ينطلق الباحث في شرعنة السرد العربي كنوع ٍ من الإبداع الأدبي الجديد، مؤصلاً في عين الوقت استقامته في النسيج الإبداعي العربي ؛ ومنذ النشأة، بتراتبيةٍ تستلهم مقوماتهِ كفن وافد، وتزخر بمدارسهِ وجمالياته المتعددة، دون أن يغفل الباحث شتى الآراء المتضاربة والمتجادلة في نشأة السرد وجذوره ونسبه، منصاعاً، أو هكذا يجد نفسه للتعبير عن آرائه وعقيدته، مدللاً وموضحاً نسبة الحق المعرفي والعلمي فيها .
ثم يبرز الباحث التشكلات الاجتماعية المدينية الحاضنة لهذا النوع الإبداعي، بيقين أن الإبداع، إنما هو وجه الحقيقة الآخر، مائطاً اللثام عن التجارب العربية، أو أبرزها تجلياً، وصولاً إلى هدفه المرسوم والمتمثل في نشوء ميلاد هذا النوع الراقي من الأدب (القصة والرواية) في اليمن ؛ بتضافر عناصر البيئة (المدينية – عدن) بظهور الطباعة والصحافة وازدهار الحياة العامة فيها ؛ كانتشار التعليم وظهور نخبة من المثقفين، وانتشار النوادي الأدبية والاجتماعية والرياضية، ثم وهو الأهم – ظهور بوادر طبقة عمالية ونقابات ثم ظهور الأحزاب وإتساع مدى الحركة الوطنية اليمنية .
«كان يا مكان، حلمت ذات مرة أنا تشونج زو، إنني فراشة، تحلق هنا وهناك وترفرف بجناحيها، ثم تحلق هنا وهناك، ثم استيقظت فجأة من نومي وإلى الآن لا أعرف هل كنت إنساناً يحلم بأنه فراشة، أم إنني فراشة تحلم، الآن بأنها إنسان»
قصة صينية قديمة (1)
1- البحث عن أب شرعي :
السرد العربي (القصة القصيرة والرواية) ليس مفصولاً عن سيرورة الحياة، فهو حتى النخاع وليد ناشئة تكوينية مضخمة بفعل الزمان ومعبرة عن المكان . و(كان يا ما كان) الافتراضية في السرد لا تجعل المحاكاة موغلة في التخاطب ضمن دواخل وكهوف الماضي السحيق، انقياداً على الأقل لمقولة (أرسطو طاليس) الثابت الوحيد هو التبدل المستمر. بل نحن بحاجة على الأقل للتأريخ للشكل السردي البارز، ببزته الحداثية القشيبة من لحظة الإنصعاق الحضاري المدوي الذي أحدثته غزوة نابليون بونابرت لمصر عام 1798م. فالحدث الاستعماري بصفته فتحاً للغازي قد أماط الغشاوة عن أعين الشرقيين في اكتشاف مواقع ذواتهم، واكتشاف الآخر الذي تخطى عتبات الركون – وربما الركود – القروسطي .
إن القصة أو القص والسرد هو نبت شرعي لمرحلة التكون البرجوازي في أوروبا، والمشهد يحمل تجليات الأفق التاريخي الجديد الذي أحدثته الثورة البرجوازية، وأعطى من خلال هذا الفن الإبداعي، المخلوق حديثاً، أداة تعبيرية برجوازية فريدة: (..فالنظريات الاجتماعية القديمة منذ كارل ماركس وماكس فيبر حتى آدم سميت أعطت الزمان أولوية على المكان، وبعد تحولات النصف الأخير من القرن العشرين، من الضروري قلب هذا التراتب، أو على الأقل زحزحته عن مكانته القديمة، فللفيلسوف الأسباني الشهير أورتيجا أي جاسيت Ortega Gasset مقولة شهيرة تقول : (أخبرني عن المشهد Lands Cope الذي تعيش فيه، أقل لك من أنت، وهي مقولة عميقة دالة، يطورها الشاعر الإيرلندي الكبير شيموس هيني Seamus Heaney : (لكي تعرف من أنت، لابد أن تعرف المكان الذي أتيت منه، ولكي تعرف أين تتجه، لابد أن تعرف أين كنت) أي أن ثمه علاقة جدلية بين طبيعة المكان الذي يعيش فيه الإنسان، وحقيقة «الأنـا» التي تشغله.(2)
وقبل أن نلج في شقاق الوفادة, هذا الفن الرائع والقطوف الدانية التي تدلت من الغرب إلى العرب، بعيداً عن الاستئساد بالشروح التاريخية القديمة الدائمة, والمؤيدة قومية هذا النوع الأدبي بامتدادات تصل إلى العمق الجاهلي وفترة الإسلام، فإنني أميل، معتقداً، إن الثقافات لا تمتلكها الحدود ولا الأسيجة العقائدية أو الجغرافية . بل تتدلى من الاعتقاد ذاته حدود متماهية في الثقافي الإنساني، بعقيدة أن ما كان محليا أو قوميا يجتاز بثقة مشارف الإنساني والعالمي بقوة المعطى الإبداعي أو الفني. فقد سيطرت (فكرة أن يكون فن الرواية فناً وافداً علينا، بل فن القصة القصيرة برمته، قد أثارت حفيظة بعض النقاد العرب فأخذوا جاهدين يحاولوا إثبات عكس ذلك من خلال اللجوء إلى استقراء التراث القصصي لأدبنا العربي، منذ عصر الجاهلية بغية الوصول إلى إثبات أصالة فن القصة في تراثنا الأدبي ودحض فكرة أن يكون فناً وافداً على أدبنا من الآداب الأوروبية الحديثة).(3)
ومع الإقرار بالأسانيد التي تعتمد تراثنا العربي – الإسلامي الثر، وهو يتكئ على نماذج إبداعية نثرية مصاغة في زمانها ومكانها لتعبر عن احتياجات اجتماعية من فن المقامة، والسير والنثر الاجتماعي والسياسي وحتى التجليات العظيمة في قصص القرآن الكريم، لكن هذا كله لا يصوَّغ للمرء أن يجاهد قدر جهاده بالقفز على حقيقة أن القصة القصيرة والرواية نوع أدبي جديد حملته رياح التغيير الأوروبية، مهما كانت نظرتنا – بل هي قد تحددت – بأن الفعل الاستعماري – رغم مضاره – قد جاء – في بعض الحالات، فقط، بما لم تأته الأوائل، فالسرد الحداثي يصبح – الآن – عربياً رغم الأبوة الأوروبية التي أشرنا إليها، ويظل موروثنا يضيف إضافات حسنة للذائقة الجمالية والحسية العربية، دون سبب يدعونا لحرف أعنة الحقائق . يقول محمد فكري الجزار : (في مجال علاقة الأجناس الأدبية بالمجتمع العربي وتجذير وعي الذات كفعل معرفي وايديولوجي، يلتحم بالوجود وبالمنفعة الخاصة، ترتبط هذه الأجناس، من حيث النشأة والتطور، بواقع اجتماعي وتاريخي، يقوم ببلورة طبيعتها وطاقاتها الإبداعية لتحقيق وظائف ومقاصد معينة، يحتاج إليها ذلك الواقع الاجتماعي والتاريخي الذي أنتجها : « فكل مرحلة من مراحل تطور المجتمع تجسد علاقاتها الجمالية بالعالم في أنواع أدبية بعينها)(4) . فهذه العروة الوثقى بين متطلبات الأدب والحاجة الاجتماعية ؛ تجعلنا في وفاق تام مع النفس ؛ والتسليم بانتفاء أنواع أدبية ونهوض أخرى، وفي الحالة لن نجد غضاضة من الاعتراف بصعود هذه العنقاء الجديدة – القصة والرواية – من رمال المتطلب اليومي للفترة الكونيالية في الوطن العربي، باعتبار أن : (الأدب وثيق الصلة بالتاريخ فهو مرآة العصر وهو تعبير عن أفكار الإنسان وعواطفه يفصح عن دخائل البشر ويصور أحلامهم وأمانيهم ويرسم نواحي مختلفة من حياتهم ومن حياة الأفراد والجماعات ومن حياة المدينة والريف ومن العلم والفن والحرب والسلام).(5)
وحتى لا يستغرقنا التيه في رمال البحث عن جذور السرد العربي تقرر الناقدة يمنى العيد ؛ وبما لا يبعث الريبة، في ماهية تلك الجذور : (أميل إلى الاعتقاد بأن الرواية العربية، ومن حيث هي نوع أدبي فني حديث، وافد ؛ في أدبنا)(6).
يمكن لنا أن نرسخ قناعة ما ؛ بأن حداثية السرد العربي كنوع أدبي جديد لا يجعله في قطيعة والموروث الأدبي القديم منذ حكايات السمار والسير الشعبية وحتى حديث عيسى بن هشام،و(كأن ثمة اجتهادا إبداعيا لخلق رواية عربية شكلاً ومضموناَ، وذلك أن الرواية العربية في طور نشؤها الأول قد كانت متأثرة بالرواية الأوروبية سواءً في الأسلوب أو المضمون .. وقد اتجه التيار الإبداعي إلى محاولة الاستفادة من الشكل الموروث في القصص المعروفة في تراثنا العربي مع الاحتفاظ بالمضمون المعاصر لتلك المحاولات الروائية، أو بتعبير أدق كان ثمة محاولة للتوفيق بين المضمون المعاصر والشكل الفني القديم إلا أن ذلك الاتجاه الإبداعي لم يحقق التوفيق المرتجى لعدم نضوج الظروف الموضوعية لذلك)(7) ويمثل فاروق خورشيد ومحمد غنيمي هلال اتجاه عروبية السرد واستلهام التراث العربي فنياً في السرد على التوالي، وإن كان لمحاولاتهم التعثر وعدم التوفيق سبيلاً لـ (كونها قد أغفلت من حساباتها قوانين التطور التي تحكم نشوء وتطور الفنون الأدبية من عصر إلى آخر).(8)
وفي مقام مماثل يستطيع التراث أن يشكل حبلاً سرياً يغذي باطن الرواية تحديداً، فكيف هو الحال عندما تمتلك بُنات الإبداع السردي مثل هذا الجبل الشامخ من التراث السردي والنثري العربي، ودون أن نجير ذلك الاستلهام لصالح مقولات (السرد عربياً تاريخياً) فقبل أن نفيق من صدمة البعث الذي أحدثه الساحر (فولند) في موسكو الثلاثينيات الماضية، يكون الانسياب بسلاسة القادر في منعطفات التاريخ القديم ؛ أورشليم والمسيح والحاكم الروماني والصلب بعد أن صدَّر الكاتب (ميخائيل بلغاكوف) روايته الشهيرة (المعلم ومرغريتا) بـ (فاوست) غوته :-
– ومن أنت إذاً ؟
– أنا من تلك القوة التي تريد الشر دائماً فلا تفعل دائماً إلا الخير، ولعلنا نختم ؛ أن أر دنا، بالقول أن (أبويه السرد) لا يعني (بابوية) بعينها بل هو ظاهر في الحسبان في العلاقة الجدلية بين المحلية والعالمية، التي (نعيد صياغتها علــى ضوء العناصر المستجدة والتحليلات السوسيو – أدبية التي أنجزها كل من بييـر بورديو، وباسكال كازانوفا، وادوارد سعيد. ومن المفيد، بدءاً، التـذكير بـأن الشاعر والمفكر الألماني جوهان . ف . جوته (1749هـ – 1832م) هو أهم من روج لـ (الادب العالمي Weltliteratur) ابتداء من سنة 1827م، قائلاً : (أنا مقتنع بأن أدباً عالمياً يتشكل وبأن جميع الأمم ميالة إليه، وتبذل جهوداً ثمينة في هذا الاتجاه) . كان جوته يسعى إلى بلورة حداثة تستند إلى جدلية بين الاثنية والنزعة الانسانية يجسدها مفهوم (الأدب العالمي) بما هـو ارتبـاط بـالمحيط المباشر، وفي الآن نفسه انفتاح على الكون عبر تدريس اللغات وترجمة نصوص الآداب الأجنبية).(9)
2- المدينة حاضنة السرد العربي :
يدب السرد العربي منذ تخلقه الأول على نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، على قائمتي : المدن العربية ؛ وظهور الصحافة العربية، فهو بحق وليد شرعي لعصر التشكل المديني واكتمال نصاب الدولة القطرية إلى حد ما، خاصة في مصر والعراق والشام. يقول د. سليمان إبراهيم العسكري: (نشأت القصة القصيرة مع ظهور المدن بشكلها المعاصر، ورواج الصحافة اليومية، وإحساس الإنسان المعاصر إنه كائن فرد له وجوده الخاص، وليس مجرد عنصر له دور محدد في تنظيم اجتماعي)(10) ويساعدنا ذلك على الاقتراب من خصائص عصر النشأة ذاك، حيث لا يتطلب الأمر بطلاً ملحمياً خارقاً بقدر ما يحتاج إلى تصوير الهموم الفردية والأشجان والآمال المبثوثة في فضاء البرجوازية العربية الصغيرة، ذلك الفضاء المكتظ بتطلعات الحركة الوطنية العربية، فـ(القصة القصيرة هي تعبير عن روح هذا الإنسان الفرد، حتى ولو كان قليل الأهمية أو مهمشاً، فهي لا تستلزم بطلاً ملحمياً عظيماً، يعلو ليسقط، ولكنها تركز على أحزان وشجون الإنسان الصغير، وتضيء الواقع من حوله كلمحة برق فتساعده ولو للحظة على رؤيته وتمحيصه ولو للحظات)(11).
ولعل الدكتور العسكري قد انشدَّ إلى حيث انتهت القصة القصيرة، والقصيرة جداً والقصة الومضة .. الخ .في معرض تفريقه بين القصة والرواية حيث يخلص إلى أن (القصة كما يقول الكاتب الإيرلندي أوكونور (هي عمل تجريبي، يقتنص لحظات من الزمن المتراخي للواقع ويضيق الرؤية حتى يغوص داخل النفس البشرية . القصة هنا أشبه بالخلية المفردة مهما صغر حجمها فإنها تحمل في داخلها كل صفات النوع) و (القصة القصيرة هي نتاج جموح الشباب، أما الرواية فهي نتاج الخبرة الطويلة) .
إن ملامح النشاط الاجتماعي الجاد، وازدياد الرغائب المعرفية لدى العرب، الداخلين فيما يشبه التماس مع الغرب الاستعماري منذ حملة نابليون على مصر والشام، والانبهار بالحضارة الغربية ومحاولة محاكاتها عربياً في غير مكان، وخاصة القاهرة المعزية، يعزو هذا التماهي العربي داخل النوع الأدبي الإبداعي الجديد، وإلباسه حلة عربية لا تستطيع أن تخفي إقترانها بالمدرسة الأوروبية القائمة من ورمانطيقية أو واقعية فيما بعهد، فـ (رواية البدايات اتسم عالم شخصياتها بمشاعر الرومنطيقية ومال سردها إلى الوصف في تشكيل مجالات هذا العالم– الطبيعة -، أمكنة الإقامة والتنقل.. وأزمنة العيش فيه، رواية زينب (1914م) لـ هيكل، أو رواية (حسن العواقب) 1899م لـ زينب فواز، على سبيل المثال كان أفق مستقبلها الذي حققته في مرحلة تالية هو الرواية الواقعية ).(12)
ومنذ البداية كانت المدينة حاضناً رؤوماً للسرد العربي بشقيه (القصة القصيرة والرواية ) وكأننا على هداية من مقولة جيمس جويس الذي ظل يكرر العاصمة الايرلندية (دبلن) مدينته التي تركها – في كل أعماله، بدءاً من أعماله القصصية القصيرة حتى رواياته اللاحقة . السؤال هو لماذا دبلن ؟ وهل دائماً ستبقى دبلن ؟ والجواب في ما معناه : نعم دبلن الآن وغداً وفي كل أعمالي اللاحقة، فحينما أصل إلى قلب دبلن أكون قد وصلت إلى قلب العالم.
ولا نغمط الحقيقة شيئاً إن نحن وضعنا الحاجة الاجتماعية للسرد عموماً والقصة خصوصاً ؛ في الوطن العربي منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، في العربة الأولى لقطار التغيير الذي دوى صوته مع وصول المطبعة الأولى مع نابليون عام 1798م، والابتعاث الدراسي إلى أوروبا وظهور الصحف (آية ذلك الزمان – كما يقول أحمد شوقي) بينما جاءت الحاجة الفنية في المقام التالي . تقول الباحثة ضياء الصديقي : (وفي الأدب الحديث يعزى نشأة القصة فيه إلى حاجة اجتماعية قبل أن تكون حاجة فنية، وقد كانت وظيفتها الاجتماعية هي أبرز الدوافع لكتابتها حتى أصبح التعبير عن المشاكل الاجتماعية هدف الكاتب بل وموجهاً له . نجد هذا في بواكير القصة العربية في كل أقطار الوطن العربي على اختلاف بدايات القصة تاريخياً في كل قطر)(13).
ويذهب أحد الباحثين إلى ربط القصة بالتاريخ من خلال التشابه الكبير بين كلمة (التاريخ) في اللغة الإنجليزية وكلمة (قصة)وهو ما لم يأت اعتباطاً لكنهما ارتبطا بسبب كون القصة تستمد دائماً من أحداث الوقت(14) .
إن سببية التاريخ ترتبط بممهدات النشاط الاجتماعي المغاير للسلفية القائمة – إن جاز التعبير، وذلك بتبدل الأنماط الاجتماعية من طور إلى آخر، وعندها يستلهم المبدع مفردات فنية وتعبيرية من أصل ذلك التبدل الحاصل، بعيداً عن التقليد وتكرار أدواته الفنية القديمة، لينضو عن نفسه ملامح بنائيته المعرفية النوعية الجديدة، وأن كان الأمر لا يخلو من تراص معرفي تراكمي، مستنداً على القديم، ليفضي عند نقطة الإفاضة في كوب التجريب إلى تبلور هيكلية وهمس ثم صوت النوع الإبداعي الجديد .
وهكذا كان ميلاد القصة القصيرة كلون أدبي (في الغرب طبعاً) على يد موباسان وزولا وتورجنيف وتشيخوف وهاردي وستيفنسن.. الخ وفي العالـم العربي بلغت القصة القصيـرة مرحلة النضج علـى أيـدي يوسـف إدريس في مصر وزكريا تامر في سوريا(15).
لقد حملت بدايات القرن العشرين تجليات مرحلة تاريخية جديدة، مغايرة لعهود العثمنة والتتريك، على صعيد السياسة والاقتصاد والحياة الاجتماعية، وكانت مفضيات الحرب العالمية الأولى 14 – 1918م كفيلة باستنهاض قوى طبقية سياسية واجتماعية راودها حلم التغيير، ويرتسم في مخيلاتها أفق الحلم العربي، دون أن يعني ذلك أن الطريق كان ممهداً، وحراب الاستعمار الأوروبي ما زالت مشرعة في الصدور، فينفض السامر العربي ليس على أكثر من وضوح معالم الدولة القطرية بمعطيات سايكس/ بيكو. ولكن الحراك المجتمعي والثورات المتلاحقة وإزدياد الوعي الوطني وتشكل المدن والطبقات والقوى الاجتماعية الجديدة، كان من انجازات هذه الفترة التي شهدت – أيضاً – تعاظم دور الصحافة وتخلق القصة والرواية كمعطى إبداعي من معطيات هذا التحول الكبير . يقول الناقد محمد برادة (إن مفهوم التراث السردي الحديث يظل مقترناً بالتبدلات العميقة التي طرأت على المجتمعات الأوروبية منذ القرن السابع عشر، وغيرت بنياتها وأوجدت الدولة ووسعت فضاءات المدن في ظل الثورة الصناعية ودينامية الطبقة البورجوازية .. وهذه العناصر لم تبدأ بالتوافر في العالم العربي، إلا عند نهاية القرن التاسع عشر، بتساوق مع تحولات سياسية وفكرية أفرزت حركات مقاومة الاستعمار، ومهدت لقيام الدولة الوطنية، لقد جرى تعرف الثقافة العربية على الرواية العالمية من خلال محاولة بعض الكتاب الذين درسوا لغات أجنبية ومن خلال الترجمة وسيرورة المثاقفة التي جعلت النقد والجامعات ينفتحان على نظريات الرواية ومناهج تحليلها(16) وقد تطلب خروج السرد الحديث عن تداخلات السرد التاريخي والشعبي، الديني والعجائبي ميلاداً عسيراً في ثقافتنا استغرق القرن التاسع عشر بأكمله حتى تجلى في إطاره الإبداعي مطلع القرن العشرين(17), وإذا كان زمن الرواية العربية لم يبدأ في القرن العشرين، مع رواية (زينب) التي صدرت سنة 1913م، كما ألحت الكتابات التي كانت امتداداً وتسليماً بما كتبه يحيى حقي في (فجر القصة المصرية) 1960م الذي تحول إلى فجر للقصة العربية عند كثيرين، فزمن الرواية العربية زمن ممتد، يبدأ من حيث تكتمل الملامح الأساسية للمدينة الحديثة بكل ما تنطوي عليه من تعدد في الأجناس واللغات، وما تؤكده من تباين بين الطبقات التي تصعد على سلمها الطبقة الوسطى، ناهضة،واعدة، نتيجة للتحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المقترنة ببدايات التصنيع واتساع أفق التعليم المدني وظهور وسائل الاتصال الحديثة المقترنة بالمطبعة : الكتاب والصحيفة والمجلة، وأضيف إلى ذلك مطلب المساواة الذي تتبناه المجموعات المهمشة من فئات الطبقة الصاعدة في علاقتها ببقية المجموعات والفئات والطبقات، وتفرضه على الدولة الحديثة، ازاء تعدد الأجناس . وطبيعي أن تقبل الطبقة الوسطى على فن الرواية بوصفه نوعاً أدبياً جديداً، قادراً على تجسيد همومها النوعية في المدينة التي تشكلها وتتشكل بها(18).
إن الوعي المديني الذي أفرز سرده الإبداعي مضمخاً بخصوصيات التحول النوعي في المجتمعات العربية ؛ وخاصة في عواصم الثقافة الرئيسية (القاهرة، بيروت، دمشق، بغداد) تتكون لديه المقدرة الفعلية في أن يلقي بتأثيرات معطياته على الأطراف العربية– وخاصة في الجزيرة والخليج العربي. لكن ذلك لا يعني البته أن تجليات السرد وحداثيته الباهرة، وقد استجابت في المراكز الإشعاعية لتحولات بنيوية مجتمعية وحواضرية وقيمية وثقافية نوعية، لا تحقق، وليس بإمكانها استنساخ تجارب مماثلة في بيئات ومجتمعات لا تزال كامنة وغير قادرة على الخروج من أنماطها الرعوية والعشائرية والقبلية، ليبقى نصيبها من الاستجابة مرهوناً – إلى حد ما – بالمتغير النفطي فيما بعد، دون أن يعني ذلك أن كل مظاهر الاستجابة والالتفات إلى الوافد الجديد (السرد بمجمله) قد كان قرين تدفق الذهب الأسود من تحت الرمال الكثيفة، بل تفاوت الأمر بين مستجيب بمقدرة التحولات الجديدة كما في الكويت والمملكة العربية السعودية، ومتأخر بظروف اجتماعية حتى السبعينيات كالإمارات العربية المتحدة. يقول القاص الكبير يوسف الشاروني: (معظم الدول العربية وخصوصاً دول الخليج قفزت خلال القرن العشرين إلى قلب الحضارة لأسباب متنوعة، فظهرت قوالب جديدة بحكم سهولة الاتصالات بين هذه الدول التي سبقتها في الإبداع مثل القصة القصيرة والرواية والشعر) ففي مشهد يدعم رؤية الشاروني يكون السرد الروائي السعودي قد برز بشكل ملحوظ في ثلاثينيات القرن العشرين، على أيدي الأدباء: عبد القدوس الأنصاري وأحمد السباعي ومحمد علي مغربي، في معطى يرتبط (بقيام الدولة الثانية في عهد الملك (عبدالعزيز بن سعود) الذي قام بإنشاء المدارس، وأهتم بتوفير المدرسين والمعلمين الذين وقع على عاتقهم عبء تعليم أبناء الجزيرة، وأيضاً كان لوصول الصحف العربية في أواخر النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى منطقة الخليج دوره الكبير في ظهور هذا الفن (القصة) خاصة صحف: الأهرام، المقتطف، الهلال، العروة الوثقى.. وكان لظهور الصحافة في السعودية دورها كوسيلة اتصال، وممارسة للدور الثقافي والفكري لعدد من المثقفين، ولذلك ظهرت بعض إبداعات القصة في تلك الفترة، ويمثل الجيل الأول من رواد القصة في المملكة في الثلاثينيات: أحمد رضا حوحو، محمد علي مغربي، محمد أمين يحيى، محمد الأفغاني)(19).
وبالتساوق الزمني تجلت التجارب السردية في الكويت على يد خالد الفرج في قصته (منيرة) وفي البحرين كانت (ميلاد حائرة) للكاتب محمود يوسف ميلاد فن القص في هذا البلد العربي. و في قطر ظهرت مجموعة يوسف جمعة بعنوان (بنت الخليج) وفي سلطنة عمان كانت الاشراقة الأولى مع عبدالله الطائي، أما الإمارات العربية المتحدة فلم تعرف الرواية والقصة كجنس أدبي له شروح فنية جديدة إلا بعد ظهور النفط(20) .
(3) انبثاق الدهشة من عدن :
ليس هناك من شأن يدعونا إلى الاعتقاد بأن مطبعة العثمانيين في اليمن وجريدة صنعاء التي صدرت عام 1879م تمتلك حق الريادة والتأهيل لفعل المبادأة التنويرية في اليمن لسبب بسيط هو أنها كانت أشبه بوريقات نابليون الصفراء التي نقلت أوامره ونواهيه في سني حملته القصيرة العمر البعيدة الأثر على مصر والشام، فهي لم تكن أكثر من لسان حال الاحتلال التركي أو ربما نعتبرها في السياق التاريخي بداية لتاريخ الطباعة في بلادنا.(21) بينما كانت صحيفة «الإيمان» الصادرة في صنعاء عام 1926م قليلة البعد التأثيري عميقاً في المستويين الثقافي والاجتماعي واكتفت أن تكون لسان حال المملكة المتوكلية اليمنية التي دخلت في عزلة رهيبة عن العالم منذ نالت هذه المملكة الاستقلال من الاستعمار التركي عام 1918م .
وفي هذا الوقت المبكر من القرن العشرين كانت عدن تتقلب على نار هادئة من صنع أبنائها للالتحاق ببواكير النهضة الاحيائية التي شهدها الوطن العربي (مصر تحديداً)، بعد الحملة الفرنسية وأثناء حكم محمد علي وأسرته، وأمر التأريخ للصلات الثقافية والأدبية بين عدن ومراكز الإشعاع العربية (يبدو صعباً، إذ لا نجد أية معلومات تتحدث عن المرحلة الواقعة قبل عشرينيات القرن الماضي، كما أن طبيعة السياسة البريطانية المتبعة في عدن لم تكن تركز على الجوانب الثقافية فقد ظل التركيز على الأهمية العسكرية والاقتصادية لعدن ولم يكن تطوير الثقافة والتعليم في برنامج البريطانيين في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى . غير أن بعض المعلومات التاريخية تتحدث عن اتصالات بين رجالات الفكر والأدب في عدن وغيرهم من المفكرين والأدباء في البلدان العربية الأخرى . وفي هذا السبيل نجد المفكر التونسي عبدالعزيز الثعالبي يزور عدن في منتصف عشرينيات القرن الماضي ويلتقي بمثقفي عدن ويبحث معهم سبل تنشيط الحياة الثقافية في عدن)(22)ولكن ذلك لا ينفي وجود نشاط اجتماعي في المدينة قبل الحرب المذكورة، صانعه الأول انفتاح المدينة على العالم ووجود تركيبة سكانية تستجيب لمتطلبات التمدن والحضارة مستفيدة من الموقع الفريد، مع ما تخلقه الجاليات المختلفة من تفاعل اجتماعي ينقلها لعاداتها وتراثها ولمظاهرها الثقافية) في أجواء عدن المفتوحة مما سنراه واضحاً في بواكير النشاط المسرحي الشعبي والأندية الرياضية، والانزياحات التلاقحية التي يحملها البحارة من بلدان الخليج العربي والجزيرة العربية لتغني مجالات إبداعية كالغناء مثلاً. ومن هنا (كان التراكم التاريخي والحضاري والأهمية الاستراتيجية للمدينة عدن، وللوطن اليمني، قد ولدا من خلال عملية الترابط الجدلي التاريخي بؤر ومواقد الريادة لمشاريع التنوير والتقدم وطنياً وقومياً وإنسانياً، مرتبطاً موضوعياً بالدور الحضاري الشامل لامتنا العربية)(23) ويفسح الباحثان (نصر وشكري) مساحة شاعرية لتجديد سمات الحب لمدينة لا تختص إلا به (إن أهمية أدوار الأفراد والجماعات انطلاقاً من عدن، التربة اليمنية العربية الحاضنة بوصفها من أقدم مدن الأرض، التي شكلت سدرة المنتهى التجاري لوطنها وأمتها، سيدة مدائن البحر الأحمر والعربي والمحيط الهندي، معلقة شعر اليمنيين العصماء والخالدة، وواسطة عقدهم التاريخي الحضاري المجيد والتليد، طائر الفينيق المتجدد الحياة دائماً، والمحلق ابدأ لإكتشاف فضاءات وسماوات جديدة «عين اليمن» وفتاة الجزيرة العربية، قاهرة الجبابرة، ومذلة أعناق الطامعين والغزاة، العاشقة دوماً للمدنية والحضارة والثورة)(24) يبدأ التشكل المديني لعدن من أهميتها الجيو – سياسية وكمنطقة جذب تجاري واستراتيجي يؤمن خطوط التجارة العالمية بين أوروبا والشرق عموماً، وهي بذلك تدخل ضمن مخطط عالمي، في المحافظة على الوجود الاستعماري بين بلاد آسيا وأفريقيا. فقد كان من دوافع الاحتلال لعدن تحويلها والمنطقة كلها إلى سوق تجارية لاستهلاك وتصريف الصناعة البريطانية ومعبراً للاستعمار البريطاني إلى الشرق الأوسط . وفي عدن المستعمرة ركزت الإدارة البريطانية إلى تحويلها إلى مركز للخدمات التجارية والملاحية . وقد تطلب ذلك تطبيق أسلوب الحرية الاقتصادية وأصبحت عدن بمثابة معرض دائم لمختلف المنتوجات الأوروبية)(25) وتزداد هذه الأهمية بعد الحرب العالمية الأولى حيث تغدو عدن مقراً للقوات الجوية البريطانية عام 1928م (برنارد رايلي) وفي عام 1932م خرجت عدن عن سيطرة حكومة بومباي وتصبح مفوضية عامة في ظل حكومة الهند المركزية، وفيما بعد تحولت عدن إلى مستعمرة للتاج البريطاني بموجب الأمر الصادر في 28-9-1936م والذي بدأ تطبيقه في الأول من ابريل 1937م .(26)
والأبرز في المعطى الثقافي لمدينة عدن بعد الحرب الكونية الأولى ظهور النوادي الأدبية التي يترافد في أركانها تموجات الرؤى وصوت الأدب والإبداع للنخب المثقفة في عدن والحواضر الأخرى مثل لحج وحضرموت وسواهما، مهدت لحراك إبداعي مسترسل يبلغ أوجه بظهور ونشوء الصحافة العدنية عام 1940م . وفي حين لم تغلق النوادي الأدبية أبوابها والاكتفاء بأصحابها، بحكم سيكولوجية أبنائها ورحابة أفقها المديني المدني، فأصبحت ملتقى لكل المثقفين اليمنيين، وانفتحت على فضاء التنوير والثقافة العربية في مدائنه الزاهرة .
وهكذا (أخذ مثقفو عدن تأسيس النوادي الأدبية التي حملت على عاتقها مهمة النهوض بالحياة الأدبية وتعميم التراث الأدبي . إلى جانب ذلك يشير الباحث علوي طاهر إلى أن النوادي الأدبية التي تأسست منذ عشرينيات القرن الماضي تدل على أن مثقفي عدن قد تعرفوا على مثل هذه النوادي التي أقيمت في بعض البلاد العربية، وعرفوا مجالات نشاطها)(27) وعدا عن زيارة الثعالبي لعدن فقد تفاعلت الأوساط الأدبية في عدن ولحج بتتويح الشاعر المصري أحمد شوقي أميراً للشعر العربي، ويذكر الأستاذ عبده سعيد صوفي أن (نادي الأدب العربي) في عدن أهدى الشاعر أحمد شوقي قلماً ذهبياً بمناسبة تكريمه وتقليده إمارة الشعر، وحذا أدباء لحج كذلك حذو أدباء عدن بأن أرسلوا قصائد تقريظية بالمناسبة مع هدية ثمينة تحية لأمير الشعراء.(28) وغير خاف المثاقفات الأدبية والمراسلات الشعرية التي كانت تربط باعث النهضة الفنية والأدبية في لحج الأمير أحمد فضل القمندان (1884– 1943م) بأدباء ومثقفي مصر (أما في الثلاثينات من القرن الماضي فهناك معلومات موثقة تكشف عن التواصل بين رجالات الفكر والأدب في عدن مع نظرائهم في البلاد العربية .. فالمفكر شكيب أرسلان يمتدح كتاب المفكر محمد علي لقمان (بماذا تقدم الغربيون؟) الذي صدر سنة 1932م.. وما كتبه المجاهد الفلسطيني محمد علي الطاهر في مقدمة كتاب الأستاذ أحمد محمد سعيد الأصنج (نصيب عدن من الحركة الفكرية الحديثة) صدر عام 1934م.. يدل دلالة قاطعة على مستوى النضوج الثقافي الذي بلغه أدباؤنا وكتابنا كما يقول الباحث د. أحمد علي الهمداني)(29) ويمكن رصد ابرز النوادي الأدبية مرتبة حسب تاريخ ظهورها :
(1) نادي الأدب العربي (عدن 1925م) تولى رئاسته الشاعر الأمير أحمد فضل القمندان وأسندت إدارته إلى الأستاذ محمد علي لقمان ويعود الفضل في فكرة قيام النادي إلى الأستاذ عبدالعزيز الثعالبي الذي قدم إلى عدن من تونس.
(2) نادي الإصلاح العربي (عدن– التواهي 1929م) وترأس النادي وأمانة الصندوق الأستاذ عبده غانم والد الشاعر محمد عبده غانم وكوَّن هذا النادي (حلقة شوقي) الأدبية عام 1942م .
(3) نادي الإصلاح العربي (عدن – الشيخ عثمان 1930م) ورأس النادي الأستاذ أحمد محمد سعيد الأصنج وحوى هذا النادي خيرة علماء المنطقة وأدبائها .
(4) نادي الإصلاح العربي (كريتر – عدن، يوليو 1930م) من أبرز مؤسسيه محمد علي لقمان .
(5) نادي غازي الأول (1936م) .
(6) مخيم أبي الطيب (التواهي يونيو 1938م) وقد أصدر المخيم أوائل الأربعينيات كتاباً بعنوان (بأقلام المخيم) وهو عبارة عن محاضرات أدبية وثقافية وتربوية ألقاها أعضاء المخيم .(30)
وفي أمر له دلالته ينشأ في العشرينيات النقد الأدبي مواكباً لهذا الانبعاث الثقافي اللافت، وطبيعي أن يكون السير على طريق النقد بطيئاً في البداية، يختلط فيه النقد الاجتماعي بالنقد الثقافي، لكن ملامحه قد أخذت تتحدد مع منتصف الثلاثينيات كظاهرة أدبية نتيجة ازدياد عدد النوادي الأدبية ثم ستضيف الصحافة بعدها العمقي البارز في فترة لاحقة.
وتحمل الثلاثينيات مواقيتها القدرية حين يتخلق الإبداعي الثقافي، ليس في عدن وحدها وقد تضافرت لها من العوامل ما تضافر، وإنما في شمال الوطن الذي كان يرزح في عزلة مزرية في ظل حكم الإمام يحيى حميد الدين 18-1948م. فقد انبجست من عتمات هذه العزلة نزعات قوية نحو الإصلاح، تحمل في ثناياها احتجاجاً يتنامى ليغدو ثورة . ومثلت طلائع المثقفين ممن تحصلوا على نسب من التعليم متفاوتة، في الداخل اليمني– على تواضع التعليم فيه– أو في الخارج، الكتيبة الامامية المنادية بتغيير ما هو سائد . وقد وجد بعض من هؤلاء أفقاً محدود الاتساع في الكتابة في مجلة «الحكمة اليمانية» التي صدرت في صنعاء في ديسمبر 1939م ومنها يمكن التأريخ لبدء الصحافة في اليمن، وترأس تحريرها أحد أولئك الذين نادوا بإصلاح الوضع وهو الشهيد أحمد عبدالوهاب الوريث، ومن حوله مجموعة من الأدباء والكتاب والسياسيين أبرزهم أحمد المطاع والموشكي والحورش والعزب والبراق والشماحي . ويتاح لواحد من هؤلاء التجريب الريادي بالكتابة سرداً، عندما نشرت الحكمة قصة «أنا سعيد» للأستاذ أحمد البراق في العدد (21) من إصدارها القصير .(31) ثم تلتها قصة أخرى تحت عنوان: «اللصان الشقيقان» (32)ومع هذا التزامن بين صدور «الحكمة» أول مجلة في اليمن، وظهور محاولتي البراق، فإننا نذهب إلى ما ذهب إليه الأستاذ عمر الجاوي باعتبار أن التأسيس الحقيقي، وبمنطقية العوامل، للصحافة في اليمن، والمرتبط باشتراطات العمل الصحفي، المتأصل بمدى تأثير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي فيه، يتأتى من خلال صدور «فتاة الجزيرة» في عدن عام 1940م(33) فهي قد مثلت الحالة الثقافية في عدن بمناخات التراكم المعرفي الأدبي الذي شهدته المدينة سابقاً، وبوجود أفق للحرية نسبي توفره الإدارة البريطانية، فهي – والقول للجاوي – أول الصحف لأنها لم تمثل رسمياً Official Orgon . ويبقى أن نقر بأن قصة البراق كانت في نطاق التجريب السردي ليس إلا، والأمر مشابه في (أول أثر أدبي مكتوب يدل على التطور)(34) ظهر في صحيفة «الإيمان» للأستاذ زيد بن علي عنان.(35) . ولا شك أن قصة (سعيد) للأستاذ محمد علي لقمان صاحب صحيفة (فتاة الجزيرة) والتي صدرت في الصحيفة في مارس 1940م هي بالمعنى الحقيقي فاتحة سفر الإبداع السردي في اليمن، بالتزامن مع ظهور الصحافة في عدن واليمن عموماً، إذ لا يعيب أن نقول أن دور مجلة «الحكمة» في مجال التأهيل الثقافي والتأسيسي السردي – وهو فن جديد يتخلق بمعطيات غير تقليدية – كان ضئيلاً إن لم يكن معدوماً. فالمواضيع السردية التي قدمتها «الحكمة» – على قلتها وقصر عمر المجلة نفسها – لا يمكن أن تدرج في باب التأسيس أو التأهيل لهذا الفن الرائع ؛ فهي ينقصها حتى الاحساس بطعم ذلك الفن الجديد، وهي لا تختلف عما كان يكتبه الجاحظ أو غيره من القدماء (36) أو حتى كتابات المويلحي في (عيسى بن هشام) في القرن التاسع عشر .
أما بعض المثقفين والباحثين ممن رأوا – استناداً إلى الأمثلة السابقة – أن تلك المجلة قد قدمت الشكل الجديد للقصة وأن هذا الشكل كان جديداً بالنسبة لما هو سائد في اليمن.(37) فهو رأي لا يمكن الإعتداد به، لأن للسرد مقومات فنية يبتني عليها، ولا نستطيع أن نحلق به – أو يحلق هو بنا – في سماء الإبداع وفضاءاته دونها .
وعلاوة على مشهد التأسيس بـ(سعيد) كفن قصصي جديد في عدن، لعبت الصحيفة «الفتاة» وصاحبها (لقمان) دوراً لا يستهان به في إعداد النفوس للوافد الإبداعي الفني الجديد ؛ (وبدأنا نطلع على القصص المترجمة، فقد ترجم عبدالله عبدالرحيم قصة لبرنارد هولوود بعنوان «زوجتي أو زوجته» عدد 13 مايو 1945م، وترجم حمزة لقمان قصة لشارلز ديكنز بعنوان «أرملة على قبر» عدد 3 إبريل 1944م.(38)
لقد صنع كل ذلك مناخاً مواتياً في عدن، باتساع نسبة المتعلمين وانتشار التعليم الأهلي، والتشكل الجنيني للطبقة العاملة بعد إنشاء مصفاة النفط في البريقة، مع ما حملته رياح التغيير التي عصفت بالعالم أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية 39–1945م، وبروز قوى التحرر العربية واتساع مجالات العمل القومي العربي بعد ثورة يوليو 1952م في مصر، وما رافق ذلك – في عدن – من ازدياد عدد الصحف والمجلات، وتشكل وظهور الأحزاب والتنظيمات السياسية والنقابات العمالية ومنظمات المجتمع المدني الأخرى، فتوالت موجات السرديين في مجال القصة القصيرة والرواية أمثال: حامد خليفة، حمزة علي لقمان، محمد علي لقمان، محسن حسن خليفة، وحامد خليفة حسان، ونقرأ أول بادرة نقدية – جلية المعالم للأستاذ علي محمد لقمان متزامنة مع اتجاه (أحمد شريف الرفاعي) النقدي – رغم ما يؤخذ عليه .
ومع الخمسينيات المتصاعدة الوتائر مداً قومياً وتحررياً على صعيد السياسة تتجلى الموجة الثانية من السرديين اليمنيين مثل محمد سعيد مسواط، محمد سالم باوزير، جعفر عبده ميسري، وجعفر حمزة وحسين سالم باصديق وعلي باذيب وأحمد محفوظ عمر وأحمد شريف الرفاعي ومحمد ناصر محمد، وصالح دحان، وعلي محمد عبده.(39)
وقد أفرد الكاتب السعودي خالد بن أحمد اليوسف ببلوجرافيا ضافية للسرد في اليمن(40) في جهد علمي لتوثيق لحظات الدهشة وانبعاثها من ثنايا المارد المتجدد (القصة والرواية) كنوع من الإبداع الأدبي واكب مرحلته التاريخية الأولى، ولا زال في معطياته الفنية يتلاءم صنعاً إبداعياً يواكب اليوم وإلى حين .
المراجع :
1) شاكر عبدالحميد، الخيال من الكف إلى الواقع الافتراضي، عالم المعرفة، العدد 360، 2009.
2) صبري حافظ، الرواية العربية .. استشراق المستقبل والمتغيرات الجمالية، (ندوة الرواية والمستقبل) الدوحة، 2006م .
3) عمر محمد عمر، تجارب روائية – صنعاء، ط1، 2004م .
4) محمد فكري الجزار، فقه الاختلاف – مقدمة تأسيسية في نظرية الأدب – مركز معالجة الوثائق للكمبيوتر والطباعة، القاهرة، 1995م .
5) قاسم يرنك، التاريخ ومنهج البحث التاريخي، لبنان، ط1، 1990م.
6) يمنى عيد، سؤال عن روائية المرجعي، ندوة الرواية …، الدوحة 2006م .
7) محمد برادة، الرواية العربية بين المحلية والعالمية – الرواية العربية الكونية أفقاً، ندوة مهرجان القرين الكويت، ديسمبر 2004م .
8) د. سليمان ابراهيم العسكري , عن الدهشة والألم 50 قصة بأقلام عربية , كتاب العربي 68 , الكويت , ابريل 2007م .
9) البيئة المحلية في القصة القصيرة في الامارات العربية المتحدة , الرؤى الاجتماعية للقصة القصيرة الاماراتية , ندوة جماليات.
10) د . طه وادي , ندوة القصة القصيرة بين الواقع وافاق المستقبل , المجلس الاعلى للثقافة بمصر .
11) د. سعاد سيد محجوب , الرؤى الاجتماعية للقصة الاماراتية , ندوة (جماليات التحديث في الادب العربي) يناير 2006 م.
12) د. صلاح فضل , التجريب في الابداع الروائي , مهرجان القرين : ندوة الرواية العربية (ممكنات السرد , الكويت , ديسمبر 2004 م .
13) د . جابر احمد عصفور , ابتداء زمن الرواية – ملاحظات منهجية , ندوة القرين , الكويت ديسمبر 2004م .
14) احمد عبد الرزاق ابو العلا , جماليات التجديد والتشكيل في القصة القصيرة (السعودية نموذجاً , ندوة جماليات التحديث في الأدب العربي – الخليج العربي والجزيرة العربية انموذجاً يناير 2006 م.
15) أنظر ندوة (جماليات التحديث في الادب العربي – الخليج العربي والجزيرة العربية انموذجاً , القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية لمؤلفه سحمي ماجد الظاهري , القصة القصيرةعند شيخة الناحي لزينب بيره جكلي .
16) عمر الجاوي، عمر الجاوي عشر سنوات ولا زال حاضراً، اعداد : عمر محمد عمر، ط1، يناير 2008م.
17) سالم علي سعيد، أهمية التعليم في كتابات محمد علي لقمان : ندوة نعمان 13-15 نوفمبر، 2006م .
18) نصر سالم هادي ومحمد سعيد شكري، الأستاذ محمد علي لقمان والثورة اليمنية، ندوة لقمان.
19) سيف علي مقبل، دور في الثورة التحررية المسلحة في الشطر الجنوبي من الوطن اليمني، 64 – 1967م، صنعاء ط1 – 2007م.
20) محمد عمر الحبشي، اليمن الجنوبي، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، بيروت 1968م .
21) ينظر أحمد علي الهمداني : كتاب الندوة العلمية عدن ثغر اليمن ج/ ص 82 ؛ علوي عبدالله طاهر : النوادي الأدبية والثقافية في عدن قبل الاستقلال الوطني، مجلة دراسات يمنية، العدد 14، ديسمبر 1983م.
22) عبدالفتاح الحكيمي، النقد الأدبي والمعارك التعلمية في اليمن 32 – 1955م، ط، ديسمبر 1998م.
23) عبدالحميد إبراهيم، القصة اليمنية المعاصرة دار العودة، بيروت، 1977م .
24) العدد 27، محرم 1360هـ .
25) النقاد يصنعون موجة للبحر، مهرجان صنعاء الرابع للقصة والرواية، 26-28 يوليو 2008م ط1، صنعاء 2008م ؛ ابتسام المتوكل، البدايات التأسيسية للقصة في اليمن، والرأي للأستاذ عبدالله البردوني في « الثقافة والثورة في اليمن، 1998م .
26) خالد بن أحمد اليوسف، السرد في اليمن، السعودية، ط1، 2004م .
الهوامش
(1) شاكر عبدالحميد، الخيال من الكف إلى الواقع الافتراضي، عالم المعرفة، العدد 360، 2009.
(2) صبري حافظ، الرواية العربية .. استشراق المستقبل والمتغيرات الجمالية، (ندوة الرواية والمستقبل) الدوحة، 2006م / ص 99 .
(3) عمر محمد عمر، تجارب روائية – صنعاء، ط1، 2004م، ص61 .
(4) محمد فكري الجزار، فقه الاختلاف – مقدمة تأسيسية في نظرية الأدب – مركز معالجة الوثائق للكمبيوتر والطباعة، القاهرة، 1995م، 184-185 .
(5) قاسم يرنك، التاريخ ومنهج البحث التاريخي، لبنان، ط1، 1990م، 64 .
(6) يمنى عيد، سؤال عن روائية المرجعي، ندوة الرواية …، الدوحة 2006م، 76 .
(7) عمر محمد عمر، السابق، ص 61 – 62 .
(8) عمر محمد عمر، السابق، 61 – 62 .
(9) محمد برادة، الرواية العربية بين المحلية والعالمية – الرواية العربية الكونية أفقاً، ندوة مهرجان القرين الكويت، ديسمبر 2004م ص12
(10) د. سليمان ابراهيم العسكري , عن الدهشة والألم 50 قصة بأقلام عربية , كتاب العربي 68 , الكويت , ابريل 2007م , صـ 4و5 .
(11) السابق , صـ 4 و5 .
(12) يمنى عيد , سابق , ص 76 .
(13) البيئة المحلية في القصة القصيرة في الامارات العربية المتحدة , ص 156 , الرؤى الاجتماعية للقصة القصيرة الاماراتية , ندوة جماليات
(14) د . طه وادي , ندوة القصة القصيرة بين الواقع وافاق المستقبل , المجلس الاعلى للثقافة بمصر .
(15) د . سعاد سيد محجوب , الرؤى الاجتماعية للقصة الاماراتية , ندوة (جماليات التحديث في الادب العربي) يناير 2006 م .
(16) سابق , ص 16 .
(17) د. صلاح فضل , التجريب في الابداع الروائي , مهرجان القرين : ندوة الرواية العربية (ممكنات السرد , الكويت , ديسمبر 2004 م , ص103).
(18) د . جابر احمد عصفور , ابتداء زمن الرواية – ملاحظات منهجية , ندوة القرين , الكويت ديسمبر 2004م , ص143و144 .
(19) احمد عبد الرزاق ابو العلا , جماليات التجديد والتشكيل في القصة القصيرة (السعودية نموذجاً , ندوة جماليات التحديث في الأدب العربي – الخليج العربي والجزيرة العربية انموذجاً يناير 2006 م.
(20) أنظر ندوة (جماليات التحديث في الادب العربي – الخليج العربي والجزيرة العربية انموذجاً , القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية لمؤلفه سحمي ماجد الظاهري , القصة القصيرةعند شيخة الناحي لزينب بيره جكلي .
(21) عمر الجاوي، عمر الجاوي عشر سنوات ولا زال حاضراً، اعداد : عمر محمد عمر، ط1، يناير 2008م، ص 198 .
(22) سالم علي سعيد، أهمية التعليم في كتابات محمد علي لقمان : ندوة نعمان 13-15 نوفمبر، 2006م عن، ص 149 .
(23) نصر سالم هادي ومحمد سعيد شكري، الأستاذ محمد علي لقمان والثورة اليمنية، ندوة لقمان – ص 271 .
(24) السابق، ص 271 .
(25) سيف علي مقبل، دور في الثورة التحررية المسلحة في الشطر الجنوبي من الوطن اليمني، 64 – 1967م، صنعاء ط1 – 2007م، ص 26-27 .
(26) السابق، ص 26، محمد عمر الحبشي، اليمن الجنوبي، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، بيروت 1968م .
(27) سالم علي سعيد، سابق ص 147-150، ينظر أحمد علي الهمداني : كتاب الندوة العلمية عدن ثغر اليمن ج/ ص 82 ؛ علوي عبدالله طاهر : النوادي الأدبية والثقافية في عدن قبل الاستقلال الوطني، مجلة دراسات يمنية، العدد 14، ديسمبر 1983م، ص 79- 180 .
(28) السابق 150 .
(29) السابق، 150-151 ؛ الهمداني المرجع السابق ص 85 .
(30) عبدالفتاح الحكيمي، النقد الأدبي والمعارك التعلمية في اليمن 32 – 1955م، ط، ديسمبر 1998م ص 10 .
(31) عبدالحميد إبراهيم، القصة اليمنية المعاصرة دار العودة، بيروت، 1977م، ص 23 .
(32) العدد 27، محرم 1360هـ .
(33) الجاوي، سابق ص 198 .
(34) النقاد يصنعون موجة للبحر، مهرجان صنعاء الرابع للقصة والرواية، 26-28 يوليو 2008م ط1، صنعاء 2008م ؛ ابتسام المتوكل، البدايات التأسيسية للقصة في اليمن، ص 87، والرأي للأستاذ عبدالله البردوني في « الثقافة والثورة في اليمن، 1998م، ص 115 .
(35) ابتسام المتوكل، السابق، ص 87 .
(36) عبد الحميد، السابق، ص 27 .
(37) السابق، ص 28، 29 كتاب « مجلة الحكمة اليمانية «، ص 21 .(38) السابق 131 .
(39) يراجع كتاب عبدالحميد إبراهيم .
(40) خالد بن أحمد اليوسف، السرد في اليمن، السعودية، ط1، 2004م .
هشام محسن السقاف
كاتب وأكاديمي من اليمن