في التّاسعة عشرة من عمري، شاهدت في قاعة «المونديال» بتونس العاصمة، فيلم «الدكتور جيفاكو» الذي أخرجه دافيد ليفين. ولم يكن الدافع الأساسي لمشاهدة الفيلم التعرف على المعاني السياسيّة التي تضمّنها، وإنّما الممثل القدير عمر الشريف الذي كان قد أبهرني مع فاتن حمامة في فيلم «صراع في الوادي» الذي شاهدته وأنا مراهق على جدار بيت أحد أغنياء قرية العلا.. .
بعد خروجي من قاعة العرض، شعرت بحزن عميق يجتاح نفسي. ولساعات طويلة، تهت في المدينة دونما هدف، وفي ذهني كلّ تلك المشاهد المأساويّة التي تضمّنها الفيلم:الحرب الضارية بين البلاشفة والمناشفة، رحلة القطار الطويلة عبر سهوب روسيا المغطاة بالثلوج، الليل البارد، وعواء الذئاب، والشمعة الصغيرة التي على نورها الباهت يكتب الدكتور جيفاكو قصائد حبّه للارا الشقراء، الفائقة الجمال. ثمّ المشهد الأخير الذي أبدع المخرج في تصويره: الدكتور جيفاكو يسقط ميّتا على الرصيف وهو ينادي لارا التي شاهدها من خلال نافذة التراموي في موسكو تمشي على الرصيف، وتبدو غائبة عما حولها.
بعد مشاهدتي للفيلم، قرأت الرواية بالفرنسية . وعليّ أن أعترف أنها كانت بالنسبة لي أفضل من الفيلم. وهي رواية تشبه في أسلوبها، وفي بنائها الفنّي والدرامي تلك الروايات العظيمة، والضخمة التي عوّدنا بها الكتاب الروس العمالقة من أمثال تولستوي ودستويسفكي. وفي ما بعد،سوف أدرك ان «الدكتور جيفاغو» جسّد بعمق المرحلة القاتمة للثورة البلشفيّة، وكان رمزا لكلّ الذين عانوا من ويلاتها،وقتلوا، وشنقوا، وماتوا كمدا في سيبيريا، أو في المحتشدات من دون ان يعبأ بهم أحد.. .
ومن المؤكّد أن بوريس باسترناك كان واحدا من أولئك المثقفين والمبدعين الأحرار الذين واجهوا التسلّط الشيوعي في أبشع أشكاله ومستوياته. ورغم الخوف والضغوط، تمكّن من ابداع أعمال عظيمة سوف تظلّ حيّة في الذاكرة الإنسانيّة.
ينتمي بوريس باسترناك إلى عائلة تعشق الفنّ، والثقافة الراقية، واللغات . وعندما ولد، وكان ذلك عام 1890،كانت موسكو لا تزال مدينة قروسطيّة تمزّقها تناقضات مرعبة . وفي شوارعها وساحاتها، كانت تتكدّس أكوام القمامة، وفي هوائها يُشتمّ روائح روث البغال، والجياد الثقيلة، وعفن البؤساء الذين كانوا يعيشون في ألأقبية الباردة،والأكواخ المتداعية. وكان الشارع الذي يقع فيه بيت عائلة باسترناك، دائم الحيويّة والحركة. وطوال النهار، كانت ترتفع منه أصوات غريبة، ومختلفة لأناس قادمين من جميع أنحاء بلاد روسيا المترامية الأطراف. وفي ما بعد سوف يتحدث بوريس باسترناك عن قوم من التتار يدفعون عربات بها خيول ميّتة لها «رؤوس جميلة وذكيّة».
وكان والد بوريس، ليونيد أوسيبوفيتش باسترناك قد ترك دراسة الطبّ في جامعة موسكو ليتفرّغ للرّسم. وعد ولادة بوريس، كان يبلغ من العمر 28عاما. وكانت زوجته، روزاليا أزيدروفنا، عازفة على البيانو. وفي اكثر من مناسبة، صفّقت لها موسكو. وبعد زواجها، تركت الموسيقى لتهتم بشؤون زوجها، وأطفالها. وكانت قصيرة القامة، سمراء، العينين بعينين واسعتين، سوداوين. وفي الحين كان الزوج نحيفا، دائم التوتّر، ومتديّنا، كانت هي امرأة هادئة، ناعمة،تشكو من مرض في القلب.
وفي عام 1892،كان ليونيد باسترناك ضمن مجموعة من الفنانين طلب منهم انجاز بورتريه للروائي الكبير ليون تولستوي لتزيين طبعة فاخرة لرواية «الحرب والسلم». وبسبب نجاحه في العمل الفني الذي أعدّه لذلك، استقبله تولستوي بترحاب كبير، طالبا منه ان يعدّ له مجموعة من البورتريهات. ومنذ ذلك الوقت، ارتبطت عائلة باسترناك بعائلة تولستوي بعلاقة وديّة استمرّت عشرين عاما.
وكان بوريس في الرابعة من عمره، لمّا شاهد من شرفة بيتهم الجديد الذي انتقلوا اليه بعد أن أصبح والده رسّاما مشهورا، موكب نقل رفاة الاسكندر الثالث من قصر الكرملين الى محطّة القطارات. وكانت الجدران مجلّلة بالسّواد. وكلّ شيء كان أسود: الشوارع، والخيول، ولباس الكهنة، وأزياء الضباط والجنود، والصّفوف الطويلة للمعزّين. بعد مرور عامين على ذلك،مرّ القيصر الجديد من نفس الشارع قادما من بطرسبورغ. وكان الموكب يتلألأ تحت الشمس بينما كانت أجراس الكنائس ترنّ في جميع انحاء المدينة.
راح الطفل بوريس يكبر وسط الموسيقى، وألوان اللوحات. وكان والده يأخذه من حين لآخر الى الأتلييه. وعندما يأتي تولستوي، كان الطفل الصغير ينظر اليه بإعجاب وحبّ. وفي عام 1898، اختار صاحب «أنّا كاريننا» والد بوريس لرسم غلاف روايته الجديدة: «يوم الحشر». ولكي ينجز عمله في هدوء، وراحة بال، عاه هو وعائلته الى ضيعته بالقرب من «طولا». وهكذا تمكّن الطفل من أن يرى عن كثب ذلك الفنان العملاق، صاحب اللحية البيضاء المهيبة، وهو يتجوّل وحيدا وسط السهول والغابات،حالما، ومتأمّلا في كنه الوجود.
وثمّة حدث آخر أثّر في باسترناك كثيرا الا وهو لقاؤه الأول بالشاعر الألماني الكبير راينار ماريا ريلكه الذي كان قدقدم الى موسكو عام 1900 لزيارة تولستوي بصحبة صديقته الجميلة، المثقفة المرموقة، لو أندرياس سالومي. وفي ربيع عام 1904، آكترى والد بوريس باسترناك بيتا في إحدى القرى الواقعة جنوب غربيّ موسكو . ومنذ اليوم ألأول لوصول العائلة، سرح الفتى في الغابة. فجأة سمع موسيقى رائعة تنبعث من مكان ما . وكانت تلك الموسيقى لسكريابين التي سيصفها في ما بعد بأنها شبيهة بـ«سقوط الملائكة». وفي الحين عاد الى البيت ليطلب من والده أن يقدمه الى صاحب تلك الموسيقى الآسرة والمدهشة التي حرّكت في نفسه عواطف ومشاعر غريبة. وهكذا أصبح سكريابين الفنّان الثالث في حياة بوريس باسترناك وهو لم يبلغ بعد سنّ الرابعة عشرة.
وذات يوم من أيّام الشتاء الباردة، وبينما كانت موسكو ترجف من البرد، والغربان تنعق على فروع الأشجار العارية، وضع الفتى بوريس أمام معلمه سكريابين مجموعة من المقطوعات الموسيقيّة التي نظّمها. فلمّا أبدى الموسيقيّ الكبير إعجابه بها، سأله بوريس: «هل بإمكاني أن اثبح موسيقيّا؟». غير أن جواب المعلّم، الذي سيصاب في ما بعد بالجنون، كان سطحيّا وخشنا. ويومها، محبطا، ويائسا،قرّر بوريس باسترناك التخلّي نهائيّا عن الموسيقى. وعندما غادر بيت سكريابين، كان الليل قد هبط. وكانت أضواء الشوارع خافتة. ومتذكرا ذلك،كتب بوريس باسترناك في ما بعد يقول: «وأنا أودعه لم أعرف كيف أشكره. ثمّة شيء كان يريد أن ينطلق منّي، وكان يبحث بإصرار عن منفذ للخروج. شيء في داخلي يبكي، ويهلّل جذلا وابتهاجا».
وعندما اندلعت ثورة 1905، كان بوريس باسترناك قد بلغ سنّ الرابعة عشرة. ولم يكن يعرف عن العالم الخارجي شيئا كثيرا. وأمام تلك الأحداث المفزعة، والفاجعة الأليمة التي عرفتها روسيا، بدأ الفتى يمتلك وعيا آخر بالناس، وبالأشياء، متطلّعا الى معرفة، وفهم ما كان يدور وراء الجدران. وخلال تلك الأيّام العصيبة، وبينما كان الفتى يجري في أحد الشوارع لمعرفة ما كان يحدث، طلع عليه جندي قوقازي شرس، وضربه بعنف، فسقط مجروح الوجه. بعدها عاد الى البيت وفي ذهنه ذلك المشهد الذي لم ينسه طوال حياته.
قبل أن يبلغ سنّ العشرين،كان بوريس باسترناك يبدو لأصدقائه وكأنه مكتمل التكوين. ومثل والده، كان يتكلّم قليلا، وله القدرة على الانسحاب بهدوء من دون إحداث أيّ جلبة.. وكان ريلكه من أوائل الشعراء الذين اهتمّ بهم، وقرأهم بعمق. بعده قرأ بلغة غوته التي كان يتقنها، كانط وهيغل. وفي نفس الوقت، أتى على مؤلّفات الشعراء الروس من أمثال أندريه بايلي، وألكسندر بلوك. والى جانب مطالعاته الكثيرة، والمتنوّعة، كان بوريس باسترناك يتحمّس للجدل الفكري، والفلسفي، وللمناقشات الأدبيّة الحامية. وفي عام 1910،ذات يوم بارد من أيّام نوفمبر -، فرّ الكونت تولستوي من ضيعته، أو بالأحرى من زوجته التي كان يحبّها، ويكرهها في نفس الوقت. وفي القطار، اشتدّ به المرض، فحمله الناس الى بيت رئيس المحطّة. وقدمت زوجته المحبوبة، المكروهة بسرعة،غير أنه لم يسمح لها بمقابلة زوجها إلاّ عندما بدأ يحتضر. وعندئذ طلبت من والد بوريس باسترناك القدوم حالاّ ليرسم صاحب «الحرب والسلم» وهو على فراش الموت. وعندما كان والده منهمكا في عمله، كان الابن ينظر شاخصا الى الكونت تولستوي وهو ممدّد على فراش الموت،يده على صدره، ووجهه هادئ هدوءا غريبا.
خلال سنوات الدراسة الجامعيّة، كان بوريس باسترناك يخيّر الذهاب الى السيرك، أو القيام بجولات طويلة عبر المدينة، أو عبر أسواق الزهور التي كانت روائحها تذكّره بـ«شيء يتلاشى تاركا الوعي خاويا». وقد قاده حبّ الزهور إلى الأساطير القديمة التي أصبحت في ما بعد منبعا أساسيّا لإبداعاته النثريّة، والشعريّة. بعد ذلك، أمضى باسترناك سنوات في مدينة ماربوغ ألألمانيّة آزداد خلالها معرفة بالفلسفة والشعر . كما أنه عرف أوّل قصّة حبّ في حياته.
بعد ماربورغ، سافر بوريس باسترناك الى ايطاليا هاربا من خيباته في الحب. وأثناء رحلته تلك، زار فينيسيا التي فتنته بجمالها الأخّاذ، وبأنوارها، ولياليها الزّاهية. وقد كتب يقول: «لقد جسّدت ايطاليا بالنسبة لي كلّ ما تطمح اليه نفوسنا دون وعي منذ فترة الطفولة».
ومن المؤكد أن رحلته الإيطاليّة كانت شديدة التأثير عليه حتى أنه لمّا عاد الى روسيا، قرّر أن يصبح شاعرا، وأن يتخلّى نهائيّا عن دراسة الفلسفة. ومثل العديد من مثقّفي، ومبدعي تلك الفترة، ساند باسترناك الثورة البلشفيّة التي اندلعت عام 1917. وقد أبدى استعدادا للدفاع عن أهدافها النبيلة، غير أنه سرعان ما شعر بالخيبة. وآنطلاقا من عام 1927، أصبح باسترناك من ضمن أولئك الذين باتوا متيقّنين من أن الثورة لم تأت بشيء جديد، وأن هدف البلاشفة لم يكن غير اقامة ديكتاتوريّة على أنقاض الحكم القيصري. وشيئا فشيئا، بدأت قصائد باسترناك تعكس المصاعب والمخاطر التي بدأت روسيا تصطدم بها في ظلّ سلطة ستالين. وبينما كان ماياكوفسكي يصرخ في المعامل، وفي مكاتب الحزب البلشفي محرّضا على الثورة، كان بوريس باسترناك يبحث في شقّته الصغيرة عن معنى الأساطير والأديان، وعن كنه الوجود، وعن بلسم لجراح ما بعد الثورة. ورغم الإختلاف البيّن بينهما،فإن علاقة حميمة جمعت بين الشاعرين. وفي حين كان ماياكوفسكي ضخما،ممتلئا بالحياة، يعطي الأوامر للجميع، ويتكلم مثل رشّاش يطلق الرصاص، كان بوريس باسترناك خجولا، وهادئا، ورصينا. وعندما انتحر ماياكوفسكي عام 1930،هرع باسترناك الى بيته وهو يتساءل عن الأسباب التي دفعته الى الإنتحار في الأيّام الاولى من الربيع: «كان ممدّدا على جنبه، وجهه الى الجدار . وكان ضخما، داكن اللون. وكان جسده مغطّى حتى الذّقن ببساط. وكان فمه منفرجا كما في النوم. ولأنه اختار أن يدير لنا وجهه بنوع من الشهامة والأنفة، فإنه كان يبدو كما لو أنه نائم، ومشدود الى شيء ما، بعيد».
مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي، تحوّل باسترناك الى «شخصيّة أسطوريّة: في بلاده. مع ذلك ظلّ شاعرا غامضا، ومبهما بالنسبة الى القراء، ومرفوضا من قبل بارونات «الواقعيّة الاشتراكيّة» المدعومين من قبل البلاشفة. وكان طلبة جامعة موسكو يحفظون قصائده عن ظهر قلب. وشيئا فشيئا، راح باسترناك يبتعد عن الشيوعيّة . ثمّ لم يلبث أن انزوى في عالمه الذاتي باحثا فيه، وفي الطبيعة عن اجوبة مقنعة، وواضحة للأسئلة التي كانت تؤرّقه. وفي مطلع الثلاثينيات أيضا، شرع ستالين في تصفية من كان يصفهم بـ«أعداء الثورة» من رجالات السياسة، والفكر، والثقافة. وخلال تلك الفترة السوداء الموسومة بالرعب، والقمع، فكر باسترنك في الإنتحار اقتداء بصديقه ماياكوفسكي، غير انه احجم عن ذلك متّخذا من الشعر بلسما لجراحه. وفي مؤتمر الكتاب المناهضين للفاشيّة الذي آنعقد في باريس عام ????، كان باسترناك ضمن الوفد السوفييتي الذي ضمّ كتّابا كبارا من أمثال اسحاق بابل،ونيكولاي ينكونوف،وايليا أهرمبورغ. وبعد أن قدمه أندريه مالرو للجمهور قائلا بأنه يعدّ من كبار شعراء العصر، تحدث باسترناك عن مهمّة الشاعر في المجتمع، من دون أن يذكر الشيوعيّة ولو مرّة واحدة. كما تحدث أيضا عن العشب،وعن السعادة،وعن اليوم الذي يتحوّل فيه جميع الناس الى فنّانين. وربما لهذا السبب، رفضت كلّ الصحف السوفييتيّة الإشارة الى كلمته: سوف أحدّثكم عن الشعر لا عن المرض. سيكون هناك دائما شعر في العشب،وعلينا أن ننحني لكي نحل على شيء ما. ومن المؤكد أن العشب شيء بسيط. لذا ليس مطلوبا منّا مناقشة أمره في ندوة كهذه . أمّا الشعر فهو المهمّة العضويّة للكائن البشري السعيد. وهو يداهمه بكلّ قوّة اللغة. وكلّما كان هناك أناس سعداء في هذا العالم،كلّما أصبح من اليسير على الجميع أن يتحوّلوا الى فنّانين».
وكان هدف باسترناك من خلال خطابه ذلك، تذكير الناس بأن هناك قضايا أخرى أكثر من قضيّة منهاضة الفاشيّة. وربما لهذا السبب، خيّر خلال مؤتمر اتحاد الكتّاب السّوفييت أن يكون أكثر وضوحا. وفي الخطاب الذي ألقاه في تلك المناسبة، هاجم بشدّة لا مثيل لها أعداء الشعر، وشعراء المديح، والدعاية الذي يكتبون قصائد شبيهة بـ«فضلات المعامل وآلآلات الميكانيكيّة».
في شهر يونيو-1936، توفي الكاتب الكبير مكسيم غوركي الذي ظلّ حتى اللحظة الأخيرة من حياته مدافعا شرسا عن آستقلاليّة الفنان. وبعد وفاته بشهرين، أعدم ستالين 16 من خصومه السياسيّين. وكان زيونيفييف، وكامنيف من بينهم. وفي عام 1937، طُرد من الحزب الشيوعي البلشفي كلّ من بوخارين، وريكوف. وخلال السنتين اللتين أعقبتا ذلك، أعدم العديد من المثقفين، والشعراء . ودافعا بالعنف الى أعلى، وأبشع مراتبه، أعدّ ستالين لائحة تؤيّد محاكمات الإعدام. ،طالبا من جميع الروس المصادقة عليها. وفي ما بعد، وتحديدا في عام 1953، أي بعد وفاة ستالين، تحدث باسترناك عن تلك المرحلة السوداء قائلا: «جاؤوني ذات يوم بلائحة طالبين منّي توقيعها. وكان محتواها يتضمّن الموافقة على المحاكمات والإعدامات الكثيرة في تلك الفترة. وكانت زوجتي تنتظر طفلا. وقد بكت من شدّة الخوف. غير أني رفضت. وفي ذلك اليوم، فكرت: هل عليّ أن أحاول الصّمود والمقاومة أم لا؟ كنت متيقّنا من أنهم سوف يقتلوني، وأن دوري قد حان. غير أني كنت مستعدّا لذلك. كنت أكره كلّ ذلك الدّم المسفوح . ولم يكن باستطاعتي أن أتحمّل حالة الإرهاب والتعسّف التي كانت قد بلغت أقصى مراتبها. غير أنه لم يحدث شيء ممّا كنت أتوقّع».
ومحاولا نسيان الفواجع التي كانت تعيشها روسيا، انصرف باسترناك الى الترجمة،ونقل الى لغة بوشكين أعمال هانس ساخس، وغوته، وشيللر، وكلايست، وشكسبير، وبن جونسون، وسوينبورن، وكيتس وشيللي. وعلى مدى سنوات الحرب الكونيّة الثانية، لم يكتب كلمة واحدة عن «عبقريّة ستالين»، و«بطولات الجيش الأحمر». لذلك وجد أعداؤه الفرصة لمهاجمته أثناء مؤتمر الكتاب السوفييت الذي انعقد عام 1948. وقد قال ألكسندر رفادييف المعروف بموالاته المطلقة للحزب البلشفي: «نحن نعلم جيّدا أن أن باسترناك عاش في ظلّ النظام السوفييتي، غير أنه شاعر فرداني. وكلّ أعماله الشعريّة والنثريّة غريبة تماما عن المجتمع السوفييتي. لماذا اذن نسمح لأنفسنا بتمجيد هذا الرجل، والثناء عليه خاصّة وأنه حرص دائما على رفض ايديولوجتنا، وتعاليم حزبنا». غير أن باسترناك لم يردّ على هذا الهجوم المتعمّد، وحضر أشغال المؤتمر وهو صامت.
في شهر أبريل-1954، أصدر باسترناك في إحدى الجرائد خبرا أعلن فيه عن قرب صدور روايته «الدكتور جيفاكو» ، وصرّح قائلا: «سوف تكون هذه الراواية جاهزة تماما خلال الصيف القادم. وهي تروي الأحداث التي وقعت في روسيا بين 1903، و1929. بطلها الدكتور يوري أندريفيتش جيفاكو. وهو رجل حالم، يهتمّ أساسا بالمسائل التي لها صلة بالفن والإبداع عامّة. وهو يموت عام 1929 تاركا دفاتر، وملاحظات، وقصائد شعريّة عديدة كان قد كتبها في سنوات الشباب»
قبل ذلك بعام، أي في عام 1953،كان ستالين قد مات. وقد اعتقد البعض أن الرقابة سوف تشهد انخفاضا. وبذلك تمكّنت دور النشر من اصدار بعض الأعمال الشعريّة والنثريّة التي تنتقد النظام باحتشام كبير. وعلّى ذلك هو الذي شجّع باسترناك على ارسال روايته المذكورة الى هيئة الرقابة، غير انه سارعت برفضها، واصفة بطل الرواية، الدكتور جيفاكو، بـ«المتردّد، والضّائع، والجبان». ولم يتفاجأ باسترناك بهذا الجواب القاسي بل دفعه نزولا عند رغبة الأصدقاء، الى مراجعة بعض الفقرات والفصول، بهدف تمكين القرّاء الروس من الاطلاع على الرواية. وبسبب المرض والتعب، طلب من صديقه زيلنسكي القيام بذا العمل. وخلال صيف عام 1957، نشرت مجلة «أسبرسو» الإيطاليّة فقرات من الرواية تتضمّن ملاحظات الدكتور جيفاكو عن الثورة البلشفيّة، وعن ارهاب سنوات الحرب الأهليّة. وحالما وصل الخبر الى السلطات السوفييتيّة، تحركت أجهزة المخابرات والرقابة، لتشنّ هجوما عنيفا وقاسيا على باسترناك واصفة ايّاه بـ«العميل»، و«الدجّال». غير أن الشاعر الكبير الذي كان قد بدأ يشيخ، ويتعب ظلّ هادئا وصامتا كعادته. وفي عام 1958،صدرت الطبعة الفرنسيّة للرواية. وكان على باسترناك أن يجيب على أسئلة عديدة وجّهها له القراء الفرنسيّون والإيطاليّون. وفي ذلك الوقت،كان يمضي وقته في العمل، وفي التجوّل في الغابات. وكان ايمانه الشديد بالشعر يساعده على مواجهة موجات الحقد، والكراهيّة، والحسد. وفي نفس العام المذكور، صدرت الرواية باللغة الإنجليزيّة في كلّ من بريطانيا، والولايات المتحدة الأمريكيّة.. وبذلك وجد الأعداء الفرصة سانحة لشنّ هجوات يوميّة عليه.
وفي 23 أكتوبر -1958، أعلنت الأكاديميّة السويديّة عن منحها جائزة نوبل للآداب لبوريس باسترناك، فزاد ذلك في غضب السلطات السوفييتية. وفي الصحف والمجلاّت الرسميّة صدرت مقالات تصفه بـ«الثعبان»، و«العشبة الفاسدة»، موحية للقراء أن روايته جزء من مخطّط كبير يستهدف النيل من الشيوعية، ومن النظام السوفييتي. ومرة أخرى، ظل باسترناك هادئا وصامتا، منزويا في ضيعته، مراقبا المشهد المخيف ببرود، ولامبالاة. والذين زاروه في تلك الفترة، لاحظوا أنه لم يكن يتحدث بحماس عن أعماله الشعريّة، أنه كان يردّد أن روايته «الدكتور جيفاكو» هي التي تمثّله أحسن تمثيل.
مات بوريس باسترناك في بداية صيف 1960. وقد رفضت السلطات الرسميّة حضور جنازته. غير أن مئات المعجبين بشعره، وبشخصيّته النبيلة كانوا هناك لتوديعه الوداع الأخير. وقبل أن يوارى جثمانه التراب، ألقى صديقه شوكوفسكي خطابا مقتضبا قال فيه: «سيظلّ بوريس باسترناك واحدا من أعظم شعراء اللغة الروسيّة. إنّ خلافه مع العصر الذي عاش فيه لا يخصّ الدولة وحدها. لقد كان يحلم بمجتمع مغاير. وخطأه هو أنه سعى الى السير في نفس الطريق الذي سلكه تولستوي رافضا الإيمان بضرورة القوة لمواجهة الشرّ. وداعا بوريس باسترناك.. . نحن نشكرك جميع!». بعد ذلك تقدّم طالب،وأنشد في خشوع قصيدة «هاملت» الواردة في رواية «الدكتور جيفاكو» والتي يقول فيها باسترناك:
سَتَسْكُن الجلبة، وأقف أنا على الرّيح،
أسند ظهري الى دعامة الباب
وبعيدا أسمع الصّدى المخنوق
لكلّ ما يحدث في زمني