ماجد الفارسي
كعادتنا، نبحث عن الهدوء والسلام ويعمّنا الصخب؛ صخب حاد يجبرنا على تجديد لقائنا اليومي. يشاركني أخي عبدالعزيز دومًا بقوله: “ما يجمعنا سويًا هو الصبر يا ابني”. يعلم كل منّا مدى صبر الآخر -وإلى حد ما- ليس هنالك وجه مقارنة بالتأكيد، فكلانا يعلم بعضا من مسؤوليات الآخر. رغم فارق السن بيننا، إلا أنني أدرك تمامًا تكوّن مفهوم الصبر لدى أخي، مثلما أدرك طاقته التي سخّرها ونمّاها في حبّ الناس، وهو ما زاده شغفًا في حبّ مهنته طامحًا في تعلّم المزيد؛ إذ يكرر دائما أنّه تلميذ كل مريض في الحياة.
التوجّس الذي كان يحمله عبدالعزيز دائمًا هو التجرّد من إنسانه الحقيقي، مثلما يعي تمامًا أن طبيب السرطان بالذّات يمرُّ بلحظات يعتقد فيها أنه أمام مريض صعب، وربما يكون متطلبا. وبذات إنسانه السخي سرعان ما يتدارك نفسه باستيعاب مخاوف المريض ومصادر قلقه؛ أهمها أن يكون مسؤولًا عن أشخاص آخرين؛ أطفالًا كانوا أو عجزة، والخوف من الرحيل فيجد نفسه متشبّثا بالحياة أكثر. هنا يستدرك أخي قائلا: “في هذا السياق فكرة أصعب، قيمة الحياة نفسها ولمن أعيش؟ أعيش لنفسي أم للآخرين! الأهم من هذا كله، دائمًا لا تنسَ: المريض إنسان ولكل إنسان حياة، ولكل حياة اعتبارات خاصة، كلها دوافع، الدوافع هي خلاصة الموضوع”. لا أستطيع نسيان أو حتى تجاوز تلك النبرة الهادئة، الحادة في عواطفها، الملأى بالاشتياق، المسكونة بالذكريات، تريد إضافة المزيد، لا مزيد، ربما هي الدوافع.
يقينا لا يمكن إخفاء نبرة صوته الممزوجة بالألم، موحيةً بانعكاسات قصّة مختلفة مع كل مريض يتابع علاجه أو يعاني فقده. ترسّب منها في ذاكرتي ما يكفي ليدفعني للنظر باستمرار في ماهية الأمل مجابهةً للألم . أستذكر منها قصة مريض في عزّ شبابه، كان له أثرٌ خاصٌ في طبيبه (عبدالعزيز) رغم صغر سنّه، أصيب بسرطان يعد نادرا نوعا ما، بدأت خطة العلاج، كانت مبشرة مبدئيا، شفي في مرحلة ما، استرجع المريض ثقته بنفسه، واستعاد والداه روحهما مرة أخرى. كل الحرص والقلق المعجون بالتفاؤل يبدو واضحا في وجه أخي، أصبحت قصة الأمل وأحداثها المستمرة جزءا من صخبنا اليومي، ينتابني الفضول دوما لمعرفة الجديد عنها، يبادرني بقوله: “أصبحت جزءا منا الآن أيها الفضولي، ماذا تودّ أن تعرف أكثر؟ لك أن تتخيل أن مريضي قدم إلى عيادتي بنفسه دون مرافق، أخبرني أنه قرر الزواج، لمست السعادة فيه صدقني”. لا أنكر سعادتي وقتها أيضا، همست لنفسي: “نحن بحاجة إلى كفاحٍ أيضا كي نلتمس سعادتنا”. ظننت أن كل شي انتهى عند ذلك الحد، بدت لي قصص الصراع مع السرطان كقصص الرسوم المتحركة، نتابع خلالها مثابرة بطلَيْها (المريض وطبيبه) ليرسما نهاية سعيدة عنوانها الكفاح من أجل البقاء.
بعد فترة قصيرة، قبل الغروب، وعلى غير المعتاد قررنا أنا وأخي اللقاء في مكان مختلف. الهدوء يسكن المكان، والظلام يدركنا ويدرك المكان شيئا فشيئا، لم نحتسِ القهوة بعد. شعرت بوجود قصة جديدة أعبئ بها عقلي، أستنشق جرعاتها لأمضي قدما. رغم فضولي لم أنطق وقتها، باشرني على غير العادة: “اشرب قهوتك، لقد ساءت حالة مريضي مجددا” تريث قليلا، ثم تماسك مرة أخرى، رغم تلك الدموع الفاضحة، وواصل متمالكا نفسه: “إن التعويل على الأمنيات قد يغدو جارحا، والحلم مباح”. لم أتمالك نفسي أيضا، ازداد الصمت عمقا، ظللت أنظر إلى انعكاس وجهي في كوب القهوة وإلى انعكاسات الأسى بيننا.
تأخذ المشاعر حيّزا تراكميا بمرور الوقت، استشعرت فيها نهاية المطاف، وقتها مضغ التراب كل الأمل مجددا. بلغني خبر وفاة مريضه، رفعت السماعة لأستشف منه صحة الخبر، كانت المكالمة مشحونة بصوت الفقد، كل ما أتذكره حينها تلك الكلمات منه: “عند وفاة كل مريض يموت جزء مني، أما اليوم لا أشعر بشيء صدقني. في تصوركم أن طبيب السرطان قد يحمل في طياته الأمل فقط، وتتناسون أنه رفيق الموت أيضا”. لم أجد إجابة حينها سوى أنك أبليت بقدر ما تستطيع، وكل شيء يعول على الصبر كما علمتني، تحيةً تليق بصبرك يا أخي.
في أحيانٍ كثيرة، أصادف من يحدثونني عن حكايات أخي في أروقة المستشفى، يبدون إطراءهم عليه، علمت وقتها أن ما يدهشهم ليس كثرة الاهتمام أو المبادرة، وإنما ابتسامته في وجه الجميع. ظلّ يحاول جاهدا ألاّ يعبس أمام المرضى، يتكبد الكثير لصنع الفرق بابتسامة من قلبه، يبذر الأمل، يندمج مع آلامهم، ويقاتل معهم، حتما لا مكان للاستسلام هنا. أهناك أمل؟ نعم خلف هذه الابتسامة أمل غزير وحبٌّ للحياة. بين حين وآخر، يتصل عبدالعزيز بذويهم ليشم الرائحة لا أكثر كما يقول، هل كان للغائبين رائحة فعلا؟ لعله كان يتجاوز حالة انهيار الذكريات ومن مضى، ليجد معظمهم قد تجاوزوا تلك اللحظات الصعبة، بينما بقي هو مسجونًا فيها، يودُّ قول الكثير ولكن! ربما هي الدوافع مرة أخرى.
ترى هل نؤتى من الدوافع ما يكفي لتجاوز جبال الذكريات بيننا يا أخي؟ هل يمكن لتواصلنا بمتعلقاتك الصغيرة وذكراك الخالدة عبور لحظة الفقد وعمر الغياب ونحن الذين ما زلنا نتكئ عليك لتجبر كسر كل منا، وتقيم عثراتنا باستزراع الأمل في لحظة اليأس والاستسلام؟! هل ننجو من سجن الذكريات ومن مجابهة الموت؟!
حين نستحضر حيواتنا كإخوة، نجد عبدالعزيز رمزنا الأسمى في الترابط والتلاحم، في الحب والسّلام، وفي التآلف والعطاء. يجمّل اللحظات العائلية حتى العابرة منها، ويجمع شتاتنا في المريرة منها. كان أشبه بقامة تمتد عاليا في السماء، رافعين رؤوسنا خلفه، ماضين إلى الطريق؛ ليس لأنه أكبرنا أو ألمعنا، بل لتلك الروح المميزة بيننا، الباعثة للمحبة، المفرطة بالإنسانية، تسد الفراغات بنبضاتها، لتحتوينا جميعا في السرّاء والضرّاء. إن الميزة الأساسية التي طبعت عبدالعزيز بيننا هي حسن الاستماع والإنصات؛ إذ يشد انتباهه بهدوء حولك، يترك مشاغله وراءه ليعيرك كل اهتمامه، يصغي إليك بجميع جوارحه، يحادثك ويحاورك بكل عمق، بنبرة صوت يغلبها السكون وهي أقرب للصمت، مستنبطين من صمته الكثير من المعاني، فالصمت قالبه في الإصغاء والمشاركة والاهتمام والتضحية.
ناهيك أيضا عن دقة ملاحظته، وهي ما صنعته كاتبا مختلفا، معتنيا بأبسط التفاصيل لينتج لنا كلمات بلون آخر. ولا أذيع سرًّا إن تحدثتُ عن حبه للفكاهة والبساطة وتجسيدهما في سخرية أحيانا، كان يردد لنا دائما: “الحياة الشناصية علمتنا الكثير، ولدنا هنا وسنعود هنا”. ربما أخذت شناص وحكاياتها حجما في كتاباته وسرده، إلا أنها في الواقع قد أخذت حيزا أكبر من حياته، بداية من بيتنا، وانتهاءً بكل ما لا يُلتفت إليه. نعرف هذا الولاء جيّدا منذ تأثره بجدّه حياةً ومماتًا، ليحمل أغلب صفاته. وفاة جدّنا بالسرطان في ذلك الوقت أطمحته بأن يكون طبيبا، ودفعته لعشق القلم والتدوين منذ أن كان في الرابعة عشرة من عمره، كما تركت أثرًا واضحا في عمق كتاباته وشخصيته أستدلّ فيها بكلمات سطّرها في العدد 315 من ملحق شرفات الثقافي لـ (جريدة عمان) الذي نشر في 14 من يونيو 2011م :
“غاب جدّي لأبي مخلّفًا أثرًا لا يمحى من حياتي. كان ذلك أول احتكاك لي مع السرطان، ولعله أول موجّه لي لأكون طبيبًا متخصصًا في طب السرطان.. فقد رأيت سرطان الرئة يحول الشيخ ماجد بن محمد الفارسي إلى كائن آخر لا تفارق صورته ذاكرتي أبدا.. كان جسده قد توقّف عن مقاومة المرض، ورأيت لأول مرة في حياتي رجلًا قويًا لم يقبل الهزيمة في حياته، وهو يتلاشى أمام الغياب الحتمي للجسد. أي رعب أكثر من رعب الغياب هو ذاك. لم يزل ذلك المنظر يشعرني بالحزن كما أنه يحدث الآن من جديد”.
لم يكن ذلك الحافز الوحيد في شغفه بالطّب وولعه بالكتابة، فقد بدأت علاقته بالقلم تترسّخ بعدها أكثر في دربه عندما علّمه والدنا كتابة الرسائل والمخاطبات الرسمية، أخبرنا كثيرًا “لا يمكنني نسيان كلمات أبي الداعمة لي حينما قال سأفديك بدمي كي تحقق حلمك وتصبح طبيبا”. عشقَ القراءة والمشي منذ صغره، وعلى الرغم من تضادهما إلا أنهما كانا عاملَيْن كفيلَيْن بصُنع قلم متفرد لا ينضب؛ القراءة كانت غذاءً لعقله والتجوّل متأملا أضفى إليه معطياتٍ كثيرة، كلاهما عادتان لازَمتاه في حياته، وصارتا جزءًا منه لا يتجزأ، لتدخلا في تكوينه الاجتماعي والفكري.
قبل فترةٍ وجيزة، في جلسةٍ غرقنا بها في الذكريات، أبلغنا أخي بحنينه إلى تلك الأيام، وأنه استغنى عن التجوّل مؤخرا قائلًا: “أبي، أمي، إخوتي، لا حاجة للتجوّل كثيرا فأنتم جعبة حكاياتي”.
رحلت يا أخي وتركت متاهةً من مشاعر حزينة تقتاد خُطانا اللاهثة!! أحقا غادرت تلك الروح النقيّة؟! وهل الرحيل مباح؟! أحقا دخل الدبّ سباته ولن يعود؟! ما أوجع الدقائق حين تمرّ من دونك؟! أتترك أرواحنا تشيخ وتهرم؟! هل نرثيك أم نرثي أنفسنا بعدك؟! ما أقسى صمتك؟!
الحقيقة المُرّة هي أنه مهما استحضرنا أنفسنا من دونك، مهما صرخنا بأعلى صوتنا أو بكينا، مهما فقدنا أو توجّعنا، مهما تألّمنا أو شقينا، مهما انكسرنا أو خُذلنا، مهما كرهنا أو بغضنا، مهما تعبنا أو مرضنا، مهما استوحشنا ولم يصل بوحُنا، مهما تساءلنا ولم نجد إجابات، سنظلُّ نعيش شجن هذه الأغنية التي نسجتَها بحروفك فينا ولنا، علّنا نجدك فيها:
“بيتنا رواية عالمية، أبطالها لا يتكررون، ينسجون التاريخ الجديد، يؤثثون النسيان بأصواتهم وسكناتهم الغرائبية.
علّنا نكتب حياة لا تُنسى، سنجبُّ ما قبلنا من سرد.
نحن لا نموت، نحن نُعيد للجنون هيبته، نمنحه الوقار.
نحن الحروف التائهة، ضجيج الصمت، لعنات الغبار .
نحن الألحان الضائعة، نعزف على أوتار الموت حيوات جديدة .
فليشرب هذا الزمان نخبنا.. فليشرب ويرتوي..
مُت يا زمان.. مُت.. سنظلُّ نحن أحياء……”