1- في التأثير والتأثر
إن الطريق إلى المعرفة طويل جدا .
والخطوة في هذه الطريق تمثل لوحدها سلسلة من الطرق الوعرة والمتشعبة والملتوية والمعبدة بالمفاتيح المزعومة .
طريق تنفتح على طريق، طريق تؤدي الى طريق , طريق توصد نهايتها أمام طريق أخرى .
نتجول مرة وهما ومرة حقيقة في رحاب هذه الطرق , نتخيلها الارض في حضرتنا فندور حولها بالقدر الذى ترتضيه وحين نصاب بالدوار ونعي أننا كنا في طريق واحدة مارست علينا رغبتها الغريزية في التكائر.
هذا ما ألمسه وأنا أقرأ كتابا من هنا وأخر من هناك . هذا ما يعتريني وأنا محتضنة قصيدة قديمة الكتابة أو منحنية بشغف على قصيدة حديثة .
اقترب من اشراقات رامبو فتداهمني ينابيعه الشرقية وأصافح عبقرية " جوتة " فتطفو أمامي تجربته مع الشرق والعالم الإسلامي وتأثره بالمأثور الشعبي العربي وببعض حكايات ألف ليلة وليلة وأدب الرحلات وتأثره بالشعر الجاهلي في المعلقات بل واقتباساته من القرآن .
شيء ما يؤلف بين الكبار كافة .
شيء لا شريك له يحرك نوازعهم ويخيط هواجسهم . هم فقط الذين يوحدون السؤال المشتت وهم دون سواهم الذين يصهرون بنارهم كل الحالات ويصيرونها حالة فريدة من نوعها وفي عددها تطل على الأمطار وتأتي على الأزمنة دون القفز على لحظة مستعصية .
هذا الجامع له قرين يفرق : جامع يحدث تجاذبا ومفرق يقيم مسافة في البعد .
تجاذب يضفي معنى على وجود هذه الشعوب والحضارات والثقافات في عالم واحد وبعد يؤكد الحكمة من هذا التعدد : حكمة الاختلاف وإمتياز الخصوصية .
ولولا الثقافات ما كانت هناك مثاقفة ولولا التأثر ما حصل تأثير.
واللغة نفسها لا سبيل لتوالدها ولخصوبتها في غياب جدلية التأثير والتأثر.
ويشكل العالم بجغرافيته الشاسعة وزمنه الممتد نسلا خاصا وشجرة واحدة كبيرة متفرعة الأغصان مترامية الأطراف .
في منطق الفن كل الشعراء شاعر واحد وشعرا، كثر،في لغة الفن والجمال لا أحد يستطيع أن يمنع أحدا من القول إن أراجون أخ عزيز لشعراء الجاهلية الذين ربطوا بين الحب والموت وهو القائل "أوصدي الباب جيدا. أريد ان أبوح لك بسر: الحب أقسى من الموت ".
لا أحد أيضا يستطيع أن يشك في قرابة سعدي يوسف باليوناني ريتسوس ولا قرابة محمد علي شمس الدين في مجموعته "الحرث في الآبار" مع ريتسوس وعلاقة بدر شاكر السياب بالانجليزي، اليوت، ثم ألم يحقق كل من امريء القيس وثعلبة بن عمر وزهير بن أبي سلمى وطرفة بن العبد حالة من التوأمة وهم يقاربون الموت كتجربة فردية لا تتكرر ليرتقون بها إلى مستوى التجربة الكونية .
ان تأصل معاني الفقد في الوجود لا نكتوي بلهيبه إلا ونحن نطل من ثقافة على ثقافة إلا ونحن نعبر عالما لشاعر ما كي نرحل مع شاعر أخر.
وهي رحلة بما تنطوي عليه من خيانة ومن وفاء إنما تبشر عن شكل مغاير للاختراق ذلك الافتراق الحاصل سلفا .
في البداية كلنا موجوعون – هاجس الرحيل يدب في أرجائنا، القلق ينهش رأسنا، كلنا معرضون للخسارة , موقونون من لقاء الفقد كلنا نعيش المواجهة القاسية . كلنا مطلوب منا أن نكون صانعين ماهرن للقيم .
كل شاعر يعيش هذا الوجع وهذا الخوف ويقتله ذات السؤال ولكن لكل منا نبرته الخاصة في التأوه وفي الصراخ ولكل طريقته الخاصة في الخلاص الفني. طرفة بن العبد ربط بين اللذة وفكرة الجسد عندما داهمته مأساة المصير الانساني وكذلك فعل في حالة من حالاته بودلير عندما ارتمى بين أحضان حبيبته الزنجية "جان دوفال " ليعش العبث في الجسد .
من هنا يتراءى لنا جيدا كيف أن الوجود فتح في ذوات الشعراء الجروح نفسها ونثر شتاتهم حتى خلنا ان لا علاقة بينهم ولا نسل يجمعهم فيأتي نظام الثقافات والحضارات ليعيد الشمل من جديد ويربط ما تم حله عن طريق مبدأ من مبادئه وناموس من نواميسه هو مبدأ التأثير والتأثر.
لا مفر من التأثير إذ لولا هروب من التأثر لا مفر من ذلك ونحن في بلاد تعد مثالا ساطعا على قوة هذا المبدأ، وحجة من شعر برهن عليها لوركا في قصائده الطافحة بشعر الطبيعة ابان القرن السابع من خلال أشعار ابن زيدون وولادة بنت المستكفي.
التأثير والتأثر: مبدأ قديم يحقق تناميه من زمن إلى التأثير والتأثر: مبدأ قديم يحقق تناميه من زمن الى أخر ويبلغ ذررته في عصر كل أسباب التأثير متوفرة وكل مبررات التأثر كائنة .
في هذه المداخلة يستحيل القبض على الإرث الثقيل لمبدأ التأثير والتأثر وتصعب متابعة حتى ما هو بصدد الحدوث في هذه الدائرة وبموجب هذه الاستحالة سنقتصر على اقتفاء أثر بودلير في الشعر العربي الحديث وسنحاول الامساك بالأسباب الخاصة لحصول مثل هذا التأثير عند قصائد الجيل الجديد من الشعراء العرب .
ثم القبض على هذا الأثر والوقوف عنده والنبش في خصوصياته من جهة وفي علاقة هذه الخصوصيات الوافدة بخصوصياتنا الثابتة والقائمة في الشعر العربي.
2- قصيدة النثر والمثاقفة
بعد قرون من التأثير وقرون من الصمت المدقع عاد قرن التاثر الثقافي عندما وقف الآخر أمامنا قويا وثائرا ومجربا ومؤمنا بأن الفكر يجب أن يفكر ضد نفسه ونحن في حالة من الانشقاق مع الذات وفي وضع ملتبس من الأسئلة الاستنكارية والعدمية . تقدم في البداية أدباء المهجر وفتحوا لنا شهية الانفتاح وأشعلوا فينا رغبة المغادرة وممارسة الرحيل في الثقافات الأخرى.
كان، من الصعب على الثقافة القابعة في دارها زمنا طويلا أن تكلأ قدماها دار جارة لها.
كان من الصعب النزول من على العرش والخروج متلصصين إنجازات الغير.
ولكن رغم الصعوبة حصل الصعب وانبهرت تجارب جبران خليل جبران وأمين الريحاني بالثقافة الانجلسكسونية وهي تجارب وظفها رواد قصيدة النثر العربية فيما بعد للدفاع عن مشروعهم .
وعلاوة على هذا التأثر الانجلسكسوني الذي حدث بالذهاب الى موطن تلك الثقافة كان لمنطقة البحر الأبيض المتوسط نظامها الاتصالي الخاص حيث البحر يمنعها من الإنغلاق والتقوقع ويجعلها في حاجة متواصلة إلى ذاتها المتعددة ليحصل التأثر في زمن والتأثير في زمن والتأثير والتأثر في زمن توفيقي نحلم به .
وإن كانت أشكال المثاقفة كثيرة ومتعددة فإن قصيدة النثر مثلت شكلا من أشكال المثاقفة والتأثر بالأخر من خلال معاينة تأثر الشعر العربي الحديث بنظيره الغربي.
قصيدة النثر كنمط شعري عالمي حققت فتوحات هامة وعميقة في تجارب العديد من الشعراء العرب . ولكن السؤال الذي يتسلل الينا في هذا المستوي من الطرح هو كيف تم التأثير وكيف هيئ الجو لتحقيق مثل هذه المثاقفة عن طريق قصيدة النثر. وهنا سنرى كيف انه إذا كان التأثير يستوجب قوة لحدوثه فان التأثر يشترط ضعفا وثقوبا من خلالها يسري ويتغلغل عبر قنوات تقيمها أيادي المؤثر القوي.
وقد تمت هذه المثاقفة في وقت عاش فيه العالم العربي ألوانا من الازمات خنقته وجعلته يروم إلى
رئة جديدة .
عاش هجمة الآخر عليه عبر الاستعمار والهيمنة وفقدان السيادة وذهاب السلطة وباشر هزائم نكبة فلسطين 48 وهزيمة 67 والحرب الأهلية في لبنان . عاش اختناقا متسعا في ضيقه أدى إلى رغبة قوية وجامحة الى الثورة والى تغيير الجلد بعد أن طال تململه في ثقافته فراح يروم الخروج من أجل عودة متجددة خاصة وإن القصيدة العربية مرت بتململات خلال السبعينات حتى ضاقت بتقليديتها وبانشدادها الى الصخب والخطابية لاسيما وان هذه القصيدة استثمرت كسلاح أثناء المعارك فتسربت الهزيمة من ساحة الوغى إلى عالم القصيدة حيث وعى الشاعر خيبة كل الحماسة التي أودعها فيها وعبثية الكتابة من خلال قوالب جاهزة وفي شكل تعود على استيعاب العواطف الجياشة وكل تمظهرات المبالغة .
يقول الناقد المصري غالي شكري،«إن الثقافات الأجنبية ومدارس الشعر الغربي كانت جميعها من عوامل التجديد ولقد غيرت الثقافات الأجنبية بالفعل من الاتجاه العام للشعر العربي وانعطفت به إلى
وجهة الشعر الغربي الحديث ".
وهذا التغيير حصل بسبب الدور الكبير الذي لعبته الترجمة أي تعريب الشعر الغربي والاطلاع عليه ولقد ترجمت مجلة «شعر" العديد من قصائد الشعر الفرنسي ورأت في ذلك شكلا من أشكال التفاعل الخلاق مع العالم الذي عدته – أي هذا التفاعل – احدى الدعائم الرئيسية لنهضة الشعر العربي. وكما لعبت الترجمة وظيفة بارزة في ولادة قصيدة النشر في الشعر العربي فإن أيضا انتشار المنتديات الثقافية والروابط ذات العلاقة المباشرة بالغرب وإحداث هذه الروابط لجوائز تشجع على الاقبال على ثقافتها كل هذا مهد لقصيدة النثر كي تكون محورا من محاور المثاقفة وموضوعا من موضوعات التأثر التي اشتغل عليها رواد هذه القصيدة في الوطن العربي.
ولأنها شكل من أشكال المثاقفة فلقد اتخذت منذ البداية طابع المشروع ترأسه يوسف الخال وأدونيس وجبرا ابراهيم جبرا وأنسي الحاج ومحمد الماغوط وتوفيق الصائغ .
وهو مشروع استقى تفاسيره لقصيدة النثر من كتاب سوزان برنار "قصيدة النثر من بودلير حتى أيامنا"، ومن أول هذه التفاسير التي أصر على التوقف عندها كل من أدونيس في مقالته "في قصيدة النثر" المنشورة في ربيع1960 في مجلة "شعر" وأنسي الحاج في مقدمة،"لن " هي أن قصيدة النثر نوع من الثورة والتحرر.
وهذا النهل خلق بالضرورة لجوءا مكررا ومركزا على تجارب الغرب أهمها تجربة بودلير الذي يعد المؤسس الأول لهذه القصيدة وزعيمها البارز الى جانب شعراء أخرين كتبوا قصيدة النثر أمثال رامبو ومالارميه ولاسيما وان فرنسا شكلت مهدا جوهريا لولادة قصيدة النثر في العالم .
ويتحدث يوسف الخال عن حركة قصيدة النثر العربية وعن تأثير باريس في سيرته قائلا: «وقد أتاح لي جو باريس وانصرافي التام الى حياة الفكر والشعر والفن وما يرافقها من صفاء وتفتح على الجمال بكل أنواعه أن أتوصل الى حل بعض المشاكل الشعرية والفكرية التي كانت تتلقني في السنوات الأخيرة وسيبدو جليا في النتاج الشعري الذي كتبته خلال هذه الفترة والذي سأكتبه في المستقبل ".
وبهذا يكون بودلير قد تسلل من خلال الترجمة ومن خلال مجلة «شعر"، وروادها الذين حملوا على عاتقهم إيصال مشروع بودلير الى العالم العربي وتهيئة الأجواء اللازمة له كي تكتسح القصيدة البودليرية أرض القصيدة العربية العتيدة ذات الوزن الثقيل والبحور الطويلة والوافرة .
هكذا تم التسلل إلى الأراضي الشعرية العربية ولكن كيف أقام بودلير في القصيدة الحديثة وكم من قصور شيدت وعوالم صيغت .
وهو تسلل قد واكب موجة من الأسئلة بات يطرحها الشاعر العربي على قصيدته التي استهلكت عبر 14 قرنا كل الموضوعات التي أسست من خلالها تراثا فنيا كبيرا .
قصيدة مجدت الموضوعات الكبرى واعتنت بها وتمنعت على كل التفاصيل وتكبرت على كل ما يبدو هامشيا أو بسيطا او عابرا .
هذا الشوق الى مغامرة شعرية جديدة وجد في قصيدة بودلير قسطا كبيرا من ضالته نلمس علامته اليوم في كثير من قصائد شعراء العرب الحداثيين حيث نجد أثر بودلير بارزا في الشكل الفني وفي اللغة وفي الثيمات وحتى في مقاربة الذات والعالم .
رغبة الشاعر العربي في تعرية القصيدة من أغلالها وافراغها من ضجيجها كانت تعكس رغبة في استئناف الشعر بطريقة جديدة حيث لا حضور فيها إلا للشاعر وفي هذا المعنى يقول أنسي الحاج محددا ما هو أساسي في قصيدة النثر بأنه "يكمن في موهبة الشاعر وتجربته الداخلية وموقفه من العالم والانسان وهي قوانين من نفس الشاعر ذاته ".
وأمام إغراءات قصيدة بودلير وجدتها ونموذجها الأكثر جدوى في تحقيق الثورة والتمرد على القصيدة العربية التقليدية أكل الشعراء العرب على هذه القصيدة وفتشوا عن شروطها وحاولوا استيعابها وتلبية ضروراتها المتمثلة في المزاوجة بين اليومي واللامعقول والتوغل في عوالم الرمز والغموض والاكتراث بالإحياء الجزئي للأصوات الضائعة وافتراق الموضوعات المادية في الحياة اليومية عبر استيعاب المهمشين واستغلال أقصى امكانيات اللغة في الاتيان بالجديد وفي استنطاق الكرسي بدل الحاكم والكأس بدل الشارب والثوب بدل الجسد واليد بدل الجسد والدمعة بدل العينين والمتسول بدل المدينة والدرويش بدل القرية والرغيف بدل الفقر.
وهكذا ترسخ الاعتقاد بأن قصيدة النثر قادرة على تكسير الشكل الواحد وتقديم اضافات للشعر العربي وفتوحات لا حد لها، وهو اعتقاد يفضي الى امتحان وضع الشاعر العربي نفسه فيه إذ سيمتحن في مدى قدرته على اكتساب ملكة جديدة في التحاور مع التفاصيل والقطع مع عادة قديمة لا تجالس سوى ما ,هو ضخم وكبير وأذن تعودت على الطرب والغناء والنبرة العالية الاحتفالية .
وتبعا لهذا التدفق الجديد كان جبرا ابراهيم جبرا أول البادئين بكتابة قصيدة النثر ونشرت له عام1959 دار مجلة "شعر" مجموعته "تموز في المدينة " ومجموعة أخرى لمحمد الماغوط عنوانها "حزن في ضوء العمر"، ومجموعة "لن " لأنسي الحاج تلك المجموعة التي كانت تهرب سرا إبان صدورها .
واللافت للانتباه أن أغلب من كتب قصيدة النشر في ذلك الجيل الرائد لقصيدة النثر كان قد تعاطى القصيدة الموزونة ثم جمع بينها وبين قصيدة النثر وفي محطة متأخرة نسبيا أعلن القطيعة مع الموزون كي يستقر في النهاية مشروعه الشعري في قصيدة . النثر دون مزاوجة بينها وبين شكل أخر.
من ذلك ان محمد الماغوط في المجموعة التي ذكرت والأخرى المعنونة بـ "غرفة بملايين الجدران "، تمكن من اسقاط حجة الوزن في الهاوية وذلك من سجل النقائص الموجهة ضد قصيدة النثر وقدم بدوره قصيدة فيها تقنيات بودلير من إيجاز وتكثيف وصور شعرية مركبة مفاجئة وايقاع هابط مرتفع في تراوح شعري جديد وقد تجلى ذلك أيضا في مسرحيته المعروفة بصفاء شعريتها «العصفور الأحدب ".
أما شوقي أبي شقرا صاحب ديوان "ماء الى حصان العائلة " فقد حاول فيما وراء ثنائية التفعيلة والتحرر من الوزن محاولا إقامة الشعر في النثر منصتا الى يوميات بودلير عندما قال : "كن دائما شاعرا حتى في النثر".
أنسي الحاج، تنتشر علامات بودلير في شعره بشكل فاضح حيث سعى هذا الشاعر كما نلمس ذلك في قصيدتي "فقاعة الأصل " و"الخنزير البري" الى صياغة قصيدة نثر تستجيب حقيقة لشروط كتابة قصيدة النثر بالمعنى الأوروبي الذي وضع ركائزه بودلير فكانت قصائده تستند الى التوتر والمجانية والحوار والتشكيل اللغوي والاستعارة مبتعدة كل البعد عن النثر الشعري الذي يقدم على أساس أنه قصيدة نثر ومعتمدة التقطيع الروائي في كتابة قصيدة النثر ومتجنبة خطأ الوقوع في تشطير النص الشعري.
ونجد في مختلف التجارب التي تأثرت بقصيدة النثر وببودلير بالخصوص كأهم دافع لها سعي قصيدة النثر لديهم إلى لباس ما ارتدته القصيدة البودليوية من استعمال للأوصاف المتضادة، كما ورد في قصيدة "جمال " حيث يقول :
(وإني لا أعرف البكاء ولا أعرف الضحك )
ويضيف في قصيدة "أنشودة الجمال ":
( في مقلتيك الغروب والفجر معا)
وعلاوة علي التضاد نجد حضورا للحوار وللنبرة الدرامية في قصيدة «الغريب " وتمثلا للأشياء على شاكلة امرأة كما جاء ذلك في قصيدة "انشودة الجمال " إذ يقول :
لا أبالي: أمن عند الله، أم من عند الشيطان ما دمت ايتها الحورية ذات العينين الناعمتين كالمحفل تجعلين العالم أقل مشقة والأيام أخف عبئا .
وطبعا يحلو كثيرا للشعراء العرب تمثل الأرض والوطن والحرية على أنها امرأة .
كما اقتفى الشعراء العرب أثر بودلير في منح التفاصيل دور البطولة في عالم القصيدة فكانت قصائده المعنونة بـ "الشرفة " و" البوم " و" الهرة " من النماذج التي لفتت انتباه الشاعر العربي فأصبح بدوره يحاكي التفاصيل مع العلم ان هذا التأثير لم يشمل شعراء قصيدة النثر فقط بل استفاد من شعرية التفاصيل حتى الذين يكتبون الموزون كمحمد علي شمس الدين ومحمود درويش وهو ما يؤكد بطبيعة الحال سعة انتشار أثر بودلير في الشعر العربي اذ تمكنت انجازاته من اقتحام القصيدة الموزونة وتوجيهها في قصائد كثيرة أو في أجزاء من هذه القصائد الى معطى هامشي لم تكن لتحفل به هذه القصيدة أو لتعيره اهتماما وبالمناسبة نشير الى انه بالرغم من الكم الهائل من الشعراء الذين يكتبون قصيدة النثر اليوم إلا أنه قلة الذين استجابت قصيدتهم الى ما اصطلح على تسميته بشعرية التفاصيل .
وعلاوة على هذا التأثر الفني بالقصيدة البودليرية وبإمكانات قصيدة النثر وإغراءاتها الجديدة فان شعراء رواد قصيدة النثر العربية والجيل الذي عقب هؤلاء الرواد قد تأثروا بالثيمات وبمقارنة بودلير للعالم وللأشياء بل ان الشاعر أدم فتحي في مقدمته لترجمة يوميات بودلير يذهب الى أن بودلير ضروري كي نفهم أنفسنا. وانه في داخل كل شاعر بودلير أحيانا متخفيا وأحيانا ظاهرا للعيان . والنموذج البودليري كمثال للشاعر الجامح الثائر الذي ينزل العقاب بالجميع ويمارس الهدم بامتياز وموزعا بين الخير والشر، الروح والجسد، الألم واللذة بين سعادته بالخمر وانسيابه الصوفي في قصيدة "الفجر الروحي".
هذا الشاعر المريض بالنفس حد الموت وحد الحياة .. هذا المازوشي، السادي ولقي من الأصداء أصداء في نفس الشاعر العربي الغاضب المتأزم المتأرجح المريض بدوره .
هذه الأسس التي انبنت عليها شخصية بواليو ادخلت الشاعر العربي الى ذاته ووضعته أمام مرآته وجعلته يخلع مبالغته ويتحاور مع الخطيئة كما حاورها بودلير في قصيدة "الى غانية " وفي قصيدة "الأختان الطيبتان " عندما جمع بين الخطيئة والموت .
هذا النموذج البودليري، دفع شعراء قصيدة النثر وحتى الأخرين الى جلد الذات والامساك عن التغني بها والى النظر في تعقدها وغرابتها واطلاق العنان لكل أمراضها كي يتحقق الكمال من خلال التطهر شعرا من كل العقد فنعيش بذلك الاحتراق الذي يتلوه بعث جديد.
وبودلير في يومياته كان من القوة مما جعله يمارس نوعا من الدمغجة الشعرية غير المباشرة وهو يعلن في تصريحات متتالية بأن الأديب "عدو العالم وبأن الأمم لا تنجب العظماء إلا مرغمة لن يكون الرجل عظيما إلا إذا انتصر على أعقه جمعاء".
الخاتمة
إن أثر بودلير واضح وجلي في الشعر العربي الحديث وقد تمكنت قصيدة النثر من تحقيق إضافات للشعر العربي وحملته الى مناطق ومغامرات لا عهد له بهما .
ولكن هذا الأثر رغم انه قد بلغ من العمر ما يفوق الأربعة عقود إلا انه تعترضه عثرات كثيرة أولها أنه حتى الأن لم يتم الاستيعاب الكامل لشروط كتابة قصيدة النثر الشيء الذي أضر بتقييم هذه القصيدة .
علاوة على أنها في أحايين كثيرة يتم التعامل معها على أساس انها تمرد على قصيدة التفعيلة وبديل لها في حين انها شريك مستقل تقدم نفسها كنمط أدبي جديد يتوق الى الاضافة .
ولقد طرحت قصيدة النثر كمصطلح إشكالية في علاقته بالشعر العربي القديم وتراث الثقافة العربية .
ولأنها شكل من . أشكال المثاقفة فقد تمت هذه المثاقفة في فترة نعيش فيها أزمة مع الأخر وحالة من الريبة إزاء كل ما يأتي من هناك لذلك كان رد الفعل سلبيا من لدن كثير من الشعراء ومن المثقفين العرب إزاء التعامل مع قصيدة النثر واتهموا من يكتبها بتقليد الشعر الغربي والحكم على الحداثه الشعرية العربية بعدم التأصل .
وقد خلقت هذه التهمة بدورها هاجسا توفيقيا أقلق نمو قصيدة النثر العربية ويتراءى لنا التأرجح والتذبذب بالحرص على المحافظة على التشطير خوفا من إضاعة ملامح القصيدة العربية .
ولكن في مقابل كل ذك لا ننسى ان التأثر الثقافي يشترط زمنا كي يفعل تغلغله الذي يطمع به وبالنظر الى ما تحقق في رصيد قصيدة النثر العربية فان الإضافة في مستواها النسبي قد تحققت وعدد الشعراء المقبلين على قصيدة النثر في ازدياد والجمهور بدأ يقيم علاقة جمالية جديدة مع الشعر. والسؤال الذي نختم به هذه المداخلة : هل ان هذه المثاقفة مكنتنا من خلق بودلير العرب أو رامبو العرب أو ريتسوس العرب أم أننا مازلنا في طور الاستيعاب والتمثل في انتظار مرحلة قادمة ننحت فيها تماثيلنا الخاصة ؟
المراجع
– البيان النقدي للحداثه : بعيدا داخل الغابة لفاضل العزاوي .
– قصيدة النثر العربي لأحمد بزون دار الفكر الجديد – طبعة 1996.
– مجلة فراديس
– جوناثان مونرو:
قصيدة النثر: النوع والوظيفة التاريخية
شارل بودلير: أزهار الشر.
– شارل بودلير: اليوميات .
– منشورات الجمل .
– شعرية التفاصيل : أثر ريتسوس في الشعر العربي المعاصر. دراسة ومختارات للناقد فخري صالح .
آمال موسى(شاعرة من تونس)