جوع عظيم, جوع قاتل يتسلل من كل أروقة المدينة ليستقر في جسدي.
أنا الملك غير المتوج للجوع.
انحدر من قمة جبل الجوفة العظيم, من ممراته السرية والأروقة الغائبة الوجوه, نحو القعر دائما.
بنايات هائلة وشاهقة ومنارات رومانية للأزمنة الحديدية التي لن تعود.. مراى المدينة الغارقة في لجة المطر, تمنحك الاحساس بالضياع والجوع الأبدي الذي يمد أصابعه الطويلة ليلاحق أقدامك المتعثرة.
أتدثر بما يشبه المعطف والذي تركه رفيق لي اثر كبسة لشرطة التسفيرات ثم انحدر. أتدحرج وبعجالة أكبر خشية انهمار ديمة أشنع.
هنا.. جوع عظيم , معربد يشبه الغبش الصباحي أو الضباب المهيمن على عصافير الساحة الهاشمية.. أية استثناءات خارجة عن الوعي.. أي تقتيل لوقت ضائع ولا نهائي.
انحدر بعجالة, بسرعة زمن الخصاء, يدفعني الجوع وخارجا من الثقوب السوداء أو الرطبة التي انزوينا فيها دهورا وسنين.
أتحسس الرسالة القصيرة التي وصلتني يوم أمس, واشعر أنها لم تزل في أمان بعد, حاولت في ديمة متوحشة تذكر ثآليل الكلمات الهائمة والمتناثرة على الرسالة (أريد أن اراك حتما).. داحت في رأسي الهواجس, مرة مثل علقم, ممخضة عن الجوع والإفلاس.. أي جائع آخر قادم من مملكة المجوعين يتسول اللقمة الضائعة هنا?.. أهو صديق قديم ضاعت ملامحه في النسيانات الكبيرة, أم ديناصور خارج من ميثالوجيات محزنة..??
هل أمسى الجوع هناك عظيما حد النصل?.. أمسكت نفسي.. شهقت بالكاد.
فيما أراني أتزحلق في (مواخير) بلا نهايات.
(مواخير) مثقبة بروائح شتى, الخراء مع البقدونس, البقدونس مع البول, والبول مع قيء أحدهم.. ما أذكره حسب هو هذا المعطف ووجوه تشاركني ذلك الجب المنزوي في جبل الجوفة.
في الصيف تضاف وجوه أخرى, هي وجوه عابرة سريعة, تقدم من المجهول لترتحل بلا كلام نحو مجهول آخر, وجوه طارئة بلا ملامح لا تستطيع تذكرها بعد ساعات, اذ تسقط من ثقوب الذاكرة بسرعة مخيفة.. في بعض الاحيان أتذكر ثمة تواريخ سابقة, لكنها هي الأخرى تبدو مهشمة وكأنما تجرفها دوامة متلبدة بسخام اسود قاتم.. هو الجوع, ذلك القاتم الذي انشب فينا والذي لن يرفع رايات الاستسلام أبدا.
ها هي الآن الأكف, أكفنا, ترتعش بخفقات قصيرة متتالية, وثمة عصبة من سواد عظيم تحيط بالرأس والعينين.
انحدر مرة أخرى وبلا تؤدة بأقوى ما أستطيع, متدحرجا منزوعا من الحكمة, مشحونا بالتشوش والقلق.
مكتبة أمانة عم ان تبدو مثل وحش يقذف آكلة الورق, انهم اكلتنا, جماعتنا, شيعتنا الهاربة نحو أحصنة الفكر البليد, انهم يلتهمون الورق مثلما يأكل اعرابي آلهته المهيبة. وقتها لم اكتشف ان للجوع قداسة وروعة مثلما هي الآن.
انظر الى الساحة الهاشمية, حيث تقف عصافيرنا المبللة, معاطف متهرئة, مظلات عائمة, المطر يشبه حجر الصوان مؤذ وحاد, حاد وجارح.. أهرب الى اتجاه آخر, الموعد في مقهى العاصمة كما تقول الرسالة, اجتاز تقاطعات الطرق ومكتبة (أبو علي) ثم أدلف الى المقهى. في الداخل ثمة ضوضاء غير مفهومة, زبائن الدرجة الأولى يجلسون قرب المدفأة فيما ننثال نحن قرب الزوايا, عصافير مبللة تحاول أن تمسح المياه عن جماجمها العارية, بعد لحظات من الابتراد تشعر انك قد تبولت تحتك.
يمر وقت طويل ولم يزل الجوع شبحا قاتلا, مثل حد سكين مرهف, وحتى القماشة التي تلف الرأس تزداد رعونة.. أحدق في الأرجاء بعين الزمن الأعرج, الأصدقاء الأكثر مني جوعا تحولوا الى أشباح عائمة, فيما كلب الوقت ينهشني. أقرأ الرسالة في السكون الكبير, مرة بعد أخرى, تكرار القراءة يضيع المعنى الى الأبد. ليس هناك من جديد, ألتف مثل ثعبان داخل شعثي, أتدثر بالنافذة, فيما مراى الأصدقاء تذوب في همهمة الجوع.. لم أعرف ما الذي يريده هذا القادم الجديد? هل سيطلب المساعدة? شعرت بالغثيان حينما طرأت الى ذهني هذه الفكرة, القشعريرة كانت مدوية, وتشبه تلك التي تنتاب الرجل عند أول ممارسة للحب.
مرت أنصاف ساعات طوال, صلات أكثر التصاقا بالنافذة, خمنت فيها أن القادم لن يأتي وحينما هممت بالخروج وقف أمامي صعلوك في مقتبل العمر.. كانت ابتسامته قلقة وشفتاه ترتجفان.
طلبت منه الجلوس فيما ألعن في سري كل شياطين الأرض وعادات إكرام الضيوف, جلس الشاب بإرتباك واضح ثم نادى على النادل بخجل. أحسست بذعر عارم مشابه لحالة خروف يساق الى (المقصلة) وأردت الهرب, لكن الأبواب كلها اختفت عاجلني الشاب بأنه هو صاحب الدعوة فاسترحت.
شربت الشاي بهدوء لكن أثر الذعر لم يزل يرعش أصابعي.
بعد قدح الشاي الأول طلب الشاب قدحا آخر, شعرت بامتنان كبير وأحسست وقتها ان كل برد عم ان المتراكم في مفاصلي قد ذاب والى الأبد.
بعد قدح الشاي الثاني قال الشاب انه بحاجة الى مساعدتي في أمر خاص وسري للغاية. تنحنحت قليلا ولففت نفسي بما تبقى من المعطف.. كان من المفترض أن تجعلني كلمة المساعدة اشعر بالذعر مرة أخرى لكن أقداح الشاي جعلتني أكثر بشاشة. سحبت سيجارة من علبة الشاب وامتصصتها بحيوانية كبيرة.
– ما نوع المساعدة? قلت.
– شيء ليس صعبا عليك أيها الأستاذ.
– هل يتعلق الأمر بقروش مثلا? قلت فيما زاغ بصري فجأة.
– لا. لا . على العكس تماما, اطمئن أرجوك, هل أطلب شايا آخر.
– بالحليب لو سمحت.. قلت.. حسنا ما هو الأمر?
بدا الشاب أكثر اضطرابا وأنا أصوب نظري اليه من فوق حافة القدح, بعد ذلك استطاع التغلب على ارتباكه.
استاذي الفاضل, الموضوع بسيط للغاية, احتاج الى ان تكتب لي (مضبطة) اروي فيها ما وقع علي من اضطهاد, انها قصة حقيقية.
واصلت ازدراد الشاي بالحليب مثل عجل, فيما السكينة والهدوء ترفرفان فوقي. استمر هو بالحديث عن أشياء ما عدت اسمعها, نوع من الخدر كان يتمدد على طول جثتي, وحينما انتهيت من قدحي لاحسا حافته المسودة, قلت نعم هائلة وكبيرة.
صافحني الشاب بقوة وداهمني إحساس هائل بالسعادة, بدأنا مشروع الكتابة.. وانتهينا الى ان نلتقي بعد يومين.
خرجت من المقهى متخما بالقهوة والحليب والسجائر المهربة التي احتفظت بعلبة كاملة منها. تلفعت بمعطفي ودخلت سيل آكلة الورق تاركا الجوع واللاصحو المتأتي من عدم شرب قهوة الصباح.
غيوم المدينة ثآليل بيضاء وسط زرقة عظيمة, والزرقة هي اغتسال من وعث التلوث البيئي, ومع آكلة الورق غرقت بكل جوارحي.
بعد يومين التقينا عند بوابة المقهى. الانشغالات التافهة اخرتني عن الوصول في الموعد المحدد, اعتذرت بسرعة فيما كانت ملامح الشاب تعبر عن فرح غامر. عاجلني بدعوة الى وجبة إفطار عند مطعم هاشم, ولا أعرف كيف عرف اني لم أفطر منذ أعوام مديدة.
كنت حاولت أن أعقد صفقة مع أحد الصعاليك بمبادلة قسم من السجائر بوجبة افطار, لكني فشلت.
انحدرنا , أنا والشاب, من مقتربات مكتبة عم ان. إحساسي بالسعادة (يتفاقم), وصرت أشعر أني أعيش أجمل أيام العمر.
تناولنا وجبة الإفطار, بعد ذلك اندسسنا في السيل البشري المتراكم أمام مطعم كنافة النابلسي. بعد أن خرجنا داهمني احساس فريد بأني أكثر سعادة من فخري قعوار وهو يسترخي في كرسيه الوثير مدخنا الغليون وناظرا في وجوه صبوحة.
تحدث الصديق كثيرا عن أحلامه في أن يقبل طلب اللجوء الذي قدمه وفيما كان يتحدث كانت أمنياتي العظيمة تتجه للأكل في مطاعم الشميساني.
تركت الصديق بعد أن تواعدنا أن نلتقي في يوم آخر لنتابع آخر أخبار طلبه, وفيما سوف يتحدث عن قضيته سيكون علي أن أفكر في المطعم القادم, والوجبة التالية أيضا.
تأبطت جريدتي وسرت مرفأ.. التدخين والتأمل من شرفة يمنحك الاحساس بالقدرة على التخيل والعطاء. منحت بعض العصافير المبللة فناجين من القهوة والشاي وبانتظار يوم آخر نثرت موائد الشبع لبعض الصعاليك.
التقينا في يوم آخر عند ناصية المقهى, هذا اليوم على ما يبدو كان مختلفا. توقفت ديمات المطر وانحدرنا من هناك الى مطعم القدس حيث تناولنا وجبة افطار عظيمة. كان الشاب اليوم أكثر تفاؤلا حيث أسر لي انه قد تم قبول طلبه, ومن المؤكد انه سوف يسافر في القريب العاجل. شرح لي كل ذلك مع الاعتراف بالجميل الذي أسديته له وهو يريد أن يكافئني بشيء عظيم, انه وحسبما قال يعرف بحالنا, نحن العصافير المبللة والصعاليك المحرورة, اكلوا الورق بلا رحمة.
مررنا بعد الخروج من المطعم مفرغا أنا من الجوع, وبمحلات الملابس الجديدة اخترت من هناك أطقم رائعة وملابس داخلية مذهلة, كذلك أعجبني غليون شبيه بغليون فهد الريماوي.. صديقي العزيز لم يبخل علي بشيء مطلقا, طلقت الجوع ثلاثا وتركت الملابس الرثة عند أدراج الجوفة وفيما يتعلق بالجحر القديم الذي أنام فيه تركته هو الآخر واخترعت واحدا أكثر بعدا عن السماء.
في الصباح رميت كل الأشياء القديمة لكن معطفي المهلهل بقي معلقا مثل عجوز ينظر الى الأفق ببله مقزز. لم أعرف لم شعرت به بالشفقة.
تحممت بصابون الرائحة اربع مرات ولم تمنعني قطرات مطر متباعدة من الهبوط الى المدينة, كنت أشعر بأقدامي تتسارع, لابل أن كل جزئية من جسمي كانت تتلاحك مع الهواء ولتصل قبلي إلى موعد اللقاء.
بدأت السماء ترمي نثيثا متصلا, نثيث غريب لم ألحظه من قبل وشعرت بالأسف كوني لم اشتر البارحة مظلة. وصلت المقهى على عجل وذهبت الى الطاولة حيث نافذتي إلى العالم, صمت دقائق لأبحث في ذهني عن مطعم اليوم وبأني سوف أطلب منه مبلغا معتبرا.
مضت بضع دقائق لزجة, ثم دقائق أخرى ممطوطة, لكن الشاب لم يأت. صرت أشعر بالجوع يغلي في معدتي, بل يتفجر ثم يسحلني في الشوارع مثل أبله.. صورة المدينة بدأت بالتغير والإحساس بالتبول بدأ يداهمني.. مرت أنصاف ساعات طويلة كانت جثتي فيها ترتعش وداهمني شعور عارم بالكلبية.. نظرت الى المارة, عيون الآخرين بدت فاقعة ومملوءة بأسئلة محيرة ما عدت أعرفها. ثمة صوت مستوحد فقط أخذ يدوي في ذهني, كان الصوت عظيما وهو ينطلق من كل جثتي, النصب الرومانية تتلوى ثم تختفي وأفواه الآخرين تتسع الى النهاية القصوى, من السماء وعبر النافذة كان مطر حجري يتساقط في دوي مكتوم. رميت برأسي الى الطاولة وانحدرت في غيبوبة ثانية.
صلاح صلاح كاتب من فلسطين