عبدالله إبراهيم
لا يقع تثمين قيمة النقد بوجود نظرية نقديّة أو بعدم وجودها في أدب هذه الأمّة أو تلك، فالنظرية قيد افتراضي قد يجهض الغاية المرجوّة من الممارسة النقدية الجادّة؛ لأنه سيفي بشروطها، وليس الوفاء لأعراف الظاهرة الأدبية، والقول بنظرية جاهزة في تحليل الظاهرة الأدبية قول محفوف بالأخطار من كل جانب؛ لأنه ينتهي بأسْرِ ظاهرة عصيّة على الانحباس في إطار صارم يحول دون تفتحها. ومن ناحيتي، فقد هجرتُ الأخذ بالنظرية منذ وقت مبكر من تجربتي النقدية، ورحت أدعو إلى ضرورة أن يعمّق الناقد وعيه بالخطاب الذي يعالجه، ويستعين بعدة منهجية تسعفه في تحقيق ما يريد، وتساعده في جعل الخطاب يفصح عمّا فيه، وأحذّر من حبس الظاهرة السردية في إطار نظرية لا تستجيب لطبيعة تلك الظاهرة، وهي طبيعة متنوّعة، وفيها من الخروج على الأعراف الأدبية الشائعة أكثر من الامتثال لها، على أنني لم أنكر مراعاة تلك الأعراف التي بدون الأخذ بها تتفتّت المادة السردية.
هبّت، منذ مطلع القرن العشرين، أعاصير المناهج: التاريخية، والنفسية، والماركسية، والشكلية، والبنيوية، والتفكيكية إلى منطقة الآداب العربية التي كانت خالية، أو شبه خالية، من الاجتهاد المنهجي الموافق للتحديث الذي عرفته تلك الآداب، وتلك المناهج المستعارة لم تنفع الآداب العربية نفعًا كبيرًا، لأنّها أسرتها في أطر نظرية لها علاقة بأصولها الثقافية، وكان ينبغي تحريرها من بعض سياقاتها وفرضياتها، والانتفاع بها بما يوافق سياقات الآداب العربية، غير أن التكييف المأمول لم يقع، ومكثت قوالب وقع تطبيقها بالقوة على مادة لم تستجب لها إلا بكثير من التمحّل والالتواء، ويعود ذلك إلى قصور وعي النقاد العرب المهوسين بالاستعارة بدل التكييف، والتهجين، والابتكار، والحال هذه، فقد أخفقت المناهج المستعارة في إثراء الآداب العربية، مع أنها مناهج مهمّة في الثقافات الغربية، وبإزاء ذلك بقي النقد العربي يقتات على مقولاتها وفرضياتها، وكان الأجدر به أن يغوص في الظاهرة الأدبية، ويستنتج لها مقولات من صلبها، ويقترح فرضيات منهجيّة نابعة منها، ولا بأس من الانتفاع، بعد ذلك، بالمشتَرك النقدي للمناهج الأخرى، فذلك مفيدٌ في تعميق نظرة الناقد إلى الأدب. كل ذلك أمسى جزءًا من التركة الثقيلة التي أثقلت كاهل الممارسة النقدية، وصار ينبغي هجره، والانتقال إلى الأخذ بموقف مختلف يقوم على مبدأ تعميق وعي الناقد بالظاهرة الأدبية، والتوغل فيها، بدل وضعها على منضدة التشريح النظري، وتجريب الأدوات المستعارة في تقطيع أوصالها.
وفِي سياق صلتي بالقراءة النقدية التي أخذت بها في معالجتي للظاهرة السردية، أعترف بأنّني كنت، في أول أمري، مشغولًا بالتحيّزات النظرية، غير أنني عزفت عن تقديم الأطر النظرية بوصفها شروطا تمهيديّة لكلّ قراءة أو تحليل، فأمست القراءة أكثر حرّية، وفيها كثير من الشغف. في البداية كنت أُريد أن أرى دورًا لكلّ شيء أعمل به، بداية من الرؤية النقديّة، وصولًا إلى جهاز المفاهيم، وانتهى الأمر إلى أن يكون ذلك مضمرًا في التحليل النقديّ؛ كوني لم اقتنع بحبس الظاهرة الأدبية في أطر ضيّقة بدواعي مراعاة شروط العلوم النظريّة في تحليلها، وهو أمر ما وجدته فاعلًا في الدراسات السرديّة التي انصرفت إليها، فغايتي استكناه هوية المادّة السرديّة.
وعلى الرغم من أنّني عشت في حقبة تداخلت فيها القراءات القائلة بقطع الأدب عن مرجعياته، وهو رهان المناهج الشكليّة، والأخرى القائلة بوصله بمرجعيّاته، وهو رهان المناهج الاجتماعيّة، فقد سعيت إلى البحث عن كيفية أردم بها الهوّة الفاصلة في ما بينهما، بقراءة تُعظّم هوية الظاهرة السردية، وتحتفي بوظيفتها التمثيلية، فكان أن انحسر عندي أثر المفهوم الذي أوقع الأدب في قبضة اللغة أو التاريخ، فدرجت على اتباع طريقة تقول بأنه لا تجوز الإفادة من كشوفات العلوم الإنسانيّة من خلال الأخذ بمنطق وضع الحافر على الحافر؛ فذلك، في تقديري، من الخطأ الذي لا يُغني العلم الإنسانيّ، ولا يُتيح له بلوغ الغاية المرجوّة منه، فإنّما العلوم الإنسانيّة، ومنها الدراسات السردية، مباحث يهتدي بها العاملون في الآداب لكي يتوصّلوا إلى نتائج مفيدة للآداب القوميّة، نتائج لا تُحيل المادّة الأدبية إلى نموذج اختباريّ لبيان صواب النظرية، بل تكُون حقلًا تُمارس فيه النظرية فعلها بهدف إغنائه، وكشف المضمر فيه، ومن دون ذلك، تُرغم المادة الأدبيّة على أن تكُون شريحة اختبار يُمارس عليها المُختبر مهاراته الاختباريّة.
هذا هو، بالإجمال، التصوّر العام للقراءة النقدية التي أخذت بها في تحليلي للسردية العربية، وطوال عملي عليها ما غاب عنّي المفهوم المعجمي للسرد غير أنّني تجاوزته إلى الدلالة التي صاغها له الإرث الأدبيّ، وفيه تمدّد مفهوم السرد على بساط التاريخ الثقافي، فهو الحامل الأول لعددٍ وافرٍ من المرويّات السرديّة الموروثة، فأكون تحاشيت الوقوع في فخ التعريف النظري الذي ينزع عن الظاهرة السردية روحها، وتجرّأت على الخوض في ثنايا الإرث السردي، وهو إرث أغنى المفهوم بدلالات إيحائية دارت في الأفق العام للمفهوم، لكنّها وسّعت فيه من هذه الناحية أو من تلك، فانتعشت لديّ رؤية ذهبت إلى أنّ الانشغال بتضييق المفاهيم، واختيار ما يوافق هوى الباحث، سوف يُرغمه على الابتعاد خطوة، وربما خطوات، عن الظاهرة السردية، ويبطل الغاية المرادة من بحثه فيها، باعتبارها ظاهرة ثقافية. وقد راعني عدم الاهتمام بإثراء مفهوم للسرد مستخلص من الظاهرة السرديّة، والاكتفاء بتعاريف حصرية مستعارة من المعاجم الفرنسية والإنجليزية، فبراعة الباحث السرديّ تجلّت في الاحتذاء وليس في الاجتهاد؛ لأن معظم الباحثين العرب شغلوا باستعراض آراء هذا وذاك من السرديين، وما التفتوا إلى الظاهرة التي ينتمون إليها، وهو سلوك مفهوم في ثقافة ما برحت تستعير فرضياتها من الآخرين، ولَم تلتفت، بعد، إلى هويتها.
جلب الانتقال من الرؤية النظرية الاختزالية إلى الرؤية الثقافية التوسيعية للسرد العربي فائدة جليلة له، فلم أذهب إلى الظاهرة السّردية مقيّدا بأصفاد نظرية جاهزة، بل ترحّلت فيها بهدي ما زودتني به من مفهوم استوى في محضنها خلال تاريخ طويل؛ فالسردية العربية لم تنبثق عن فراغ، وما نبعت فجأة من عين، إنما ترعرعت في سياق زاد عمره على ألف عام، وخلال تلك الرحلة تعرّض مفهوم السرد إلى التهذيب، والإصلاح، والترميم، وبات من غير الممكن مطابقة دلالته الموروثة مع الدلالة المعجمية المستعارة من سرود لا توافقه في سياق نشأته، ولا في أنواعه الدقيقة، ولا وفِي وظائفه؛ فالمطابقة قد تمحو الاختلاف، وتزيل الفروق، وربما تسهّل تقديم وصف عامٍ، وإصدار حكمٍ سريعٍ، ولكنّها لا تفلح في الإلمام بالظاهرة السردية على اختلاف أنواعها.
يصحّ القول بأنّ تصوّري المنهجيّ في تحليل المادة السرديّة ظَهرَ في كتابي “موسوعة السرد العربيّة” الذي بدأت في جمع مادته، وشرعت في كتابة الأجزاء الأولى منه في أوج سطوة المناهج الشكليّة التي غزت الثقافة العربية في ثمانينيّات القرن العشرين، فكأنّها تجتثّ تركة نقديّة فقدت بوصلتها، فراحت تطويها في سجلّ التاريخ، وتغلقه عليها، ورافق ذلك احتفاءٌ منقطعُ النظير بتلك المناهج، احتفاء رافقه زهو وخيلاء، واستمرّ جذلُ أنصارها نحو عقدين قبل أن يخفت وهجها. لم آخذ بالأطر النظرية التي حملتها تلك المناهج في أصلها إلّا عند الضرورة القصوى بعد الاستيعاب، والتحقّق من سياق المفهوم، وفائدته في تحليل النصوص التي أعمل عليها، وأطرح الحذلقات المحيطة به غير راغب فيما لا نفع فيه، فتعرّضت المفاهيم إلى التعديل، والتنقيح، والتقليب، وأعيد توظيف بعضها بما يُوافق سياق عملي النقدي. وبهذه الطريقة فهمت أهمّية المشترك الثقافيّ للمفاهيم السرديّة في الآداب الإنسانية، فهي لا تثبت على حال واحدة، بل تتطوّر بحسب السياق الذي تستخدم فيه، وغايتي من بذل ذلك الجهد اتخاذ المفاهيم وسيلة مساعدة في تحليل النصوص السردية، وليس قسرها لتستجيب لشروط مفاهيم استحدثت في آداب مختلفة عنها، فكان مدخلي إلى الدراسات السردية منفتحا، وما رأيت فيها علمًا قائما بذاته، وما جعلتني حجج الدارسين أقع ضحيّة لهذا الوهم، بل رأيت فيها دليلًا استرشد به في دربي لخوض غمار النصوص السرديّة، فكان أن تحاشيت الإقرار بالبنيات العميقة التي لا يُغيّر من ثبوتها تعاقب الأزمان؛ فمرادي لم يكن توهّم الانخراط في صناعة “علم أدبي” في ضوء نظرية نقدية من سلسلة التخيّلات البشريّة، بل المشاركة في إثراء مدخل تحليلي يتطوّر بتطوّر مكاسب العلوم الإنسانيّة.
وما غاب عن بالي، وأنا أُراقب المنطقة الوصفية الراكدة للبحوث السردية، أمر المقايسة بين التعبير السرديّ والنموذج اللغوي بافتراض وجود قواعد ثابتة تقبع تحت التعبير الكلاميّ، وتتحكّم فيه، وكأنّنا بإزاء نحو سرديّ يتحكّم في مواقع الأحداث، ويستبدّ بترتيبها، فالسرد، على وفق هذه الفرضية، جُملة محكمة الصنع، وقع تصميمها قبل ظهور النصّ، وليس تعبيرًا كلاميَّا مرتبطًا بالسياقات الثقافيّة الحاضنة له. ولعلّ هذا التصوّر هو الذي أفضى بي إلى النظر إلى السرد على أنّه ممارسة ثقافيّة أكثر منه أبنية لغوية يتلفّظ بها اللسان، ممّا جعلني أتحرّر من القيود النظرية للسرديات الكلاسيكية بالشكل الذي استُعيرت به من سياقها الغربي، وأنهج نهجًا مرنًا في تحليلاتي النقديّة التي جمعت بين الوصف، والتحليل، والاستنطاق، والتأويل. وهذا النزوع هو الذي دفعني للاجتهاد في اقتراح مفهوم “السردية” الذي تخفّف من الشروط النظرية، وقارب المادة السردية بمنهج مرن، كما سأوضح ذلك في الفقرة الآتية.
أردت بـ”السردية” المدخل الذي يستعين به الباحث لاستخلاص الطبيعة السردية للنصوص الأدبية، وفيه تتولّى المعرفة النقدية استخلاص مجمل صفات السرد، وتعرّف بهويته الثقافية، في آن واحد، والغاية من ذلك سبك مفهوم لا ينفصل عن المادة السردية فيخضعها لقواعد تجريدية قَبْليّة، ومن ثمّ يتعالى عليها، إنما يصدر عنها، ويتكيّف معها، فتحولاته مقيّدة بتحولاتها، فلا يجوز تجريد نموذج افتراضي عابر للزمان والمكان، واللغات والثقافات، والأجناس والأنواع، وإرغام المادة السردية على الامتثال له؛ فذلك لاهوت سردي تأبى المادة السردية قبوله، وعلى هذا فالتماسك بين وظيفة السردية وبين هوية المادة المدروسة ضروري كيلا تنفصم العُرى الرابطة في ما بينهما بذريعة الوظيفة العلمية للمصطلح؛ فالتراكب بين الوصف والتسمية ينشّط التحليل النقدي من جهة، ويراعي أعراف المادة السردية من جهة أخرى، فلا ينبع ثراء “السردية” من كمالها، بل من نقصها، لأن الظاهرة السرديّة في ترحال دائم، ولا سبيل لأسرها في حقبة تاريخيّة، أو لغة معيّنة.
تبلور تصوري لمفهوم “السردية” إبان سيطرة السرديات الكلاسيكية على المشهد النقدي في العالم، ومعلوم بأنها اقترنت بالبنيويّة، وتلازما بضعة عقود، قبل أن يأفلا معًا، فقد أزاحتهما الدراسات الثقافيّة عن العرش؛ ونتج عن ذلك ظهور مداخل سرديّة حلّت محلّها؛ لأنها تغافلت عن جماليات النصوص، ووظائفها التمثيليّة، وشغلت باستخراج الأبنية المعياريّة فيها على غرار الدراسات اللغوية، أمّا المداخل السرديّة فشملت طيفًا واسعًا من القضايا بدأت بالأدب، ومرّت بالتاريخ، وتجاوزت ذلك إلى الأديان، والأخلاق، والعمارة، والفنون البصريّة؛ وبهذا الاستبدال انتقلت دراسة السرد من الحقبة الشكليّة إلى الحقبة التداوليّة. ولمّا كان الثبات قرين الأولى، فالتحوّل أضحى ركيزة الثانية. ولا إجحاف في القول بأنّ هيكل السرديات أفرغ من المحتوى المجازي المتخيّل، فتُرك مهجورًا؛ لأنّ النصوص أبتْ قبول شروطه المعياريّة، فيما أخذت السردية سيرورتها من هوية الظاهرة السرديّة. لقد نضب مَعين السرديات، وشحّ عطاؤها؛ لأنّها استنكفت النظر إلى السرد بوصفه سلسلة مترابطة من الأفعال الرمزيّة، وعدّته متوالية من النماذج التجريديّة.
وقد آن الأوان لطرح السؤال الإشكالي: ما القوام الصلب للسرديات، وقد لفّقت هيكلها من علم اللغة ونظرية الأجناس الأدبية، بدل أن تشتّقه من الظاهرة السرديّة؟. يُمْكِن العثور على الإجابة في الأسباب التي دفعت بأفولها، وهو أفول يُعزى إلى التغييرات الجذريّة التي تعرّضت لها المصادر التي نهلت منها السرديات فروضها، وكان يلزمها الاتّكاء على الظاهرة السرديّة بدلًا من استعارة فرضياتها من مداخل أخرى. إذا، كيف بدأت المقايسة بين السرديات والنموذج اللغوي؟ فيما يأتي أدوّن إجابة تقريبيّة موجزة لعلّها تكشف جانبًا من التداخل الافتراضيّ فيما بينهما، فباعتبار “الكلام هو تشغيل لقواعد اللغة؛ كما قال “كوهن” في كتابه “الكلام السامي” مجاريًا ما قرّره دو سوسير من تفريق بين اللغة والكلام؛ فتكون اللغة نظامًا أسمى من القواعد الثابتة، وما الكلام إلّا إدراج بعضها في مجال الاستخدام، وعلى غرار ذلك؛ فللسرد قواعده العليا الراسخة في زعم السرديين الشكليين، وما نصوصه إلّا تعبير تنفيذيّ لها. وكما هو ظاهر، فهذا التصنيف ورث مضمون الثنائيات الضدّيّة المتوطّنة في الفكر الإنسانيّ منذ القدم، ولم يقع التخلّص منها، فهي تتلوّن بألوان الحقب التاريخيّة، وما زالت راسخة في المتخيِّل العامّ.
ومن المستبعد وجود قواعد سرديّة لابثة في أعماق النصوص، وأنّ الكتابة تشغيل لها، فذلك إفراط في المطابقة بين نموذج لغوي افتراضيّ ثابت، ونموذج سرديّ متخيّل ومتحوّل. ومع ذلك، فتعميم النموذج الأول على أنشطة التعبير السردي، لا فائدة منه، لأنّه يُضيِّق واسعًا؛ فالهوية المجازيّة للقول السرديّ في حال مستمرّة من التغيير، وبإخضاعها لقواعد معياريّة تنحبس في إطار مغلق. ولا يتوافق السرد مع أيّ يقين، ويندرج فِي هذا السياق مفهوم الوظائف التي استخلصها بروب؛ فهي منطق أفعال تقوم بها الشخصيات في نوع مخصوص من السرد، وهو الحكاية الخرافيّة، ومع محاولة غريماس اختزالها لتشمل أنواعًا أخرى، فلا ينبغي إسقاط المنطق الافتراضيّ لتلك الأفعال على الأنواع السرديّة، وهي كثيرة جدًّا، ومن المحال ضبط أفعال الشخصيات فيها، ومن العبث ترويض الحبكات الناظمة لأحداثها، علاوة على تنوّع صيغ السرد، وأساليبه، ووظائفه، وإلى ذلك، فالظاهرة السرديّة نسيج متلاحم من آلاف النصوص والخطابات المتباينة في معانيها ومبانيها وسياقاتها.
ما دامت صلتي بالسرد انتظمت بحسب الوصف الذي ذكرته آنفا، فكيف كانت نظرتي للسرد ولوظيفته؟ فالجواب عن ذلك يسلط الضوء على أسباب انشقاقي عن طائفة السرديين الآخذين بالمعايير النظرية للسرديات الكلاسيكية، فلقد رأيت إنّ الظاهرة السرديّة فعل اجتماعيّ ما خلا الأعمال التي تقوم بها الشخصيات المتخيّلة؛ فالسرد يفارق الواقع، ولكنّه لا ينقطع عنه. والأحداث سواء أحصلت في الواقع أم كانت قابلة للوقوع في السرد، متآزرة في سيرورة حدوثها، أي في تطوّرها، وامتدادها، وتشابكها، وكون جمهرة منها يقوم به الإنسان في الواقع، وأخرى تقوم به شخصيات العالم المتخيّل، لا يُجرّدها من التعاضد، والتفاعل، فليس لأحد إنكار الوظيفة التمثيليّة للسرد؛ إذ هي وظيفة اجتماعيّة تردم الهوّة الفاصلة بين العالمين، وتمدّ جسرًا رابطًا في ما بينهما. ومهما يكن السبب، فلا يجوز تجريد السرد من وظيفته الاجتماعيّة، وقصرها على الوظيفة الجماليّة، فذلك ينتهك وظيفة نشاط بشريّ بالغ التأثير في تاريخ الإنسان. ومن نافلة القول بوضوح، بأنه لا فائدة من الإيمان بوثوقية النصوص السرديّة، فهي تخيّلات منزلقة لا تَعْرِض يقينًا، لأنّها تستكنه الظواهر الاجتماعيّة، وتستبطن أعماقها، وتُعيد سبكها بشروط الخطاب الذي يُقارب موضوعاته بتراكيب، وأساليب، لا يقصد بها إنتاج حقائقَ مؤكَّدةٍ، بل أطيافٍ متداخلة تُلمِّح إلى تلك الظواهر مجازًا، ولا تصرّح بها بالأدلّة القاطعة.
ولمّا كنتُ لا أهدف، بأيّ شكل من الأشكال، إلى العثور على مطابقة صريحة بين العالمين، فالقول بتناقضهما قولٌ تُعوزه الأدّلّة، ويأنفه التفكير السليم، ولعلّ مصدر الاختلاف ماثل في كون الآثار السرديّة نتاج عمل أفراد مخصوصين، يستعينون بأعراف صنعة السرد في تركيب عوالم تلك الآثار، فيما لا تخضع أحداث الواقع إلى سطوة الأفراد، وإن انخرطوا في صنعها؛ فتكون القصديّة بائنة في إنشاء العوالم المتخيّلة، فيما هي مستترة في العوالم الواقعيّة. لا تستنسخ أعمال السرد أحداث الواقع، بل تنتقي ما يخدم هدفها بالتخييل شرط اهتدائها بأعراف النوع الذي تنتمي إليه، وبجملة شارحة أخرى، فالمشابهة بينهما ليست مماثلة غايتها المطابقة، بل تمثيل مجازيّ ليس من أهدافه التوثيق، بل الاعتبار، وحتّى لو قيل، تجوّزًا، بالمماثلة، فالذاكرة، وهي إحدى وسائل استدعاء أحداث الماضي، سوف تتولّى اختلاق الوقائع، إمّا بهدف تلطيفها وإما بغاية تلفيقها، فلا تُراعي شروط الأمانة في استعادتها؛ ويُستنتج، ممّا سبق ذكره، أنّ الوشائج بين أحداث العالمين تُؤكّد تحريفًا مقصودًا للعناصر المستعارة من الواقع؛ لأنّ لوازم التأليف السرديّ، وشروط العوالم المتخيّلة، فضلًا عن الفعل الماكر للذاكرة، لا تقبل بغير الانزياح من مستوى محسوس قابل للوصف إلى مستوى متخيّل قابل للتأويل، وعلاوة على ما فات ذكره، فتجريد أحداث الواقع من نواميس الترتيب يُخالف ما درجت عليه من خضوعها لقانون السببيّة المنطقيّة، الذي يُوازي قانون السببيّة السرديّة في الأعمال الأدبيّة.
وبحسب هذا التصوّر الذي بنيت عليه تحليلي النقدي، فلا تصلح الخبرات الإنسانيّة الممثّلة بالمرويات السرديّة معتمدًا لإنتاج الحقائق، فهي تخليق سرديّ يستوحيها، ويتظاهر بها، ولا يقرّ حملها بالأسلوب الذي وقعت فيه؛ فبلاغة السرد توسيعيّة، والإبلاغ عن حوادث الزمان بالسرد لا يهدف إلى إقرارها؛ فغايته إبراز صورها الحيّة أمام المدركات الحسيّة والتخيليّة، ومردّ ذلك إلى تنوّع الخبرات، وترادفها، وتناقضها، بالإضافة إلى تباين علاقات التواصل الإنسانيّ، وكيفيات عمل الذاكرة، وطبيعة الفهم، ونوع الشعور؛ وهذه كلّها يمتنع حشرها في إطار نظري تفسيري واحد، وقد أثمر تكاثر الخبرات الإنسانيّة انفتاحَ التمثيلات السرديّة؛ حتّى ليكاد السرد يكُون الجامع الأعلى لوسائل تمثيل تلك الخبرات، وما اقتصر دوره على الإخبار عنها، بل شمل عرضها، وتركيبها، وتفسيرها، وتجاوز ذلك إلى الإغراء بها بالترغيب وبالتهييج، أو استنكارها بالتأليب وبالتحريض.
ولمّا كان السرد وسيلة حبك لوقائع متناثرة، فلا يطلب منه أن يكُون شاهدًا على وقائع الحياة كما هي، وهو عاجز عن القيام بمهمّة لا تنسجم مع وظيفته التمثيليّة، فتراه ينتقي منها ما يُوافق أعرافه، ومجمل محتواه المتخيّل يربض في جوار تلك المنطقة بهويّة مجازيّة خاصّة تأنف من الإقرار بوظيفة التّوثيق؛ فهي ليست من الأصول الداعمة لهويّته. وعلى خلاف ما شاع عن السرد، ففرادته تكُمن في نفوره من تلك الوظيفة، أي في اصطناعه سياقًا متخيَّلًا بحبكة مقصودة تُدغم شذرات من وقائع الحياة في خطاب مجازيّ التكوين، وقد تعرّضتْ لما يتعرّض له الخلق الجديد من إعادة تشكيل تستوعب عناصره بكاملها؛ فانغماس السرد بتمثيل الحياة يُعيد خلق خبراتها بما يستجيب لأعرافه، وليس لأعرافها.
وبصرف النظر عن إمكان وقوع أحداث العالم المرجعيّ واستحالة وقوعها في العالم المتخيّل، فلا ينبغي فصم الصلة بين العالمين، إذ ليس المهمّ وقوعها أو عدم وقوعها، بل المهمّ التصديق باحتمال حدوثها سواء أوقعت فعلًا أم كانت محتملة الوقوع في السياق الحاضن لها؛ فذلك يجعلها مُدركة بالعقل أو بالمخيّلة، أو بهما معا. وعليه، فمن الضروري إبرام عقد ينصّ على انسراب شذرات من ذاك إلى هذا. وليس لأحد الادّعاء بقطع صلة عالم السرد بعالم الواقع، وذلك لو حدث، فهو لا يُفيد أيّا منهما، وما حدث لهما أن تبادلا الاستبعاد؛ فالبنيات المتخيّلة التي يقترحها السرد، وتلك التي يطرحها الواقع، قابلة لمزيج من الإدراك التخيّليّ والعقليّ، ولا يصحّ الانتصار لأيّ منهما على حساب الآخر؛ فالمفاضلة فيما بينهما تقوم على مبدأ آخر له صلة بتصديق أحداث الواقع، وتكذيب أحداث السرد، وهو موضوع لا علاقة له بهما في إطار العمل الأدبيّ، فهما مرتبطان بمشترك أعلى، وهو مشترك الرؤية الناظمة لأحداثهما. ولمّا كانت أحداث العالم المتخيّل تتلوّن بالرؤى السرديّة التي تخلع عليه تنوّعًا، فكذلك أحداث العالم الواقعي فهي تخضع لوجهات نظر الأفراد والجماعات، فلا تُعرض إلّا بمنظورات تتولّى تركيبها، أو أنها تعيد تركيبها وفق شروط تلك الرؤى؛ وهو المبدأ الذي يقوم عليه عالم السرد.
ولم أغفل التداخل والتخارج بين العالمين، ولئن ترحّلتُ في تضاريس الآداب السرديّة العربية القديمة والحديثة، فلأنّني رأيتُ فيها تفاعلًا وظيفيًّا مع المرجعيات الحاضنة لها؛ فهي ليست أشكالًا كتابيّة فارغة، ولا سطوحا ناشفة من الإنشاء اللغويّ، أبدًا، ما كانت كذلك مذ تداولتها الألسن في أوّل أمرها، لأنّها نفذت إلى ما وراء المسكوت عنه من الأعمال، وغاصت في عتمة الأسرار، وأشارت، على وفق مقتضيات السرد، إلى ما تعذّر الجهر به؛ فالمدونات السرديّة ليست خرساء، بل هي ناطقة بالإيماء، وغائصة في أعماق النفوس، والدفع بما فيها من أحلام، ورغبات، فهي لصيقة بالمناطق الجوانيّة للوعي، والإدراك، والمشاعر، ووسيلتها المداورة، والمراوغة، والتمويه، ولأنّها كذلك، فمن المحال، النظر إليها على أنّها حوامل للحقائق، أو أنّها نواقل للوقائع، فمرادها غير ذلك، وهي تنشد مطلبًا يُفصح عن نفسه بالإشارة الموحية، والعلامة الدالّة، فلا تقرّر أمرًا، ولا تُوثِّق حدثًا؛ فعوالمها تضمر المقاصد، ولا تجهر بها ، فلا تنكشف إلّا بعناء التأويل، فيكُون طلب المعنى فيها شاقًّا، والوصول إلى مبتغاها عسيرًا، وقسرها في أطر نظرية تحليلية مغلقة لا يتوافق مع هويتها المجازية؛ فالحقيقة ليست مطلبًا سرديّا.