استغرب!!: أي خدعة أعيشها فيك يا (مزون )، أي حقيقة جللتك بالوهم, أي وهم تراءى لك كالفراشات, أي وطن اكبر منك, أي حب أوسع من حياضك.
صدرك النابض كوجه مدينة فاضحة, يمارس شعوذة خفية, يؤوي اليه الغرباء والمتلصصون, يرسمون أحلامهم وينامون. وفي الصباح يتوجون قياصرة الاحلام السادية.
جسدك كقواعد تنطلق منها عابرات القارات المدمرة, محطات ارسال تبث الكلمة والصورة الدعائية.
جسدك وطن من ورق. هكذا استبيح لك غراب. وسيستباح أكثر لمخلوقات تدور آلة الشر في مخيلتهم فتبدو العدوانية مشهدا فاخرا.
ايتها المزون
قيل انك ولدت بلا شرايين
وأن المطر يهطل من ساحات جبينك الغر
لكن,
ما ان تقطع شرايين يديك المتخيلة حتى تسيل جيوش المقهورين في التبدد والتلعثم. هذا هو دمك المقهور يبحث عن أودية رحبة, يتخثر عند كهوف أحلامك, عبر مساحة القهر التي لا تنتهي، تنمو وتنتشر، تترعرع في الأزمنة الضوئية منها والظلامية.
أي شيء أنت,
عارية تطوفين في فياني المنام دون أن يجسر أحد على الاقتراب منك كأنك الرعب القادم من باطن جيولوجيا القمع, ترسمين تضاريس عزلة جديدة تؤطرها المهرجانات الباهتة. تحاولين رسم صورة جديدة, بالإيهام طبعا. بأنك مخلوقة خارقة وجميلة في نفس الوقت. بدأت تفرزين خيوط اللعبة, كل خيط على حدة, قابل لكل الاحتمالات. أدت ليلة, حيث فسحة المنام لا تتسع إلا لرؤية أحدنا، أنا أو أنت, رأيت الخراب الذي يزهو بأبهي حلله قادما مع قبائل الرياح الشرسة. المدمرة لإمدادات الأحلام, نكهة استرداد الوعي بعد غيبوبة الضياع الالزامي، كنت استدرج صورتك المتناثرة كقش خلفته طقوس الحصاد: على القضبان الحديدية لنافذة خشبية بدائية تسندين وجهك التائه كأنك عذراء شاردة في حلمها الليلي. لكنك فجأة تقهقهين كمومس شمطاء ثم تلعقين نهديك العاريين.
تضيئين الشمعة الحمراء دعوة لمتعة رخيصة.
أي طغيان استعمرك ؟ أي روع جللك بالجهل ؟ أي دمار امكنك العزلة ؟ أي
رعب سيعم ؟ أي تيه سيسود؟ أي حلم سيندثر؟ لا سيماء لك في الكون, وان وجدت, ستكون باهتة بلا منازع. ابحثي لك عن وجه يلائمك, وجهك الحقيقي أو الشامات المميزة, سحق أو مات. حبيبتي، حبيبة اليوم, أدت الوجوه المتغيرة مثل حياتنا العابرة. كيف بت على هذا؟ كيف صرت إلى هذا؟ أين طواحين مخيلتك المتأججة ؟ أين غابات أسئلتك البعيدة ؟
استذكار..؟
ليلتنا الاولي، أنا وأنت, على شاطئ الدهشة الطفولية تلتف حولنا الجبال تطوقنا كجيوش استعمارية والبحر ممتد أمامنا كسؤال طويل لم يلق الجواب بعد وكأننا نقبع داخل أصداف الذاكرة. في الحقيقة كنت لوحدي أمام البحر، أما أنت فكنت في الذاكرة فقط. أراك في موجة طائشة تهوي على موجة أخرى في محاولة للانتحار، أراك في نسمة عابرة تحمل نزق طفل مترف, أراك في نورس ضال وقد تشابهت لديه الأمكنة والبحار والأصدقاء ولم يعد يفرق بينهم, أراك في جبل مكسور كان يأوي اليه الحالمين والمردة ومباع الليل, أراك في رمال شاطئ مستسلم للقدر ينوء تحت أقدام المصطافين والسكارى وأراك في عيون الأطفال بائعي الفل والياسمين وعلب الكبريت.
إذن.. ما المسألة ؟
كانت رحلتي الأولى هناك, حين بدأت أحلم بالسفر يقودني العشق اليه. السفر والعشق صنوان. كنت فقيرا الا من جواز السفر وحقيبة خاوية علها تمتلئ بالذكريات وصور العشق يوما ما. وهكذا كان.
أتت بك الصدفة الى هناك مثلما يلفظ البحر كائنا حيا غرق في جوفه منذ آلاف السنين ولم يستطع هضمه. جمعتنا الدهشة لحيضة البحر العميقة. لأول مرة نرى تلك الحيضة الفوارة كألم مكبوت. كان لقاء مسائيا بعد أن اسدلت الشمس جفونها وبقينا نتسارد الحكي المسائي الصامت الا من نسمات ملحية صيفية تجرح حياءاتنا المفتعلة. تعارفنا أو ربما تعاشقنا، لا أذكر الحالة تلك. لم نتحدث, لم نتكلم في ذلك الفضاء الذي يشبه العتمة والصمت الضخم الذي يتجول كعسكري مستبد. كنا ننظر الى بعضنا فقط, نظرات توجس. نظرات مواساة, أو ربما، نظرات فضول. فهمت من تقاطيع وجهك حياة المرارة والبؤس، لكن ثبات مقلتيك وضيق نظراتك اوحت بالاصرار والتحدي. رسم شرك المبعثر على جبينك وعلى كتفيك وفي الفضاء لوحة المتمرد الذي لا ينام إلا على فرسه مفتوح العينين. وقالت وجنتاك إنك لا تزالين عذراء، إنك انثى رغم أهوال الزمن, أنك جميلة بالسليقة وأن تمردك فطري. وحاجباك يرقصان فوق أنف محارب صحراوي. ودعاني فمك الصامت / المكتنز الى تسلق الشهوة والثورة على مقدسات جسدك.
آه.. ما المسألة اذن ؟
برهة كانت طويلة, واقفين, نصلي صمتا، نتحاور صمتا، ندحرج عطايا الكون ونكومه في موازين افترضناها عادلة, ربما كانت شيطانية ساعتها لكنها قابلة للاقتسام. كسرت جسور الثرثرة الصامتة وحركت جسدك نحو البحر. دخلت من باب البحر الى ان غمر البحر ركبتيك. أدرت وجهك نحوي، تأملت مسرحاته المجونية, كان عاريا من الشفقة. احست بعدها بجسدي ينشد اليك عنوة وقد تعطلت قوى الارادات مني. حين دنوت منك, رفعت طرف ثوبك الى اصل الفخذين وانتظرت. لم تدم اللحظة. تقدمت منك وبي نشوة مغامر، ولثمتك من الخلف لثمة كمن طوق لصا بغتة. شعرت بجسدك الناري يحرقني، تصاعدت السنة اللهب منه أحرقت ثوبك كله. عراك اللهب وبدأ يعريني حتى تجلت اشراقة اللذة الدفينة فينا المملوءة بالحب والألم. وكان البحر يستدرجنا نحوه, ونحن نغوص فيه بانسياب بطئ وكلما غصنا نحو أعماقه ازداد لهيبنا الناري بينما يلقمنا، هو، اسراره وطلاسمه الابدية لقمة بعد اخري. أصبحنا الآن متعانقين نرضع خيالاتنا في كل اوضاعها. زمجرنا مثلما يزمجر العشق فينا من أجل الوطن, من أجل الكرامة, الحب, الفناء، الطفولة, من أجلنا، أنا وأنت, والصمت المباح.طال صمتك حين استلقيت على السطح البحر في محاولة للسباحة على الظهر. كنت بحرا فوق بحر. قفزت الى بحرك وغصت ناحية فمك المترع بالريق العسلي والزبد الشهواني. لعقت منه حتى الثمالة, ولعقت المرارة والشقاء والكلمات المتصحرة في تجاويف فمك والصوت الذي حطمك صداه ولم يخرج بعد. كان اللمعان اشبه بصارية مركب منكوب تستريح عليه طيور البحر لتحدد اتجاه هجرتها.
بصعوبة بالغة انزلقت من فمك الجائع / المتفائل, ساعتها، إلى قلبك الاخضر. كان الجو غائما وكان باردا. وكنت منهكا وثملا. افترشت ارضية أحدى حجيرات قلبك واضطجعت. حينها كان الليل قد بدأ يرتدي كس ته المقدسة, وتنفتح طاقات مخلوقات أباطرة القلق, فتخرج في هيبة المتغطرس لتعيث في سكونية الليل المتوحد مع الاحلام. وما ان يدنو الليل من اوسطه حتى يشرع النعاس بمغازلة عيني بتلويحاته السحرية, فانقاد طائعا إلى سرير الموت الهامشي, تتقدمني الجراثيم وكأنها تقودني إلى ساحة الرجم الليلي حيث يحلو لها ممارسته في رأسي الذي أفاق يوما على هلاميتها المتجددة.
ربما.. هذه بداية المسألة ؟
قبل ان استجير بالوسادة التي ستحتضن رأسي المتهالك, مارس الجاثوم الأكبر طقوسه المعتادة بتلوح معاول أفكاره, وسيوف نصائحه وكأنني مجرم يعاد تأهيله. تستمر الطقوس: عويل صخب, ثرثرة دوائر، ألوان طيف الأرواح المشنوقة, قرقعة سلاس متفحمة بالرعونة والبطش. كاد الرأس ان يتفتق. عنوة, تفتق الرأس فدخل الجاثوم بجلبته المعهودة, مزمجرا في وجه حرس فردوس البراءة, ينقب الفردوس إلى مدينة ممسوخة لم أر منها سوى بحر هلامي بابتسامته المغتصبة. ومن خاصرة البحر انبثقت شجرة ملحية تتكوم تحتها حورية محرمة تثبه التحدي في ريعانه.
المدينة كأنها صفحة بيضاء، لكن ما إن تقف في اتجاه ما، حتى تنفتح أمامك طرق مبعثرة هنا وهناك وترى المصابين السوداء تعتم النور عن البيوت المتراكمة فوق بعضها مثل بركان ردم بالنفايات. اتهجت غربا فطالعني نفس مشهد الطرق المبعثرة, اتجهت شرقا، في كل الاتجاهات, المشهد نفسه يغريني. مدينة مكانها الجلادون والمغتصبون بجلودهم السوداء، تلفهم ملافع سوداء، يستعرضون الخطائين, مغتصبي زوجاتهم, مغتصبي الأفكار والذين يجلدون الطرقات والأوطان.
نظرت إلى نفسي, فرأيت البحر تحت قدمي والشجرة قبالتي على مسافة حلم ثقبت شرايينه فخرج القيح مسافة ترقم المسافات البعيدة. انتبهت الحورية لوجودي، فانتفضت مثل جذوة نار تكاد تنطفئ صب عليها الزيت. كانت عيناها الذابلتان تودعانني بانكسار الاستجداء. لم أفهم, وبقيت في مكاني كعاشق يختلي بمحبوبته لأول مرة, أسير فتنة جمال البغتة. في لمحة بصر أقبلت الحورية تجري بأنفاس ما تبقى منها. كانت عارية, بيضاء كالثلج لها عمر الاخلاص والوفاء، يحز يديها ورجليها أصفاد ذاكرة مرعبة, تحاول الاستنجاد بي، تستغيث برجولتي، بشهامتي، بمبادئي، وكان الجاثوم يلاحقها كنت, أنا، في نوم عميق.
أهي..عذابات المسألة
صباحا، حين أفقت من النوم, كان قلبك مكبلا بسرطانات القلق والريبة, ستتحول بقدرة خفية الى أورام ديناميتية, تخفيك من الوجود اذا اصبح هياجك سفرا ومزارا للمؤمنين.
تشبه حجيرات قلبك غرف الاعدام لكنها مزدانة بالورود وبتكعيبات بيكاسو. كان الهك, اله العشق يسكن تلك الغرف الخالية إلا هو، وهذا ما يخيفني، كيف يسكن اله العشق غرف الاعدام ؟ اتست حيرتي وكبر صمتي.
تجولت داخل تجويف صدرك الذي يشبه متحفا حربيا. وكانت ضلوعك كسياط مزيتة معلقة على جدران قبو للتعذيب, وبنادق اثرية, وسيوف وخناجر، واسياخ مدببة للوهم والسمل, واشياء أخرى لا أعرفها. بالرغم من ذلك غمرتني بهجة دفينة وأنا تحت قبتي نهديك العظيمين حيث كرنفالية النوافير والشلالات العذرية, حيث تحلو القيلولة من تعب النهارات الساخنة, حيث يتوافد الرفاق يجرون خلفهم مشاريعهم المنكسرة, يشعلون لفافاتهم المبللة بعرق ظهيرة قائظة ويستلقون باسترخاء، حيث يمر الزمن بطيئا متوسلا اعدامه. فمن سيعيش, بعد ذلك, بلا زمن ؟ بلا تاريخ ؟ بلا ذاكرة ؟ كيف ؟ كيف الاستمرارية والصيرورة ؟ هي وحدها الحياة الاخري، الحياة الابدية, بلا زمن. تسللت إلى كهوف شرايينك, يقطنها الجياع والمؤمنون ومعاقو الحروب والكتاب الأحرار والفنانون الملتزمون والمتشردون والعاطلون. تنتشر حلقات دروس ما قبل وما بعد الحداثة هنا وهناك, أما الحداثة نفسها فقد صنعت لبانا تلوكه أفواه ملكات جمال العالم والعاهرات ليستخلص من ريقهن دروس فن الرشاقة والأزياء والمكياج والطبخ العالمي وفن التغنج الأزلي وفن عهر القرار المصيري.
قضيت وقتا ممتعا مع أهل الكهوف يتبارون في إلقاء النكتة والطرائف والمفارقات المضحكة, مؤكدين أنهم لم يضحكوا، مثل ذلك, منذ زمن بعيد جدا. كان الله في عونهم.
تلك.. اشكالات المسألة
بعدها، عرجت الى سماء جمجمتك. حيث مخابئنا السرية بين تلافيف الدماغ. نحيك قصصا للآتي من الأيام الحرنة – المستعصية وكأنها الجعلان تسير بدمنها إلى الخلف. تخيلنا أننا عثرنا على جزيرة عذراء استولى عليها قاطع طريق – مغتصب حول مكانها الى تماثيل محنطة صامتة, ابصارها زائفة لا حول لها ولا قوة. يسرحون صباح كل يوم الى غرف اسمنتية تسمى (مكاتب ) ويجلسون أمام طاولات حديدية, يقلبون أبصارهم مثلما يقلبهم رعب غدر الزمن والاصحاب. تنفخت كروشهم وتورمت أردافهم من طول الجلوس لكنهم لا يتذمرون. تعتريهم تساؤلات مكبوتة: من أين سنعيش لو تذمرنا؟ أما النبيه فيهم, فهو الذي يحيك المؤامرات والمؤامرات المضادة كي يمارس قانون البقاء للأقوى.
ما ان تنتهي فترة عملهم حتى تراهم يسرعون الى صناديقهم الحديدية المتحركة المسماة (السيارات ) عائدين إلى منازلهم. وهناك ينفجرون. يأكلون بشراهة مرضية ويضربون زوجاتهم وأطفالهم لأتفه الاسباب ثم ينامون ككتلة حجرية سقطت من قمة جبل.
حين يستيقظون في مساءاتهم المتأخرة يهرعون الى الحانات ذات الساعات السعيدة ليخدروا ذلك العضو، في أجسامهم, الذي يتذكر المكان والزمن القادم.
بعد عقدين من الزمن, أقل بقليل أو أكثر، يجمع الموظفون في ساحات عامة كبيرة تشبه متاهة الحياة ويصلون ثم يعدمون بقررات الاستغناء – النفي الاجباري الى شوارع التسكع – الواحد تلو الآخر، أمام أعين زوجاتهم واطفالهم الذين تتصحر مشاعرهم داخل أفئدتهم, حيث يقال: ها هي الخيول قد شاخت..
قلت: مساكين..
قلت: هم أخيرا سيموتون حتى لو تركوا في حال سيبلهم.
قلت: أين الخيارات الحرة ؟
قلت: ليس في شرع قطاع الطرق.
قلت: واله الحب ؟
قلت: ماتت الهاتهم, بل قتلت في حناجرهم قبل ان يحلموا بها..
قلت: والإرادة ؟
قلت: مساكين.. مساكين.
قلت: هذا افضل ممن لا يعرف مصيره..
قلت: يؤمنون بالموت ؟
قلت: يحلمون بالموت..
قلت: سيان..
قلت: الحلم بالموت عشق جميل..
قلت: وقطاع الطرق ؟
قلت: وقطاع الطرق كذلك..
قلت: يحلمون بالموت ؟
قلت: يعبدون الموت.. يعيشون بالموت, هي لغتهم اليومية..
قلت: كيف ؟
قلت: لأنه وسيلة افناء وتخريب وازاحة للغير، وهم يعيشون به في النهاية.
قلت: اذن, اتفق الجميع ؟
قلت: التقوا في اسم الموت, رغم البون الشاسع بين المرتين. لذا الجميع صامت.
قلت: نغبطهم على حلمهم الجميل.
صحونا من سطوة خيالاتنا. وحين نظرت إلى وجهك كان لونه ممتقعا، شاحبا. وفجأة صحت: (متكون حياتنا أجمل من تلك. سنحب, سنعيش يومنا كله, سنتذمر ولن نتآمر، سنكون مصادقين, أوفياء، مرحين. سيكون الله معنا، سيساعدنا بالحق على الباطل.. أليس كذلك ؟)
قلت: ربما…
كنت مفعمة بالطفولة, بالتحدي والاصرار، وكنت فرحا بك. عاثمقا لخيالاتنا.
او ربما.. هذه بداية المسألة ؟
لا أدري
لا أعرف
لا أثق
لا أطمئن