رانية محمد شريف العرضاوي
ناقدة سعودية
أن تكتب خُطاطة تقرأ فيها نقد سعد البازعي، محاولًا الحفر في حراك فكره بين منعطفين أساسيين هما: الفلسفة والترجمة، يعني أنك تعلن بجرأة كبيرة خوضك غمار بحر بمرافئ جاذبة محيّرة، تجعل من بوصلتك تضطرب في تحديد وجهتها، ولن تقاوم حينها ريح البحث الفتّانة التي ستميل بأشرعتك مخدّرة بلذّة الكشف لتستمر في الترحال والتنقل بلا كلل ولا ملل، وتأتي هذه الورقة زاعمةً الكشف عن نتوءات الحراك النقدي في طرح سعد البازعي؛ محاولة استنبات مقاربة تحدّد مسارات هذا النقد وتنقلاته واتصاله مع حقلين معرفيين مؤثرين بقوة في النقد الأدبي عامة وعند البازعي خاصة، وخاصة الفلسفة والترجمة، وممّا لا يغيب عن أيّ عين بصّارة بأنّ النقد الأدبي في تجذّره الأول عاش تلاقحًا بعيد المهوى مع الفلسفة، واستسقى من فيوضاتها عذب الفرات حتى خالطها وخالطته في مراحل نشأته الأولى شرقا وغربا، وصارت مكوّنا أساسيا في الجسد النقدي بتحقّبه الزمني وامتداده الجغرافي البشري وتطوره حتى اليوم.
وأمّا الترجمة، فهي ذات نسب ومصاهرة مع كل علم ومعرفة، وكان للنقد الأدبي -ولا يزال- معها شأن كبير، يظهر في علاقتها مع الأدب ونقله، وفي أثرها البليغ على طبيعة عمل الناقد وتطوير اللغة وانفتاح الثقافة النقدية الحاصل نتاجا لعمل الترجمة الارتحالي والتفسيري للنصوص بين الثقافات. وبين هاتين الضفتين بازدواجية الوجود الواقعة لهما مع النقد الأدبي، نجد أنفسنا في حالة من التشابك الهرمي تجعل كل طرف في زاويته يجتذب إليه الآخر، لتكون رؤوس الهرم الثلاثة متحركة تبادليا في أثرها على بعضها بعضا: النقد الأدبي، والفلسفة، والترجمة.
ويظهر وعي البازعي بهذه العلاقة المتشابكة بجلاء؛ إذ بتطوافٍ أفقي بين منتوجه المقروء والمسموع يجد المتلقي البازعيَّ لا ينفكّ في طروحاته النقدية متحدثا عن الفلسفة أو قضايا الترجمة، وكذلك يكون هذا فعله الجميل عندما يتعاطى إشكاليات الفلسفة وقضايا الترجمة؛ حيث يمزج أشربتهما بعسل النقد وشيء من لسع نحله مرات. وحتى تتضح ارتكازات المقاربة، وتسهل متابعتها، تأتي محطاتها مقسّمة على النحو التالي:
1. التنظير والاصطلاح:
يعلن البازعي في طروحاته عن الدور المهم الذي ينوء بحمله التنظير النقدي، ويقارع بعصاه الباحثة مكامن النظريات النقدية تاريخيًا، ناقلًا ومترجمًا وفاحصًا، مقاربًا بذلك دور السفير النقدي الأمين، الذي يوظّف كلّ أدوات الترجمة لديه رغبةً في حفظ البناء النقدي التنظيري المنقول من اللغات المختلفة إلى اللغة العربية، والبازعي هنا يمدّ يده إلى منطقة متّهمة دوما بالفوضى؛ بسبب جريمة اللاتخطيط في الترجمة الفردية وغياب الترجمة المؤسسية، وهو ما أسفر عن تعدّد المصطلحات النقدية وعجز الثقات في توحيد الجهد الترجمي. وفي خضم هذا الطرح والنقل والتفسير تلوح الفلسفة بطبيعة وجودها في الجسد النقدي، فهي كما يقول طه عبدالرحمن: «تبحث في المعاني والحقائق التي تصل الإنسان بأعلى أفق يمكن أن يرقى إليه نظره» (عبدالرحمن، طه: (2008). فقه الفلسفة: الفلسفة والترجمة، المركز الثقافي العربي، ط3، الدار البيضاء، المغرب، ص:15). ومن ثمّ فإن البازعي يطرح التنظير النقدي موظفا أدوات الحقلين: الفلسفة والترجمة، وهو ما يعني أنه يمارس ترجمة الفلسفة بشكل أو بآخر؛ قاصدا تقديم النظرية النقدية والمنهج النقدي من مصادره الأصيلة. ويعلن في غير مكان بأنّ العمل هنا مركّب الصعوبة من جهتين: جهة الترجمة وجهة الفلسفة، فالترجمة في رأيه من أعسر الصناعات وأضناها وأعقدها، بل ويؤكد على إرباكات الترجمة وتوترها الحاصل عندما تقارف حقلي الفلسفة والشعر. وفي الوقت ذاته، يقرّ بدور الفلسفة في تكوين المصطلح والمفهوم، فهي بقدراتها وأدواتها تنجح في «انتزاع» الموجودات من كينونتها وتجرّدها من تعالقاتها مع بيئتها المطمئنة، وتذهب بعيدا في بئر التحليل والحفر الفكري. ومن ثم، تكون ولادة المصطلحات والمفاهيم في مجملها ولادة عسيرة، ممهورة بخطورة تشوّه الوليد، أو ضياع شهادة ميلاده، فيظهر مشتت الأصل متعدّد الهوية، مهاجرا غير شرعي أو شرعيا مرات قليلة، والمعنى في وسط هذا رهين المحبسين: محبس التأويل ومحبس الهجرة. ولأنّ البازعي يبني رؤاه الاصطلاحية على يقينه بالدور الفاعل الذي يؤديه النقد في تغيير العقول وتوسيع الثقافات، لا يتورّع بأن يرسل محاولات بنائية اصطلاحية تأخذ مظهرين عنده: الإقرار أو الابتكار، فأمّا الإقرار فيكون بنقله عن غيره مع تفسير المصطلح، وتتبّع تاريخية المفهوم ومعانيه، وهذا كثير عنده، وأمّا الابتكار فنجده يحاول مبتكرا لمصطلح أو مفهوم، وهذا يمكن إحصاؤه وتتّبعه في عمل مستقل، مثل: تحولات الكتب، الانفتاح التهجيني، مصائر الرواية، وغير ذلك. وأظن أنّ بحثا أكاديميا يتتبع المفهوم وبناء المصطلح عند البازعي سيجلّي للقارئ الكثير من جوانب التأطير التنظيري النقدي عنده، بما يُتوقّع أن يشي بمعجم مفاهيمي في فكر البازعي.
2. الذات الناقدة وانجذابات التفلسّف:
رغم قوة البازعي في نقولاته الفلسفية، واتساع معرفته وقراءاته في الفلسفة -خاصّة الغربية-، وتوفّر أدوات التفلسف لديه من اطّلاع وتأويل ونقد ومقارنة وتأمّل وتنوير وحفر واتصال بالعالم وحرية فكرية أنيقة، وغير ذلك مما يضيق المقام عن تفنيده، إلا أنّ الذات الناقدة عنده تطلّ برأسها شامخة متلفّتةً إلى انجذابات التفلسّف مقاومة الانغماس فيها مدبرة عن إعلان التفلسف. وهو يصرّح بأنّ العلاقة بين النقد والفلسفة أمر حاسم، وأنّ الفلسفة هي المعين المثري لفكر الناقد، والوعي النقدي لا يكتمل إلا بمروره بالاختمار الفلسفي الذي «يجلجل» الوعي، ويخرج الناقد من منطقة الراحة السلبية إلى منطقة الإسهام والبناء المعرفي الفاعل في الحضارة الإنسانية. بل وينفي البازعي وجود «الحدود الوهمية» بين النقد الأدبي والفلسفة، فهو وليد في حضنها، والشعوذة النقدية بذلك ما هي إلا عِرافة فلسفية. رغم كل ذلك وأكثر، ترى البازعي يلمّح بالفلسفة ويعرّض ولا يصرّح إلا ضمنا، أو اضطرارا، فهو يكشف عن أسماء كبرى للفلاسفة، ويقدم للقارئ العربي أسماء ربما لن يعرفها إلا من خلال البازعي، ولكنه في نقله وترجمته قليلا ما يصرّح بفلسفته هو إلا عرَضا. فعند حديثه مثلا في مقدمة كتاب (مجموعة باحثين (2012). أوراق فلسفية، النادي الأدبي بالرياض والمركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ص:11) يشيد بالعمل الفلسفي ومحاولة مقارفة الفلسفة في المملكة العربية السعودية، ويعلن عن وعيه التام بأهمية التفلسف وخلع عباءة النقل والتقولب في صندوق الفلسفة الغربية، وأنّ الجسر الذي عرّفه بها بداية كان الترجمة، وكان لقاؤه بها «عرَضا» بوصفها جزءا من منهج تعليمي جامعي غربي، أو نتاج رغبته الشخصية في الاطلاع بعد إتقان اللغة الثانية، ويكتفي في ذات الكتاب بترجمة مقال مارتن هيدجر: (ما الفلسفة؟) دون أن يترك لمحبرته نزع الجواب من هيدجر، وفي موضع آخر يفتتح مقدمة كتابه (البازعي، سعد (2021) هجرة المفاهيم: قراءات في تحولات الثقافة، الأولى، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ص:9) بالإشارة إلى مقال بعنوان «ما هو الفعل الإبداعي؟» معلقًا على مناقشة الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز حاجة الفنون والعلوم إلى الفلسفة وحقيقة هذا الزعم، ولكنه لا يشفي عطش القارئ الظامئ إلى معرفة فلسفة البازعي حول الفعل الإبداعي صراحة.
ونجد هذا الإحجام مغلوبًا عندما يكون حديثه عن حال الإنسانيات وأزمة اقتصاد المعرفة، فيسيل البازعي متفلسفًا ومتأملًا الحالة المعرفية المهدّدة عالميًا بفقدان علوم الإنسانيات والفلسفة (هجرة المفاهيم، ص:49 وما بعدها). فهل البازعي في ذلك يتقفّى طريق بورخيس «المدهش» الذي نفى عن نفسه الفكر؟ واختصر وصف ذاته بـ «لست مفكرًا، بل مجرد أديب» (هجرة المفاهيم: 81) كما ذكر البازعي مشيدًا بتواضع بورخيس؟ هل تواضع البازعي يذهب به إلى عدم الإعلان عن ذاته المتفلسفة والاكتفاء بعباءة النقد والبحث في العلاقات الثقافية؟ وهو العارف بعلاقة الأدبي بالفلسفي، ومن ثم النقدي بالفلسفي طبيعةً. وفي الإطار نفسه، يجد قارئ البازعي فيه الناقد المهتم بالوضع الفلسفي، والحالة الفلسفية وينبش في دور الفكر الناقد الفلسفي، بل ويمارسه عندما يطرح قراءة نقدية لأمثلة من الروايات الفلسفية. ويعتب على النص الروائي الذي لم يوغل في الفلسفة، ويعدّ الرواية الفلسفية رواية «أقلَّوية» أو «نخبوية»، ويهمس بين سطوره بضرورة التطويع للنص الفلسفي بين ثنايا الرواية الفلسفية، مشيرا إلى تقهقر النص الروائي عن الفلسفة في مواضع يمثل لها برواية «موت صغير» لمحمد حسن علوان، يقول: «اللافت بتر الحوار عند اشتداده» عندما تناول مشهد حوار ابن رشد وابن عربي (البازعي (2020) مصائر الرواية، الأولى، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ص:154). وكأن الرواية اختارت اللاتوغل في الجوانب الفكرية والاكتفاء بالإيماء إليها. وفي الوقت ذاته، يتوسع البازعي في حديث ماتع عن المواءمة بين الفلسفة والرواية والتئام الفلسفة مع القص. ويفنّد حضور الفلسفة روائيا بمسبار الناقد على ضربين: حضور نقولاتي للمقول الفلسفي، وحضور إضماري ضمني حكائي (نفسه، ص:161). فتكون الذات الناقدة عند البازعي هي المنبر الذي يعبر من خلاله إلى حكمة التفلسف بلا جموح، مؤثرا التضمين على التصريح، ومقتفيا الإسرار بالفلسفة عن الإعلان بها، ولعل الإعلان قريب.
3. هموم الناقد المترجم:
تتموضع الترجمة في نقد البازعي موضعا حسنا، فتختلط به في غير مكان، بل وتكون واحدة من أدواته الفريدة، فاللغة الأجنبية لديه وهبته المُكنة الفاحصة للنص المترجم، وأسهم بشكل نوعي في مناقشة قضايا المصطلح والتطبيق، إضافة إلى ترجمة النص الفلسفي والأدبي بإتقان تشهد به مؤلفاته العديدة. ويقدّم البازعي الناقد سَمتَ مترجم عتيد عندما يقارف ترجمة مقالات في الفلسفة، فيوغل بذلك قدمه الثابتة في أصعب حقول الترجمة وأشرسها وأكثرها مزالقَ، ولكن المادة التي يقدمها تشهد بثبات أرضه، رغم صعوبة البضاعة الممزوجة. ويظهر اهتمام البازعي بالترجمة في كل ما يطرح بشكل موسّع ملحوظ، وهو ما يشي بإيمانه بما تقوم به الترجمة من دور فاعل، فهي ليست مجرد فعل حضاري، ينزع مغاليق أبواب الحضارات والثقافات الإنسانية، ويمد جسور المعارف والآمال بين الأمم، بل هي ذلك وأكثر من ذلك كونها متصلة بالفعل السياسي والمدى الاقتصادي اليوم. وترجمات البازعي تفضي به إلى مناطق تستدعي جسارة نقدية عالية، خاصة عندما يقدم للقارئ رؤاه القيمة حول المكوّن اليهودي في الثقافة المعاصرة، فيجمع بذلك بين المواضيع الحساسة، والكشف عن المجهول الذي يحمل ختم الأحكام الجاهزة جمعيا وأيديولوجيا. ويصيب بهذا هدف الحديث عن الآخر، وفي الوقت ذاته، اكتشاف الهوية ومواجهة الذات.
ويمكن القول إنّ هموم الترجمة لدى البازعي لها مظاهر كثيرة، منها: همّ الهُوية، وهمّ التعددية، وهمّ اللغة الأم، وهمّ اغتيال المعنى، وهمّ التغيير. وهو بين هذه الهموم يقارب قضايا الترجمة عبر قناتي: النقل، والنقد. ففي النقل؛ ينقل البازعي ويترجم، وينقد ما ترجم أو ينقل نقد الترجمة، كما في حديثه عن مفهوم «عالمية الأدب» (البازعي (2016). هموم العقل: مسائل- حوارات- إشكاليات، الأولى، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ص: 180)، أو في حديثه عن «معجم ما لا يقبل الترجمة» (نفسه، ص:175) عندما طرح سؤال أراه مجلجلا لكل مترجم: «هل هناك ما يستعصي على الترجمة؟ هل في اللغات ما يستحيل نقله من لغة إلى لغة أخرى؟ مفاهيم، معان، إيحاءات؟» (نفسه، ص:175). وهو سؤال يرجعنا إلى تلك المعاني المتلاشية بين أصابع المترجمين عند نقل أبيات المعلقات العربية إلى اللغات المختلفة، أو إلى الدهشة التخيلية المنتحرة عند ترجمة نصّ من عيون شعر المتنبي مثلا.
أمّا في النقد، فيجد قارئ البازعي منه معولا نقديا قويا صريحا يبني، وإن هدم فلأجل البناء، مثلا، تجده يفكك بذكاء ترجمة عنوان رواية (سيدات القمر) لجوخة الحارثي، ونقل العنوان إلى Celestial Bodies يعني: أجرام سماوية، وهو ما يراه البازعي، وأراه، ضربا من المواءمة مع الثقافة المنقول إليها، باعتبار الترجمة كتابة على كتابة، أو إعادة كتابة (مصائر الرواية، ص:224). بل ويذهب في الموضع نفسه إلى أنّ اختيار اللفظتين يحمل شيئا من الشاعرية المقاربة للأنثوية بما يتواءم مع النص. ويقبل الزيادة التي أجرتها المترجمة من وضع عناوين للفصول لم تكن موجودة في النص العربي، معللا ذلك بتسهيل القراءة على القارئ الأجنبي في تتبع النص. وهذا ما يظهر التشابك المرن الذي يتقنه البازعي في نقد الترجمة.
وفي مثال آخر، يقدم البازعي نقدا لترجمة عنوان رواية إليف شفق (الفتى المُتيّم والمعلّم) من العنوان (The Architect’s Apprentice)، مقترحا ترجمة بديلة هي: «الفتى المتمهِّن والمعماري، أو تلميذ المعماري» (نفسه، ص:138) معللا ذلك بأنّ المتيم هنا تمتحن اللفظة الأصيلة في دلالتها وتقطعها عن التعلّم، وتسجنها في دائرة المحبة والعشق. وبالعودة إلى الحكاية، يجد القارئ العلاقة بين المعماري سنان والفتى الذي لزمه للتعلم منه وتعلق به، فكانت محبة وتعلما بينهما تقع تحت شذب آخر بمقترح البازعي (المتمهّن، والتلميذ) فالأولى تسجن اللفظة في طلب المهنة والتدريب، والثانية في طلب المعرفة والتتلمذ، ولعل نقل الكلمة إلى (المُريد) تكون جامعة بين معانٍ: التعلّم والمحبة واللزوم، وهي الحالة التي كانت موسومة بعلاقة الفتى الهندي بالمعماري سنان، فيكون العنوان: (مريد المعماري، أو المعماري والمريد) وأفضّل الثانية تقديما لمكانة سنان المعماري على مريده ومناسبة لمقتضى حالهما، وتناسبا مع المنعطف التصوفي الذي عاشته تلك الفترة. فيكون طرح البازعي هنا مفتاحا لمزيد من الممارسة الترجمية نقلا ونقدًا، وتماسّا مع دقائق قضايا الترجمة تنظيرا وتطبيقا.
4. مشروع البازعي النقدي:
لا يمكن للقارئ أن يحدّد معالم مشروع البازعي النقدي، بعد هذا العرض الموجز، إلا من خلال التسليم بأنّ البازعي الناقد يشيّد مشروعه النقدي والفكري على دعامتين أساسيتين هما: الفلسفة والترجمة. وهو ما يجعل مشروع البازعي النقدي يرتقي إلى حيازته وصف المشروع (الفكري). حيث يظهر في مساره منسلّا عن روتينية الطرح النقدي الذي غصّت به كتب النقد الممنهجة بلا وعي، أو المسجونة في هوية التنظير النقدي مع الانقطاع عن الفاعلية النقدية الفكرية. ولعل هذا الانفتاح الذي يركزه المشروع الفكري عند البازعي يدين للفلسفة والترجمة كثيرا، ويقدّم نموذجا يستحق الاحتفاء والتقدير لما يمكن أن تحدثه حالة التمازج والتلاقح بين المعارف من نقلة كبرى في تطور المجتمع الإنساني، وهو أمر محمود العواقب، كبير المنافع. ولعل المشروع الفكري هنا في مرحلة النتاج بعد طول اختمار، وهو حتما في حالة تنامٍ لم تنته، ويظل في بنائه السامق مواضع تستدعي مزيدا من الهندسة التواؤمية مع الأطروحات المعاصرة الطارئة، والحالة الأدبية المتغيرة في سرعة تسترعي الانتباه. ولعل إعلان التفلسف، والاقتراب من مناطق الظاهرة الإنسانية العامة والخاصة دون تقييد القلم بالنقدي والأدبي سيكتب لهذا المشروع مزيدا من التمكين والأثر، وهو بذلك أعظم من أثر الفراشة، وأبقى من شمس الكرنك.