لنبدأ من هذه النصيحة الصغيرة والمهمة للغاية. لا تقرأ مجموعة يحيى سلام المنذري “حليب التفاح” والصادرة عن مؤسسة الانتشار العربي، كما تقرأ القصص عادة، أي بشكل منفصل، عليك أن تقرأها وفق ترتيبها التسلسلي وإلا أصبت بالدوار. اقرأ مجموعته القصصية على أنّها رواية وإن لم تكن كذلك، ولا تغفل أبدا قراءة الإهداء، لأنه يمنحك المفاتيح الأولى لروح العمل.
ولا بأس أن تسأل نفسك، ماذا لو قرأنا قصص يحيى سلام المنذري من نهايتها، هل كان ليتغير شيء ما حقا؟ وهل هنالك احتمال من أي نوع أن تكون مجموعة المنذري رواية فعلا؟ يحدثُ أن نشكّ بالأمر لمجرد أن نقرأ الاهداء، “إذا قرأت الكتاب على أنّه قصص فالإهداء إلى ابني زكريا، وإن قرأته على أنّه رواية فالإهداء إلى أصدقائي المجانين”. ترى هل هنالك ربط مباشر بين قِصَر القصة وصِغر زكريا من جهة، وبين تعقيدات الرواية وحجمها والأصدقاء المجانين من جهة أخرى؟ هل هنالك علاقة أخرى بكونه قد أنجز – في زمن متقارب- قراءة رواية هاروكي موراكامي “الغابة النرويجية”؟ وإن كان يفعل ذلك لفتح مسامات التأويل، فلماذا حدّد بدقة على الغلاف الخارجي أنّها “قصص”!
وأيضا هل هنالك علاقة مباشرة بين عنوان المجموعة “حليب التفاح”، وبين قطرة سائل التفاح التي نطّت واستقرت فوق مخطوطة المجموعة القصصية، أم أنّ الأمر يرتبط أكثر بإسحاق والحرمان الطفولي الطويل من التفاح، والمرأة الفاتنة التي تحولت إلى بندقية تصطاد الفتيان الجوعى، ضمن مقاطع صغيرة ومكثفة لا تنمو نحو حبكة مُتصاعدة، وإنما يبدو الأمر وكأنك أمام نافذة صغيرة ثابتة في مكانها، بينما المشاهد تتغير من وقت لآخر عبر زجاجها الشفاف.
في محاولة جادة لتوريط القارئ بظروف الكتابة، يُلقي بنا يحيى سلام منذ الإهداء، في اسئلة الكتابة والجدوى منها، ويعبرُ المنذري عن جملة من الهواجس التي تصيب الكاتب في اللحظات الأخيرة قبل تسليم العمل للمطبعة، التمزيق، التعديلات، الخوف من التكنولوجيا، والتعب المُعذب في اختيار العنوان. يشعر هذا الكاتب والذي يتحدث عنه يحيى سلام بصيغة الغائب ويتلبسه أحيانا أخرى، بأنّه يكفي وحسب أن يُسعد قارئا واحدا، “قارئا واحدا وكفى”.
الدخول إلى تكنيك الكتابة والقراءة، يخرجُ من حيز الإهداء ليمتد إلى القصص. ففي قصة “لماذا لا تقرأ القصة من نهايتها؟”، يُقدم المنذري هذه الدعوة الغريبة حقا، دعوة لقراءة القصة من نهايتها، مقابل دعوة أخرى مُضادة من قبل صديقه للكتابة عن الظلم والفساد ومطبات الحياة. أحدهما يريد مكانا هادئا لمناقشة الفكرة و الآخر يريد مكانا صاخبا لفعل ذلك. بل إنّ الكاتب يُقدم اقتراحا حول إمكانية: “سرد الحكاية من مكان مزعج جدا، لينتهي بها ناحية الهدوء التام”. فهنالك قصة يمكن أن تقرأ بطريقتين.. بطريقة حدوثها الواقعية، أو بطريقة حكيها المقلوبة. ولكن لماذا يبدو طلب القراءة بالمقلوب مثيرا الى هذا الحد!
عندما وقعت القصة حقا، أعني: “قصة اختراق السيارة لواجهة المطعم”، كانت هنالك لعبة افتراضات هائلة لقراءة المشهد من زوايا متعددة بين الكاتب وصديقه. والسؤال: هل وقع الحادث بعد أن خرجا، هل تسببا هما في وقوعه، أم أن ذلك ليس إلا حكاية من حكايات الكاتب أصلا. المفاجأة أنّ المنذري يكتب القصة الأصلية وفق ما كان يطرحه الكاتب في القصة تماما، حيث بدأ من مشهد اختراق السيارة “المكان الأكثر إزعاجا”، وانتهى إلى انطلاق الكاتب والصديق إلى فسحة الرقص “المكان الأكثر انسجاما”.
ويعيد المنذري استثمار هذه التقنية في قصة “حزن الفتيات”، فهذه القصة تحتوي على أربع قصص قصيرة جدا، وبالمناسبة هذه القصة كتبت حقا من النهاية. “ألوان زكي” تحكي عن الانسان المتلون المتغير، الذي تحاول الشرطة القبض عليه، لكنه يتماهى في لون كل شيء، وتأتي العقدة من خارج هذا الحدث -كما يتبدى لنا أولا- عندما يُقرر البطل سالم التقاعد. في القصة الثانية “ثعابين سالم”: يشتري سالم ثعبان مزيف. الثعبان موضوع في الخزانة ويلف على الرأس، إنه بالتأكيد كناية عن “المصر” الذي يلبسه على رأسه ويتطلب ذلك الالتفاف نصف ساعة من وقته. بطريقة أو بأخرى يتشابك موضوع هذه القصة مع “ألوان زكي”. وبين سالم وزكي يوجد هاشم الصديق المشترك الذي يحاول أن يقنع سالم بضرورة تقبل زكي، كونه مسكينا ومحروما من الألوان منذ طفولته. الغريب أيضا أنّ سالم من حيث تركيب شخصيته يشبه إلى حد كبير شخصية مندوب شركة الصابون في قصة “الحسناء القناع”، فهو لا يجيد إلا الغوص في الخيالات العاطفية ولا يتجرأ عليها واقعيا، على عكس هاشم المغامر في علاقاته العاطفية.
يكشف لنا المنذري تفصيلا جديدا حول أنّ سالم يبحث عن فتاة حزينة، فهو لم يدخل في علاقة عاطفية إلا مرّة واحدة أيام درسته في الجامعة، وكان يشعر بالسعادة ما دامت المحبوبة حزينة، ويشعر بالحزن ما دامت تستطيع الفرح. في القصة الثالثة، “لوحة حزينة”: نكتشف التضاد بين زكي الذي يُلون الحياة بين محبة سالم للنساء الحزينات، ويبدأ بحث سالم عن امرأة حزينة لاحقها في الباص ثم اختفت. كانت غير حقيقية. وغالبا ما يكون الاختفاء هو الحل السهل واليسير، الذي يبدد المنذري عبره مأزق القصص. ربما لكونه الحل الأبسط والأسهل لخلق مفاجأة ما. فكم من الشخصيات ينتهي بها الأمر إلى الاختفاء، كالعامل الذي اختفى في المقهى في قصة “كيف يمكن للكهرباء أن تنطفئ؟”، والطفل الذي اختفى في قصة “هل في حقيبة الطفل فراشات؟”، وسلسلة لا تنتهي من لعبة الاختفاء المتكررة. ولكن هنالك احتمال أيضا، أن يكون المنذري يتقصد ظهور واختفاء هذه الشخصيات، ليؤكد أنها ليست إلا من مكائد المخيلة، والمخيلة في هذه المجموعة القصصية – ليست إضافة- إنها شريك حقيقي في انتاج النص وفي تأويله أيضا.
في القصة الرابعة “غيمة حلم” المرأة الحزينة تتحول إلى زميلة عمل، لكنها عادت مجددا لتختفي، ولم يحقق البطل أي انتصار على زميله هاشم صائد الفتيات، وهكذا بقي سالم مضطربا إزاء صورة هاشم الذي يتفوق عليه. الأمر الذي يذكرنا مجددا بقصة: “الحسناء والقناع”، قصة حقيقية إزاء قصة متخيلة أيضا. كركتر واقعي إزاء كركتر لا نجد ما يؤكد واقعيته. مندوب لشركة تصنع الصابون المعطر، وكل الاشياء من حوله دائرية الشكل ابتداء من الدوائر الحكومية وليس انتهاء الى الختم الدائري، وقد تزوج زواجا تقليديا. مقابل صورة الرجل الضئيل والذي يكره الصابون، وله صوت لم يسمع به من قبل، وأسنان غريبة، والكرسي أكبر من حجمه، والذي كان جائعا للكلام، ولكن الأكثر غرابة أنه يعيش قصة حب. ومن هنا تنشأ العلاقة بين الطرفين. من هذا السؤال: كيف يمكن أن يكون لهذا المسخ قصة حب. لنكتشف أنّ الرجل القبيح يمكنه أن يفعل الكثير ولكن عبر الخيال وفي غرفته، وعندما يخرج من بيته يمكن أن يأخذ كل شيء معه إلا حريته، “يدعها نائمة في البيت”. مندوب المبيعات يضع صورته إزاء صورة الرجل القبيح، ليجد أن الحظوظ غير عادلة. تماما كما هو حال سالم إزاء صورة هاشم.
لنعد لقصص “حزن الفتيات” الأربع، تبدو الأفكار جميلة ومدهشة وبالغة التركيب، ولكنها في بعض الأحيان تبقى مجرد أفكار عائمة، و لا تتمكن من الذوبان في جسد النص.
يدفعنا المنذري –عن سابق اصرار وترصد- لإعادة قراءة النصوص لأكثر من مرّة، وكأننا أمام قطع من “البازل” المتناثرة، ولكي نتمكن من رؤية الشكل النهائي للحكاية، علينا أن نركب قطعها بطريقة صحيحة ومتقنة.
في قصة “سُم الكاميرا”، لا يُعطيك الحكاية كاملة. وإنما نتف صغيرة منها في كلّ مرّة. وهنالك حكاية داخل الحكاية. حكاية الموظف الصغير مسعود الذي طلب الرئيس نقله، ولا نفهم أسباب ذلك النقل. ومن ثمّ علاقة الموظف برئيسه في العمل، وتسلطه على المرأة الفقيرة التي جاءت تطلب المال، فعقد معها اتفاقا به الكثير من الابتزاز. ولأنّ هذه القصص يمكن أن تقرأ على أنها رواية أيضا، فقصة مسعود تأتي تفاصيلها القصة التالية. ففي قصة “ما الذي فعلته النقطة السوداء”، نكتشف أنّ مسعود كاتب ورسام وشاعر. الفكرة المدهشة هنا ملاحقة مسعود للنقاط السوداء، ولكن ما علاقتها برغبته في إكماله لدراسته ضمن بعثة. المنذري لا يعيد البناء على الخيط الأول الذي يقدمه لنا، والنص لا يتصاعد في شكل هرمي. إنه يبقى بين مد وجزر. يعود مرّة أخرى ليكتب قصة “الخلاط الآدمي” الذي ذكره من قبل في قصة “ما الذي فعلته النقطة السوداء؟”، ومجددا نجد المنذري يضعنا في مأزق قراءة القصة من نهايتها. وكما يبدو فإن مسعود الشاعر تورط مع مسؤوله الكبير “الخلاط الآدمي”، فقد كتب شيئا ما عن الفساد. إنه حتى الآن مجرد شك، لأن المقال كتب باسم مستعار، في هذه اللحظة اتصل “الخلاط الآدمي” بمدير مكتب الأمن، ولكي نعرف من هو مدير مكتب الأمن علينا أن نعود مجددا لنقرأ قصة “سُم الكاميرا” من البداية، ليتضح لنا غموضها، إنها بالتأكيد ليست رواية وإنما هي دوائر متشابكة متداخلة يتحرك فيها الحدث، يتحد أحيانا ويتنافر أحيانا أخرى.
في قصة “ثلاث رقصات في مالبورن” يلعب معنا المنذري اللعبة ذاتها، ولكننا نكون قد تعلمنا الدرس جيدا هذه المرّة، “صاحبة المقهى ترقص”، بينما ينتظر البطل عرضا مسرحيا، وهنالك فتاة أخرى تتحدث في هاتفها ويظن للحظة أنها تشبهه. “القطار السريع يرقص”، واليد الرجولية الخشنة جوار يد عجوز مجعدة تتصرف بطريقة مختلفة تماما عن يد رجولية خشنة جوار يد حمراء وناعمة. أما “فتاة الألوان ترقص”، فهي قصة غرائبية حقا، فالفتاة لا ترسم بواسطة يديها وإنما بثدييها ومنابع حنانها الأموميّ، “فالألوان تقطر من منبعين غامضين يأسران الأفواه”. هكذا يلتقط المنذري تفاصيل متناهية في الصغر والبساطة والحساسية، ليخلق تأثيرا هائلا، كمن يُلقي بحجر في بركة فتتشكل الدوائر حوله منفصلة ومتصلة. هنا القصص مختلفة كأحداث وتفاصيل ولكن ما يجمع بينها هو الرقص، وكيف ينظر الرجل الغريب للرقص في مالبورن. لا توجد تفاصيل ناتئة، وإن كان الحدث لا ينمو إلى الأعلى، إلا أنّ تمدده الأفقي يستثمر كل الإشارات الصغيرة، ليصب في المجرى الذي يقود النصوص الثلاثة إلى ازدهارها، من دون أي إشارة فضفاضة أو مجانية.
في مقابل هذا هنالك قصص أخرى لا تتشابك مع غيرها، وتكتفي بوحدتها الموضوعية، “جمانة” في قصة “ماهي الحكاية الأخيرة لشهرزاد؟”، لم تقرأ يوما حكايات ألف ليلة وليلة. رغم أنّها مع زوجها راشد تتحول كل يوم إلى شهرزاد، ولذلك ربما كانت تقع أحيانا في شرك القصص المألوفة والمُملة، بينما زوجها راشد كان صندوقا مُغلقا.
حكت جمانة قصة الزوج الذي تأثر لموت زوجته “أم حمدان”، ثم الابن الذي ترك مدرسته لتعلقه بأمّه، والابن الأكبر الذي انفصل عن زوجته لأنها تقرأ أفكاره وخيالاته المريضة. وقد تمكنت “جمانة” من استعارة بناء حكايات ألف ليلة وليلة وإن لم تقرأها، فقد قالت “جمانة” قصة “أم حمدان” عبر تقنية “الحكاية داخل الحكاية”، فهي تبتر النص ولا تكمله، وتضمن الحكاية حكايات أخرى تتناسل فيها، ولا تفعل ذلك خوفا من السياف الذي سيقطع رأسها وإنما لتبقي زوجها على درجة عالية من الولع والتعلق والانتباه، وأكثر من ذلك فهي تحكي لكي تبعد زوجها عن التفكير في عدم قدرتهم على الإنجاب، فهي لا ترغب في تسلل الملل إليه. لكن شهرزاد تعرف جيدا كيف تفصل نفسها عن قصصها الواقعية أو المتخيلة، لكن “جمانة” تماهت مع قصتها تماما وذابت في نسيجها، فهل حصل ذلك لأنها لم تقرأ “ألف ليلة وليلة” حقا!
“هل في حقيبة الطفل فراشات”، هذا النص يحتوي على لعبة تجريب عالية، ولكن هل قالت هذه القصة شيئا وهي على هذا الشكل، أعني أنها ليست أكثر من 50 سؤالا.. هل قالت الأسئلة شيئا ذا معنى حقيقي؟. الشيء الوحيد الثابت في هذه القصة هو الطفل، والأشياء التي تتحرك حوله، أعني الحديقة والقطة وشجرة الليمون، الشيء الذي يمكن أن يفزع كل هذه الأشياء ويبدو طارئا على المشهد هو المسدس، والتحول الذي يعقب ذلك هو مغادرة الطفل وبكاء الأب. إنه لا يقول قصة، إنه يعطي مفاتيح قصة، ويطلب منا كقراء أن نعيد كتابتها، وفكّ شفرتها وربما قراءتها من النهاية تصاعدا إلى البداية.
والسؤال: هل كانت القصة تحتمل كل هذا الغموض. وهل يمكن اعتبار أنّ ما يربو على 50 سؤالا قصة قصيرة حقا. أليست القصة هي “الحدث”. أم أنّ التجريب الذي يتخذه يحيى سلام المنذري منذ الإهداء يحتمل كل هذا.
هل يراهن المنذري على قارئ حذق يمكن أن يقرأ الحدث من محاولة الاجابة على الأسئلة، والسؤال الأهم: ألم يكن هنالك احتمال أن تُقال القصة في قالب آخر.. سيبقى السؤال مفتوحا، لأنّ الأجوبة ستختلف من قارئ لآخر، وأظن أن لعبة المنذري تنهض على بث الأسئلة أكثر من رغبتها في حصاد الأجوبة.
ولذلك هنالك نص بعنوان: “الأسئلة أغلى سعرا من النفط” حيث يشبك الفانتازيا الساخرة بالواقعية، هنالك صورة إزاء صورة مجددا، القلق من نفاد الذهب الأسود، مقابل صورة براميل النفط التي حضرت المحاضرة، بل إن أحدهم أوقع برميلا فاندلق السائل على الأرض فظهرت أسماك ميتة. القصة الواقعية هي عن الرجل الذي تنبأ بنضوب النفط، فرفضت أطروحته فهاجر إلى استراليا، وعندما تمت دعوته مجددا ليقدم محاضرة جديدة بعد أن أصبح مشهورا، بدأت مشكلة كهربائية عويصة. أما القصة المتخيلة فهي عن استيقاظ الماضي، (في إشارة لعودة الحياة إلى ما كانت عليه قبل النفط)، فالبطل يرى البيت الخشبي القديم، التلفاز الأحمر الصغير المتصل ببطارية البيك أب، الرجال والنساء والأطفال يمسكون الأوعية ويبحثون عن شيء، إنها صورة تحيل إلى مخاوف ما بعد النفط، ولأنّ الأسئلة (الواقعية) غالية جدا، فينبغي أن تُعطل وأن تنفى وأن تبعد بكل الطرق الممكنة.
إلا أنّ اللعبة في هذه القصة تبدو مكشوفة وعادية وتجترح أسئلة مطروحة، مقارنة بقصة التاج الذي هرب من فوق رأس السن والذي يبلغ عمره عشر سنوات في قصة “الطاحن الأول”، و”لنا أن نتخيل بين ليلة وضحاها صار السن الذي قتله التسوس ملكا، فعند نزع الروح منه ألبس تاجا”. لكن التاج هرب من السن، رأسه المنخور أصبح عاريا، وبدا ضئيلا وضعيفا. وجده البطل تحت ورقة خس، وبات ممكنا أن يعود السن الضعيف ليصبح ملكا مجددا، ويطرح المنذري سؤاله الصعب: “كم من الوقت سيصمد؟”. في هذه القصة نبدو كما لو كنا على رقعة شطرنج، كل حركة مدروسة، وتعي جيدا أين تذهب بنا. وبالتأكيد كان اسم “عبدالله” الذي حمله أربعة من الشبان في جماعة ثقافية دينية، يُسقط حمولة من الدلالات المدروسة والتي لم تكن مجانية في قصة “من هم؟”. في “الابتسامة الصينية” أيضا، يتحدث عن عالم صغير يختزل في غرفة، ولا شيء يُعكر هذه العزلة في الكبسولة التي لا تتجاوز ثلاثة أمتار في أربعة، سوى نغمة هاتف المرأة البريطانية من أصل صيني. ومن ثم يكتشف أشياء صغيرة وحميمية تعيد ترتيب العلاقة بهذه المرأة أبعد من الإحساس الأول بالانزعاج.
نتأكد هنا أنّ عوالم المنذري مفتوحة، لا تنمو ولا تتصاعد إلى أعلى وإنما تنتشر بشكل أفقي. لا تذهب إلى حبكة تقليدية. لا توجد عقدة بالمعنى المتعارف عليه. إنها أحداث صغيرة تنمو بين مدٍ وجزر، وتوفر عناية عالية بالتفاصيل، وتترك في نفسك ما قد يتركه مشهد سينمائي، فهو يفتحُ شباكا لفسحة التأمل.
من المهم أن نعي أيضا أنّ هذه القصص تطرح أسئلتها أكثر مما تجيب. ولذا علينا أن لا نتعجب من وجود ستة عناوين على الأقل تحمل علامة استفهام. تبدو شخصية البطل في كل القصص وإن تلونت قليلا، هي شخصية واحدة. شخصية الكاتب أو الفنان الذي يقف ليتأمل الدنيا وعندما لا يحتمل واقعيتها المفرطة، فإنه يعزي نفسه بأن يطلق بعض الخيالات والأسئلة.
هدى حمد