علي سليمان الرواحي
لا ينفصل الوضع المجتمعي العُماني المعُاصر عن بقية التحوّلات الكثيرة التي تمرّ بها المجتمعات العالميّة في الكثير من الجوانب: الفردية والجماعيّة؛ إذ إن هذه التحولات تقودها الكثير من العناصر المختلفة، والمتشابكة، التي ليست بالضرورة أحادية التوّجه، ومن ثم ليست ذات نتيجة واحدة؛ ذلك أن هناك عوامل اقتصادية، معرفية، اجتماعية، سياسية، تقنية، وغيرها، هي التي تقود هذه المسارات التي تبدو شبكية في عمقها، ومحصلتها.
تسعى هذه الورقة لاستكشاف التحدّيات المختلفة التي تواجهها هذه التحوّلات المؤدية لبروز هويات جديدة، كانت فيما سبق في طيّ الكتمان إلى حد ٍ كبير من جهة، وعدم وجود الظروف والوسائط المختلفة لنموها، وتشكلها من الجهة الأخرى. كما تطرح هذه الورقة أسئلة تسعى من خلالها لمعرفة طرق التعامل المجتمعيّة، والرسمية، التي أدت في الكثير من الأحيان إلى ردّات فعل تتسم بالعنف، والعقوبات؛ مما يؤدي لتأخير بلورتها من جهة، وربما تكوّنها بطرق ٍ ملتوية من الجهة الأخرى.
من ضمن الأسئلة المركزية التي تقود هذه الورقة، ما يأتي: ما الفروقات الجوهرية بين الهويات الجديدة والتقليدية، وهل تُعدّ هذه الفروقات بذرة للاضطرابات الجندرية كما ذهبت جوديث بتلرJUDITH BUTLER في عملها بنفس العنوان، ولكن في سياق مختلف؟ ولماذا يتم التعامل مع هذه الفروقات بطرق ٍ محافظة، بحيث يتم التنكر لهذه التحوّلات وعدم الاعتراف بها بالرغم من الانتشار الهائل لوسائط التقنية الحديثة؟ وما التحديات المعرفيّة المحلية في عُمان، ناهيك عن الجوانب التشريعيّة والمجتمعية، التي تواجهها هذه الهويات؟ وكيف يتم استيعاب مثل هذه التحولات التي تبدو حتميّة لحد كبير في مسار المجتمعات، بحيث يتم نقلها من الجانب السلبي، غير الفاعل كما هو التصور السائد حاليًا، إلى الجانب الإيجابي، المُنتج، والمساهم بطرق ٍ مختلفة؟
عوالم الهويات المُضطربة:
تنتعش الهُويات في العوالم المضطربة، النشطة، تلك التي تتسم بالحيوية والتنوع، إذ إن هذه السمات تتوفر في المجتمعات الحديثة، التي تتمايز بشكلٍ بنيوي، وأساسي، عن المجتمعات القديمة. في هذا السياق، يذهب تشارلز تايلور(1931م) في كتابه المتخيلات الاجتماعية الحديثة(1) (2004م) إلى أن المجتمعات الحديثة تختلف عن غيرها بوجود مُتخيلات اجتماعية حديثة، من ضمنها، وربما أهمها: الاقتصاد الحديث، المجال العام، والسيادة الشعبية. إذ تشير هذه المجالات الاجتماعية الحديثة إلى تغيّر أساسي بين بنية المجتمعات التقليدية التي تقوم في المجال الاجتماعي والسياسي، على التراتبية الهرمية بين الأفراد، أو «سلسلة الوجود» chain of being» والتي تذهب إلى وجود سلسلة هرمية عمودية تفصل بين البشر وبقية الكائنات الأخرى على أسس جوهرانية، لا تقبل التغيير أو الزحزحة. بالإضافة إلى ذلك، تمتدّ هذه السلسلة إلى جوانب مختلفة من الحياة، فهي تُعدّ بمثابة السد المنيع الذي يحول دون خروج الأفراد من تصوراتهم، أو تخيلاتهم الفردية والجماعية، التقليدية، التي تترتب عليها بقاء الكثير من الحالات والوضعيات في شكلها التقليدي، والهرمي، الذي يعي العالم من خلال عدسة المفاضلة بين الأفراد بشكل ٍ خاص، والموجودات بشكل ٍ عام. علاوة على ذلك، تستتبع هذه الوضعية التقليدية في الرؤية، استمرار التصوّرات القديمة نحو مفاهيم محوريّة، وربما تبدو مصيريّة إلى حدٍّ كبير، مثل: الذات، الجماعة، الحريّة، الأخلاق، وغيرها.
ذلك أن التغّيرات المادية التي تحدث في العالم، لها ما يرافقها من تغيرات – ليست آلية، وغير مباشرة – بالتغيرات الذهنية، أو بلغة تايلور «بمتخيلات الأفراد حول ذواتهم، وحول مفاهيمهم، وحول علاقاتهم بالآخرين أيضا ً».
من هنا، تحدث التحولات بطريقة ضمنية ليست منظورة، تذهب في اتجاهاتٍ مختلفة، وهي في ذلك تتعاضد مع التحوّلات الصريحة الأخرى؛ مما يجعلنا نستطيع – إلى حد ٍ كبير – بناء ً على المتخيّلات المعاشة من قبل أفراد مجتمع ما، معرفة مواقفهم تجاه ذواتهم، وتجاه الآخرين. وهذا يمتدّ ليشمل علاقة الأفراد في تصوّراتهم مع مفاهيم مثل الحرية، التي تعتبر البنية الأساسية في نشوء تصورات الذوات الجديدة، والهويات المتفاعلة مع العالم بكل تعقيداته، وتشابكه. وعدم بقاء الأفراد في وضعية المتفرج، والمراقب، التي تعني عدم اتخاذ موقف، سلبي كان أو إيجابي، من كل ما يحدث.
بهذا المعنى، فالحدّ الفاصل – الذي ليس فاصلًا كحد السكين بين المجتمعات، بل تشوبه الكثير من التداخلات في التصورات، والرؤى – لا يرتبط فقط بالجانب المادي، الملموس، بل بالجانب المعرفي، الذي يرتبط هو الآخر وبشكلٍ وثيق، بتصورات الذات حول نفسها، وحول مكانتها في الوجود من جهة، وحول مقدرتها على اتخاذ القرارات الفردية بكل حُرية من الجهة الأخرى، بعيدًا عن سيطرة المفاهيم التقليدية، الجوهرانية، اللاهوتية والناسوتية على حدٍ سواء، التي تنتمي لفتراتٍ زمنية سابقة.
غير أنّه من الضروري الإشارة في هذا السياق وبشكلٍ أساسيّ، إلى أن الذوات الحديثة، مثل التقليدية، لا تستطيع «خلع العمامة» السابقة، أو ارتداء «طربوش الأفندي» الجديد، كما يحدث عند التعامل مع الجانب المادي، المتُمثل في الأدوات المستخدمة، بشكل ٍ يومي، مباشر، ولا يلامس البنى الفكرية، والاعتقادية العميقة للفرد، وهذا يقودنا للحديث لاحقًا عن أن الهويات الجديدة بشكلٍ عام، لا تُمثل «أنوارًا جديدة» أو «حداثة جذرية»، بل لها إرثها الذي يجعلها في صراع دائم، وتوتّر مستمرّ، مع التركة السابقة التي تشمل التّراث اللغوي، المفاهيمي، العلاقات الجندريّة، وغيرها من العوامل المختلفة.
غير أن التطوّرات التقنية الحديثة المتسارعة، كانت الحاضنة المرِنة، ليس للهويات الجديدة التي تتشكل بشكل غير واضح المعالم، بل ساهمت أيضًا في جعل هذه الهويات مضطربة أكثر من أي وقت مضى، تتعايش في عوالم متداخلة، تصل إلى حدّ الازدواج، بين تصوراتٍ قديمة طاغية، ومفاهيم حديثة متناثرة، تسكن في جسدٍ واحد، بين بقاء هووي في سجن مستقر متعارف عليه، وبين عبور لتصورات جديدة ذات مسارات مجهولة، لا تنتمي «للأبنية الاجتماعية التي ساهمت في تعزيز التصورات التي يحملها الأفراد عن طبيعتهم البشرية العميقة»(2)، أو ما يمكن تسميتها «بالسيناريوهات المجندرة» (غوفمان، م س، ص10)، التي تذهب إلى أن البناء الاجتماعي يجعل الرجل والمرأة يؤديان أدوارًا معينة، اتُفق عليها ضمنيًّا، وعلنيًّا، وذلك عن طريق تفاعلات مجتمعيّة محدودة، لا يمكن الخروج عنها، وهو ما يتم تعزيزه عن طريق اتباع طقوس معينة، تأخذ هذه الفروقات الجندرية كجدران عازلة، لا يمكنها أن تتداخل، أو تقترب من بعض، الأمر الذي ولّد هويات مضطربة، استمرت لفترة طويلة في فترة الكمون، وعدم القدرة على الخروج من الجانب الشخصي، الخاص، للجانب العمومي، الواسع، الذي يفترض تفاعلا، من قبل أفراد المجتمع باختلاف توجهاتهم، ومشاربهم. فالجانب الأساسي من مفهوم الهوية في هذا السياق، «يشير إلى الانفصال بين الداخل والخارج، فالفرد يشعر بأنه يمتلك مشاعر أصيلة ومغايرة، وغير واضحة للمجتمع، وأحيانًا من الضروري التستر عليها وعدم الإفصاح عنها بسبب الكثير من العراقيل والقوانين المجتمعية(3). غير أنّ ثمة تحولات عجّلت ببروز هذه الاضطرابات، والهويّات المختلفة، وصعودها للسطح، يتمثل ذلك في مساهمة التقنية الحديثة في هذا الانفجار الهويّاتي، الذي لم يعد خيارًا من الممكن تلافيه، والتي لم تتخذ شكلاً واحداً، أو مساراً منعزلاً عن بقية التحولات التي طالت هذه الذات من ولادتها الفلسفية الأولى مع ديكارت (1596م – 1650م)، وصولاً بالأنا التي أصبح وجودها، أو حضورها يعتمد على مقدار انغماسها في متاهات التقنية الحديثة.
الهويات الافتراضية أو تحولات الأنا:
أتاحت الوسائط التقنيّة الجديدة، بما فيها وسائل التواصل الاجتماعي من جهة، وسهولة الحصول على المعلومات عن طريق الشبكة العالمية من الجهة الأخرى، لهذه الهويات بالبروز، والخروج من الحالات الفردية، المنعزلة، التي كان يتم التعامل معها في الماضي بصيغة الفصل بين الجانب الفردي، والجانب المجتمعي، بهدف التحكم في نزعاتها، ومساراتها، إلى اتخاذ طرق فردية كثيرة. حيث تُعتبر هذه الوسائط التي تُستخدم بطريقة فردية، بمثابة مكون شخصي، وخاص لكل ذات على حدة، بعيدًا عن الأساليب الكثيرة لطرق المراقبة: المجتمعية، والمؤسسية على حدٍ سواء. الأمر الذي جعل مفاهيم قارة للذات كما هي الذات الديكارتية التي رفعت مقولة «أنا أفكر، إذن أنا موجود» في دلالة على مركزية التفكير بالنسبة للذات ووجودها، جعلها مقولة مهتزة، ولم تعد تتسم بالقوة والتماسك، وذلك اعتباراً من نيتشه، فرويد،و ماركس، وصولًا إلى الثورة الصناعية الرابعة، ومنتجاتها الناعمة، والمادية، التي زعزعت هذا الكوجيتو المتماسك. حيث شملت هذه الزعزعة الكثير من الجدران التاريخية، والنظرية، التي بُنيت على مدار العقود الماضية، وهذا لا يقتصر فقط على جانبٍ واحد دون الجوانب الأخرى، بل شمل اللغة، الذات، الوعي، التجربة، الزمان، المكان وغيرها الكثير من المفاهيم التي كانت لوقت طويل بمثابة القلاع الحصينة التي لا تُمس، ولا يمكن الاقتراب منها، ناهيك عن التفكير في هدمها أو تبديلها، وهو ما حدث لدى مفهوم الهوية التي طالها التحوّل هي الأخرى، وذلك انعكاسٌ لتحولات كثيرة محيطة بها، منها ما هو مرئي، ومنها غير ذلك.
فإذا كان المفهوم التقليدي للهوية يُحيل للتطابق، وعدم الاختلاف، ويرفض الغيرية، أو بلغة المناطقة القدامى، بالصيغة أ=أ، التي تذهب إلى الانتماء المتبادل الذي يعني بدوره «الخضوع لنظام مجموع ٍ ما، والتموضع ضمن هذا النظام، بل والاندماج ضمن وحدة تنوع» (4)، وهو ما يعني – في هذا السياق- بأن الكينونة لا توجد إلا ضمن هذا النظام الجماعي الذي يضفي على المنُتمي لها المعنى، لتحقيق الهدف الفردي ضمن الإطار الجماعي السائد، والمنتشر. غير أن الهويات الجديدة، وتحديداً هويات الصورة، والسيلفي، والتطبيقات الاجتماعية اللانهائية، تأخذ منحى آخر، واتجاهات لا تتوافق مع النماذج التحليلية السابقة (البرادايغم paradigm)، ذلك أن «الصورة هي التي تحدد الآن كينونة الذات»(5)، بما يتوافق مع صعود «السيلفي النرجسي»( إلزا غودار، م س، ص88)، الذي يشير إلى أننا نعيش مرحلة «تسود فيها ثقافة الذات بكل أوهامها وبآلهتها المزيفة، فهي مختلفة جدا ً عن «هموم الذات العزيزة على قلب الفلسفة الرواقية وعلى ميشال فوكو»(م س، ص90). من هنا نشهد ولادة ذوات جديدة، وهويات ليست تقليدية، ولكنها أيضا ً في المقابل ليست جديدة بشكل ٍ كُلي، وذلك من خلال ظهور مصطلحات تفسيرية كالذات الرقمية، أو خطاب الصورة Pic Speech، وغيرها، الأمر الذي ولّد بدوره الكثير من التحديات المحليّة والعالمية غير المسبوقة، التي تختلف من مجتمعٍ إلى آخر، بل تصل ربما في الكثير من الأحيان إلى مرحلة التعارض الجذري، بين القيم، والتشريعات السائدة من جهة، والتحولات التقنية التي تُسرع هذه التحولات دون وجود مسارٍ معرفي، وقيمي واضح من الجهة الأخرى، وهو ما سنتعرض له في الفقرة اللاحقة ضمن الواقع المحلي في عُمان.
تحديات الهويات في عُمان:
عود ٌ على بدء، بهدف استكشاف السؤال الثالث لهذه الورقة حول طبيعة التحديات التي تواجهها هذه الهويات الجديدة الصاعدة في الواقع العُماني، وذلك بعد التزايد الكبير وغير المسبوق، للأحكام القضائية التي تصدرُ عن الجِهات القضائية في عُمان في الفترة الأخيرة، والموجهة ضد الكثير من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي بسبب «محتوى منشوراتهم الخادشة للحياء، ووجهت لهم تهمة الإخلال بالآداب العامة» كما تم تداوله في وسائل التواصل الاجتماعي؛ حيث امتدّت بعض هذه الأحكام في فتراتٍ زمنيّة سابقة للجانب الأدبي والإبداعي، سواءٌ عن طريق تداول المقاطع النصية، أو عن طريق استخدام الضغط الشعبي. بالإضافة إلى ذلك، وجدت هذه الأحكام الكثير من التأييد الشعبيّ العام، الذي اعتبر هذه الأحكام دليلاً على نزاهة القضاء العُماني، ودوره في المحافظة على الصورة العامة للسلطنة.
علاوة على ذلك، نجد بين الفينة والأخرى الكثير من الأحكام القضائية التي تذهب في هذا الاتجاه، الموجهة للحد من السلوكيات الشعبية، والإعلام الفردي، وذلك للحد من ظواهر مجتمعية تنقسم لقسمين رئيسيين:
1)سلوكيات موروثة.
2)ظواهر حديثة.
في الحالتين نجد أن هذه الظواهر تواجه بتحديات شعبية، محافظة، ترفضها، وتقف في طريقها، تحت عناوين كثيرة، ربما أهمها وأبرزها: المحافظة على المجتمع، وعلى القيم العامة من جهة، وتحديات تشريعيّة تقف في طريق الهويات الجديدة، أو الذوات التي تحاول شق طريقها بعيداً عن الأفكار السائدة، من الجهة الأخرى، وهذا لا ينطبق فقط على وسائل التواصل الاجتماعي أو المشاهير كما هي التسميات المتداولة، بل يشمل ذلك أيضًا الآراء التي تنتقد المجال الديني، الذي يعدّ شأناً عاماً، ولا يرتبط فقط بالأشخاص الذين يعبرون عنه، ولا ينحصر فقط في الجانب اللاهوتي، بل يصل أيضاً إلى المعاملات، التي هي شأنٌ بشريٌّ بألف ولام التعريف.
في الحديث عن الظواهر الجديدة التي تُواجَه بهذا النوع من الانكفاء الشعبيّ حول الهويّات الموروثة، والقيم التقليدية، نجد أنّ هذه الوسائط فقط أدوات تُعبر عن تحولات مطمورة، غير واضحة للعيان، بل ربما تُعد هذه الأدوات بمثابة مؤشر على هذه التحولات، كما تُعبر عن مسارها أيضًا، فهي تسهم في إبرازها للعلن، وجعلها تنتقل من مرحلة اللامرئي، لمرحلة المرئي الذي يحتاج إلى التعامل معه بشكل إيجابي، فاعل، ومنتج. فالمسارات البشرية تبدأ بشكلٍ فرديٍّ، منعزل، غير مرغوب فيها، غير أنها (مهما كانت هذه السلوكيات التي تبدو منحرفة من وجهة النظر السائدة) ما تلبث أن تتسع رقعتها، ويزداد المناصرون لها. وهذا لا يقتصر فقط على الظواهر الناعمة الجديدة، بل يمتد إلى تلك المنتجات البشرية الصلبة، كالأدوات التي يتم استخدامها بشكل يومي، ويدوي. الأمر الذي يجعل المُشرع ينظر لهذه التحولات ليس من وجهة النظر التي تُحارب هذه التحولات، وتقف في وجهها، تحت عناوين كثيرة، منها ما هو ديني، ثقافي، أو حتى سياسي، بل من الضروري أن يكون الجانب التشريعي بمثابة العربة التي تقود هذه التحولات، وتضعها ضمن السياق العام، ليس عن طريق المنع، بل عن طريق التقنين ووضع الضوابط التي تتناسب مع القيم والمعايير الأخلاقية الكونية من جهة، ولمواكبة هذه التحولات ومنحها الطابع العلني، والمنُتج أيضا. فمن الضروري في هذا السياق، الاعتراف بأن الإحصائيات والمؤشرات مفقودة لمعرفة الاتجاهات الجديدة في المجتمع، غير أنّ الحس المُشترك يستطيع رصد صعود هذه التحولات وانتشارها بين أفراد المجتمع، مما يعني بأنّ ثمة حاجات جديدة تنشأ على الكثير من المستويات الاقتصادية، والتشريعية، والاجتماعية وغيرها. الأمر الذي يستلزم وجود قنواتٍ للفهم، والتصرف، والاستيعاب، تتناسب مع هذه المستجدات المجتمعيّة، كما سيتم التطرق إليها لاحقًا.
ابتكار الذوات الفردية واستيعابها:
تبدو هذه التحولات التي تطرّقنا لبعضها أعلاه، ليست اختيارية في مُجملها، فهي تأتي كحُزمة كاملة من التحولات المقبولة والمرفوضة على حدٍ سواء، غير أنّ أفراد المجتمع يخضعون لإغراءات، وإكراهاتٍ تجعلهم يتقبلون هذه التحولات، أو يرفضونها. في مقابل ذلك، يمكن أخذ هذه التحولات ضمن الخيار الشخصي، باعتبارها تعبيرًا عن فهمٍ وجودي عميق للذات، ينطلق من حُرية الاختيار من جهة، وبوصفها موردًا ماليًا واقتصاديًا من الجهة الأخرى، ناهيك عن تلك الرغبة المشروعة في إظهار الذات، وإخراجها من الأطر التقليدية، للفضاءات الحديثة والفردية، لأطر متجددة بعيدا ً عن حُكم القيمة المتعلق بصحة أو خطأ هذا الاتجاه، أو ذاك. ذلك أن الذوات وهي تخرج من الأطر الجماعية، تبحث عن حقوق جديدة، ومكاسب ليست متوفرة. فالفرد بهذا المعنى يبتكر ذاته، بعيدًا عن القواميس والمراجع المسُتخدمة، أو المتعارف عليها بين أفراد مجتمعٍ ما، وهذا يشمل الأخلاق، وطرق التعبير عن الذات، وأساليب الحديث عنها، بل وكيفية تمظهرها أمام الآخرين أيضًا. في هذا السياق من الممكن الحديث عن «نزع مأسسة الذات» أو «تحرير الذات»(6)، التي تعني «أن ننتقي من إرثنا الثقافي والاجتماعي كل ما يمكن عده تذّوتا، وأن نحارب كل ما يخالف حرية الذات ويُخضعها لواجبات علوية فيما يخص الإنتاجية والانتماء إلى شعبٍ أو جماعة مُعينة». غير أنّ نزع المأسسة هذا ليس سهلا ً وبشكل ٍ خاص في المجتمعات التقليدية ناهيك عن المجتمعات الحديثة أيضًا، ولكن بدرجة أقل بكثير، فهي لا تحتاج إلى جهودٍ فردية تتعرض لمخاطر مباشرة، ومهددات شخصية، بل تحتاج لنموّها وانتعاشها إلى تكاتف الوعي الجماعي حول أهداف تقدمية واضحة، لتتخلص من الكثير من الجوانب والأفكار التي أصبحت خارج المساءلة، والشك، مثل:
العنصرية، الحرية الجندرية، وغيرها. وهذا لا يحدث في ظل هيمنة مؤسسات أحادية، تسيطر على قنوات الوعي المختلف، مهما كانت هذه القنوات تبدو مفتوحة، وممكنة الاستخدام.
بالإضافة إلى حيوية وأهمية ابتكار الذوات، وتشكُلها خارج المؤسسة، من المهم أن تكون لهذه الذوات قنوات تستوعبها، لتسهيل التفاعل معها من جهة، ولوضع هذه الذوات الجديدة في مسارات منُتجة، ولها مشروعيتها المؤسسية والمجتمعية، فمن غير المعقول – من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أيضاً- أن يتم التنكر لها؛ ذلك أن هذه القوانين والأعراف التي تحكم مجتمعًا ما، في مرحلة زمنية معينة، تُعتبر من صُنع الإنسان في مراحل زمنية سابقة، وليس شيئًا ميتافيزيقيًا معُطى، وهذا يعني أنها خضعت لتحّولات، وصراعات، وجدل، ومحاججة أيضًا.
علاوة على ضرورة وجود القنوات التي تستوعب هذه التحولات، من الضروري أيضًا وجود معجم ومصطلحات جديدة للحديث عنها وعن إفرازاتها المختلفة، بحيث إن كل معجم متداول بين أفراد مجتمع ما، يُعبر عن نشوء ظواهر جديدة، التي تحتاج بدورها إلى فهم مخُتلف، وطرق جديدة للتعاطي معها. ففهم الظواهر الجديدة بمصطلحات ومعايير لا تتناسب معها، لا يسهم في تشويهها فقط؛ بل يُسرع في محاربتها ووأدها في مهدها، قبل أن تخرج لأفراد المجتمع، لتقييمها، والتفاعل معها.وهذا يتضح جليا ً في القاموس المستخدم حاليا ً في الحديث عن وسائل التواصل الاجتماعي. ذلك أن القاموس المكاني والزماني القديم – قبل هذه الثورة العالمية – لم يعد مفهوماً للتواصل بين البشر، كما لم يعد مجدياً الحديث عن عالم جديد بمصطلحات قديمة، وهذا ينطبق بطريقة أو بأخرى على أزمة كورونا، وما بعدها، إذ إن الاجتماعات والمؤتمرات لم تعد تنعقد في الأمكنة التقليدية، بل أصبحت افتراضية، دون وجود مكان بالمعنى الفيزيائي التقليدي، وهذا دليل أن الاستيعاب هو الآخر لم يعد خيارا مطروحا، بل أصبح استجابة للتحولات التي لا مفر منها. كما حدث إبان الانتقال من استخدام «اللغة الاجتماعية إلى اللغة الثقافية التي تتناول الحياة الاجتماعية» الأمر الذي أدى لظهور «براديغم جديد لفهم عالم اليوم» كما قال ألان تورين(7).
خاتمة:
تتميز الأنظمة السياسية غير التقليدية حول العالم، بقابليتها الكبيرة للتكيّف مع التحديات الاجتماعية الداخلية والخارجية في الوقت نفسه؛ إذ تأتي هذه القابلية ليس بسبب ضعف هذه الأنظمةوتشظيها؛ بل بسبب الرغبة المؤسسية في تحديث المجتمع بما يتناسب مع الاتجاهات الجديدة لأفراده من جهة، والتقليل من العنف والاستقطاب الكبير بين المواطنين والمؤسسات السياسية المحلية المختلفة من الجهة الأخرى. كما يُشكل هذا التكيّف استجابة لمسار التحديث الذي تتعرض له المجتمعات في الكثير من دول العالم، عن طريق إنشاء مؤسسات تستوعب هذه الآثار، بل وتسعى لجعلها ذات قيمة مجتمعية، تُثري المجتمع، وتُرسخ تعدديته، وتتحول أيضًا لجانبٍ من جوانب الدعم الاقتصادي للأفراد، بما يضمن للجميع الاتجاه نحو هويات جديدة، بذوات فاعلة، مُغيرة، وليست منفعلة فقط.