو الهويّة الثّقافيّة لحفيظة قارة بيبان الّتي تتماهى فيها قيم الثّقافة الأصيلة: الحبّ، الإيمان، الحريّة، العدالة، الخير، بما هو إنسانيّ عميق في وجدانها، وهي في الآن نفسه قاعدة إيديولوجيا التّغيير عندها. لذلك فإنّ العودة إلى الذّات تتماهى لديها مع العودة إلى الكتابة بما هي إبداع وعلّة وجود:”… وإذا نحن كما قال طاغور “بالفنّ نكون.”(26)
حدود الأنا الفرديّ، والأنا الثّقافي حدود واهية في عالم يوميّات حفيظة قارة بيبان، هذا من ذاك. لذلك نرى أنّ الفاصل بين اسم العلم، والاسم التّأليفي فاصل رقيق دقيق” الكاتب الحرّ الصادق هو نبض الإنسان وضمير المجتمع” (27)، ولكنّ الهويّتين تتّحدان كليّا في مواجهة عالم الخارج عندما يصبح في قطيعة قيميّة معهما: الهروب من العالم، هو هروب إلى القلم لمعانقة الذّات الأصيلة. لذلك جاءت المقاربة الإيديولوجيّة المضادّة للاستبداد في اليوميّات، مقاربة أنسيّةHumaniste في جوهرها، تسبر تحوّلات تردّي الثورة بمسبار القيم الإنسانيّة العليا:” المحبّة نصف الإيمان، يقول الشّاعر الفرنسيّ فكتور هيقو صاحب “البؤساء”. ولكنّهم ما عادوا يعترفون بالمحبّة، ولا يدركون معنى الإيمان” (28) موازين العالم بهذا المنظور ليست موازين قوّة وغطرسة، بل هي موازين محبّة وسلام «إنّ الثيران والدببة لا تستطيع أن تحطّم باب القدر ولكن قلب حمامة يستطيع ذلك” (29). تراجع الحلم الإيديولوجي بتغيير العالم يوازيه ارتداد قويّ لعوالم الذّات والكتابة، بما هي “الملجأ الرحميّ” لدى الكاتبة. لذلك كانت فورة المنطلق الإيديولوجيّة تمهيدا قويّا لعود على بدء، وانطوائيّة هي من صميم الفعل الكتابيّ في اليوميّة الخاصّة. الاحتفاء بعوالم الإبداع الرّوائيّة الكثيرة، بما هو تسجيل في اليوميّة لنشاط الكاتبة التّأليفيّ المتلوّن بنكهة الأيّام وظروفها القاسية والجميلة على حدّ سواء، هو أكثر من توثيق لمادة إبداعيّة خامّ تتخلّق يوميا، إنّه في جوهره تمسّك بالملجإ الرّحمي ضدّ عدوانيّة العالم وإسفافه: ” في وحدتي هذا المساء تخصب الأرض الّتي أحفر بعيدا عن صخب الآخرين”. الإبداع هو لحظة خلوة، خلوة الفنّان وهو يبدع عالما بديلا من العالم يتواصل خلاله عضويا مع أناه الإبداعيّ الخلاّق ويحاوره في شتّى تجلّياته الأدبيّة، حتّى لكأنّ الشّخوص في يوميّات الكاتبة تصبح بدائل أنويّة منها، تشاركها الحياة والإحساس، وتطلّ علينا من الورق الحيّ بلحمها ودمها، وقد استوت كائنات يختلط وجودها المتخيّل بمفارقات سياقات كتابتها المرجعيّة. هذا البعد يمنح الكاتبة مساحات حريّة حقيقة في بناء عوالم تستهويها وتقولها، فتشعرها بفاعليّة أصيلة نابعة من ذاتها العميقة الجوّانيّة، خلافا لشعورها بأنّها في عالم التّاريخ الاجتماعيّ ليست غير جسم غريب يتكلّم لغة لا يفقهها الآخرون. لغتها وحدها هي الّتي تمثّلها. يقودنا هذا التّحليل إلى طرح معضلة القطيعة الأبديّة بين واقع الكتابة، وواقع العالم لدى الكتّاب عامّة، ولدى كتّاب اليوميّات بالأخصّ. لقد كانت اليوميّة الإيديولوجيّة لدى حفيظة قارة بيبان لحظة رهان قصوى لدحض هذه القطيعة، وبناء مصالحة تاريخيّة بين الأنا والآخر، بين العالم الجوّاني والعالم البرّاني، وفي عبارة أدقّ بين الثّقافة والسّياسة، ولكن أليست مقاربة الثّورة التونسيّة المطروحة هنا هي برهان جديد يدعم هذه القطيعة؟ هل كانت اليوميّة الإيديولوجيّة في النّجمة والكوكوت غير أضغاث أحلام، حلما طوباويا كبيرا بانبثاق المدينة الفاضلة من رحم الظلمات، عقبته خيبة أكبر في تربّع الحكماء على هرمها؟
2 – إيديولوجيا اليوميّة
الحديث عن الإيديولوجيا في اليوميّة أمر واضح لا يحتاج إلى بيان من الناحية المنهجيّة، ولكن هل يبدو الحديث عن إيديولوجيا اليوميّة بمثل هذا الوضوح؟ ما المقصود من اعتبار شكل من أشكال الكتابة حاملا لأبعاد إيديولوجيّة، سيّما ونحن نتحرّك داخل نوع من أنواع كتابات الذات، ألا وهو نصّ اليوميّة الخاصّة؟
إنّ كتابات الذّات بأنواعها المعروفة: السيرة الذّاتيّة، المذكّرات، اليوميّة الخاصّة، الرسائل، محكيّات الطّفولة…كلّها تعبيرات سرديّة هوويّة تمثّل -حسب نظرنا- إن هي جرّدت من تفاصيلها الحكائيّة السطحيّة مناويل كتابة الذّات الممكنة، بل وليست حتّى النّهائيّة. هذه الخطابات السّرديّة تشكّل في العمق مناويل/ خطّاطات كتابة صوريّة تقول العالم وتبني دلالاتها المتحدّثة عنه وفق بنى مخصوصة، وأساليب في كتابة المرجعيّ ذات أبعاد دلاليّة ورمزيّة يمكن توصيفها والكشف عن مضمراتها الإيديولوجيّة. فالسّيرة الذاتية الرّوائيّة مثلا تصاغ باعتبارها أحد مناويل سرد الأنا في بنية المحكيRécit الّتي تقوم أساسا على علاقات الترابط السببيّة بين مكوّنات الحكاية، فضلا عن اضطلاعها بوظائف تمثيل الأفكار والأقوال. هذا المنوال ينهض على خلفيّة إيديولوجيّة مخصوصة قوامها القول بمعقوليّة العالم، أوإمكانيّة تعقّله عبر المحاكاة، لأنّه يخضع في هذا المنوال لعقلنة المكوّنات الرّوائيّة غير المتجانسة من خلال إيجاد ترابطات سببيّة تقود مسارها من بدايته المعلومة إلى نهايته المحتومة. ولاشكّ أنّ اختيار هذا المنوال، هو موقف إيديولوجيّ من العالم يرسم ضمنيا حدود أفق الكتابة الذّاتيّة في بعدها التّصوّري الخالص الّذي يجعل منها استجابة وتحقيقا لرؤية توهم وتتوهّم بقدرتها على تفسير وجودها في عالم متشعّب متناقض تفسيرا مقنعا ومعلّلا. هل العالم هو دوما عالم منطقيّ قابل للفهم والتعقّل؟ هل يصحّ إخضاع مجرياته لمنطق الحبكة المتنامية الّتي تعكس مسارا متطوّرا يتخلّص من تناقضاته الحدثيّة من أجل إخضاعها لمبدأي الانسجام والتّرابط مثلما توهم بذلك بنية الحكاية في السيرة الذّاتيّة الرّوائيّة؟
اليوميّة الخاصّة خلافا تماما للسيرة الذاتيّة الرّوائيّة تتبنى منوالا صوريا مختلفا كلّ الاختلاف، بل هو نقيض الأوّل كليّا. نصّ اليوميّة بما هو نصّ مفتوح لا يضع في الحسبان نقطة نهاية ترتدّ إليها الأحداث. إنّه – مثلما- بيّنت ديدياى ضرب من “الكتابة الحرّة” غير الخاضعة لأيّ شرط مسبق سواء كان لغويا أو أسلوبيا أو مضمونيا. إنّه إلى ذلك نصّ “لا بنية له”: الكتابة فيه لا تجري على غير مبدإ السّيولة القلميّة يوما بيوم، تأبى كلّ أشكال الانتظام والتّرابط الممكنة. وحدة اليوم الخارجيّة هي الإطار الشّكليّ الوحيد الّذي ينسق فعل الكتابة ليجعل منها نصّا مركوما قوامه التّنامي في اتّجاهات الممكن المجهول الّذي لا يمكن لأيّ كان التّكهّن به. هذا المنوال يعكس ضمنيا رؤية إيديولوجيّة للعالم مفادها رفضه لانتظام المعنى، واستعصاؤه عن الانخراط في وحدة تاليفيّة معقولة، ومتناغمة. اليوميّة بهذا المعنى هي شكل يقول التشتّت، والتّشظي، يتعايش في رحمه عدم الانسجام، والتنّوع. إنّ الكتابة فيه أداة سفر، إنّها ارتحال مستمرّ لفهم الذّات، وهي تعيش يوميا تلقائيّتها ونضارتها في عالم يمكن أن يفاجئها في كلّ آونة وحين. في مثل هذه الحالة ترى ديدياي أنّ اليوميّة الخاصّة الّتي ترتكز مبدئيا على الوعي بالهويّة الفرديّة، لا تتوقّف خلافا لذلك عن وضعها موضع التّساؤل المستمرّ، إن لم تعمل على تقويضها (30). ولئن ربطت ديدياي هذا التّقويض الضمني للهويّة في منظومتها النّقديّة بانعدام التّواصل بين كاتب اليوميّة ومحيطه الاجتماعي في سياق تكنولوجيّ تهافتت فيه أسباب التّواصل البشري، رغم ما شهده من تقدّم مذهل في مستوى توفير وسائل الاتّصال الحديثة، فإنّنا نرى أنّ تقويض بنية الهويّة المتماسكة كامن أصلا في منوال كتابة اليوميّة الخاصّة، بما هو منوال حرون، متحرّر من كلّ أشكال تنميط المعنى وانتظامه. أليس إنتاج المعنى هنا، هو تعبير داخل خصوصيّات الشّكل الكتابي اليوميّ عن التّمرد، والعجز عن إضفاء المعنى الموحّد المنسجم على الأنا في عالم يشعر فيه كاتب اليوميّة بالضياع والاغتراب وفقدان البوصلة باستمرار؟ السّؤال الذّي نطرحه من هذا المنطلق، هو كيف نقارب إيديولوجيّة الشّكل بهذه الأبعاد المضمرة في يوميّات النّجمة والكوكوت؟ كيف جاء الأنا مشروعا أيديولوجيا في اليوميّة في تناغم مع أيديولوجيا اليوميّة بما هي منوال كتابة الذّات المجزّأة؟ هذا السّؤال نعالجه في مستويين: مركزيّة اليوميّ، ومركزيّة الشّهادة في اليوميّة الإيديولوجيّة وخصائص تعالقهما العضويّ بمقوّمات إيديولوجيا الشّكل الّتي حدّدناها.
*مركزيّة اليوميّ
أهمّ ما نشير إليه بدءا هو الطّابع العفويّ إن لم نقل الفجئيّ الّذي شكّلت فيه حفيظة قارة بيبان اليوميّة شكلا كتابيا احتضن تماهيها الإيديولوجي مع لحظة فارقة ومباغتة في تاريخها الحديث: ثورة الرّبيع العربيّ. وهو أمر مفهوم لدينا، ذلك أنّ الحدث التّاريخي المذكور خلخل في زمن وجيز مجريات الحياة العامّة والخاصّة في تونس على حدّ سواء. ولأنّ هذا الحدث الجلل كان بمثابة معجزة في تاريخ تونس المعاصرة، بعد أن أحكمت قوى الاستبداد قبضتها لزمن طويل على البلاد والعباد، فإنّ لحظة اندلاع الثّورة كانت لحظة تحرر قصوى: اليوميّة وحدها كانت الشّكل الأقدر على احتواء الشحنات الانفعاليّة الكبرى الّتي واكبت لحظات الاندماج بالممكن التّاريخيّ، وهو يتبلور، ويتخلّق يوميا في كنف المجهول والآتي. ما تتيحه كتابة اليوميّة من تحرّر ماقبليّ من كلّ أنواع الضوابط، وما تبيحه تبعا لذلك من إمكانيّات الانخراط في التّعبير عن انفلات اللّحظة التّاريخيّة تعبيرا حرّا، ينسجم فيه تدفّق العبارة وطزاجتها مع توتّر الشّعور وتدفّقه، فضلا عن قوّته بعد أن كان ملجما في كتابة محنّطة مقنّعة: ألجم هديرها الخوف والاستبداد على مدى سنوات طويلة من القمع والمصادرة. التّحرّر من إيديولوجيّة القمع لا يكون إلاّ في شكل متحرّر أو لا يكون من قوانين الإنشاء الصارمة. لذلك قرنت حفيظة قارة بيبان تجربتها الكتابيّة في يوميّاتها بسجلّ بلاغيّ ناريّ يحيل على تدفق الكلم وقد أطلق من عقاله من جهة، وعلى اشتعاله بنار المشاعر الملتهبة، وهي تعيش بأكبر قدر من التوتّر تجربة تاريخيّة استثنائيّة من جهة أخرى. الكتابة هنا فعل يسرّح طاقة، ويرسل إشعاعات، وليس فعل تسجيل وتعقيل: الكلمات “تتّقد”، “تتوهّج”، ” تركض”(31). نرجّح هنا أنّ الحديث عن بلاغة هو محض وهم، ذلك أنّنا أقرب ما يكون إلى استعمال لغة بدئيّة تحاكي ما يحدث بدلا من أن تقول ما يحدث. إنّها لا تخبر بل تحدث. هي بذاتها الحدث بعد أن غرقت ايديولوجيا لفترة طويلة في صقيع اللاّقول، لأنّها كانت في حالة ارتهان للقمع الّذي قتلها في المهد، وجرّدها من كلّ طاقاتها. اليوم في اليوميّات، هو قطعة من زمن ما يزال نابضا، فارق الاسترجاع فيه بين زمني الحكاية والخطاب طفيف، يقع خلاله فعل الكتابة تحت وطأة الحدث وهو يتخلّق. كتابة اليوميّ، هي كتابة سخونة اللّحظة في حيويّتها التّاريخيّة المتوتّرة. التّحرّر الإيديولوجي من الطغيان، كان يستدعي حتما كتابة اليوميّة، لأنّها مساحة حريّة وانفعال، تحتفي بتدافع الكلم، بتدفّقه وسيولته خلافا لأشكال قوليّة أخرى لا تنتظم إلاّ من خلال التّنضيد والتّرتيب، والتّراتب والـتأليف. لذلك تنبع كتابة اليومّية لدى حفيظة قارة بيبان من لحظة أصيلة يتماهى فيها شكل الكلام مع سياق القول، ومقوله الأيديولوجي. إضافة إلى ذلك كلّه، لابدّ من أن نأخذ بعين الاعتبار أنّ التّقطيع اليوميّ كان أكثر من مساحة حريّة ورقيّة تنتشي فيها الذّات، ذلك أنّه كان يمنح الحدث التّاريخيّ، وهو بصدد الحدوث أبعاد حدوثه الزّمنيّة الّتي عاشتها الكاتبة لحظة بلحظة ويوما بيوم، فما حصل لم يحصل دفعة واحدة بل كان يمثّل صيرورة تاريخيّة يتسارع وقعها تارة، ويتباطأ تارة أخرى، ولكنّها صيرورة يوقّعها دائما اليوميّ، فلا تختبر منها الكاتبة ما يحدث إلاّ بمقدار يومها. كانت الكاتبة تعيش وترصد في آن الخطّ الإيديولوجيّ للثّورة، وهو يتنامى يوميا في الزّمان والمكان، كانت لحظة المعيش لحظة تماه واكتشاف في آن.
مركزيّة اليوميّ تعني أيضا تشظي الرؤية الإيديولوجيّة المصاحبة للثّورة في توزّعها على الورق يوما بيوم لمدّة ثلاث سنوات كاملة. هذا التـراكم الورقيّ اليوميّ منتج للتشظي لأنّه يفتقر إلى الرؤية المابعديّة التأليفية المنتجة للدلالة على المدى البعيد، فمواكبة الحدث الثّوري جعلت من الكتابة في اليوميّة فعلا شبه مزامن لما يحدث، أي قريب جدّا منه، ورغم ذلك فقد تخلّلها خطاب واصف يستقرئ مسار الثّورة الايديولوجيّ، وهي تحيد عن أهدافها بعد اشتعالها وانتشارها في الآفاق. مركزيّة اليوميّ، كان يعني أيضا ارتفاع نسبة التوتّر في الخطاب، نظرا إلى جزئيّة الرؤية وانحسارها التّدريجيّ عن واقع منفتح على كلّ الاحتمالات لحظة بلحظة. تقول الكاتبة وهي تستشعر بكثير من التوتّر خصوصيّة لحظتها التّاريخيّة الفارقة:” يزداد خوفي من القادم، كيف سيكون الغدّ؟ “. إنّه زمن الحلم، وزمن الرعب والمجهول في آن، فأيّ شكل يستطيع استيعاب كلّ هذه المتناقضات غير اليوميّة؟ ولكنّ تجزئة اليوميّة لما يحدث يوميا، لا يمكن أن يغيّب عنّا اهميّة طابعها التّراكميّ، هذا الطّابع الّذي يجعل من الكتابة يوما بيوم نهرا يتجمّع قطرة فقطرة. كذلك كانت رؤية الكاتبة الإيديولوجيّة لما يحدث، تتراكم في تجزّئها، وتتوزّع على وحدات يوميّة. هذا التّراكم هو الّذي أفرز الخيط الناظم الّذي تفتقر إليه اليوميّة عادّة، وهو التّرابط. التّرابط نراه سمة اليوميّة الإيديولوجيّة الخلافيّة، لأنّه يكون فيها ترابطا مسوسا بوحدة الموضوع، وليس محض تراكم كميّ أيّامه جزر منعزلة تمام الانعزال، لولا تجاورها على الورق. وهو استنتاج نستطيع أن نعمّمه على اليوميّات ذات الموضوع الموحّد مثل يوميّة المرض او السّفر أو غيرهما.
ولئن عبّر هذا التوجّه التّلقائيّ لليوميّة عن تناغم الشّكل مع التّجربة الثّوريّة المعيشة، فقد عكس من ناحيّة أخرى خصيصة أخرى، لا تقلّ أهميّة عن الأولى، وهي مركزيّة الشّهادة.
- مركزيّة الشّهادة: “حتّى لا ننسى”(32)
عندما تكون اليوميّة رصدا لمسار ثورة استثنائيّة بصدد التّخلّق، مثلما هو شأن النّجمة والكوكوت،لا يمكن للكاتبة إلاّ أن تكون شاهدة عيان، ولا يمكن للكتابة إلاّ أن تكون تبعا لذلك فعل توثيق لوقائع تستحقّ ان تروى وأن تحفظ في الذاكرة :” ببقايا هباب المدينة عدت أدوس على المخاوف والحزن والقلق، وضدّ فلول الظلام، أفتح أوراقا جديدة، أنير قلمي بالشّهادة. فالتّاريخ تصنعه ثورات الشّعوب ولا يخلّده غير الفنّ والكتابة. يشتعل قلمي بثورة الأرض…يشتعل بثورة تسكن الروح، منذ وطئت الروح هذه الأرض يعود بجموحه يركض على البياض”. (33)
الشّهادة هي في أحد وجوهها هنا، مقام كتابة يبرز تموقعات الكاتبة في سياقاتها الثّوريّة الاجتماعيّة المختلفة، وهي تعيش اللّحظة باعتبارها شاهدة عيان على ما يحدث أمام ناظريها، سواء كانت الفاعلة التاريخيّة الملتحمة بحدث الثورة، أو المنفعلة بما تسمع وترى. اليوميّة الإيديولوجيّة بهذا المعنى هي بامتياز فضاء توثيق لمعيش تاريخيّ حركيّ يحدث يوما بيوم، ولكنّه توثيق مخصوص، وهو ما نريد توضيحه من خلال النّجمة والكوكوت. لابدّ قبل ذلك من أن نؤكّد الحضور المكثّف واللاّفت لظاهرة الشّهادة في اليوميّة الإيديولوجيّة على وجه التّحديد. ففي نسيجها نستطيع تأكيد التّقاطع الحاصل بينها وبين المذكّرات الّتي تكتب أصلا بدافع الشّهادة على عصر ما أو فترة منه، ولكنّ فارق زمن الحكاية فيها ليس قريبا من زمن الخطاب مثلما هو الشأن في اليوميّات، وهو ما يتيح في نظرنا التّمييز بين خصائص خلافيّة للشّهادة بحسب تجلّياتها المقاميّة في كتابات الّذات. فكيف تجلّت لنا هذه الوظيفة الاستشهاديّة المخصوصة في النجمة والكوكوت، باعتبارها أساسا ترصد الغليان الإيديولوجي لثورة مباغتة، كانت تتخلّق يوما بيوم في نصّ اليوميّة بالذّات؟
نذكّر بدء بأنّنا كنّا أكّدنا في مؤلّفنا أدب البورتريه: النّظريّة والتّطبيق (34) أهميّة الانفتاح المرجعيّ وعدم وجاهة الطعن في صدقيّته مطلقا، وهي مسألة يمكن بحثها عموما في نقاشنا النّظري لمرجعيّة السيرة الذّاتيّة باعتبارها ملفوظا واقعيا ينتج هويّة سرديّة (35)، ولكنّنا نريد هنا أن نعود من جديد إلى قضايا الشّهادة الّتي اعتبرناها في المرجع المذكور أبرز دلائل الانفتاح المرجعي في كتابة البورتريه الواقعيّ بنوعيه: المرجعيّ/ البورتريه الذّاتيّ، لأنّها تمثّل في نظرنا ممارسة مخصوصة لما أسميناه بكتابة التّاريخ على المدى القصير. السؤال نفسه نطرحه هذه المرّة على نصّ اليوميّات لأنّه نصّ يؤشّر بداية من صورة تشكّله الورقيّة على ارتباطه الوثيق بفعل الشّهادة. فاليوميّة تتميّز أجناسيا على مستوى الشّكل بارتباطها الوثيق بالتّقويم الزّمني، المحدّد حسب تمايز الوضعيّات، باليوم والشّهر والسّنة، وأحيانا حتّى بالسّاعة. وهو ما يرتبط بلا شكّ بمركزيّة اليّوميّ فيها من ناحية، ولكنّ هذا اليوميّ هو أيضا وحدة زمنيّة دنيا تشير بدءا من بوّابة التّقويم الزّمنيّة إلى اندراجها العضويّ في الزّمن الرزنامجيّ أي التّاريخيّ العامّ، ويذلك تتجلّى اليوميّة باعتبارها قطعة من زمن حقيقيّ واقعيّ وممتدّ، تترسّخ فيه مبنى ومعنى. فهي على ذلك كتابة تاريخيّة على نحو ما، لأنّها من جهة تنضيدها الشّكلي تعلن تجذّرها في زمن التّاريخ العامّ، ومن جهة مضامينها لا تكون إلاّ كلاما في تشكّلات هذا التّاريخ المزامنة لفعل الكتابة.
لم تشذّ اليوميّة الإيديولوجيّة لدى حفيظة قارة بيبان عن هذا التوجّه العامّ لغيرها من اليوميّات الخاصّة. فالسّرد كان مشروطا دائما بمحدّداته الزّمنيّة الدقيقة (ذكر اليوم-الترتيب- الشهر- السنة)، وهو ما مثّل لديها الإطار المرجعيّ المؤرّخ لكتابتها باعتبارها شهادة على فترة شملت ثلاث سنوات من تاريخ الثّورة لا غير. التّقويم الزّمني هو إذن الوجه الشّكلي الأبرز لما تتمتّع به كتابة اليوميّة، أكثر من سواها من أجناس ذاتية أخرى من عناية بالتّوثيق. لذلك فالشّهادة في اليوميّة مثلما تجلّت لنا في الّنجمة والكوكوت موصولة بهذا البعد التأريخيّ التوثيقيّ الدّقيق الّذي يجعل منها بامتياز “يوميّات الثورة” أو “يوميّات البلاد” على حدّ تعبير الكاتبة. وفي هذا الصّدد يمكن ان نتبيّن بعدين متلازمين لحضور الشّهادة فيها: الأوّل تتراءى من خلاله حفيظة الكاتبة فاعلة تاريخيّة تسهم بكلّ حماس في صنع اللّحظة التّاريخيّة الّتي تعيشها. فهي تؤثّث بأفعالها وأقوالها وحركتها في الزّمان والمكان -مثل المشاركة في مظاهرة القصبة- مسار الثّورة وتدعمه منخرطة بذلك في حركة الفواعل التاريخيين (الجماهير/ النخب الثقافية) الّذين يشتركون معها في صنع الحدث الثّوريّ التّونسيّ، ويمنحونه معناه المعقود على إيديولوجيّة التّغيير. البعد الثّاني هو تحويل هذا الاعتراك بالتّاريخ إلى كلام/ نصّ، يثبت وقوع الأحداث المرويّة من جهة، ويرسّخها نهائيا، من جهة ثانية في الذاكرة التّاريخيّة الجمعيّة. فالشّهادة في اليوميّة الإيديولوجيّة هي بالأساس فعل ترسيخ كتابيّ على الورق لما وقع بالفعل. وبفضل تظافر هذين البعدين معا، تكون الشّهادة في النّهاية ذاكرة ورقيّة حيّة، تتّجه يوما بيوم إلى تحويل لحظات الأحداث المعيشة إلى آثار مكتوبة ضامنة لصيانتها عبر وساطة الكاتبة، بما هي فاعلة مزدوجة: تعيش وتكتب ما تعيش في آن: «حتّى لا ننسى”.
إنّ حفيظة قارة بيبان كاتبة ليوميّاتها، مؤرّخة متّصلة عن كثب بما تؤرّخه (وهي خصيصة مشتركة في كتابات الذّات تفصل بينها الفوارق الزّمنيّة النسبيّة الفاصلة بين الحدث والخطاب)، خلافا للمؤرّخ العالم الّذي يكون منفصلا عن موضوعه. هذا الاتّصال العضويّ بالحدث المرويّ من شأنه أن يؤثّر في أسلوب كتابة اليوميّة، ذلك أنّ حفيظة الكاتبة تحوّلت في عديد المقامات من يوميّاتها إلى عين راصدة تستعيد عبر تقنيّة الكتابة التّسجيليّة المشاهد الوقائعيّة الّتي عاشتها، أو عاينتها عن كثب. أسلوب الشّهادة في اليوميّة الإيديولوجيّة هنا، هو أسلوب توثيقيّ تسجيليّ بامتياز يتّخذ شكل الريبورتاج، وهو ما يجعل اليوميّة تصبح بمثابة الصّحيفة (36)، والكاتبة بمثابة الصحفيّة: “ثورة بدأت بحريق أشعله شاب في جسده بعد أن أهدرت كرامته ومنعت عنه أداة رزقه: ميزان وعربة خضار، تلاه محترق ثان انتحر على عمود كهرباء. انتفض الشّباب العاطل رغم شهاداته الجامعيّة، خرج صارخا باصواته الهادرة في ساحة الحريق، وانتشرت المظاهرات في المدن والقرى. صرخات تنتشر سريعا في الوسط والجنوب التونسي فاضحة للعالم مدى الفقر والقهر والإحباط لشباب عاطل أهدرت أحلامه”.(37) وفي سياق آخر غير بعيد عن المذكور، يقترب أسلوب الريبورتاج من الأسلوب التلغرافيّ الّذي يعكس إيجازه (جمل قصيرة مفيدة، مع التّخفّف من أساليب الرّبط الحرفيّة) في اليوميّة فضلا عن صيغته الزّمنيّة(المضارع)، شبه تطابق الكتابة مع الوقائع المسرودة، والالتزام بالسرد التّعاقبيّ الّذي يتابع ما يحدث الآن وهنا، وكأنّه مشهد تنقله عدسة كاميرا على نحو خامّ، يوهم بأنّ الكتابة شهادة تطابق وتحاكي وتصوّر عن كثب من أجل صيانة لحظات متسارعة يخشى انطفاؤها من الذاكرة قبل إثباتها بلسان القلم:”…بنزرت تحترق!
شارع الحبيب بورقيبة يخرّب في وضح النّهار…والمنوبري تكسّر واجهاته، تحترق معروضاته…النيران تندلع في العجلات المطاطيّة في أهمّ شوارع المدينة، والهباب يلوّث الجدران
الأسلاك الشائكة تسيّج البنوك والمغارات الكبرى تنهب في وضح النهار… عربات المونوبري تجول بالسلع في الشوارع … يسرع بها بعض المنقضّين على فرصة الانفلات المخيف…”(38)
هكذا نرى الشّهادة في مقام اليوميّة الذّاتي، شهادة طازجة (مازالت تحتفظ بحرارة حدوثها)، زمن تدوينها قريب جدّا من زمن وقوعها، جزئيّة أقرب ما تكون إلى المادّة/ الأرشيف الخامّ القابل لتوظيف ما بعدي، لعدم انخراطها في رؤية تأليفيّة تفسيريّة للتّاريخ على المدى البعيد، مثلما هو شأن المذكّرات، تعاقبيّة لأنّها خاضعة وجوبا لمنوال الكتابة يوما بيوم، الذّاتية عمدتها لأنّها تستمدّ صدقيّتها من كونها صادرة عن أنا أصلي واقعيّ، يقول العالم باعتباره شاهدا/فاعلا متموقعا فيه على وجه الحقيقة لا التخييل.، هذا فضلا عن أنّ تلبّسها بالانفعال و التوتّر الذاتيين، هو الّذي يكسبها على وجه الخصوص معناها التّاريخيّ الإنسانيّ، و قد تشكّل في تجربة فرديّة حيّة، -أي منفعلة بالحدث-، بدلا من تشكّله في خطاب افتراضيّ عقلانيّ.
ولكنّ الشّهادة في النجمة والكوكوت كانت فضلا عن كلّ هذه المتعلّقات موصولة دائما بحضور الآخر/ الآخرين باعتبارهم أصواتا غيريّة مهمّشة في التّاريخ الرسميّ. الفضاء الصوتيّ التّعويضيّ لهذه الأصوات النكرة، هو المساحات البيضاء الّتي تفتح لها على سبيل الاستضافة في اليوميّة. ولمّا كان السّياق إيديولوجيا وثوريا بامتياز في النّص المذكور، فإنّ حضور الآخر فيه كان بمثابة تأكيد لتراجع الخاصّ/ الحميم / السرّي لفائدة الإيديولوجي الاجتماعيّ والثّقافي، بما هما من مجالات الالتقاء لا القطيعة بين الأنا والآخر. الأصوات الغيريّة تجد لها مكانة في اليوميّة الإيديولوجيّة جنبا إلى جنب مع صوت الأنا الشّاهد، ومن ثمّة يكون هذا الصوت الآخر مظهرا داعما لانحياز اليوميّ للكشف عن أيديولوجيا العالم الخارجيّ القمعيّة، وقائعيا وإنسانيا. يأتي صوت الشّاب العشريني، وآخر مجهول الهويّة في يوميّة 28 جانفي 2011 ليؤثّث فضاء هذه اليوميّة بشهادتيهما المنقولة عن ريبورتاج تلفزي، كانت الكاتبة تتفرّج عليه يومها. يقول الثاني:
- كنت مطاردا من البوليس…لم أخش معارضتي للنّظام…حكم عليّ غيابيا…عشت عشرين عاما مختفيا في كهف مهجور في الجبل…لو شاهدتني أمّي الآن على الشاشة لما عرفتني…
- ولكن كيف كنت تعيش؟
سأله الصحفي
-أخي كان يأتي لي بالأكل…ولكن ليصل إليّ كان يذوق الأمرّين…كلّ أفراد العائلة مراقبون…خطيبتي توبعت، وسجنت ستّة شهور…ظلّت متابعة، مضطهدة من البوليس ثماني سنوات كاملة إلى أن أرسلت إليها داعيا ألاّ تنتظرني لتنجو بحياتها…”(39)
كلّ ما جاء في هذه اليوميّة الّتّي عنونت ب”الشّهادة”، هو في العمق توسيع صوتيّ (40) لصوت الكاتبة المضمر في هذه اللّوحة الاستشهاديّة. لذلك نحن إزاء شهادات إنسانيّة تقول في صميمها الفاجعة ومأساة ضحايا القمع، وتردّ لهم الاعتبار من خلال استرجاعهم في اليوميّة لحقّهم الإنساني في أن يسمعوا ويتكلّموا، وهو ما نسميه بالتّاريخ المؤنسن في شهادات أدب الذّات عموما. ومن ناحية أخرى، تمدّ شهادات الآخرين حبل الاتّصال بينها وبين صوت الكاتبة الراوية تحطيما لمبدإ العزلة الصوتيّة في اليوميّة الخاصّة، وتحريرا لها من الانغلاق الاغترابيّ في مقاربة مآسي العالم. لذلك فإنّ الشّهادة في اليوميّة الايديولوجيّة هي أكثر من صوت أحادي، هي سمفونيّة صوتيّة مرجعيّة يسترجع فيها الكائن العاديّ، بما هو كائن تاريخيّ أبعاد وجوده الإنسانيّة، فهي تفتح أمامه مجال التّحرّر من خلال ممارسة التّعبير بلغته الخاصّة عن وجوده التّاريخيّ، بعد نفيه وعزلته في خطابات السّلطة الرسميّة. وفي هذا البعد بالذّات تصبح الكتابة ممارسة لمسؤوليّة تاريخيّة إنسانيّة، لعلّها أهمّ من هذا المنظور من التّاريخ الرّسميّ الّذي يوجّه عنايته صوب التحليل والتّفسير دون منح الكائن الفاعل فرصة ممارسة قول عالمه الفكريّ والنّفسيّ، ذلك أنّ مثل هذا التوجّه يجرّد التاريخ من حلمه بإنتاج خطاب معلمن. كتابات الذات تسدّ هذه الهوّة باعتبارها تأريخا يتبنى ما يمكن أن نصطلح عليه بالدرجة الصفر، وهي درجة التوثيق التسجيليّ الخامّ. أن يتبنّى المرء اليوميّة شكلا لكتابة التاريخ، هو بذاته اختيار للانحياز إلى شكل، أو منوال خطابي ديمقراطيّ، لا يشترط الكتابة العالمة، بل يفتح لأيّ كان سبل قول ما يريد قوله، لأنّه قبل كلّ شيء كائن جدير بأن يتكلّم ويسمع. الذّاتيّة هنا هي مقام تجذّر في التّاريخ.
لم تكن الأصوات الغيريّة في يوميّة حفيظة قارة بيبان أصواتا نكرة أو مجهولة دائما، ولاشكّ في أنّ مسالة التّعدد الصوتي فيها ليست أيضا مجرّد استحضار جافّ للشّهادة التّاريخيّة، ففيها اتّسع المجال لاحتضان أصوات العائلة، وبالأخصّ، صوت أخيها الفنّان التشكيلي حليم، فضلا عن كون صوته كان حجر أساس فيما سنسميه بالمعمار الفنّي في يوميّة النّجمة والكوكوت. فكيف استطاعت اليوميّة الإيديولوجيّة هنا أن تحقّق رهان الجمع بين تسجيل مرجعيّات التّاريخ وفقا لكتابة متحرّرة، رأينا أنّها تقع مبدئيا خارج ضوابط القول الجميل، وبين درجات من الأدبيّة كيّفت النصّ وجعلته جامعا بين التوثيق، والإنشاء الجماليّ على نحو مخصوص؟
II التّشكّلات الأدبيّة للمرجعيّات التاريخيّة في النّجمة والكوكوت
إنّ تلقائيّة كتابة اليوميّ في النجمة والكوكوت لم تكن دائما عاملا حاسما لإقصاء الأبعاد الأدبيّة – مثلما هو شائع‑ الّتي تلوّنت بها كتابة المرجعيّات التّاريخيّة لمسار الثّورة التّونسيّة على مدى ثلاث سنوات. فقد بيّنا أنّ وحدة الموضوع الايديولوجيّة من أهمّ العوامل الّتي أسهمت في تجاوز تشتّت الدلالة، وتشعّباتها بإضفاء طابع الوحدة عليها سيّما، وأنّ السّرد في اليوميّة بقي دائما مشدودا إلى التّعاقب الزّمنيّ الّذي يضفي عليه ترابطا خارجيا، قوامه تراكم الأحداث المسرودة.
اليوميّات نصّ لا يخضع بالتّالي للتّرابط العضوي بل للتّراكم، لذلك لا يمثّل بذاته محكيا موحّدا ومترابطا، وأقصى ما يبلغه أنّه يفسح المجال لظهور محكيّات صغرى تتخللّه دون أن تخلخل ما يتّصف به من هجنة بنائيّة وأسلوبيّة ولغويّة. المصاحبات النّصيّة في يوميّات حفيظة قارة بيبان، بداية من العنوان الرّئيس وصولا إلى التّوطئات: كلمة أولى، قبل البدء، ثمّ، لماذا الكوكوت؟ اشتغلت بمثابة المؤشّرات المابعديّة الموظّفة لإدراج كتابة اليوميّ ضمن استراتيجيّات نشريّة إنشائيّة مجدّدة تغامر بكتابة اليوميّ ضمن خطّة سرديّة مركّبة، تشتغل بإضفاء ترابط حكائيّ مخصوص على السرد رغم أنّه لم يخضع لأولويّة الحبكة المترابطة، يعضده أسلوب تعبيريّ أدبيّ تصويريّ يجذّر ما هو واقعيّ في سجلّ التّمثيل البلاغيّ. فالعنوان الرئيس النجمة والكوكوت لا يحيل على ترابط مكوّنين مرجعيين ضاربين بجذورهما في أرضيّة اليوميّات فقط :النّجمة، بطلة قصّة للأطفال كتبتها حفيظة قارة بيبان، ثمّ تحوّلت هي ونصوص أخرى من رواياتها إلى مشروع غنائي مع عادل بوعلاّق(41)، والكوكوت، الأداة الّتي وظّفها حليم من أجل التّعبير عن غضبه لغياب متحف وطني للفنّ الحديث و المعاصر يحفظ آثار الفنّانين التشكيليّين التّونسيين، بل إنّ العنوان المذكور تحوّل داخل اليوميّات تدريجيا عن دلالته المرجعيّة المذكورة إلى دلالات إيحائيّة رمزيّة، تضفي على النّجمة بما هي جسم ضوئيّ، رمزيّة أدبيّة تجذّرها في سجلّ نورانيّ يحيل على الابتكار والتّجديد و الحبّ والحياة، و المقاومة، في حين أضحت الكوكوت رمزا للثّورة المتأجّجة، وأيقونتها المعبرة عن الاحتقان والغليان والاحتراق لتجذّرها البلاغيّ في سجلّ ناريّ. هتان الرّمزيتان الضمنيّتان، هما بمثابة معنى المعنى، أي تحويل أدبيّ للدّلالة المرجعيّة القاعديّة، وتحرير لها من ضغط المرجع المسطّح لصالح توسيع أفقه التأويليّ المجازيّ. وهي آلية سنراها تمتدّ وتتعمّق على امتداد صفحات اليوميّات منتجة خطّين قرائيين متلازمين عضويا: خطّ وقائعيّ تقريريّ يسجّل هذا المرجع المسطّح، وخطّ تأويليّ أدبيّ مجازيّ يقترن به، ولكنّه يحوّله في مستوى قراءة أعمق إلى مرجعيّة من درجة ثانية، وهي مرجعيّة رمزيّة، أو مرجعيّة المرجع الإيحائيّة. وهي تعمل على ترسيخ الدّلالة التّاريخيّة فيما هو مطلق وإنسانيّ أي أدبيّ، إضافة إلى الدّلالة المعنويّة الأوّليّة. انطلاقا من هذه الازدواجيّة الدلاليّة الواصلة بين التّاريخيّ والرمزيّ، بين الزّمني والمطلق في آن، ترسّخ الفعل الكتابيّ في أبعاده الأسلوبيّة الأدبيّة ليصبح في اليوميّات ارتحالا متواصلا باتّجاه تأصيل الحوادث التّاريخيّة المرويّة في تعبيرات مجازيّة تمشهد، وتشخّص الأفكار، والمعاني، والأحداث الممثّلة لمسار الثّورة التّاريخيّ، وهو ما نعتبره من قبيل عبور المرجع إلى تمثيله أدبيا. وتتعمّق هذه الاستراتيجيّة الأدبيّة في النجمة والكوكوت من خلال تدشينها لخطّ تأويلي ثان، يقوم هذه المرّة في مستوى تركيبة السّرد الخطيّة، فالنّجمة والكوكوت قطبان دلاليان تفرّعا إلى جدولين متوازيين، متداخلين في آن، تنتظم كلّ منهما شبه حكاية ملازمة له في مستوى التأليف بين مكوّناته الجدوليّة. فنكون بالتّالي إزاء خطّين ومنظورين: خطّ سرديّ انتظم وفق حكاية النّجمة بكلّ متعلّقاتها الايديولوجيّة الموصولة عموما بمتابعة الثّورة يوميا والأدبيّة بالخصوص. وهو خطّ سرديّ رئيس مثّله صوت حفيظة قارة بيبان وهي تحدّثنا في نشوئيّة رواياتها ونصوصها القصصيّة، ومشاريعها الأدبيّة المتخللّة لقيام الثّورة. أمّا الخطّ الثاني فقد انتظم وفق حكاية الكوكوت بكلّ متعلّقاتها الثّوريّة، وقد أضحت بمثابة شخصيّة قصصيّة، لأنّها ذات قصّة متسلسلة، وشخصيّة متطوّرة متقلّبة بحسب ما يجدّ من أحداث سياسيّة، نتابعها أساسا من خلال صوت حليم قارة بيبان، وهو يرصد تطوّرات راهن الثورة السّياسيّة. الخطّان السّرديّان متداخلتان نسبيا داخل التّوزيع اليوميّ يوحّدهما موضوع الثّورة وتبعاتها، ويغنيهما تعدّد المنظور السّرديّ الّذي يجعل من حكاية حليم، حكاية في الحكاية، أي بمثابة القصّة المضمّنة في قصّة أعلى تمتصّها في نسيجها: إنّها قصّة يوميّات الثّورة بلسان حفيظة قارة بيبان. تداخل اليوميّتين والمنظورين يجذّر الكتابة في التّعدّد الصّوتي Polyphonie الّذي ليس إلاّ وجها من وجوه الحواريّة (42) في النصّ، ومظهرا من أهمّ مظاهر أدبيّته، وخروجه عن هيمنة الصوت الأوحد في اليوميّة الكلاسيكيّة. وبالتّوازي مع هذه الازدواجيّة الصوتيّة الّتي جاءت في شكل تضمين لصوت حليم في صوت حفيظة، تغتني اليوميّات وهي تنتج عوالمها الدّلاليّة الفكريّة، والوقائعية بانسكابها في نظامين سيميائيين مختلفين ومترابطين في آن: نظام اللّغة، وسيميائيّة الصورة الّتي تشكّل عوالمها من تفاعل الرّسوم والصور، وتفاصيل الأشكال والألوان المدركة بالعين، ممثّلة في اليوميّات سرديّة بصريّة فنيّة متميّزة، تتعايش مع السّرديّة اللّغويّة وتتفاعل معها وتغذيها في آن. ورغم أنّ هذين الخطّين السّرديين لا يرقيان في اليوميّات إلى مستوى القصّة أو الحكاية بمعنى الحبكة السّرديّة القائمة على التّرابط والتتابع الحدثيّ المتين، فإنّ الكاتبة في عتبة قبل البدء تؤسّس لقراءة الأحداث المنثورة قراءة حكائيّة تمنحنا مفاتحها التّأويليّة، وتعيّن شخصياتها، وملابساتها السّياقيّة، ورهاناتها:
“كيف التقينا؟ لنعود طفلين شقيين تجمعهما الثورة المكتسحة أرض تونس، ويأخذهما عشق وجنون حول كوكوت تصنع الحكاية، وتخترق الفضاءات وتجوب العالم؟
مع الثورة الّتي تتقدّم مكتسحة البلاد يعود الضاربون في الأرض. تستيقظ الأحلام المستحيلة: أحلام الأرض والبشر، وسارقي النّار. تنهض النجمة صديقة الأطفال من قلب الحلم، تطلع صديقة الأطفال من الكتيّب الصّغير، تلتقي بالكوكوت على ورقي لتصبحا رمزا لثورة لم تكتمل. وإذا الكوكوت تنزل رغما عنّي مع حليم إلى الشوارع الثّائرة تطلق صفّارة الإنذار، يلتمع معدنها الصلب القاسي في الوجوه، أو ينطفئ ويسود وفق مزاج الفنّان وأحوال الدنيا الضاجّة حواليه، أو تتحوّل إلى لوحة سرياليّة تطير فيها الكائنات في سماء بلا شمس، وفضاء بلا جاذبيّة تحوم حولها كائنات تتوق للخلاص”[ii]. وتمضي الكاتبة قدما في تأثيث سياق الحكاية، أو سرديّة الكوكوت الراصدة لمسارات الثورة، عندما تلجأ إلى استدعاء حليم صوتا شارحا لتاريخه مع قصّة الكوكوت الّتي ستصبح لاحقا حاملا لقصّته مع الثّورة. هكذا بعد أن كانت الكوكوت مجرّد صورة في بطاقة بريدية عرضها حليم في معرض يحتفي بأعمال الفنّان فوزي الشتيوي إثر وفاته، يستشرف من خلالها ضرورة قيام متحف وطني للفنّ الحديث والمعاصر بتونس، استبدلت بكوكوت حقيقيّة يخطفها حليم من مطبخ أخته حفيظة، لكي يوظّفها للتّعبير عن ملابسات الثّورة وكيفيّات تفاعله معها، فإذا هي شخصيّة في سرديّة لغويّة بصريّة، تتكيّف بما يحدث، وتعبّر عن أفكار حليم وانفعالاته، وهو يجوب بها أنحاء العالم، وقد تحوّلت إلى أيقونة للثّورة. هذه المداخل أو العتبات الثلاث هي الّتي تمكّن القارئ من متابعة العرض اليوميّ للوقائع المستجدّة باعتبارها حلقات متشابكة أو فصول لقصّة متداخلة غير مسطّحة، بل متعدّدة الأبعاد والأصوات، رغم عدم ترابطها ترابطا سرديّا سببيا عضويا. فالقارئ هنا هو الّذي يقوم بجمع التّفاصيل وبناء الأحداث والشّخصيّات فيما يشبه الوحدة الكليّة المترابطة بواسطة التأويل، حتّى وإن وردت موزّعة داخل شتات السّرد اليوميّ. لذلك نعتبر البنية الحكائيّة بنية غير متحقّقة في النّسيج السّردي بذاته، لأنّه نسيج متشكّل في منوال اليوميّات، ورغم ذلك، فالحكاية كائنة بالقوّة في الخطاب، وكائنة بالفعل في مستوى القراءة المؤوّلة للمكوّنات الحكائيّة المنثورة في تضاعيف السّرد. إضافة إلى ذلك، نرى أنّ دمج الكاتبة لمكوّنات سيميائيّة متنوّعة في فضاء ورقيّ موضوع تبئيره موحّد: الثورة التونسيّة، من شأنه إضفاء طرافة خاصّة، قوامها تجاور الحروف والصور، والأشكال والألوان. وبذلك تمقطعت مساحات الفضاء الورقيّة بحسب اكتساح مواد لغويّة وبصريّة لها، مكوّنة شبه جزر ذات أحجام مختلفة من اللّوحات الجميلة الّتي تعطي أبعادا تمثيليّة فنيّة بديعة لوقائع مرجعيّة محدودة الأبعاد في الأصل. هذه الاستراتيجيّة تجعل من يوميّات حفيظة قارة بيبان يوميّات بصوتين، وبمنظورين، وبلغتين، وببؤر سرديّة قابلة لتأويل تأليفيّ (الإدراك البصري كلّي، خلافا لخطيّة التفكيك اللّغوي) فنّي، يستوعب المرجعيات التّاريخيّة القائمة الآن وهنا، ولكنّه يعلو عليها ولا ينحبس في طوقها. التعدّد الصوتي هنا هو الوجه الآخر من تعدّد الشّهادة بما هي أساسا تعدّد في وجهات النّظر تمثّلها سمفونيّة صوتيّة، و لكن تبقى الكاتبة هي المتكلّمة العليا الّتي توجّه السمفونيّة: لقد كان صوت حفيظة بمثابة الصوت الوسيط وهو ينقل في يوميّاته لقرائه المابعديين(ما بعد النشر)،أصوات الآخرين، وصوت حليم الّذي تحوّل إلى شخصيّة/ أيقونة راصدة للثّورة ومروّجة لها في العالم. اندراج صفحاته الفايسبوكيّة في يوميّات شقيقته، بما في هذه الصفحات من تعليقات تمثّلها أصوات، منها المعروفة في عالم الثّقافة و الفنون التّشكيليّة، و منها النكرة، مثّل استراتيجيّة بوليفونيّة من درجة ثانية متعدّدة الأبعاد ترقى إلى مستوى حوار جماعيّ يذهب في اتّجاهات عدّة ويضفي على ما يحدث طابع الشّهادة العنقوديّة المتناسلة في نطاق الصفحة الواحدة الّتي تتّخذ شكل التّأويل المتعدّد لصور الكوكوت ورسومها ،وهي تنزّل تباعا في الفضاء الأزرق، بحسب ما يجدّ من أحداث يقتنصها حليم، و يخلّدها فنيّا في سردياّته البصريّة، فضلا عن تدخّله أكثر من مرّة للتّعليق عليها لغويا. في هذا السياق يظهر صوت حفيظة باعتباره صوتا ناقلا وشارحا، ولكنّه لا يكتفي بوساطة النّقل، وتعريب العبارات الفرنسيّة او الانجليزيّة المصاحبة للحامل البصريّ، بل يتراءى لنا إلى ذلك صوتا مشاركا في حوار متعدّد الأصوات، ينقله من جهة، ويتفاعل معه في الحين من جهة ثانية(44) الصفحات الفايسبوكيّة لحليم حضرت أيضا باعتبارها يوميّة في اليوميّات، ويمكن أن نعتبرها من قبيل اليوميّة الرقميّة أو النسخة الألكترونيّة المتطوّرة لليوميّة الورقيّة في عصر سيادة المعلوماتيّة، و أهمّ ما يميّزها هنا أنّها حينيّة، تشاركيّة، ترسل وتؤوّل في حينها. لذلك فطابع السريّة ليس من مقوّماتها التّواصليّة، لاسيّما ونحن إزاء يوميّة فايسبوكيّة محمّلة برسائل مشفّرة إيديولوجيا تتعاطى مع راهن ثوريّ تواكبه عن قرب مواكبة نقديّة تأمليّة. هنا الفاعل التّاريخيّ حاضر بكلّ تجلّياته النفسيّة والفكريّة يطرحها الآن وهنا لتتمشهد أمام الآخرين الّذين ينقلبون بدورهم من شاهدين إلى فواعل مؤثّرين في التّفاعل مع الراهن التاريخيّ من خلال تمثيلهم لبؤر حواريّة تفاعليّة، وإسهامهم الحينيّ بوجهات نظرهم المتنوّعة، انفعالية، هزليّة، جديّة، غضبيّة الخ في تأثيث الفضاء الورقيّ. التّاريخ على المدى القصير في اليوميّة الفايسبوكيّة هو تاريخ معيش لحظة بلحظة، وهو بالأخص تاريخ تشاركيّ، تفاعليّ فقدت فيه التّجربة الفرديّة عزلتها القلميّة والفكريّة والسيكولوجيّة، بل وأخذت تفقد تدريجيا مركزيّتها، لأن الآخرين يستدرجون كاتبها إلى مجالات اهتمامهم وسجلاّتهم، ويحاورونه، فيردّ عليهم بقدر محاورته لهم.
إنّ الطابع الحواريّ للوظيفة الاستشهاديّة تجلّى أيضا في مستوى الازدواجيّة الصوتيّة في خطاب الصوت الواحد: فسرد الوقائع التّاريخيّة لم يكن أبدا من موقع المؤرّخ المحايد الّذي يمتهن الموضوعيّة العلميّة، بل كان أساسا من موقع تفعيل الذّاتيّة، وحضور الفرد مفكّرا ومقيّما ومحلّلا لما يحدث أمامه، أي ما يجدّ يوميا في محيطه من تطوّرات في المواقف، والسّلوكات المتناسلة المتاحة لإدراكه النّقدي المزامن لفعل الكتابة. وبذلك يختلف عن المؤرّخ الّذي يحجم عن الأحكام القيميّة الذّاتيّة. الازدواجيّة داخل خطاب الصوت الواحد (45) هي ضرب من التّبعيد الإيديولوجيّ الّذي يؤرّخ لردود الأفعال الفرديّة، فيسهم في تفكيك بنية العقليّات، وخصائص الانفعالات في تلبّسها باللّحظة التّاريخيّة في راهنيتّها. لقد كانت تقريبا كلّ مقامات تسجيل ما يحدث يوما بيوم مشفوعة بازدواجيّة صوتيّة مكّنت حفيظة قارة بيبان من إبراز وجهات نظرها الإيديولوجيّة المحايثة للثّورة، فإذا هي أكثر من ناقلة، دأبها تسجيل الأفعال، والأقوال، والمشاهد العينيّة، إنّها تتابع ما يجري محافظة على مسافة نقديّة تمكّنها من فهم ما يحدث في ضوء المرجعيّات الإيديولوجيّة المعبّرة عن جوهر انتظاراتها ممّا ينبغي للثّورة أن تحقّقه من حريّات، وعدالة اجتماعيّة، وسيادة لما هو ثقافيّ. هذا الخيط الرّفيع هو الّذي نراه يسهم أيضا في إيجاد روابط إيديولوجيّة منسجمة تضفي على التّراكم الحدثّي يوما بيوم وحدة، قوامها وصل عالم الخارج بما هو عالم أحداث ووقائع، بعالم الكاتبة الدّاخليّ بما هو عالم أفكار تضطرب وتتفاعل تمارس الكتابة من أجل إعادة إنتاج الوقائع المسرودة والارتقاء بها إلى مستوى الفهم النّقديّ الشّخصيّ:” هكذا عام فقط بعد الثّورة يهجم الحرام، يدين الفنّ، ويعدّ له السّجون، ويتوعّد بإهدار دماء الحالمين بخلق جديد.
أيّ عالم سرياليّ مظلم نمضي إليه؟ الآن وبعد الثّورة ليصبح الدّين قاتلا للعقل ساحقا لملكات الإبداع الّتي كرّم اللّه بها الإنسان؟
يخطر الحلاّج المصلوب وجعد بن درهم المذبوح…وغيرهم باسم الدّين والمقدّس” (46) وفي الصّفحة الموازية تظهر سرديّة بصريّة لحليم تعبّر عن الموقف الإيديولوجي نفسه بما يجعل اليوميّات فضاء للمقاومة، والاستنكار، وفضح انحراف الثّورة عن غاياتها فيما يشبه رجع صوتين متجاورين متناظرين تلتقي فيهما سرديّة اللّغة بسرديّة الصورة. وهو ما يبيح لنا الحديث عن تماه صوتيّ بين الأخوين، صوت كلّ واحد منهما، هو رجع لصوت الآخر.
إنّ ظاهرة الازدواجيّة الصوتيّة لدى حفيظة قارة بيبان، مثّلت في يوميّاتها ظاهرة حواريّة لافتة نهضت بوظيفة بلورة حسّها التّاريخيّ واستقرائها النّقدي للايديولوجيّات المتصارعة في سياقها، فضلا عن كونها فنّدت القطيعة القائمة بين يوميّات الدّاخل، ويوميّات الخارج الّتي وقف عندها المنظّرون الفرنسيّون مثلما ذكرنا سابقا. وتزداد أهميّة هذه الظاهرة في نظرنا، إن نحن وصلناها بدراسة خصائص شخصيّة الكاتبة الفرديّة في يوميّاتها. ذلك أنّنا لا نستطيع أن نفهم جوهر الصراع المرير الّذي كانت تعيشه الكاتبة وتصوّره يوميّا باعتباره يمثّل أزمتها المتفاقمة على مستوى الفكر والجسد، لولا حضور هذه القطيعة الإيديولوجيّة الحادّة بين مرجعيّات الأنا الإيديولوجيّة، وانحراف مسار الثورة عن تحقيق حلم الكاتبة بالتّغيير، أي تجاوز عبوديّة فترة الاستبداد أوّلا، وتجاوز القطيعة الأبديّة ثانيا بين السّياسي بمعناه المصلحي الانتهازيّ، والثّقافي، بمعناه الإنسانيّ والقيميّ. في هذا المستوى بالذّات يتجلّى لنا التّقاطع العضويّ المعطّب بين عالم الذّات الجوّانيّ، وعالم الخارج البرّاني، فهو تقاطع لم يؤل إلى مصالحة، بل كان يتطوّر باستمرار نحو تأكيد القطيعة، وخيبة الأمل. كلّ يوم كان يحمل من القرائن ما به يرسّخ القطيعة الإيديولوجيّة بين الذات وتاريخها، والعودة إلى المربّع الصفر، وهي عودة موصولة مثلما رأينا لا بالواقع الرّاهن فحسب، بل باستحضار الكاتبة لكلّ خيبات التّاريخ العربيّ منذ القدم، مثلما رأينا في الشّاهد المذكور سابقا. تدوين اليوميّ اتّخذ والحال هذه، شكل النّزول المتدرّج نحو الجحيم، فإذا «الثّورة” محض خديعة، “حلم مجرّد حلم”. وهكذا تصبح يوميّات حفيظة من هذا الموقع الجديد شهادة جديدة على تكرار خيبات التّاريخ العربيّ عموما، وعجزه عن النّهوض من كبوته. فممارسات الحركات الإسلاميّة، مثلما رصدنها الكاتبة كانت تعبّر عن خدعة الشّعارات الحداثيّة المزعومة، لأنّ بعض الأيديولوجيّات السياسيّة ذات المرجعيّات الدينيّة مثلا، كانت تتجلّى في خطاباتها وأفعالها بمثابة اللاّوعي المظلم الّذي سرحته الثورة ليعربد، وينفجر معبّرا عن عجزه عن التّصالح مع قيم الحداثة، بل وتراجعه أساسا حتّى عن العقلانيّة الإصلاحيّة، وسقوطه في متاهات الرّياء والمراوغة، أو العنف، وتدمير السّلم الاجتماعيّة. والأمر لا يختلف في جوهره مع فئات أخرى من النّخبة المثقّفة، رصدتها الكاتبة وهي بصدد ممارسة أشكال شتّى من الانتهازيّة، والوصوليّة.
هكذا لم يكن أمام شخصيّة حفيظة قارة بيبان من خيار سوى السّقوط في متاهات الأسى والخيبة، فقد انتهت شخصيّة ممزّقة، ومحبطة، لأنّها عجزت عن تأكيد ذاتها في عالم تسوده الخديعة المتخفيّة وراء أشكال من الوعود الكاذبة، والخطابات الزائفة. بدأت الكاتبة تكتب ذاتها باعتبارها مشروعا هوويا ستتيح له الثّورة لملمة أشلائه المبعثرة في التّاريخ، وتجاوز مأساته الاغترابيّة الّتي لا تكون إلاّ بالانصهار في نسيج ثوريّ جديد مبشّر بالتغيير، قادر على شفاء جراح الاستبداد، وطيّ صفحة التّمزق بين المثقّف وواقعه المأزوم، ولكن حركة الزّمن كانت للأسف تراكم الخيبات، الواحدة تلو الأخرى.
تثبت يوميّات حفيظة قارة بيبان من جديد أنّ كتابة الذّات في اليوميّة تنتهي إلى كتابة اغترابها الهوويّ، وعزلتها، ومآسيها في الانصهار، والتّأقلم مع العالم الخارجيّ القيميّ والإنسانيّ على حدّ سواء. لذلك يبقى الفضاء الورقيّ لدى كتّاب الذّات هو دائما الفضاء الأمثل للتّعبير عن الوجود الحيويّ للفرد، حتّى وهو يقصّ ملحمة خيباته وانكساراته ومآزق وجوده المبعثر. وهو ما نراه يقرّب الفرد من هذا المنظور من شخصيّة البطل المهزوم في محامل الأدب، وكأنّ الأدب ما هو إلاّ الصورة الأخرى الّتي تجرّد التّاريخ من تفاصيله، لتبرز معانيه متلبّسة بمكوّنات المتخيّل الرمزيّة. لقد برز عالم الكتابة في خضمّ هذه الملحمة بمثابة فضاء بديل، او ملجإ رحميّ – مثلما ذكرنا- يمكّن الذّات الكاتبة من إفساح مساحات بيضاء من يوميّاتها لاستقبال عوالمها الإبداعية الزاخرة بحيويّة قلمها الخلاّق. هنا أيضا تكون هذه المساحات الورقيّة الأدبيّة بمثابة الخطاب الواصف الموصول بحواريّة الصوت الواحد المزدوج، ولكنّه هذه المرّة صوت الروائيّة والقاصّة المبدعة، حواريّته أدبيّة بامتياز، وليست من الحواريّة الإيديولوجيّة في شيء. بل نزعم أنّ هذا المستوى مثّل صوت الخلاص، لأنّه عبّر عن عالم تتعاطف معه الكاتبة، لأنّه منها وإليها. هنا تخفت ألسنة الغربة، و مظاهر الانشطار، و التّأزّم الإيديولوجيّة، لتحلّ محلّها لغة التّناغم مع كيانات ورقيّة تصنعها الروائيّة، وتحاورها كاتبة اليوميّة محاورة الندّ للندّ، بل إنّ هذه الكائنات تخرج عليها أحيانا مبلّلة بمدادها ،فإذا هي تفاجئها و تذكّرها بأنّها مشروع حياتها الوحيد الّذي يمكنها السيطرة عليه، وتحقيقه من أجل استرداد توازنها الضائع في متاهات ثورة تمضي إلى المجهول : “أركض بعيدا عن أصداء الراهن…في الطريق المتوحّدة مع الريح…تأتيني” النجمة”…تذكّرني بمشروعي المؤجّل للأطفال بسبب أحداث البلاد…مشروع تخرج فيه النجمة من ورق الكتيّب الصّغير إلى الفضاء الرحيب لتصبح حكايتها أغنية تردّدها حساسين ” أجراس”، فتطير صورة ونغما مع الكلمة في فضاء النات، إلى أطفال العالم.”(47) مشاريع الأدب هي الّتي تتحقّق دائما: لقد نجح الفنّان عادل بوعلاّق ومجموعته أجراس في تحويل أحلام حفيظة قارة بيبان الفنيّة إلى واقع حقيقيّ، تجتمع فيه شظايا مراياها المكسورة وتلتئم، حتّى اللّحظات الّتي فتحت فيها الكاتبة أبواب مخبرها الإبداعيّ لتحدّثنا عن طقوسها، ونشوئيّة شخصيّاتها، و متاعب لحظات مخاضها الإبداعية، وصراعاتها ضدّ الوهن الجسديّ، ومعوّقات الكتابة بأنواعها، كانت هي الأخرى لحظات تعبير عن حياة تضطرب بالأفكار والمشاعر المتّقدة، ولم تكن في واقع الأمر مجرّد فعل تسجيليّ روتينيّ يدوّن في اليوميّات مواد خامّ، توثّق لتجارب الكاتبة الإبداعيّة، مثلما هو الشّأن عادة في عديد اليوميّات الّتي تتحوّل إلى أرشيف أدبيّ. عالم الإبداع الرّوائيّ، هو إذن العالم الأدبيّ الرحب الذّي تمارس فيه إعادة إنتاج العالم بتحويله إلى رؤية ايديولوجيّة متشكّلة أدبيا في حكايات وشخصيّات تتحكّم هي دون سواها بمصائرها وتعبيراتها، ولكنّه بدا لنا إضافة إلى ذلك، العالم السرّي المريح الّذي تعيش فيه الكاتبة مساحات حرّيتها الثّمينة، عالم الخلوة إلى طقوس وجودها الأعمق، هناك حيث تلتقي ذاتها، فتسكن إليها، وتنتشي بمعاشرتها في لحظات تسرقها من ضوضاء الحياة العامّة، وحتّى الأسريّة، لأنّها لا تكون لذاتها وفي ذاتها إلاّ وهي تصنع عوالمها، و تنصهر فيها متناسية استعصاء عوالم الخارج، وجموحها، فإذا هي تهرب من جحيم العالم إلى نعيم الكتابة، وصفاء الصفحة البكر :” هذا الصّباح لي، أغلق عليّ مكتبتي، تواجهني شمس فيفري الباردة، يرتفع بالغناء من الحاكي الصوت الفلسطيني الشّجيّ لريم البنّا…”(48)وفي سياق لاحق :” …يتلاشى النغم ويغيب صوت ريم…
رجاء…! لا تطرقوا بابي! اتركوا الصباح لي مع وحدة على البياض، بياض يمحو المخاوف والخيبات لترسم الذّات الوحيدة حرفها المشعّ، المتعالي على أرض لم تعرف بعد الخلاص”(49)
فهل قدر الكتابة أن تظلّ على الدوام كتابة الخيبة والقهر؟
هذا السّؤال يقودنا حتما إلى سؤال ضمنيّ لا يمكن إغفاله البتّة لأنّه في علاقة عضويّة بالمشروع الهوويّ الّذي خاضت غماره الكاتبة: ما هي منزلة المكوّن النّوعيّ، أو الأنثويّ من هذه اليوميّة الإيديولوجيّة؟ خاصّة ونحن نعلم علم اليقين، أنّ كلّ الكتابات النّسائيّة الذّاتيّة كانت في جوهرها تعبيرا عن رفض كلّ اشكال الهيمنة والقهر الموصولة عند الكاتبات العربيّات بتفكيك هرميّة البنية الذّكوريّة، وفضح تمييزها التّفاضلي بين الجنسين. هل يمكن أن تقوم في المجتمعات العربيّة ثورات مخلّصة للإنسان العربيّ من أشكال الاستبداد والهيمنة، دون أن توازيها ثورة في تاريخ العقليّات أي ثورة ايديولوجيّة موضوعها نقد هويّة الجندر، ومراجعة مواضعاتها التّمييزيّة؟
III من الحريم إلى المواطنة : سؤال الهويّة الجندريّة ورهان الثورة
معالجة المعضلة الهوويّة لدى المرأة الكاتبة العربيّة، لا يمكنها في نظرنا أن تكون ناجعة ودقيقة إن هي لم ترتبط عضويا بتفكيك ضمير الأنا المتشعّب إلى مكوّناته القاعديّة المقاميّة والوظيفيّة والعلائقيّة. فالهويّة مفهوم معقّد ومتداخل التّفريعات، فلئن اختصّ ضمير الأنا بالإحالة على مرجعيّة المتكلّم في سياق تخاطبيّ معلوم، يعود تحديدا على هذا الشّخص الحسّي المتكلّم، فإنّ هويّة هذا الأنا ليست مقصورة فقط على هذا الحضور العينيّ المدرك في سياق التّخاطب بين المتكلّم ومتلقي خطابه : إنّها تركيبة هوويّة متداخلة تتشابك فيها العناصر التّكوينيّة السيكولوجيّة، و الأنطولوجيّة، والايديولوجيّة الفكريّة، والاجتماعيّة الجندريّة لدى المرأة على وجه الخصوص، وترتبط هذه الهويّة الجندريّة (50) بالبنية التّراتبيّة الوظيفيّة الّتي هي موضوع تواضع اجتماعيّ ماقبليّ، يحدّد الهويّة وظيفيا وقيميا وفق قاعدة التّمييز التّفاضلي بين الجنسين : الذكور والإناث. وبذلك تكون هويّة الجندر، أو الجنوسة متمثّلة في مقولتي الهويّة الأنثويّة، مقابل الهويّة الذكوريّة، هويّة نوعيّة مشفّرة، يتمّ إضفاؤها على النّساء والرّجال على حدّ سواء باعتبار خلافيّة الأدوار الاجتماعيّة المنسوبة إليهما في المجتمعات الأبويّة الذكوريّة. تحليل قضايا كتابات الأنا في مدوّنات المرأة العربيّة الذاتيّة ارتبط منذ بدايات ظهور هذه المدوّنات الذّاتيّة بمسالة الحريم (51)، وهي مسألة مقاميّة اجتماعيّة بالأساس، لأنّها موصولة عضويا بتحليل مقولة الهويّة الجندريّة، أي الهويّة الأنثويّة تحديدا الّتي تعامل المرأة على أنّها كائن بيتيّ، مجال تحرّكه الفضاء الخاصّ، وتبعيّته للرّجل. لقد تبيّنا ونحن نعالج أصوات الكاتبات العربيّات الذاتيّة أنّها كانت تجتمع دون استثناء حول انتقاد هويّة الجندر الأنثويّة باعتبارها هويّة اجتماعيّة تفاضليّة قهريّة، فهي تكرّس تبعيّة المرأة للرّجل في عديد المستويات، وتختزل وظائفها الأساسيّة في حيّزي الزوجيّة والأمومة. لذلك كان جيل الرائدات يناضل من أجل مقاومة مقام الجندر المقنّن، ويحاول جاهدا حلحلة معاييره القيميّة السلبيّة، ووظائفه التّمييزيّة من أجل تحرير هويّة المرأة الفرديّة من إكراهات المحدّد الهوويّ الجندري الإقصائيّ داخل منظومة اجتماعيّة ذات سلطة علويّة ورمزيّة، ليس من اليسير تغييرها أو إعادة هيكلتها نوعيا على أساس المساواة والحريّة خارج المواضعات الاجتماعيّة المجنسنة.
لقد ساد الوعي لدى جيل الرائدات بأنّ وعيهنّ بذواتهنّ تشّكل بدءا في ضوء مقولة الحريم، وذلك خارج نطاق الإدراك الحرّ بهوّياتهنّ النّوعيّة، أو وعيهنّ المخصوص بذواتهنّ الشّخصيّة المتفرّدة. الهويّة المجنسنة كانت تمثّل دائما عائقا يحول دون بناء الذّات الفرديّة في كنف امتداداتها ونوازعها السيكولوجيّة والفكريّة الأصيلة أي التلقائيّة. لذلك فهويّة الجندر تطرح بالأساس في كتابات الذات المعضلة المقاميّة للأنا الاجتماعيّ المحدّد نوعيا في تنازعه المشكليّ مع الأنا الفرديّ المتمرّد على كلّ الضوابط الماقبليّة المكيّفة لوعيه بذاته فاعلة ومتفاعلة بالعالم. تفكيك بنيان المجتمع الفحوليّ كان إذن الخطوة الأولى من أجل تأسيس وعي نقديّ نسائيّ بعوائق تحرير المرأة العربيّة من سطوة علاقات السلطة القهريّة في مجتمع يتحكّم به الرّجال، ويضعون ضوابطه، بما في ذلك ما يخصّ النّساء على اعتبار أنّهن موضوع طبيعيّ لهذه السلطة.
السّؤال المطروح في هذا المقام الهوويّ المخصوص، هو كيفيّة تموقع حفيظة قارة بيبان في يوميّاتها الإيديولوجيّة داخل هذا الخطّ الإيديولوجيّ النّقدي النّسويّ، والحال أنّها تخوض في يوميّاتها غمار مرحلة ثوريّة بامتياز: فإلى أيّ حدّ نعتبر نصّ النّجمة والكوكوت بما هو يوميّات الثّورة، نصّا يواصل ضمنيّا أو صراحة طرح سؤال المرأة الهوويّ في سياقه الثّوريّ الكبير أوّلا، أو يطوّره داخل رهانات المسار الجندري نفسه ثانيا؟ علما وأنّنا نعالج نصّا ذاتيا لكاتبة تونسيّة تحظى بامتيازين، امتياز المقام التّاريخيّ العامّ للمرأة التونسيّة الّتي استفادت كثيرا من نسويّة الدّولة متمثّلة في دعم الزعيم الحبيب بورقيبة لمسار تحرير التّونسيّات قانونيا ورمزيا. أمّا الامتياز الثّاني، فهو تاريخيّ محض يعود إلى المدّة الزّمنيّة الفاصلة بين مدوّنات العربيّات الذّاتيّة، ونصّ اليوميّات المعتمد، وهي مدّة تزيد عن قرنبن من الزّمن. وإلى أيّ حدّ أيضا يمكن أن تكون الثّورة التّونسيّة باعتبارها السّياق السّياسيّ للنصّ، قد أسهمت بدورها في تكييف محدّدات السؤال الهوويّ الجندريّ، او إعادة طرحه لأنّه غير منفصل عن رهانات الثورة الإيديولوجيّة؟
لقد وقفنا في النجمة والكوكوت على مقامات نصيّة حاملة لبصمات الانتماء الى هويّة الجندر الأنثويّة، ولكنّها مقامات جنينيّة لم تكن تمثّل مركز ثقل حقيقيّ في توجّهات الخطاب الإيديولوجيّة الكبري. لقد كانت حفيظة قارة بيبان تصدر في يوميّاتها وهي معنيّة برصد الأحداث الثّوريّة من مقام أنويّ موصول بهويّة الكاتبة المثقّفة المنتمية إلى رابطة الكتّاب الأحرار مثلما ذكرنا. هذا التموقع المقاميّ الثّقافيّ غير المجنسن هو الّذي هيمن على وجهة نظرها، وهي تتفاعل مع مجريات سياقها التّاريخيّ، وهو الّذي طبع هذا المقام الأنويّ عندها بطابع الأنا الرّمزي،ّ لأنّه أنا ثقافي يستمدّ مشروعيّته الفعليّة من السّلطة الرّمزيّة الّتي يمثّلها الفاعل الثّقافيّ، لاعبرة في ذلك بالمعطى الهوويّ الأنثويّ. الأنا الثّقافي أنا غير مجنسن بالأصالة لأنّه في جوهره قلميّ رمزيّ، حتّى وإن كان مقصورا مبدئيا ونسبيا في تاريخ المجتمعات الذكوريّة على الرّجال دون النّساء. لذلك كان امتلاك المرأة للقلم بمثابة أوّل اختراق لدائرة السّلط المحرّمة عليها، دائرة سلطة الثّقافة الرمزيّة. صوت حفيظة قارة بيبان كان يصلنا دائما من داخل دائرتها الثّقافيّة المضيّقة: مجموعة الكتّاب الأحرار بما هي مجموعة ايديولوجيّة ثقافيّة يساريّة مناهضة للاستبداد وقمع الحريّات في حقبة استبداديّة من تاريخ تونس المعاصر. وهو ما يجعل صوت الكاتبة بالأساس صوتا ضمن جماعة تتبنّى مواضعات وقيما يساريّة مشتركة، والملاحظ أنّ هذا الانتماء لم يكن يطرح بدءا في هذه الدائرة المختلطة أيّ إشكال هوويّ يذكر، ولكنّ هذه الوضعيّة ستشهد تغييرا استثنائيا بعد الثورة مثلما سنبيّن. صوت الكاتبة الثّقافي هنا، ليس بالصوت الموشوم جندريّا، لأنّه مذهبيّ ايديولوجيّ بالأخصّ.
الكوكوت هي بصمة التموقع الجندري المركزيّة في اليوميّات، لأنّها أصيلة المطبخ، المكان الأنثويّ بامتياز الّذي تقبر فيه مؤهّلات المرأة غير المتعلّقة بمقامي الأمومة والزوجيّة الجندريين. لقد كشفت ملحمة الكوكوت شبه المفتكّة من مطبخ الكاتبة عن مدى تمسّكها بهذه الوظيفة البيتيّة الموصولة مباشرة بهويّتها الأنثويّة باعتبارها ربّة بيت مدعوّة إلى تأمين غذاء أسرتها طبقا للمواضعات الاجتماعيّة. لقد جاء إلحاحها الموّجه إلى أخيها حليم بضرورة إعادة الكوكوت إلى مطبخها بمثابة هاجس يكشف عن تمسّكها بهذا البعد الهوويّ، المهيكل لجانب من جوانب شخصيتها الأنثويّة الاجتماعيّة التّقليديّة. وفي المقابل تبحث الكاتبة في سياقات أخرى تعلّقت خاصّة بإدارة شؤون البيت أثناء تغيّب المعينة المنزليّة عن إيجاد موازنة بين حاجتها إلى زمن تنقطع فيه إلى ممارسة الكتابة والتّأليف الرّوائيّ من جهة، وإكراهات هذه الشّؤون البيتيّة من جهة أخرى. وهو ما يدلّ ضمنيا على أنّ مسائل الانتماء إلى الهويّة الأنثويّة لم تحلّ نهائيا، وإن خفتت حدّتها نسبيا مقارنة بما كانت تمثّله من معوّقات لدى جيل الرائدات، فهاجس الواجب الأسري يظلّ هنا أيضا في تعارض نسبيّ مع مسؤولياّت المقام الثّقافيّ، بما يجعل الأنا القائم في تقاطع هذبين المستويين ما يزال حاملا لآثار الانفصام والازدواجيّة في نطاق مكوّنات الشّخصيّة الفرديّة. يبدو أيضا أن حفيظة قارة بيبان كانت تصبو إلى تحقيق معادلة، أو موازنة شبه مستحيلة بين وظائفها الأسريّة، ووظائفها الثّقافيّة الرمزيّة دون أن تبلغ مبلغ طرح مدى وجاهة تكفّلها وحدها بهذه المسؤوليّة الوظيفيّة. وهو ما يعني أنّها لا تحاكم من هذه الجهة المنوال المجتمعيّ الذكوريّ، بقدر ما تنخرط فيه محاولة إيجاد حلول وقتيّة لتجاوز معوّقاته اليوميّة. هذا التّصالح المقنّع مع هويّة الجندر يعود فيما نرى إلى نجاح نسويّة الدولة التّونسيّة في كسر الطوق عن العديد من الممنوعات الّتي أحاطت بحيوات النّساء العربيّات في بيئات عربيّة اجتماعيّة متشدّدة ومتخلّفة قانونيا عن سياق المرأة التّونسيّة الّتي نالت مبكّرا نسبيا الكثير من الحقوق الإنسانيّة والاجتماعية الأساسيّة، وهو ما فتح أمامها مسالك التّحرّر نسبيا. ولعلّ أيضا قوّة تجذّر الهويّة الجندريّة في سياق تاريخ العقليّات الممجّد للمرأة كائنا بيتيا من بين الأسباب الّتي تجعل الكاتبة غير مهيّأة تماما للخروج عن ضوابط المنوال المهدّدة لاهتزاز صورتها الأنثويّة سواء بالقياس إلى الآخرين، أو حتّى في مستوى لاوعيها العميق بشخصيتّها المحدّدة اجتماعيا.
إنّ البنية الذكوريّة القائمة على هيمنة علاقات السّلطة بين الجنسين تبقى إذن البنية الإيديولوجيّة الرسميّة المنظّمة لحدود تحرّر المرأة التّونسيّة والعربيّة وانضباطها عبر تاريخ نضالها الطويل، وهو ما يجعل مكاسبها مرتهنة بقدراتها على إيجاد موازنات في حدود ما هو متاح من تنازلات مقاميّة، تحقّقت تاريخيا لصالح المرأة دون أن تبلغ مبلغ إعادة صياغة المعمار المجتمعيّ برمّته، بما يمكن تعريض هذه المكاسب لانتكاسات حقيقيّة. ومن المفيد أن نلاحظ هنا أنّ الضغوط الّتي تعيشها المرأة الكاتبة لا يمكن تعميمها هنا آليا على علاقاتها بالرجال باعتبارهم الممثّلين الشّرعيين للسّلطة الاجتماعيّة، فعلاقة حليم بأخته حفيظة خرجت في اليوميّات عن سياقاتها الجندريّة القهريّة، إذ هي بالأساس علاقة حبّ وصداقة، فضلا عن كونها علاقة تواطؤ ثقافيّة. كان حليم وهو يسطو على الكوكوت غير معني سوى بتحويلها إلى رمز فنيّ لثورة يراد رعايتها ودفعها إلى مداها المرتقب، وهو ما جعل الكاتبة تنخرط في هذا المسار النّضاليّ الّذي تحوّلت بمقتضاه كوكوت مطبخها إلى موضوع ثقافيّ وإيديولوجيّ شيّق يوقّع أيّامها ولياليها، وهي تتابع عن كثب آخر تطوّراته، أو غزواته الإيديولوجيّة المجتاحة للعالم. المقام الأنوي الجامع بين الأخوين ليس بالمرّة هنا مقاما مجنسنا، إنّه بالأحرى مقام المشترك الثّقافي الفنّي، يمثّله الأنا الإبداعي، وتدعمه الأخوّة الدمويّة، ويجسّمه على أرض الواقع المشروع المشترك في النضال من أجل استبدال مجتمع الاستبداد بمجتمع ضامن لقيم المواطنة الّتي لا تقوم على التّمييز الجنسيّ، بل على مفهوم العقد الاجتماعيّ.
لقد نجح حليم في القضاء على الدلالة الجندريّة للكوكوت الموصولة بالمطبخ، وجعل منها عنوان مشروع ثوريّ ضديد، يمحّضها لضرورة تأسيس مجتمع جديد لا يقوم على الاستبداد عموما، بل على إيديولوجيا التّغيير من خلال تفعيل قيم الثّقافة الرّمزيّة، لأنّ مدينتة الفاضلة هي مدينة الفنّ والابتكار والتّحرّر من قيم الاستبداد والقهر. قصّة الكوكوت والنّجمة هي من هذه الجهة قصّة النّضال من أجل بناء مسار مجتمعيّ تشاركيّ ديمقراطيّ تخفت فيه المؤثّرات التّمييزيّة بين الذكورة والأنوثة لصالح التّأسيس لقطيعة تاريخيّة مع مركزيّة البنيان الفحوليّ الّذي يعتبر المنوال المنتج لكلّ أشكال الاستبداد والتسلّط، لأنّه غير تشاركيّ، وغير ديمقراطيّ، بل تراتبيّ تفاضليّ جوهريا. حليم لا يمثّل هنا أيضا الأنا الذكوريّ، لأنّه يمارس هويّته الأكثر رقيا، إنّها هويته الفنيّة غير المجنسنة. أمّا انخراط حفيظة قارة بيبان الحماسيّ في المدّ الثّوري ومشاركتها فاعلة تاريخيّة فيه، فقد كان علامة على تجاوزها مرحلة التموقع في نقد مؤسسّة الحريم المعوّقة لفاعليّة المرأة الاجتماعيّة والثّقافيّة. وهو ما يدلّ على تمتّعها نسبيا بمكاسب حقيقيّة رسّختها نسويّة الدولة البورقيبيّة، ودعمها المدّ الثّوريّ المباغت.
إنّ تجربة الثّورة مثّلت بالنسبة إليها تموقعا جديدا مثّل مرحلة نضال متقدّمة: القطع مع منظومة الاستبداد، كان يعني لها التّأسيس لمقولة المواطنة (52) الّتي تعبّر عن قطع خطوة عملاقة تتيح للمرأة التّونسيّة المثقّفة الانصهار في سياق ثوريّ جماعيّ على أساس أنّها مواطنة كاملة الحقوق والواجبات، لا على أساس أنّها امرأة تناضل من أجل افتكاك حقوقها الأبجديّة في إطار نسويّ مضيّق. هذا الوعي برهان المرحلة الثّوريّة بدا واضحا لدى الكاتبة من خلال احتفائها بالقيم الإنسانيّة العليا، وانخراطها المسؤول في المدّ الثّوري تحت لافتة النضال الجماعيّ ممثّلا ب نحن مقابل الأنا بمفهومه الحصريّ سواء كان ممثّلا بالأنا الفرديّ المنعزل، أو الأنا النّسويّ المنفصل فئويا ونوعيا. هذا الانزياح المقامي نعتبره علامة فارقة في التموقع النسائيّ العربيّ المعاصر، لأنّه استكمال لمسار تحرّريّ خاضته أجيال من النّساء الكاتبات منذ عصر النّهضة العربيّة من أجل خلق توازنات اجتماعيّة جديدة في المجتمعات العربيّة المحافظة الّتي لم تعرف ثورات بحجم الثّورة الفرنسيّة مثلا، فكانت منظومتها التحديثيّة منظومة أفكار إصلاحيّة فوقيّة، لم تنجح دائما وفي كلّ الحالات في إحداث تغييرات عميقة، وجذريّة في تاريخ العقليّات، ولا حتّى في بلورة مؤسّسات ديمقراطيّة قويّة وفاعلة. ولاشكّ عندنا أنّ الثّورة التونسيّة، وثورات الرّبيع العربيّة عموما كانت بمثابة الفرصة التّاريخيّة الّتي أتاحت للنّساء من جديد التّعبير عن وجودهنّ الفاعل في الفضاءات العامّة من أجل تكريس مبدأ المساواة الّذي لا يكون إلاّ بتغيير المنوال السّياسيّ والمجتمعيّ على أسسّ ديمقراطيّة تتمتّع بعلويّة المؤسّسات والقانون. ولكن إلى أيّ حدّ نجح هذا المشروع الطموح في تحقيق أهدافه، خاصّة وقد دأبت الكاتبة على متابعة منعرجاته، وتطوّراته على مدى ثلاث سنوات كاملة من اندلاع الثّورة، يوما بيوم؟
لقد راهنت حفيظة قارة بيبان، وهي تخوض الرّهان الثّوري بكلّ اندفاع وحماس على مسؤوليّة النّخبة الثّقافيّة في الاضطلاع الصّحيح بتصويب مسارات التّغيير والإصلاح الّتي جاء المدّ الثّوري مناديا بضرورة إنجازها على الوجه الأكمل من أجل إنقاذ البلاد والعباد بعد عقود من تفشّي الفساد والاستبداد. ولكنّ هذه الأمانة التّاريخيّة المنوطة بعهدة النخب كانت تفقد يوما بيوم في اليوميّات مصداقيتّها داخل أطر الثّقافة ذاتها. لقد اكتشفت حفيظة قارة بيبان بنفسها أنّ الممارسات الإقصائيّة للمرأة الكاتبة مكرّسة داخل المؤسّسة الثّقافيّة ذاتها، وهو ما يدلّ على أنّ الاستبداد بنية مركّبة متفشيّة في المؤسّسات، ومتغلغلة في العقليّات، وأنّ هيمنة التّسلّط الذكوريّ هي بذاتها مظهر لافت من أهمّ مظاهر تكريس العنف الرّمزيّ، والتّنكّر لمبدإ المساواة بين الجميع، سيّما بين الجنسين. فكيف يمكن لهذه النّخبة الّتي كانت تشكو من التّهميش خارج دوائر السّلطة الرسميّة المستبدّة، فضلا عن كونها كانت تقدّم نفسها في صورة البديل الإيديولوجي، أن تكون في مستوى ترسيخ برنامج إصلاحيّ ثوريّ، إذا كانت تعيد إنتاج تراتبيّات السّلطة والعنف الرّمزي داخل أطرها، وتعامل المرأة الكاتبة المناضلة معاملة إقصائيّة دونيّة؟ فشل الثّورة من هذا المنظور أمر محتوم لأنّه كامن في الازدواجيّة القائمة بين الخطاب وشعاراته الحداثيّة من ناحية، وتغلغل علاقات السّلطة الّتي تتماهى فيها الذّكورة مع الاستبداد في مستوى البنيات والعقليّات، بما يجعل من هذه الخطابات مفرغة من معناها، بل عبثيّة ومنافقة، لأنّها مكبّلة بتناقضاتها الداخليّة. يوميّة 20 جانفي 2012 المعنونة ب “ندوة دوليّة بلا نساء” مثّلت بالنسبة إلى الكاتبة لحظة خيبة أمل ومرارة: أقصي صوت المرأة الكاتبة تماما في هذه الندوة الدوليّة بعنوان” الربيع العربيّ في عيون الرّوائيين”، فلا ذكر ولا مشاركة ولو لامرأة تونسيّة روائيّة واحدة، حتّى أنّ الكاتبة انفجرت متسائلة عن هذا الحجب” ألم تشارك المرأة التّونسيّة في الثورة، ولم تقف في المظاهرات والاعتصامات في أوّل الصفوف؟ ألم تكتب عن السلطات الظالمة وعن القمع الّذي أدّى إلى الانفجار؟ (53) وفي سياق لاحق تضيف مستنكرة، وهي تعرّي هذه الازدواجيّة الّتي تنكر الفاعليّة التّاريخيّة للمرأة وتهمّشها دائما لصالح تمثيليّة الرّجل الرسميّة الوحيدة لهذه الفاعليّة” ارتفعت يدي والحوار يفتح للسّؤال، وصوتي يعلن دهشته أمام الغياب التّام للكاتبة التّونسيّة ساخرا من هذه العقد التّاريخيّة المتغلغلة في الجسد الثّقافي المثقل بتورّم الوعي الذّكوريّ حتّى بعد الثّورة، فأيّ فرق بين حجب جسد المرأة كاملا عن العيون، وبين حجب روحها النابضة في النصّ المعترف بقيمته؟ لعلّ هذا أسوأ وأفظع!”(54) وقد دعّمت الكاتبة لاحقا رؤيتها الجندريّة النقديّة لاستغلال المرأة، واستعبادها تحت لافتات إيديولوجيّة ظلاميّة بالوقوف على سلوكات رجعيّة أصبحت المرأة نفسها تتبناها وتنخرط فيها دعما لسلطة الذكورة وقبولا بالنّزول إلى الدرك الأسفل للتشيّؤ. فالمرأة المنقّبة مثلا الّتي قصدت طبيبا من أجل ختانها نزولا تحت رغبة زوجها المتديّن، هي أنموذج جديد مفزع لتراجع القيمة الإنسانيّة للمرأة بعد أزمنة طويلة من النضال النّسويّ. (55)
النّقد الجندريّ للنخبة الثّقافيّة لم يكن النّقد الوحيد الّذي وجّهته حفيظة قارة بيبان إليها. لقد كان غيضا من فيض، وجانبا لا غير من فساد كامن ومتغلغل في سلوكيّات العديد من الممثّلين لهذه الفئة. من ذلك نذكر انتقادها للكتّاب المناشدين لإعادة ترشّح الرّئيس السابق زين العابدين بن عليّ للرّئاسة، وتحوّلهم إلى متزعّمين ومتبنّين لأهداف الثورة بكلّ وقاحة. والأخطر منهم الإعلاميّون الّذين تنكروا للقيم الايديولوجيّة الّتي ضحّى من أجلها الشّعب، فحوّلوا سلطتهم إلى خدمة الفساد: ” تعيد كلماتي الماضية خوفي على ثورة جمعتنا فيها المحبّة، المحبّة الّتي تنهال عليها الآن من كلّ الجهات أحجار الكراهيّة، ويتلقّفها الإعلام المرئيّ خاصّة بمنطق الإثارة والمصلحيّة وبنفس أفكاره القديمة الّتي تغذت من النّظام المنهار ناسيا دوره الثّقافيّ والحضاريّ الّذي به يقاس مدى تقدّم الشّعوب مساهما في مزيد زرع بذور الفتن. (56)
هكذا نرى أنّ النّقد الجندري لم يكن في اليوميّات سوى مقدّمة، كانت تشتغل باعتبارها قرينة تكشف على أنّ العدّ التّنازليّ إلى الجحيم، كان مبرمجا في رسوخ عقليّة الاستبداد والتّسلّط والقدرة على إعادة إنتاجها بانتظام، واستعمال القيم باعتبارها مجرّد لافتات إشهاريّة لا غير.
لقد كانت النّخب الموكول إليها دون سواها وظيفة تغيير البنى المهيكلة لمؤسّسات الدولة، وإصلاحها انتهازيّة، فضلا عن عدم أهليّتها لتأسيس خطابات إصلاحيّة حقيقيّة تنسجم فيها الأقوال مع الأفعال. كلّ ذلك إن دلّ على شيء، فهو يدلّ على أنّ الثّورة كانت حاملة لبذور خرابها المتأصلّة في عقليّات الفواعل التّارخيين، فما من قاعدة ثقافيّة ثوريّة حقيقيّة تسندها، إنّما كانت الثّورة ومضة برق خلّب، لم تستكمل شروط نجاحها. هذه النتائج كانت تتجلّى تدريجيا في خطاب حفيظة قارة بيبان، وهي تستقرئ يوما بيوم ما يجدّ من حوادث سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة محبطة لآمالها المعقودة على تغيير المنظومة الاجتماعيّة بعد الثّورة. لذلك يمكن أن نتحدّث هنا عن تحوّل المشروع الإيديولوجيّ الثّوريّ في اليوميّات إلى رؤية إبديولوجيّة مضّادة، تنتقد بشدّة ما آلت إليه الأوضاع من تدهور وتفكّك. فالمفارقة الجندريّة لم تكن في واقع الأمر غير قرينة ضمنيّة أكّدت لدى الكاتبة عجز الفواعل التّاريخيين عن إحداث قطيعة حقيقيّة بين ممارسات الاستبداد المبنينة للعلاقات الاجتماعيّة العامّة، والممارسات المتعلّقة منها بعلاقة الرّجال بالنّساء من منظور جندريّ.
خاتمة
النّجمة والكوكوت نصّ لافت، ومجدّد في مجاله، شرّعت به الرّوائيّة حفيظة قارة بيبان لدخولها إلى كتابة أدب الذّات من بوّابة اليوميّ، ولكنّنا أثبتنا خلافيّة هذا التوجّه الأجناسيّ الذّاتيّ لديها عندما أدرجنا تجربتها الكتابيّة ضمن صنف من أصناف اليوميّات استحدثنا الاصطلاح عليه ب «اليوميّة الإيديولوجيّة“. فاليوميّ في هذه الحالة لم يكن موصولا بالحميم بمعنى الذّاتيّ الخصوصيّ أو السرّي، بل كان منغرسا في الحراك الاجتماعيّ والسّياسيّ الجمعيّ، بما جعل هذه اليوميّات في تقاطعات عميقة مع المذكّرات درسناها في مستوى الحضور المركزيّ للشّهادة. الأنا الموصول بإيديولوجيا التّغيير ليس جوانيّا صرفا، أو برّانيا محضا -مثلما نظّر له جورج غوسدورف-، إنّه واقع في منطقة التّخوم بين الخارج، والدّاخل يبحث عن ترميم توازنه المنخرم في المابين، هذه المنطقة اللاّمحدّدة نهائيا، منطقة التّفاوض اليوميّ بين صراعات الخارج، وتطلّعات الأنا باحثا عن امتداداته القيميّة الفرديّة في الحراك الجمعيّ والتّاريخيّ. لذلك فهو أنا غير استبطانيّ، متجذّر إيديولوجيا في سياقاته الآنيّة، ولكنّه حامل لرؤية تدعمها مرجعيّات قيميّة حداثيّة تجعله قادرا على محاورة هذا الحراك الّذي يعيشه يوميا من وجهة نظره الشخصيّة في إطار مرجعيّ ثقافيّ. الأنا التّأليفيّ كان ينهض بهذه الوظيفة التّنسيقيّة بين الأنا فاعلا تاريخيا منغمسا في أحداث زمانه، والأنا الثّقافيّ العامل على توجيه الفعل السّياسيّ، وترسيخه في نطاق منظومة قيميّة ذات أبعاد ثقافيّة. الأنا مثلما حاورناه في اليوميّات ليس هويّة واحدة وموحّدة بل هو أقرب إلى التكتّل الأنويّ المعقّد، لأنّه جامع لمقامات تلفظيّة، وتراتبيّات، ووظائف أنويّة تتحاور، وتتبادل الأدوار موقعيا ووظيفيا بحسب اختلاف السّياقات. وهو ليس أنا تأمليّا سكونيا يراوح مكانه، ويجترّ غربته مثلما هو شان عديد كتّاب اليوميّات الخاصّة الأوربيين، بل هو أنا محكوم أنطولوجيا بمدى توفيقه في إيجاد معادلة تمكّنه من تحقيق ذاته وفق مقولة الشّراكة مع الآخر في بناء عالم أفضل، وايمانه بأنّ وجوده الفرديّ لا يتحقّق كليّا إلاّ في مدى انصهاره مع الجماعة الّتي ينتمي إليها، ويقاسمها الانتماء إلى مشترك تاريخيّ، لا يقف منه الفرد موقف المتفرّج المحايد أبدا.
أزمة الهويّة في أدب الذّات العربيّ ليست أزمة انفصال الفرد عن الجماعة، بل أزمة كيفيّات اتّصاله بها. وهو ما سجّلناه في مقوّمات السيرة الذّاتيّة في الأدب العربيّ الحديث لدى جيل الأعلام المؤسّسين للسيرة الذّاتيّة العربيّة الحديثة، وهو أيضا ما يزداد رسوخا اليوم، بعد عقود من عدم نجاح الأنظمة العربيّة في تأسيس إيديولوجيا التّغيير الّتي تحدث قطيعة ابستيمولوجيّة حقيقيّة بين مرجعيّات منظومة التّخلّف، ومرجعيّات الحداثة. ففي هذا السّياق بالذّات تتنزّل تجارب كتابة المرأة العربيّة لذاتها، لذلك لم يكن النضال النسويّ لديها نضالا نوعيا فئويا لا غير، بل كان مندرجا في مدى نجاحها في تخطّي كلّ العقبات الّتي تحدّ من مساهمتها الفعّالة في تحقيق هذه القطيعة الابستيمولوجيّة داخل الأطر المجتمعيّة المختلفة الّتي احتكّت بها. فمسألة تخطّي المأزق الهوويّ الجندري مثلما طرحتها حفيظة قارة بيبان متجاوزة طور نقد مؤسّسة الحريم في ذاتها الّتي احتلّت مساحة واسعة في كتابات أنا الرائدات العربيّات، هي مسألة متجذّرة في البنى المهيكلة للمجتمعات العربيّة، وهي بالتّالي راسخة في العقليّات الّتي تعمل على إعادة إنتاجها بانتظام، حتّى في تلك اللّحظات التّاريخيّة الأكثر حراكا واتّصالا بإيديولوجيا التّغيير. هذه الوضعيّة تكرّرت أكثر من مرّة في تاريخ النّساء في محطّات مختلفة من تاريخ نضالهنّ السّياسيّ، فهدى شعراوي (57) (1879-1947) كانت تعمل جاهدة، سواء في نطاق لجنة الوفد المركزيّة للنّساء(1920)ـ أو في نطاق الاتّحاد النّسائيّ المصري(1923) على إقتناع النخبة الوفديّة من الرّجال بزعامة سعد زغلول(1858-1927)، بمدى شرعيّة حصول المرأة المصريّة على حقوقها المدنيّة، وخاصّة منها حقّها المشروع في الانتخاب بعد مشاركتها الميدانيّة الفعّالة في الحراك السّياسي في العشرينات، وهو أمر تكرّر في مراسلات المؤسّستين النّسائيتين المذكورتين بصفة رسميّة، ولم يكن يجد صداه المنتظر، فهل سيظل التّاريخ العربيّ يكرّر نفسه، ويدور في الفراغ؟
أبرزت دراستنا لليوميّة الإيديولوجيّة قدرة الأنواع الذّاتيّة على التكيّف بسياقاتها التاريخيّة والثّقافيّة المخصوصة الّتي تجعل من التّنظير لمقوّماتها الأجناسيّة مسألة نسبيّة وقابلة دائما لإعادة النّظر. وهي تثبت أيضا أنّ القضايا المرجعيّة في كتابات الذّات جوهريّة، لأنّ رهان هذه الكتابات ليس بالرهان الجماليّ أساسا، وهو إن حقّق استثنائيا هذا البعد، فلا يكون ذلك إلاّ من باب تمثيل المرجعيّات التّاريخيّة، والبحث لها عن أشكال مناسبة، تقول إشكالاتها، وخصوصيّاتها في آن.
الهوامش
- Béatrice Didier, Le journal intime, Paris, PUF, 1976
سيصدر قريبا بتعريبنا عن معهد تونس للتّرجمة.
- آنظر، نظريّة كتابات الذّات لدى جورج غوسدورف، فهو يفصل نظريا مثلا بين اليّوميّة الخاصّة باعتبارها مجال الاستبطان الروحانيّ أو النّفسي، واليوميّة الخارجيّة الّتي ترصد أحداثا ووقائع يوميّة، ولذلك يسمّيها أجندا أو دفتر حسابات. أمّا لوجون فاليوميّة الخاصّة عنده ليست جنسا أدبيّا بل ممارسة كتابيّة.
Georges Gusdorf, Les écritures du moi, ligne de vie 1, Odile Jacob, 1991, p.250
Philippe Lejeune, Signes de vie, le pacte autobiographique, Paris, Seuil, 2005, p.28.
(3) حفيظة قرة بيبان، قاصّة (1951- ) تونسيّة، من أهمّ مؤلّفاتها الرّوائيّة، دروب الفرار (2003)، العراء (2012) كتبت أيضا للأطفال سلسلة من القصص، منها رؤى والنّجمة
(4) حفيظة قارة بيبان، النّجمة والكوكوت، من يوميّات كاتبة وفنّان، حفيظة وحليم قارة بيبان، تونس ديسمبر 2010– ديسمبر 2013.، ط.2، رسلان، 2018، 253ص.
(5) الإيديولوجيا مقولة متشعّبة، شهدت عبر مسارها التّاريخي، وبحسب التوجّهات الفلسفيّة والاجتماعيّة الّتي عرّفتها، تحوّلات في معناها العامّ الذي يجعل منها دالة على مجموعة/ نسق من الأفكار، أو التّمثيلات، أو المقولات المفسّرة للواقع على نحو ما. وتكون خاصّة بطبقة ما، أو بمجموعة بشريّة، او بحقبة زمنيّة. ويمكن أيضا أن تكون مرادفة لمذهب سياسيّ. أهمّ ما يميّز الإيديولوجيا أنّها جعلت لتكييف السلوكياّت الفرديّة أو الجماعيّة. وتوصف لدى بعض التيّارات مثل الماركسيّة بأنّها رؤية طوباويّة، أو خاطئة للعالم، لأنّها في الأغلب تبريريّة لعلاقات السلطة في المجتمع، تهيكلها وتضمن دوامها. نستعمل هنا مقولة الإيديولوجيا بمعنى أخصّ استدعيناه من أعمال عالم الاجتماع الكندي غي روشيه Guy Rocher وهي عنده مقولة موصولة بحركة التغيير، يسمها بإيديولوجيا التّغيير idéologie du changement، ومنه تستمدّ مشروعيتها لتحقيق قطيعة على صعيد الواقع. وهي جماعيّة وفرديّة، لأنّ تغيير التّاريخ هو فعل ينخرط فيه، وليس شيئا يحدث خارج إرادته، ومشاركته. آنظر:
Guy Rocher, Introduction à la sociologie générale, Montréal, éd. Hurtubise, H.M.H., 1968.
– – « L’idéologie du changement comme facteur de mutation sociale », in Le Québec en mutation », Montréal, éd. Hurtubise, H.M.H., 1973.
(6) أقرّت ديدياي بأنّ اليوميّات جنس مرن ومتنوّع، لذلك فرّقت بين المقوّمات الأجناسيّة الّتي تميّز يوميات السّفر من اليوميّات الخاصّة. آنظر:
Béatrice Didier, L’écriture- femme, PUF, 1981, p.184.
نهدف في إطار هذا التوجه التقينني داخل المنظومة النوعيّة لليوميّات الخاصّة، أن نستجلي الخصائص الأجناسيّة الخلافيّة لما اصطلحنا عليه باليوميّات الإيديولوجيّة باعتبارها نوعا من أنواع اليوميّات الّتي تتمتّع بضرب من القوانين النّظريّة المخصوصة يراد استخلاصها.
(7) الأنا الأصليّ الواقعيّ عبارة اصطلاحيّة ل كايت هنمبورغر K. Humburger تحيل على المتلفّظ الواقعيّ في وضعيّة تلفظيّة واقعيّة. آنظر في ذلك: جليلة الطريطر، مقوّمات السيرة الذّاتيّة في الأدب العربيّ الحديث، بحث في المرجعيّات، تونس، مركز النشر الجامعيّ، 2004، ص.ص. 183- 192.
(8) المقصود حسب جونات في مؤلّفه عتبات Seuilsهو الشّخص الثّقافي القلميّ لا المدنيّ. لذلك فمرجعيّات الاسم التّأليفيّ قائمة في دوائر الثّقافة وحدها، لأنّه اسم لهويّة ثقافيّة قلميّة.
(9) لم تتجرّأ الرائدات العربيّات على الإمضاء بأسمائهنّ العائليّة، لأنّه بمثابة تعرّ لا تستسيغه أعراف مجتمعاتهنّ المحافظة: المرأة عورة، والكتابة تعرّ لأنّها ليست من وظائف المرأة الجندريّة الموصولة بوظائفها الطبيعيّة أساسا. إمساك المرأة العربيّة بالقلم مثّل لحظة تاريخيّة فارقة وخطيرة، لأنّها كانت تهدّد الموازنات الاجتماعيّة الوظيفيّة المهيكلة لبنية المجتمع الذكوريّة. الاسم المستعار مثّل استراتيجيّة للإفلات من تبعات الرقابة العائليّة والاجتماعيّة، وتعبيد طريق الثّقافة الممنوعة، بما سلطة رمزيّة ذكوريّة بامتياز. نذكر بعض الأسماء المستعارة، مثل دنانير لفدوى طوقان، بنت الشاطئ لعائشة عبد الرحمان. ولكن استعمال حفيظة قارة بيبان لاسمها المستعار يأتي هنا في سياق تأليفي مختلف تماما عن السّياق الرّيادي، لأنّه لا يشتغل بوصفه قناعا بل باعتباره تمثيلا استعاريا لهويّة المؤلّفة الّتي تتماهى مع البحر، أبرز معالم مسقط رأسها الطّبيعيّة.
(10) أحمد أمين، حياتي، بيروت، دار الكتاب اللّبنانيّ، 1971. تحوّل العنوان لاحقا إلى قرينة أجناسيّة دالّة على السّيرة الذاتية.
(11) نفضّل تعريب Genèse textuelle ب نشوئيّة بدلا من تكوينيّة، لأنّ هذه المقاربة تعتبر النصّ كيانا لغويّا مرحليا ومتطوّرا بدءا من صوره المخطوطة الّتي تمثّل مرحلة نشأته الأولى مرورا بمراحل نشره المختلفة في محامل ورقيّة أو غيرها. النصّ كائن لغويّ يعيش صيرورة مطّردة.
(12) الانفتاح الدائم ديمومة الحياة، والرّغبة في كتابتها من أهمّ السّمات الأجناسيّة المميّزة لكتابة اليوميّة مقارنة بالأجناس الذاتية القريبة منها. نشير إلى أنّ حليم قارة بيبان يواصل بعد نشر اليوميّات، قصّة الكوكوت في علاقتها مع ما يجدّ على الصعيد السياسي والأيديولوجي في تونس 2019. وتواصل حفيظة قارة بيبان من جهة أخرى نشر هذا الجديد على صفحتها الفايسبوكيّة. لذلك يمكن اعتبار اليوميّات المنشورة في حالة انفتاح مستمرّة، فلا يمثّل الكتاب هنا إلاّ حاملا ورقيا وقتيا.
(13) م.، س.، ص.1.
(14) نسجل عودة المؤرّخين في السّبعينات إلى مفهوم التّاريخ المصغّر Micro histoireباعتباره تاريخا على المدى القصير يكتبه الفواعل التّاريخيون في محكيتاهم الخاصّة ليسجّلوا أبعاد وجودهم التّاريخيّة. وهي مقاربة تردّ الاعتبار للفرد والمعيش اليوميّ في تسجيل الواقع التّاريخيّ، بعد هيمنة المقاربات المعنيّة برصد حركات التاريخ الكبرى Macro- histoire الّتي نظّرت لها مدرسة الحوليّات. آنظر: Jacques Revel, Jeux d’échelles, la micro-histoire à l’expérience, Gallimard/ Seuil, 1996.
(15) م. س، ص. 34.
(16) اعتصام القصبة بدأ في 3 جانفي 2011، وكان يهدف إلى إسقاط الحكومة الانتقاليّة. أمّا القصبة 2، بتاريخ 20 فيفري 2011، فكان مطلبه انتخاب مجلس تأسيسيّ.
(17) م. س.، ص. 83.
(18) م. س.ص.142.
(19) م. س. ص.193.
(20) م. س. ص. 143.
(21) م. س. ص. 90.
(22) م. س. ص. 212
(23) م. س. ص.175.
(24) م. س. ص.186.
(25) م. س. ص. 186.
(26) م. س. ص. 126.
(27) م. س. ص. 144.
(28) م. س. ص.143.
(29) م. س. ص. 143.
(30) تقول ديدياي” تنهض اليوميّة على الوعي بالهويّة، ولكنّها لا تتوقّف عن وضعها موضع التّساؤل، إن لم نقل تدحضها: إنّها تعبّر عن استحالة التّواصل في مجتمع يزعم أنّه عدّد “وسائله”.» (نحن نعرّب) آنظر: م. س.، ص. 84.
(31) م. س. ص. 11.
(32) لن ننسى”، عنوان يوميّتين، ” في انتظار “لن ننسى”، ص. 157، “لن ننسى”، ص. 152. الكتابة هنا فعل مقاومة وصمود، لأنّها حافظة للذاكرة الجمعيّة. وهو ما يبوّئ الشّهادة وظيفة مركزيّة في اليوميّة الإيديولوجيّة بما يجعلها تنفتح على المذكّرات.
(33) م. س. ص. 49.
(34) جليلة الطريطر، أدب البورتريه، النّظريّة والتطبيق، محمد علي الحاميّ/ دار الانتشار العربيّ، 2012.
(35) بادرنا إلى توظيف هذه المقولة في مقوّمات السّبرة الذاتيّة، -وهي لبول ريكور- للتأسيس نظريا لمرجعيّة الملفوظ السيرذاتي، خلافا لفيليب لوجون الذّي عامل هذه المرجعيّة باعتبارها مجرّد صوت ميثي. ثمّ تراجع عن ذلك في مؤلّفه علامات حياة ليقرّ بخطئه التنظيري. آنظر
Philippe Lejeune, Signes de vie, pacte autobiographique 2, pp 16-17.
(36) استلهمنا العبارة الفرنسيّة لديدياي، وهي «Le journal devient journalistique»
(37) م. س.، ص.24.
(38) م. س. 33.
(39) م. س. ص. 65.
(40) لا نرى ما رآه جيرار جونات من أنّ منح الكلمة للآخر هو دائما علامة تخييل. والسبب أنّ وجود المعاقدة المرجعيّة يسمح باعتبار الأنا السيرذاتيّ أو المتكلّم محيلا على الآخرين من موقع كونهم أنوات أصليّة واقعيّة، يساهمون بدورهم مثله، وبوساطته في تأثيث الذاكرة الجمعيّة بأصواتهم الخاصّة. نحن نسمّي هذه الظاهرة الحواريّة توسيعا صوتيا لصوت الأنا السّيرذاتيّ الشّاهد، لأنّ أصوات الآخرين في كتابات الذّات تبقى دائما متحرّكة في فلك صوت الأنا الّذي يستوعبها في زمنيّته بشكل ما.
(41) عادل بوعلاّق، أستاذ جامعيّ تونسي، وفنّان مبدع له مجموعة موسيقيّة معروفة “أجراس”، جمعه بحفيظة قارة بيبان مشروع تحويل مقامات من نصوصها إلى أغان يلحّنها ويغنّيها. آنظر يوميّة 17 نوفمبر 2012، أيكار، ص. 169.
(42) حواريّة باختين تطوّرت كثيرا، سيّما في حواريّة دوكرو Ducrot التلفّظيّة الّتي جاءت بعد نقد شارل بالي Charles Bally في الأسلوبيّة. توظيف مقولتي المتكلّم Locuteur والمتلفّظ Enonciateur هامّ جدّا في كتابات الذّات لأنّه يبرز من خلال الازدواجيّة الصوتيّة مثلا، أو التّبعيد التلفّظي/الخطاب الواصف، المتعلّق بصوت الأنا العليم، أنّ مسألة كتابة الذّات لا تخلو من حواريّة لأنّ ما يسمّى صوتا سيرذاتيا ليس صوتا صافيا أو أحاديا بل مقام تقاطع صوتيّ معقّد، ولكن تبقى مقاليده دائما بيد انا المتكلّم، فهو الّذي يبرمج ويوظّف، ويستدعي الأصوات الأخرى. آنظر:
Robert Vion, « Dialogisme et polyphonie », Université de Provence/UMR 6057(CNRS).
(43) م. س. ص. 13.
(44) آنظر مثلا لعبة الوساطة الصوتيّة م. س. ص.ص. 55-59.
(45) الازدواجيّة في نطاق الصوت الواحد يصطلح عليها في الحواريّة التلفظيّة ب التّعاليق الانعكاسيّة Commentaires réflexifs. وهي تتمثّل في تموقع المتكلّم في وضعيّتين تلفظيتين، وضعيّة المتكلّم، ووضعيّة التّعليق على كلامه. وقد لجأت الكاتبة كثيرا في يوميّاتها لهذه الازدواجيّة التلفظيّة من أجل تأويل ما تعيشه. آنظر.
Robert Vion, op.cit., p.248.
(46) م. س. ص. 164.
(47) م. س. ص.86.
(48) م. س. ص.74.
(49) م. س. ص. 75.
(50) آنظر في اعتبار الهويّة الجندريّة تركيبة اجتماعيّة Construction sociale
Pierre Bourdieu, La domination masculine, coll. Liber, Seuil, 1998, pp. 13-27.
(51) الحريم مقام أنثويّ في الثقافة العربيّة يمثّل المجتمع النّسائي المنعزل. وهو يدلّ على أنّ المرأة هي شيء الرّجل، يحتفظ به في مملكته باعتباره ضرب من الملكيّة. بدأت الحركات النسوية العربيّة تعبّر عن نضالاتها التّحرريّة بدءا من رفض هذا المقام حقيقة ومجازا.
(52) لا نقصد جدّة المقولة، وتونس أصبحت جمهوريّة منذ آخر الخمسينات، ولكن ضرورة تفعيل هذه المقولة، وتخليصها من حجب الاستبداد المقنّع الذّي يعامل الخيار الديمقراطيّ معاملة القناع الّذي يغطّي الحكم المطلق.
(53) م. س. ص. 136.
(54) م. س. ص. 137.
(55) م. س. ص. 141.
(56) م. س. ص. 143.
(57) أسّست هدى شعراوي لجنة الوفد المركزيّة للنّساء سنة 1920، ثمّ الاتّحاد النّسائيّ المصريّ (1923)، ولكنّ الدستور المصريّ بعد الاستقلال تنكّر لما بذلته النساء المصريّات من جهود، ولدورهنّ في الكفاح الوطنيّ، فقصر التّنصيص على الحقوق السّياسيّة على الرّجال وحدهم. هذا التنكّر لنضالات المرأة جعل هدى شعراوي تقول في إحدى مراسلاتها” ولمّا كانت المرأة المصريّة هي نصف مجموع الأمّة، ومربيّة الجيل القابل رجالا ونساء، شعبا ونوابا، ولمّا كان هذا النصف قد حرم الاشتراك في وضع الدستور وفي الانتخابات وفي النيابة، ومنع كذلك من البتّ في مصير البلاد…ستسعى اللّجنة من جهتها بتحقيق هذه المطال بكلّ الوسائل المشروعة”.
هدى شعراوي، مذكرات رائدة المرأة العربيّة الحديثة، هدى شعراوي، مؤسسة دار الهلال، ع.369، سبتمبر، 1981، ص 324.
القائمة الببليوغرافيّة
- المصادر
حفيظة قارة بيبان، النّجمة والكوكوت، من يوميّات كاتبة وفنّان، حفيظة وحليم قارة بيبان، تونس ديسمبر2010- ديسمبر 2013، ط.2، رسلان، 2018، 253ص.
- المراجع العربيّة
أحمد أمين، حياتي، بيروت، دار الكتاب اللّبنانيّ، 1971.
جليلة الطريطر، مقوّمات السّيرة الذّاتيّة في الأدب العربيّ الحديث، بحث في المرجعيّات، تونس، مركز النشر الجامعيّ/ مؤسّسة سعيدان للنّشر، 2004.
- – ، أدب البوررتريه، النّظريّة والتّطبيق، تونس، محمد علي الحاميّ/ الانتشار العربيّ، 2012.
- هدى شعراوي،مذكّرات رائدة المرأة العربيّة الحديثة هدى شعراوي، دار الهلال، ع. 369، سبتمبر، 1981.
- المراجع الأجنبيّة
أ– الكتب
Béatrice Didier, Le journal intime, Paris, PUF, 1976.
- – , L’écriture- femme, Paris, PUF, 1981.
- Gérard Genette, Fiction et diction, Paris, éd. Seuil, 1991.
- Georges Gusdorf, Les écritures du moi, ligne de vie 1, Paris, Odile Jacob, 1991.
- Guy Rocher, Introduction à la sociologie générale, Montréal, éd. Hurtubise, H.M.H., 1968.
- Jacques Revel, Jeux d’échelles, la micro-histoire à l’expérience, Gallimard/Seuil, 1996.
- Philippe Lejeune, Signes de vie, le pacte autobiographique 2, Seuil, 2005.
ب- المقالات
- Guy Rocher, « L’idéologie du changement comme facteur de mutation sociale » ; in Le Québec en mutation, Montréal, éd. Hurtubise, H.M.H., 1973.
- Robert Vion, « Dialogisme et polyphonie », Université de Provence, UMR 6057(CNRS).
د. جليلة الطريطر