أحب دمشق.. ليس لي من الذكريات الحميمة، شخصية المعنى هناك: سوى القليل مما يجرح القلب او يوتر الحنين. لم اقطن بيتاَ من الحجر القديم واحواض الياسمين في القصاع ولا الشاغور ولم أترك في قلب دمشقية أثراَ لحبٍ قد تجود به المسافة بين ركن الدين واول السفح الجميل لقاسيون. لم اكن يوما دمشقياَ الا بذلك القدر العظيم من الرغبات والمجازات، وما تجترحه الروح من أمنيات وهوى.. كنت جار المكان القريب: اطل على دمشق كما يطل الجار على جاره في الحديقة، فيلقي عليه السلام، ويسأله، بعد قهوة الصباح، عن سرً النضوج المبكر للثمار الموسمية: كيف تبدو اليوم كاملة النضارة قبل موعدها؟ من اين يأتي التين الشامي بهذا المذاق الرفيع.. كيف تحمل اشجار الليمون اكثر مما تحتمل؟ فيضحك الجار، لا يوضح أو يجيب، بل يغني، كما كان يفعل: منذ ما قبل الحروف والتاريخ، لفتنة الشام.
لم اكن سوى المسافر الموسمي في دروب الشام: يحملني الهوس الغريب ببيت الجيران اليها. يحملني النداء الخفي.. العصيً على التفسير، الى صدرها البهي، فأذهب فيها: هنا قرب الجامع الأموي: ارى التناغم الفطري بين بيت الله والحيوات على الطريق. افتش الكتب القديمة، تحت سوره الشرقي، عن كتبٍ قد أجدها. أحاول من هناك، الوصول، عبر شارع ضيق بلا اسم، الى شارع كبير الاسم والمعنى في دمشق، وأفشل، أحاول مرة اخرى، وأفشل.. لاعرف، بعد اقل من نصف ساعة من المشي الفضولي البطيء: بأني وصلت لشارع المتنبي. الى حيث لا اعرف عما كنت أبحث وماذا أريد، عن فوضى الشارع الطويل وما تقدمه محاله التي لا تُعدً… عن مقهى على الرصيف.. أم عن أي شيءِ يُذكرً بالاسم الشهير ويبتغيه: (كأني من الوجناء في ظهر موجة… رمت بي بحاراَ ما لهن سواحل) . اردد بيت الابدية ذاك، وأواصل البحث عن الشاعر الابدي في المكان… لا شيء يحيل عليه في هذا الشارع العادي سوى اليافطات: شارع المتنبي. مقهى المتنبي . مكتبة المتنبي. او لعلني، انا الذي عجزت،عن التقاط تلك الاحالات.. لعلها، في كل زاوية هناك ولم اجدها، فكيف يمكن للمدينة ان تكف عن الذهاب العذب في روح شاعرها؟ كيف تترك وصفه البديع لها في هذا البيت وتستريح: (لها ثمرٌ يشير اليك منه بأشربة وقفن بلا أوانِ)؟ يستحيل.. لن تكف دمشق يوماَ عن استحضار نفسها، لن تفاضل بين ثمارها التي تشير اليك، وهذا الابد المٌعلق، على شكل صورة قبيحة للاب القائد، في كل زاوية وشارع… لن تكف دمشق عن نفسها، ولن اكف انا عن متعة التجوال في نفسها التي احب، فأرجع من جديد للمرور بدكاكين الحميدية العتيقة، ادور من حول الجامع الاموي،وأتابع من هناك الى ضريح الشيخ محيي الدين في الحي الشهير.
كتاب (الجلال والجمال) هو المكان، استعارة قصوى لعشق الهي لا تخمد ناره، ولا يكشف للعابر مثلي، بيسرِ، عن اسراره الدفينة، تلك التي فتشها الشيخ: فكرة تلو الاخرى، وأودعها دمشق: دمشقه العالية مثل لحظة الوصل الاخاذة بالمعشوق. دمشق المأخوذة بجلال امسها الطويل الطويل: دمشق محيي الدين بن عربي: انصهار المخلوق جمالياَ بخالقه الوحيد . دمشق المتنبي: نزق القصائد والحياة ولا نهائية الرغبات.. ودمشق هذا الضريح الفقير: الوجوه تحج صوب الامنيات، تقاسم الشيخ اسرارها، تبوح له، وتستغيث. دمشق: ما أود ان اكونه انا فيها قرب الضريح، على الطرقات، امام القهوة العربية شبه الساخنة. في ظفائر البنات اللواتي تحلقن، مثل الحمام، على الرصيف.. امام هذا الليل.
لا اعرف الكثير عن ليل دمشق.. لا لأن الاماكن تخلق ليلها الشخصي وتملي،دائماَ، شروطها عليه، او تغيب هي في اقتراحاته التي لا تٌردً. ليصير ليل المكان، والحال هذه، هو المكان: حالة قصوى من التوحد الفطري بعيد المنال.. ذاك الذي لا يمكن للغريب سبر أغواره في ليلة او ليلتين. لا، ليس لهذا السبب المقبول لم أعرف، كما احب، ليل دمشق. ولا لاني تمنعت عن مواصلة السير واكتشاف المزيد من مشاهدها الليلية الكثيرة، فقد فعلت وحاولت، بل لأن الليالي التي قضيتها فيها لم تكن، في كل مرة أتيت فيها دمشق، لم تكن تكفي لاشباع ما أريده، عادة، من الليل في الأمكنة التي أجيء… كنت الجار القريب كما اسلفت، أعود الى الشام حين أعود من فيينا الى عمّان، حين تحملني المواسم والحنين الى بقايا الاهل في الزرقاء او الضواحي الجديدة للعاصمة الاردنية، أذ لا بد لي، حينها، من عبور الحدود الرديئة والبليدة الفاصلة بين البلدين، وكأني لا اقوم،روحياَ، مع احتساب الوقت الاضافي للطريق وسخف الحدود، سوى بالتنقل المعتاد بين مختلف المدن الاردنية، فالشام هي الامتداد الطبيعي، هي مركز ذلك الامتداد الطبيعي للجغرافيا والبلاد التي تحمل اسمها، الى كونها: حاضنتها الثقافية الاهم ايضاَ.. لهذا، اعود في كل مرة من عمان الى دمشق، ولهذا: لا اعرف عن ليلها ما أعرفه عن الليل في المدن التي عشت فيها طويلا، او تلك التي أزورها لمرة واحدة وأقتنص، بلهفة الغريب الذي: قد لا يعود مرة اخرى اليها، اقتنص، او احاول: ما يقدمه الليل، دفعة واحدة، من اسراره هناك. ولكن دمشق: ليست مدينة لزيارة واحدة، وهي ليست مدينتي الاولى او الثانية ولا الاخيرة، انها المكان الذي ترجع في كل مرة اليه وتقول: سأرجع بعد عام او ربما اقل. سأفتش ليلها عنها في المرة القادمة، قد اشاهد ما لم اشاهده اليوم. قد، وقد.. فأرجع مرات اخرى اليها وأكرر الأمنيات عينها، ولا افتش ليلها عما اريد، بل اتابع التجوال من حيٍ هنا، الى اخر هناك، لادخل، بعد العاشرة ليلاَ… دائماَ بعد العاشرة: بيت الصديق الدمشقي في قلب حي الميدان، وأكمل الليل هناك حول مائدة شامية الاصل والمذاق.. امام الكثير من العرق المحلي الصنع.. في استحضار طقسي للحكايات والرغبات واللعنات والبوح الحزين:- تعال الى النافذة. يقول الصديق، فأذهب خلفه، خلف اصابعه التي تمتد، بحذر غريب، عبر النافذة:- أترى البيت هناك، بيت جيراننا… جاء العديد من رجال الأمن اليه، قبل عام ونصف تقريباَ، وأعتقلوا سمير.. ولا تعلم عنه العائلة اي شيء يذكر، لعله في سجن تدمر الآن، او ربما في حفرة جماعية ما قرب السجن، لا أعرف… المهم انهم أخذوه …
– اخوان..
– لا، يسار، من جماعة رياض الترك كما اظن، ليس مهماَ، المهم هو فكرة الاعتقال بحد ذاتها، ان تُسجن او تموت لانك لا تفكر او تعيش بحسب اللوائح المقدسة التي أعدها الحزب القائد والاب القائد والعائلة القائدة….
– سمعت الكثير عن مرض الرئيس، قد يختفي من المشهد السوري قريباَ.. وقد ..
– وقد ماذا.. سيخلفه ماهر او بشار.. أمر الخلافة محسوم تماماَ عندهم، ولن يتبدل الكثير، قد يجيء الوريث الجديد ببعض الوعود، وقد يحدثنا عن الحريات ونوايا الانفتاح على العصر.. ولكن الامور، على الارض، ستبقى على حالها بلا شك، فالمشكلة هي في ثبات هذا النظام الامني وغياب قدرته على التغيير، وليست في الاسم القادم للرئيس.
لا تنام دمشق، ولا انام انا، هي الغارقة، بلا انقطاع، في انشغالاتها العادية وهمومها الخفية، وأنا الغارق، الى ما بعد شروق الشمس، في الحكايات الحزينة التي يقصها الصديق الدمشقي عليً … حكاية تجر حكاية اخرى وتبعد النوم عنا… كيف يمكن للزائر الموسمي مثلي ان ينام في دمشق.. في الميدان.. في بيت هذا الصديق المكلل بالمتاعب والامنيات:- كأنيً، منذ معجزة الخروج من السجن قبل وقت قصير، كأنًي، يضيف سميح نشوان:- لا انتظر شيئاَ سوى المعجزات، وحدها المعجزات كفيلة باخراج سوريا من كهف الظلام الذي ترزح في جوفه… من اين ستأتي المعجزات، لا اعرف، ولا تعرف انت…
لم نكن نعرف حقاَ من اين ستأتي المعجزات… كيف يمكن للدمشقي الذي اعتقلته مفرزة امنية خاصة بعد حوار عادي في المقهى، بتهمة التحريض، ان يحلم بمعجزة ما، لا تعيده للسجن من جديد؟ كيف يمكن لسميح، وهو الشاعر الأنيق، ان يكتب عن الغد الاجمل.. او الشمس.. عن مدينة بلا اسوار، ان يغازل الافق؟ كيف سيكتب عن رغبة الادمي بالحب وأنعتاق الروح والجسد.. ولا تأتِ المفارز مرة اخرى وتأخذه، بتهمة الحلم، الى المجهول؟؟ وكيف لي، انا عابر المكان من حين لاخر، أن ارصد الغيب وهدير المعجزات؟؟
لم نكن نعرف، في تلك الليلة الباردة من ديسمبر 1999، شيئاَ عن اليوم.. سنتابع احتساء المزيد من كؤوس العرق المحلي.. ننام لساعات قليلة فوق ارائك الصالون البسيط… ثم نصحو على النداء الاثير لقهوة الزوجة الشامية اللطيفة، تحملها وتسأل، هي الخبيرة بطقوس زوجها، عن اوجاع محتملة يتركها عرق الليل الكثير في أعلى الرأس، وتذهب.. تعد مائدة من حواضر البيت الدمشقي الشهيرة، وتسأل مرة اخرى عن الاوجاع: لا شيء سوى وجع الوقت، أقول لها.. لا شيء سوى رغبتي بالبقاء لايام اخرى في دمشق، وجع السفر: هو ما احس به الآن، وعليً ان اسافر، ولكني سأرجع.. هكذا هو امر العلاقة مع دمشق: اجيء وأذهب.. أفتشها في كل مرة عن نفسها.. انجح مرة وأفشل مرات، وأحبها في الحالتين.
– 2 –
مات الاب القائد في العام 2000 وجاء الوريث محمولا على عرش الأكاذيب الكبيرة الى سدة حكمه، لم يدخر، بداية، وهماَ الا واطرب شعبه به، ولم يترك في فضاء الشام حلماَ الا وداعبه:- اصلاح ما خربته الايام في البلاد… الانفتاح.. حرية التفكير.. تخفيف قبضة الدولة عن الحياة – الى اخر الوعود التي قد تعيد الامور الى نصابها المفقود، وربما: تردً للآدمي آدميته.. ربيعه وربيع مدينته، وما هي الا اشهر قليلة، فعلاَ، على وراثة الوريث لعرشه، وصارت وعوده العظيمة تحمل صفة الربيع، وصارت دمشق: قلب المكان البديع، هي الرافعة المركزية للفكرة الصارخة، فهو ربيعها الاول: رديف الامل ولا حدود الامنيات … صارت دمشق هي الامل .. تغازله بالقليل من الرغبات والكثير من الحذر وتهتف باسمه .. بعذوبة العيش الذي سيحمله الى ارواحها .. الى يومها، امسها، والقادم من أيامها .
في دمشق نهايات العام 2000، وعلى امتداد الاشهر الاولى من العام 2001: حلً الامل.. سار مثل فكرة شبقية الايحاء في مجرى الجسد: في عروق المكان والاحياء، في بيوت الناس حيث سيلتقون ويعلنون، للمرة الاولى، عن حقهم باكتشاف الحلم وأعادة ترتيب البقاء.. تسلل الربيع الدمشقي الى الازقة والساحات: تلك التي لم تعرفه او يعرفها من قبل، كما تسلل للقصائد والاغنيات وأخبار الصحف الرسمية، صار الربيع مفردة جديدة المعنى وغير محايدة بتاتاَ في نصوص الشعراء والكتاب، وعلى الكثير الكثير من الالسنة.. صار الربيع مجازاَ للأمل .. وهو الذي سيحمل في دمشق، آنذاك: مهمة رفع المكان واهله الى مراتب ثقافية واقتصادية، كما هي سياسية واجتماعية نادرة وعصية، من قبل على التحقيق: مراتب الحرية المحمولة على كفي الوريث الجديد .. المبشر.. محرر الزمن السوري من عسف ابيه، من شتاء المكان الطويل: فصل السنة الوحيد في البلاد .
حل ربيع دمشق.. حراك دمشق.. احلام دمشق.. امسيات البحث عن افق يبشر بالنجاة، وحلت الضحكات والنكات، القليلة عادة، في الكلام الكثير المتدفق هاتفياَ بصوت سميح نشوان: – لا اراهن عليه.. ولكني لا املك سوى الرغبة بالفرح .. عليً ان افرح وأن اصدق هذا الوريث وهذا الربيع..
– وأنا ايضاَ لا اراهن كثيراَ عليه… ولكن حضور الامنيات القليلة المتواضعة افضل من غيابها الكلي…
– لهذا سأفرح.. وهاأنذا اشارك القوم ما يعملون على تحقيقه.. وأكتب، أسمع هذا المقطع: (أمسك المفردات.. واحدة تلو اخرى: الربيع، الليل، الغناء
الغياب.. الامل ..
أعلقها فوق باب البيت .. وأنتظر
قد يمر الربيع من هنا.. او يدلف الباب
قد يحط الليل.. الظلام الذي ألفت
قد يزين الغناء صباحات المكان
او يعود الغياب .. اخشى الغياب..
وأرتل، بصوت العليل: تعاويذ الامل ).
ها هو الربيع .. او قلق انتظاره في القصيدة قلت لسميح،
– في القصيدة وفيً، فينا جميعاَ الان .
أشد سماعة الهاتف لاذني اليسرى بقوة اكثر، وأطلب من سميح ان يعيد قراءة المقطع الجميل مرة اخرى، فيفعل .. نتجادل لوقت ما حوله.. حول هذا وذاك من امور الشام… نضحك مرة او نصمت مرات، ثم ننهي المكالمة التي دامت طويلا في ذلك المساء البارد يوم الثالث من يناير 2001.. أذكر تلك الليلة جيداَ .. عليً ان أذكرها وسأبقى: لا لأن ربيع دمشق هو السبب، ولا لندرة المكالمات مع سميح، فهي كثيرة، بل لمكالمة هاتفية اخرى وفي الوقت الصارم من الليل.. حين تنذر رنات الهاتف بالمزيد من الهواجس واسباب القلق .. حين لا تعرف حينها: ماذا عليك فعله.. وكيف أن عرفت؟؟
ماتت امي تلك الليلة.. هكذا فجأة ماتت.. وهكذا صار عليً ان اشدً الرحال مسرعاَ الى بيتها العتيق في الزرقاء .. فرحلت، ومكثت لأشهر ثلاثة متواصلة هناك.. كانت الرغبة بالبقاء في الاردن، لا اعرف لماذا؟ اكبر بكثير من ضرورات العودة للبيت في فيينا.. وبقيت، لاعود، كما أعود دائماَ من هناك، الى دمشق .
لا جديد على الحدود البليدة بين الدولتين.. الجنود يتابعون طقوس التحديق عديم اللباقة في الوجوه، ويفتشون، كالباحث عن فريسة في جوازات السفر… وعلينا، نحن المتهمين بشيءِ ما، ان ننتظر ونعدً احتمالات التورط في المصائب التي قد تجيء بلا سبب منطقي، او لا تجيء !!
لا شيء في الغرف القبيحة للحدود يدل على الربيع
لا شيء في درعا يدل عليه
لا شيء على الطريق الى دمشق
ولا شيء في دمشق …
كان الشيء الوحيد الجديد الذي يقترحه المكان بعنف عليك،هو الصور الانيقة للوريث.. صور بأحجام عديدة تتسيدً المشهد.. صور القائد الشاب تجاورها، بحكم الوراثة والولاء الاسطوري: الكثير من صور الأب القائد.. الكثير من صور الابن الذي: ردً ربيعه المفترض، وبسرعة ضوئية، الى مكانه المعهود في سوريا: الى شتاء الحزب والعائلة..الى عكس الحياة وعكس منطقها: الى امسها..
لا ربيع في دمشق .. فالنظام، قال سميح الذي زارني معزياَ قبل اسابيع في الزرقاء:- هو النظام، لا يستطيع القفز خارج جلده، فهو يعرف جيدا ان خروجه يعني نهايته.. لم يكن الربيع سوى فسحة للتأمل، او الكتابة عن الامل وليس تحقيقه.. وها هي الامور وقد عادت لنصابها، وعدنا نحن الى ما كنا عليه: مديح المعجزات وانتظارها .
أدور مجدداَ في شوراع المدينة التي احب.. ابحث عن اللاشيء، او ربما عن كل شيء يثير شهوة اللقاء المستعاد بأمكنة لا تغيب الا لتحضر من جديد.. وأتابع ما أعتدت على القيام به حين احط الرحال في جنباتها: أمر بالمتنبي.. شارعه الكبير، بالشيخ محيي الدين: الهية التكوين هي الروح يقول الشيخ.. الهية الاحزان اكرر من خلفه، الهية المواجع تبدو المدينة الخارجة، لحظات مؤقتة، من كهوف الامس الى متاهة الحاضر… هي دائما َ حزينة .. كانت كذلك حين مررت بها في المرة السابقة، وهي اليوم حزينة ايضاَ .. لعلها تترقب امرا ما.. ربما تبكي ربيعها الخاطف.. ذلك البرقي، وقد تعود الى التماثل القسري مع سياقها المعتاد وتستكين لفكرة المعجزات؟
لا ربيع في دمشق، كان الربيع مجرد فكرة خبيثة تكلل درب الوريث الى عرشه، مجرد غيمة تمطر، حين يشاء اصحابها، على الارض اليباب.. وها هو الوريث فوق عرشه، والغيمة في مكانها صعب المنال، فلماذا الربيع او المطر !؟
لا ربيع في الشام التي احببت .. اردد العبارة القاسية مرات ومرات، ولا اكف عن المشي.. التجوال بلا هدف او مبتغى الى المساء.. ما قبل العاشرة ليلا بقليل، لادخل حينها الميدان وأدق على الباب الخشبي القديم .
– تفضل، قالت الزوجة اللطيفة، ثم غابت بعد القليل من الاسئلة المعتادة، لتعود بدلة القهوة العربية الاثيرة، حيث اخذت انا مكاني الاليف في الصالون، وحيث من المنتظر ان تصدح ام كلثوم الآن في مثل هذا الوقت من الليل، او تتهادى موسيقى الجاز التي يحبها الشاعر… ولكن، وقبل ان أبدأ أنا بالسؤال عن الصديق، قالت هي:
– سميح في السجن.. منذ عشرة ايام.. اخذوه من هذا الصالون بعد ان فتشوا البيت بالكامل وصادروا اوراقه والكثير من الكتب ..
– وأين هو الان؟
– لا نعرف.. ولا يُسمح لنا بالسؤال اصلا، ولكن المرور بفرع فلسطين ومكاتب المخابرات الجوية، هو الشيء الوحيد المؤكد الان.. لا بد من المرور بتلك الفروع الامنية قبل الذهاب الى السجن … او الموت..
وبكت قليلا … لم تمسح دموعها او تغرق في صمت ما بعد البكاء، بل واصلت الحديث عن الايام الدمشقية القليلة الفاصلة بين لحظة الاعلان عن الربيع الموعود ولحظة الانقضاض السريع عليه:- ممتعة كانت تلك اللحظات.. صدقنا الحكاية ولم نصدقها، وها هي النتيجة امامك الان: سيان بين من صدق او من لم يصدق، الكل في السجن او خارج البلاد !!
شربت المزيد من القهوة مع زوجة الصديق الذي عاد الى السجن، وانصرفت … ها هو الليل خلف الباب في دمشق.. اعرفه ولا اعرف عنه الكثير.. احبه ولكنني لا ارغب بالتسكع الان تحت ظله.. عليً ان اسافر… لم يعد لي ما اريد العثور عليه في دمشق، وسميح نشوان في السجن: القصيدة وكأس العرق المحلي في السجن.. ام كلثوم وموسيقى الجاز والرغبات البسيطة في السجن… دمشق في السجن.. فلا بد لي من السفر، وسافرت، في ظهيرة اليوم التالي فعلا..
لم انتظر شيئا جديدا في دمشق.. لم افكر بالحدود وانتظار حواجز التفتيش، ولم التفت حين دخلت الجوار الاردني: للوراء.. ولم اذهب في اناي، على امتداد الطريق من دمشق الى الزرقاء: خلف فكرة بعينها… لم احاورها، او افتش الرغبات عنها…. وربما فعلت؟
– 3 –
تتسارع الايام .. تمر كما تمر، ونعتاد نحن، او نظن، على انتظار متوالياتها الاثيرة، ترويض رتابتها.. كما يتعلم السجين فن ترويض ساعاته القاتلة.. كما كان دوماَ عليً: ان اروض الحنين.. اطويه مثل صفحة في كتاب غريب ولا افكر بالعودة اليه.. ولكنني لا اوفق.. افشل، فأسرع من جديد نحو مرابع القلب، اقتنص الاقتراحات القليلة للحياة وأرجع من منفاي الى منفاي.. من فيينا الى الزرقاء، وأمر بالشام، ببيت سميح، بكؤوس الليل وقهوة الصباح.. بالحكايات التي لا يكف الشاعر المهووس بالمعجزات عن سردها:- احكي، حين احكي عن دمشق: عن نفسي.. لا فرق بين الشام وبيني.. هي تنتظر غدها وما سيحمله من متاعب او مسرات.. وأنا الاخر انتظر.. هي تسكر من لذة الايحاء في كأس تاريخها وجنون حاضرها، وأنا اسكر ليلة تلو اخرى من هذا العرق المقطر مرات ثلاث وأثمل.. افرح حين اثمل.. احس حينها بالصعود العظيم الى مراتب الثمالة التي وصلتها دمشق..
ثملا تماماَ كان سميح في تلك الليلة من ابريل 2007.. ليلتي الاخيرة في دمشق. ليلة باح الصديق بما لم اسمعه منه قبل ذاك اليوم، وما لم انتظر:- لا يمثل ما نكتبه عن المكان الشامي، عن حيواتنا فيه، ولا ذاك الذي نود ان نكتبه ولا نستطيع، لا يمثلان القدر البسيط من الحقيقة.. هي اكثر عنفاَ مما نعتقد ونتصور.. هي اكثر مدعاة للبؤس واليأس بأشواط لا نعرف كيف نفسرها ونحولها الى مفردات في القصائد والقصص او البيانات السياسية وجداول اعمال المنتديات والاحزاب… لقد دمروا كل شيء فينا ومن حولنا: المدينة واللغة وحتى الجرأة الذاتية / السرية على الحلم والتخييل… هذا الحزب القائد هو التمثيل الاقصى لفكرة الغاء الكائن والمكان .
ليلتي الاخيرة في دمشق هي: ليلة سميح نشوان بامتياز.. هي اختصار المكان وما يود ان يقوله عن نفسه ومعناه… هل ستحكي دمشق بمفردات دافئة وعالية عن نفسها، اكثر مما قاله وليدها وظلها عنها؟؟ .. سميح هو الظل الاسر للمكان.. هو اللغة التي تحكيبها الازقة والشوارع والساحات عن روحها.. روحه، هو الدمشقي الذي لم يترك لحظة مدينته الا مرغماَ خلف قضبان سجونها:- لا اعرف الفرق بين هذا السجن، حيث انا الآن معك، وبين ذاك الذي اعود مراراَ اليه.. يغلقون علينا الابواب هناك، وهي مغلقة هنا.. يصادرون طاقتنا على التحليق الى.. او حيث نحب هناك.. وهي مصادرة هنا.. ما الفرق ….
لا فرق يجيب سميح
ما الفرق حقا بين هذا السجن أو ذاك.. بين غرفة صغيرة في المكان .. او في المكان بأسره، بين الخسارة والخسارة.. بين ان تُلغى وتُقصى حيث انت الآن: في البيت .. في المقهى .. على الرصيف.. وفي متن القصيدة التي تكتب. أو أن تُلغى وتُقصى في التعاليم البغيضة للطغاة.. في سجونهم وفروع امنهم، وفي الرؤية ما قبل البدائية التي يفرضون.. لا فرق يؤكد سميح وأكرر انا.. لا فرق على الاطلاق .
ليلة سميح الدمشقي بامتياز.. ليلتي الدمشقية الاخيرة، إذ لن تحملني، بعدها، الصدف، ولا اقتراحات الحنين او دوافع السفر: الى الشام والزرقاء.. ولكني سأبقى قريبا من دمشق.. أعرف أحوالها وأقرأ احلامها في القصائد التي يرسلها أو ينشرها سميح، أو تلك التي يرددها على مسامعي عبر الهاتف، فهو شاعرها وظلها.. نبض قلبها، وهو الذي سيحمل صوته احوالها.. فأسمع، في كل مرة، صوت المكان عبر صوته هو.
لا يكف سميح عن الاتصال بي من دمشق، ولا اكف أنا.. سنبقى في حوار دائم،عن كل شيء وأي شيء، الى مساء الثاني من ابريل 2011 ..بعد ايام قليلة على اكتشاف الخربشات البريئة للاطفال على جدران درعا الكئيبة، وما ستحركه تلك الخربشات من رغبات كامنة بالانعتاق المٌشتهى في عموم البلاد… يومها، في المساء الابريلي ذاك، سيحمل الهواء ايقاعا ساحر الاشارات في صوت سميح: – المعجزات تطل برأسها في الشام……. المعجزات التي انتظرت ولم انتظر.. تطل من حولي، وهناك من حولنا ..
هي المعجزات اذاّ.. ما انتظره سميح ولم ينتظر.. هي استعادة الامل، وعليه ان يصدق سحرها.. ان يغازلها.. يراقصها ويجثم، كما كان يحلم: عند صدرها الشبقي ويعترف بلا حدود اسرارها.. عليه ان يصدق وان يعترف .. وعليً انا الآخر ان اصدق وأن اعترف وعليً ان انتظر، فقد يحل الربيع الحقيقي في دمشق.. قد تستعيد المدينة نفسها.. وقد يحمل لي الهواء مجدداَ: صوت سميح الذي غاب عني منذ نهاية ايلول (سبتمبر) 2011 ولا أعلم عنه، ولا عن زوجته اللطيفة ما يمكن قوله الآن؟
غاب سميح.. أخذته المعجزات الى دروبها التي احب.. قد يعود؟
لعله يكتب الآن شيئاَ جديداَ عن ولادة الامل؟
او يثمل من كأس المعجزات… وحدها …
لعله هنا: في هذه المفردات.. في الحنين الشديد اليه.. الى دمشق.. الى ليلها الذي لا اعرف عنه الكثير ولكنني سأرجع يوما للبحث في اسراره.. فلا بد من ليل دمشق
لا بد من بردى وقاسيون.. من الشاغور والقصاع
لا بد من ضريح الشيخ محيي الدين وأثار المتنبي في المكان
لا بد من الميدان: قلب الصديق الدمشقي… قلب المدينة التي احبها سميح وأحببت انا وأحب
قلبها الذي سيحملني، في لحظة قادمة اليه: لحظة تستعيد الشام سحرها وسرها الابدي
لحظة يصعد فيك المكان الى حدوده القصوى وتذهب انت فيه، وتقول: اعرف ما تقوله الازقة والشوارع عن نفسها.. ما توحي به وما تخزنه روحها.. اعرف هذه الأمكنة.. هذا الليل.. هذا النداء الخفي: نداء دمشق .. تلك التي احب .