عبد اللطيف الوراري
شاعر وناقد مغربي
نسأل ابتداءً عن مفهوم (الصورة)، وعن حدود (الثقافي) الذي تستوعبه، من أجل كشف تمثيلاتها وتمييز الواقعيّ فيها من المتخيل الذي يفرضه شكل الخطاب.
يقصد بـ(الصورة) إعادة تمثيل ذهني يصدر عن «الأنا»، ومعرفة يعكسها في خطابه عن «الآخر» عبر متن ما، مرئي أو شفوي أو مكتوب. ولهذا، فـ«كلّ صورة إلا وترتبط بوعي، كيفما كان حجمها، وكذا بالـ”أنا” في علاقتها بـ”الآخر”، والـ”هنا” في علاقته بـ”هناك”. وتصبح الصورة من ثَمّة، نتيجة لبعد دالّ بين واقعين ثقافيين»1. وتشمل الثقافة، كما درج في الدراسات الثقافية والصورلوجية، مجموع العادات والمعتقدات والسلوكات والقيم والمعارف المكتسبة لأمة من الأمم، أو لمجموعة إثنية ما (الدين، القانون، الأخلاق، الأساطير، الطقوس، العمارة، الطبخ، المأوى، الملابس والمجوهرات…)، مثلما تشمل الممارسات الخاصة بالنشاط الفكري والفني (الفلسفة، الفنون، الموسيقى، الشعر والأدب..)، التي يكتسبها الأفراد في المجتمع ويمارسونها بشكل خلاق من خلال ثقافتهم الوطنية على نحو يحدد ميولاتهم وإبداعاتهم ورؤيتهم للعالم. ومن هنا، يُنظر إلى الثقافة «كنسق من الأفعال والممارسات والعلاقات (ثقافة لامادّية) والسلع والصناعات وما إليها (ثقافة مادية)، أو على أنّها نسق من الرموز والمعاني..»2. ومن مجموع هذه السمات يتشكل التراث الثقافي لبلد ما وهُويّته بما تنطوي عليه من خصوصية وتنوّع وانفتاح، ومن تأثير وتأثُّر في آن واحد.
وبما أنّ الرحلة، عدا كونها جنسًا أدبيًّا، وفسيفساء نصوص وشكلًا توليديًّا3، فهي خطابٌ ثقافيٌّ يتيح لها أن تشكل «الأرضية الخصبة لتناسل الصورة وتكاثرها»4، ويجعلها تحتضن تاريخًا من الصور والتمثيلات الواقعية والمُتخيّلة، وتنقل أفكارًا ومشاهدات وخطابات عن الفضاء المرتحل إليه، والمختلف إيديولوجيًّا وثقافيًّا. فالرحالة، والحالة هاته، لا ينتقل بجسده ومتاعه المادي، بل بوعيه ولغته وثقافته إلى هذا الفضاء، فيواجه “الآخر” ويبني من خلال لقائه به، ومن خلال مشاهداته في الحاضر ومعايشته لها، صورةً “ثقافية” عنه تتداخل فيها عناصر عاطفية وتاريخية وإيديولوجية هاجعة في المخزون الجمعي وذاكرة النصوص والأجيال.
وإذن، فالرحالة -بما هو ذات تاريخية- لا يعكس هذه الصورة بمعناها المرجعي، وإنما أكثر من ذلك يعيد إنتاجها وتأويلها قياسًا إلى «الفضاء الإيديولوجي» الذي ينتمي إليه، ووفق قواعد الخطاب وبنياته النوعية والتلفُّظية؛ «فالذات التي رأت وترى ليست هي الذات التي تتكلّم»5.
تبحث هذه الدراسة ثلاث قضايا مترابطة فيما بينها: ما هي الصورة التي حملها بعض شعراء المشرق العربي المعاصرين في رحلاتهم إلى المغرب؟ وما هي أبرز سمات المكان الثقافي التي رصدوها وتَمثّلوها وكشفت عن صورة بديلة ومختلفة يتقاطع فيها الواقعي والخيالي؟ وإلى مدى تَدخّل شكل الخطاب في بلورة الصورة “الثقافية” بما تنطوي عليه من استرجاعات اللاوعي والذكرى وروح الاكتشاف وقلق التأثر والمقارنة؟
تمثيل المغرب: حصان عقبة وهوى الأندلس
يندرج المتن المدروس ضمن أدب الرحلة المعاصرة، وهو يتألف إمّا من فصول ضمن كتب رحلية مفتوحة، أو من نصوص متفرّقة تفتح هذا الأدب على فنون الشعر والبورتريه والشهادة والمقالة صدرت بين عامي 2002 و2020؛6 وهو لخمسة شعراء عرب معاصرين؛ هم: الأردني أمجد ناصر، والعماني سيف الرحبي، والعراقي فاروق يوسف، والمصري أحمد الشهاوي ثم التونسي منصف الوهايبي. زاروا المغرب بين أواخر التسعينيات (1999) وبدايات الألفية الجديدة، وجمعتهم مرجعية الشعر الجديد الذي يرفد حساسيّاته من قصيدة النثر، لكن تفرّقتْ بهم سبل النظر والفكر وأساليب الكتابة؛ وبالتالي، سنرى أنّ تمثيلات (الصورة) عن المغرب ثقافيًّا، تتباين من شاعر رحالة إلى آخر تحت تأثير الفضاء الثقافي الذي نزل به وعايشه داخل هذه المدينة أو تلك (الدار البيضاء، طنجة، تطوان، سلا..)، وتبعًا لخلفيته الفكرية والجمالية، ومدى تعبيرها -إيديولوجيًّا- عن علاقات القوة التي تفرضها «المركزية المشرقية» بما هي امتدادٌ أو صدىً لسلطة مرويّات وميثات وتنميطات ثقافية جاهزة للآخر القريب، ترعرعت داخل «دار الإسلام» نفسها7، أو تعبيرها حينًا آخر عن اندحار اللحظة في الزمان الحاضر، ثُمّ تبعًا للشكل الذي استدعى لإنجاز الرحلة، من نصّ إلى آخر، أبعادًا شعرية وحجاجية وإعلامية وعرفانية.
ويظهر من خلال معظم نصوص هذا المتن، أنّ المتكلم فيها تسبقه إلى المغرب المرتحل إليه، صورةٌ مُتخيّلةٌ عنه قائمة على مرجعية سابقة الوجود عن التمثيل، وقد ارتبطت بفترة مبكّرة من حياته تحت تأثير سلطة أيديولوجية محددة (تعليم، إعلام، سينما..) تضمن توالد هذه الصورة كتمثيلات وانعكاسات جماعية وتعابير مؤدلجة، واستمرارها في اللاوعي الجمعي بشكل أو بآخر، من ذات إلى ذات.
1.2.
يستحضر الشاعر الأردني أمجد ناصر في رحلته المعنونة بـ«رحلة إلى الدار البيضاء: مجيء الزمن المغربي» (2002)، مثل هذه الصورة عن المغرب، التي تلقّاها هو وأبناء جيله في طفولاتهم من كتاب التاريخ المدرسي، عبر رسمة مُتخيّلة لعقبة بن نافع على حصانه في مسيره غربًا لفتح بلاد شمال إفريقيا: «كانت صورة عقبة يقحم حصانه مياه البحر المحيط واصلًا إلى أقصى نقطة يمكن أن تبلغها أنفاسه اللاهثة هي أول صورة تحتفظ بها ذاكرتي للمغرب»، يقول أمجد. وإذن، فالصورة ترجع إلى ماضٍ بعيد؛ إلى زمن الفتوحات الإسلامية، وتكتنفها هالة غامضة وشبه أسطورية ساهمت في صوغها الأدبيات السياسية والجغرافية بدرجة خاصة. فالمغرب منظورٌ إليه «كمكان قصيّ تغرب وراءه الشمس وتنتهي عنده الأرض ليبدأ بعدها المجهول»، غير أنّ نهاية الوجود العربي والإسلامي على الضفة الغربية من البحر الأبيض المتوسط بعد سقوط غرناطة، سوف يُقرّب المكان ويؤنسنه لأنّه «آخر أرض تسكنها العربية ويتردد في جنباتها الأذان». لكن الصورة في ذهن الرحّالة بقيت غامضة، وحتى محيطه القريب لم يساعده على تكوين صور أخرى لها علاقة بالحاضر الذي يحياه، سوى أنّه «مملكة عربية إسلامية» أو ما تلقّفه من أبيه عن الصيت الطيب لمحمد الخامس، أو ما سمعه من طروحات اليسار المغربي الراديكالية كانشغال ثقافي بالنسبة إليه، قبل أن تتعرض الصورة للتعديل أثناء رحلته الأولى للمغرب عام 1991.
2.2.
في نصّه الرحلي «طنجة: مغيب المغرب العربي الكبير»، يستحضر الشاعر العماني سيف الرحبي بدوره هذه الصورة الغامضة منذ طفولته البعيدة عن البلاد المغاربية، ويُرْجع ذلك إلى ما كانت تمارسه ثقافة بلاد المشرق العربي بكافة مناحيها، بجانب الإرث المحلي، على الوعي العام: «.. نفر من الطلبة ذهب من إلى المغرب، وجاء بأخبار مثيرة عن طبيعة تلك البلاد التي تفوق بلاد المشرق ولطف تعامل أهلها مع الغرباء».
منذ نزوله بـ(رأس سبارطيل)؛ إحدى ضواحي طنجة البحرية، قادمًا إليها من مطار (أورلي سود) الفرنسي، يحتمي الرحالة بالماضي الغابر وهو يستعيد «مجد الأمويين وفتوحاتهم»، وبطولة عقبة بن نافع الذي يتقدّم صُعدًا بخيله، من غير خرائط ولا مُجسَّمات وأدلّاء، حتى تخوم المحيط، ومثل ذلك القائد المغربي يوسف بن تاشفين. كما يخامره شعور الاستعادة (النوستالجيّة) حين يذكر مجد العرب وحضارتهم معمارًا وعلومًا وفلسفة، وكيف أرسى المؤسسون الأوائل دعائم مشروع الحضارة العربي الإسلامي في غضون عشر سنوات، والذي هيمن على العالم من حدود الصين حتى جبال (البرانس) في القارة الأوروبيّة، ما لم يتحقق زمنيًّا في أي حضارة أخرى قبلهم، بما فيها روما العظيمة. وحين يعبر أرض الأندلس، بدا كأنّه يرثي «الفردوس المفقود» مسحورًا بسخاء طبيعته التي تحتشد بالجمال والبهجة وعزاء النفس.
غير أنّ هذه الاستعادة لا يستدعيها الشاعر لترف أو لحنين إلى تاريخ منقرض وماض تليد مضى، بل لـفرط ما يحمله من «أثقال غثيان الحاضر وانحطاطه»، إذ يرثي تجربة الراهن العربي المأزوم الذي يتميز بالخطر والتلاشي و«تحتدم فيه حروب العبث الطائفي البشعة سارقة أحلام التغيير الحقيقية، النبيلة»، ابتداءً من (قوارب الموت) إلى انفجار الوضع المشرقي الذي تسبب فيه ما عُرف بـ(الربيع العربي) وكانت نتائجه أكثر قسوة واندحارًا عن حياة العصر الحديث وعناصره واستحقاقاته. ومن مفارقات هذا الزمن -في نظره- أن يجري «التنكيل بالتاريخ» من طرف كتاب دراما وأدباء و«مفكرين» عرب، وهم يُصوّرون هذا التاريخ كأنّه «ماركة مسجلة لمصانع الحقد وغرائز الانحطاط الطائفي»، بل «تفوّقوا بشكل ساحق على مرجعياتهم الاستشراقيّة في أسوأ أحوالها»، إذ لا يزخر -في نظر هؤلاء المستشرقين وتابعيهم- إلا بالشرّ والدم والوحشيّة.
يستذكر كلّ ذلك بمرارة، بقدر ما يحاكم رمزيًّا واقع اللحظة العربية وفظاعتها واندحارها الدامي، لكنّه يجعل من رحلته -لا شعوريًا- عزاءً للتأسّي ومُتنفّسًا للهروب من «سطوة الحنين ومازوشيّته».
3.2.
يستعيد الشاعر العراقي فاروق يوسف بدوره «الفردوس المفقود» في رحلته إلى مدينة تطوان باعتبارها «ملاذًا للأندلسيين» بعد أن هربوا بعد سقوط غرناطة من القتل على الهوية، مسلمين ويهودًا. لكنّه لا يعمد إلى استعادة التاريخ وتمجيده، بل يتماهى عاطفيًّا مع عمران المدينة (البرج، القصبة، الدروب والأزقة) الذي يُجسّد في نظره «نوعًا من أندلس مستعاد»، وفي مُخيّلته مدينةً مُهاجرةً تترحل في التاريخ بشتى أصواتها ولغاتها ورؤاها وهويّاتها لأقوامٍ كوّنوا مزيجًا خِلاسيًّا ووصلوا إليها «من أجل لذة العيش في أندلس»، تاركين وراءهم مجد تلك الديار.
يمتح الرحالة سرديّته من «الخيال الأندلسي» لتحقيق هذا التماهي، فيتلبّس عاطفة لا زمنية ويتصوّر نفسه مثلهم هاربًا بلغته وهُويّته بين أزقّة تطوان: «هي ذي مدينة قررت أن تكون موجودة خارج التاريخ. مدينة المهزومين التي لا ترغب أن يراها أحد. من خلال تطوان يمكن للمرء أن يتخيل كم كان الخيال الأندلسي ممكنًا يوما ما. يمكنك أن تقول ‘كنت هناك’ من غير أن تحرك قدميك. كانت الخارطة تتحرك تلقائيا بمجرد سماع صوتك. الحالم والحلم أنا في الوقت نفسه».
وفي مسيره إلى طنجة، يستدعي -لا شعوريًّا- الرحالة والجغرافي الشريف الإدريسي؛ ابن المدينة الذي «اخترع أول الخرائط في التاريخ». وقبل ذلك استدعي من خلال اسم المطار صورة الرحالة ابن بطوطة الذي «عَوْلَــم الكائنات قبل قرون». لا يخفي تعلّقه بالمدينة التي أحبها وطالما خطّط للاستقرار فيها: «فطنجة مدينة كريمة وخفيفة بطريقة غامضة. تحتضنك كما لو أنك كنتَ دائمًا اِبْنًا بارًّا عاد إليها لتوّه». يعبر فضاءاتها ويتذكّر أسماء مبدعين وفنّانين ارتبطوا بها وبتاريخها السردي والبصري؛ محمد شكري، وهنري ماتيس، وأوجين ديلاكروا، وجان جينيه، وبول بولز الذي عاش حياته كلّها في طنجة واكتشف رواتها الشفاهيين وقدّمهم إلى العالم.
لكن سرعان ما يقع السارد بدوره في “فتنة” الاستشراق وهو يستدعي صورة هنري ماتيس في فيلا دو فرانس ويضفي على أغراضه مسحة غرائبية، مثلما يعيد إنتاج الصورة الحالمة لمدينة مغامرين وضائعين توجد في طنجة، وأخرى في تطوان «هاربة» من الأندلس.
4.2.
يصل الشاعر المصري أحمد الشهاوي إلى طنجة، ويجدها «مدينة مُحبَّبة وأليفة، وقريبة من الرُّوح»؛ ومن طنجة على هدير أمواجها المتعاقبة، تتراءى له الأندلس، وسبتة المحتلة إسبانيًّا، ومضيق جبل طارق، وهو ما يطلق الخيال من عقاله مشحونًا بطاقة الإيحاء العرفاني الذي يتعالى على الزمني «فتحتُ نافذةَ الغرفة لأعيشَ أجواء طارق بن زياد..»، ومتجاوبًا مع حلم طفولي «منيتُ نفسي أن تكونَ المغربُ وجهتي عندما أكبرُ..»؛ فيستعيد ابن بطوطة، وطارق بن زياد الذي عَبَـر المضيق بأمر موسى بن نصير وقاد فتح شبه الجزيرة الإيبيرية التي بقيت تحت حكم المسلمين ثمانية قرون، حتى سقطت تحت سطوة الطوائف المتحاربة، وكيف عاد إلى دمشق خائبًا معزُولًا بعد نصر مُدوٍّ غَيّر التاريخ. وفي سلا جدّد ذكرى الأندلس ونداءها المُمتد في ذاكرة الزمان، واستعاد الشاعر الأندلسي لسان الدين بن الخطيب الذي عاش فيها ثلاث سنواتٍ وأَحبَّ التجوال فيها، وذكَرها في مقامة البلدان. كما يعترف بِدَيْـنه لأقطابِ التصوف الذين وفدوا على المشرق، ومصر تحديدًا؛ مثل: السيد أحمد البدوي، وعبد الرحيم القنائي وأبي الحسن الشاذلي.
5.2.
أما الشاعر التونسي منصف الوهايبي الذي أتيح له منذ أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، أن يتردّد على المغرب زائرًا مدنه، ومستلهمًا منها نصوصه شعرًا أم نثرًا، فلم يصدر عنه حديث (نوستالجي) أو تمثيل ٱستيهامي لبعده -كتونسيّ ومغاربي- عن سلطة المركز، لأنّه يستدعي تمثليّة المغرب ضمن مفهوم (الجوار) روحيًّا وثقافيًّا، وينظر إليه في حاضره الذي يزاوج بين ثقافته العريقة وتقاليده السمحة وبين حداثة العصر الذي انخرط فيه، بل إنّه لم يغفل «البعد الأندلسي» الذي عرف كيف يحتفظ به ويُجدّد فيه.
المغرب الثقافي: من هامش المركزية إلى معترك الحاضر
نستخلص مِمّا سبق، أن تمثيل المغرب كأرض وتاريخ من طرف معظم هؤلاء الشعراء، قد صدر عن جهاز أيديولوجي مشبع بتعابير تاريخية وانعكاسات ذهنية وعاطفية؛ بعضها استدعته سلطةُ المركز، ورغبةُ مُمثّليه ليس في معرفة الآخر أكثر من إشباع صورة التماهي معه لا شعوريًّا، من خلال مظاهر النوستالجيا والحنين والشعور بالفقد، وبعضها فرضه اندحار اللحظة في الزمان الراهن.
لكن هذه الصورة ستتعرض للتعديل في الحاضر، انطلاقًا من مشاهدات كلّ شاعر في عين المكان، واحتكاكه -على نحو ما- باختلاطات الحياة والناس والعمران، وتدافعه مع الأفكار الجارية، ثُمّ انطلاقًا من شكل الخطاب الواصف الذي بنى عليه لغته وبلاغته ورؤيته، وبالتالي شَرَط غيريّته بمنظور جديد.
1.3.
الراهن الثقافي وانتقالات الفضاء المغربي:
كانت المقصدية التي وجّهتْ رحلةَ كُلّ شاعرٍ، وقد اختلفت دواعيها وتأثّرتْ بالسياق السياسي والنفسي الذي أتت فيه، هي اكتشاف الراهن الثقافي المغربي وبناء صورة يستقي عناصرها ومفاصلها من عين المكان، أو يستنجد بكتب التاريخ إذا اقتضى الأمر ذلك، فتكون هذه الصورة بديلةً عما يعرفه هذا أو ذاك من معلومات شحيحة وغامضة؛ إذ “ظلّتْ جهة المغرب -كما يقول أمجد ناصر- صامتة” بالنسبة إليه وإلى أبناء جيله على المستوى الثقافي.
1.1.3.
بعد رحلته الأولى إلى المغرب عام 1991، والثانية بمناسبة انعقاد مؤتمر اتحاد الأدباء العرب بالدار البيضاء عام 1995، تأتي رحلة أمجد ناصر الحالية، متحفّزًا ليعرف أكثر عن مغرب ثقافي بدأت بعض الجهات (اتحاد كتاب العرب) والمجلات الثقافية (الثقافة الجديدة، اليوم السابع، الكرمل..)، أو حتى جريدة (القدس العربي) الذي عمل محرّرًا ثقافيًّا بها، تُعرّفه به وتقيم جسورًا معه؛ مغرب ثقافي وجد أنّه “يبلور أسئلة معرفية سيأتي الوقت الذي تُفاجئ وتُحرج فيه ‘المركز’ المنشغل بحطام الوصف وصخب الأيديولوجيا”. كان الشاعر الأردني مدعوًّا للمشاركة في فعاليات معرض الدار البيضاء الدولي للكتاب، وقد تزامنت مع صعود الاشتراكيين إلى سدة الحكم ضمن ما عُرف بـ(حكومة التناوب). ومنذ حلوله، كان أمجد يستجمع أطراف صورته عن أحوال المغرب السياسية والسوسيوثقافية والروحية والعمرانية من مصادر متنوعة؛ سواء من مرافقه محمد؛ الموظف الحكومي البسيط الذي حمله من مطار محمد الخامس وأفضى إليه في الطريق بمشاكل طبقته الاجتماعية الكادحة، أو ممن التقاهُمْ من أصدقائه الكتاب (محمد بنيس، الطاهر الطويل، سعيد الكفراوي)، أو من مطالعاته للصحافة المغربية، أو من خلال الرجوع إلى مؤرخين وإخباريين مغاربة وأجانب (مارمول، مصطفى شويكي، فيسغربر، القاضي هاشم المعروفي..). وقد سمح له ذلك أن يحيط بأحوال البلد المرتحل إليه، التي ورثها من سالف العهود (تديّن المغاربة ارتباطًا بآل البيت أو بالزوايا الصوفية، احتفالهم بليلة المولد النبوي، ولعهم بالطقوس والشعائر، الفوارق الاجتماعية والطبقية، اندحار الطبقة الوسطى إلى أسفل السلّم الاجتماعي، أصالة المدينة القديمة وقيم الحميمية والتكافل والتعايش عند ساكنتها مسلمين ويهودًا، تأثير التمدين الكولونيالي الأوروبي في الجانب الحديث منها، تأثير المهاجرين الأندلسيين في المطبخ المغربي من حيث وصفاته وطرائق إعداده، حكاية اسم الدار البيضاء..)، أو يرصدها بنفسه في زمن الرحلة (مخالفات موظّفي المطار الذين يميزون بين السياح أو يطلبون “بقشيشًا” أو “هدية”، استخدام قوات الشرطة لفضّ احتجاجات العاطلين عن العمل من حملة الشهادات الجامعية العليا، غلاء المعيشة الذي لا يناسب دخل الفرد، الرثاثة العامة التي تطبع المكان واحتشاده بالمهن والمصالح المتضاربة، التفاوت المجالي بين حي وآخر داخل مدينة الدار البيضاء بوصفها “وجه الحداثة المغربية المؤلم”، سحر مسجد الحسن الثاني إلى حد الإعجاز من حيث هندسته وأشكاله الزخرفية ومقامه على الماء).
وبما أنه كان مدفوعُا بحافز الاكتشاف، لا يصدر أمجد أحكامًا مسبقة أثناء رصده لِمُـؤثّثات الفضاء الرحلي، ولكن يبنيها على أساس المشاهدة الحية التي تتدفق في متواليات الوصف الأصيل والبديع، أو وفق مبدأ المقارنة بين مغربي أصيل وكولونيالي مُهجّن (التفاوتات الطبقية والعمرانية بين المدينة القديمة والمدينة الحديثة)، وبين مغربي ومشرقي (ظاهرة السقّائين، أداة الأذان الخالي من الطلاوة والتنغيم كما عند المشارقة: “صوت صلد، فيه من النذير أكثر مما فيه من التذكير”، اختلاف شكل المئذنة بين الجامع المشرقي ونظيره المغربي، أمن اليهود المغاربة بخلاف ما تعرّضوا له من عسف وإيذاء في بعض البلاد العربية، تميّز مائدة المطبخ المغربي عن نظيرتها المشرقي في بعض موادّه وأذواقه المُنكّهة (البسطيلة نموذجا). وأحيانًا، يتعرّض حكم الرحالة للتعديل كما حصل بالنسبة إلى رأيه في بناء مسجد الحسن الثاني؛ حين ٱدّعى بأنّ المبلغ الذي أُنْفق عليه يجب أن يُدّخر لمشاريع اقتصادية واجتماعية، قبل أن يقتنع بقوله: “لكن الأعجوبة الجمالية التي اجترحها لا تُقدّر بمال. ليس هناك مال في العالم يمكن أن يكافئ صنيع هذه الأيادي التي ٱستلّت الرقة والرهافة من الخشب والجبص والحجر والطين. لست أقابل بين الجمال ورغيف الخبز، بين شغف الفن إلى الخلود وعيش اللحظة الراهنة”.
بيد أنّ الرحالة كان معنيًّا أكثر برصد الحالة الثقافية، ولهذا يسوق نماذج حيّة تكشف عن تحول حياة المغاربة في هذا المستوى؛ مثل التأثير الغربي في الشباب المغربي (تسريحات الشعر، ارتداء الملابس الفضفاضة، سماع موسيقى “الهيب هوب” و”الراب”..)، وتحرير الغناء الأمازيغي في الفضاء العام جنبًا إلى جنب أغاني “الراي” الجزائري وغناء “الشيخات” و”الأجواق”، وفلكرة بعض الظواهر الثقافية مثل السقائين الذين ارتبطوا بقوة التقليد ورواج السياحة).
2.1.3.
ظلّ سيف الرحبي يتردّد بصورة دائمة، منذ مطلع الثمانينيات، على المغرب وحواضره الكبرى (مراكش، فاس، الرباط، الدار البيضاء، أصيلة وطنجة)، إلى حدّ أنه عقد ألفة مع المكان المرتحل إليه وصارت له ذكريات فيه؛ “البلد الكريم بشرًا وطبيعةً” بحسب وصفه، إما لمناسبات ثقافيّة وتعرّف من خلالها على الوسط الثقافي المغربي ووثّق الصلة به جماليًا ومعرفيًا، أو لمناسبة خاصة حيث يأخذه الحنين بين الفترة والأخرى لزيارة الربوع ولقاء الأصدقاء، وفي كل مرة كانت تتجدد روح الاكتشاف عنده.
من شمال المغرب بين أصيلة وطنجة؛ حيث “تلك التلال الغابويّة المطلة على المتوسط والأطلنطي”، يطلق الشاعر العنان لحواسّه وجسده للاستجمام والتأمل، مأخوذًا بسحر المكان وأساطيره (مغارة هرقل)، وبالبحر الذي تعبره “قوارب صيد وناقلات عملاقة”، ويحتشد في ذروة الصيف بجموع الناس، ولاسيما بعد عودة المهاجرين المغاربة وقضاء إجازة الصيف في بلدهم الأصلي، من ذوي الجنون والولع بالبحر في طواف حجيج شبه مقدّس “كأنما يغتسلون من أثقال عام مضى..”. ويرى في تدفُّق الجموع “المكلومة” نحو البحر سانحةً للاستمتاع بـ”نعمة النسيان” والهروب “من أسر الضغوط ومصائب الحياة اليوميّة”، “إلى رحم الأرض الأمومي”. لا يخفي إعجابه بـ”هذا الكرنفال المغربي البحري” الذي يعكس علاقة المغاربة الصوفية بالبحر، وبكرم الطبيعة وسخائها، وبطعام الكسكس، وشغف المغاربة حدّ الهوس والجنون بالفنون والفلسفة كتابةً وسلوكًا. كما يرصد تَغيُّر فضاء طنجة من ناحيتها البحرية، بعد أن اختفت بسبب ظهور الكورنيش سلسلةُ المطاعم بتنوعها الإثني الذي يُذكّر بماضي المدينة وغلبة الطابع الإسباني عليها. ويستعيد حكاية محمد شكري الذي عاشت المدينة تشرده، وشقاء طفولته المبكرة، ومجده الأدبي، قبل أن يداهمه المرض العضال.
بيد أنّ هذا الإعجاب الذي يعكس افتتان الشاعر بالفضاء المرتحل إليه، يوازيه استياؤه من بعض المظاهر الثقافية التي رصدها داخله؛ مثل: غياب مرافق البنية التحتيّة للسياحة (مقاهٍ ومطاعم واستراحات..) تليق بإمكانات البلد الطبيعية الكبيرة على شاكلة ما يحصل في بلده سلطنة عمان، وهيمنة الفرنسية في المعاملات اليومية رغم أن النخب الوطنية قاومتها أثناء الاحتلال وخاضت حربًا متعددة الوجوه “من أجل الاستقلال والهويّة والمستقبل”، وانتشار جحافل العسس المدعوم بالتطور التقني إلى حد أنه يطلب “نعمة الخرس”. ورغم بطش الخطاب الذي اعتمده الحسن الثاني وشراسته غداة محاولات الانقلاب عليه، إلا أنه لم يقطع -في نظره- مع الحياة السياسة ووقائعها، وإلا لكان قد جرّ البلاد إلى “القتل والتصفية والترهيب بكل أشكاله” كما حدث في الشرق. ويحاول وريثه محمد السادس تعزيز الدولة الديمقراطية وفرصها في التنمية والتقدم المنشود عبر إيلاء المجتمع المدني (الأحزاب والنقابات والهيئات..) دورًا أكبر، نحو “مملكة دستوريّة حقيقيّة”، غير أنّ “عوائق (المخزن) -كما سمع من أحد أصدقائه المطّلعين- وطبيعة طبقة الامتيازات المثقلة بالتقاليد والأنماط التي تجاوزها الزمن الراهن، تشدّ الأمور إلى حدّ الجمود والاستنقاع”.
فالشاعر يُعزّر سرده الرِّحلي بمشاهداته العيانيّة للفضاء الثقافي المتحرك، ويطعمها بملفوظات متخيّلة، حلمية (حكاية المنحوس، حلم الليلة الإشبيلية)، واستعادية (رأي المستشرقة الإسبانية لوث في هدوء المتوسط وهدير الأطلسي، صداقة محمد شكري، استعادة ليل السطوح الصيفي في دمشق وبغداد)، وتاريخية في ضوء تجربة الحاضر المأزوم (معركة الزلاقة، حضارة الأندلس) وعلمية (الزحف القاري بحسب نظرية الصفائح التكتونية حيث انفصلت أوروبا عن أفريقيا قبل 65 مليون سنة). مثلما يجري مقارنة بين شواطئ بلده سلطنة عمان والمغرب من حيث تكوينها الجغرافي أو الطقس أو ثقافة الاسترخاء من طرف مرتاديها، وبين هذا الأخير وبلاد الشرق بعد مآلات “الخراب القيامي”. إلا أن الموضوع السياسي الراهن، يستقي معطياته من جلسائه المُطّلعين، أو من قراءة الصحف المغربية ذات المقروئيّة الواسعة، أو مما يتناهى إلى سمعه من هتاف المتظاهرين السلميين في عين المكان، رافعين شعارات مطلبهم الاجتماعي.
3.1.3.
يشدُّ الشاعر فاروق يوسف رحاله إلى مدن المغرب الشمال (طنجة، أصيلة وتطوان)، تحدوه الرغبة كمهتمّ بالفنون التشكيلية، في تدوين ماجريات المكان بطريقة بصريّة تتقاطع مع موضوعاته وأشيائه التي تؤثثه وتستدعي ذاكرته العمرانية والثقافية، بقدر ما تكشف جريانها في الزمن الحاضر، مشدوهًا بالجمال ليس إلا، وهو يقول: “أعرف أن الجغرافيا هي شيء سائل بالنسبة للمغاربة”.
يصف أثناء تجواله بين البيوت والأزقة والأسواق والحدائق جماليّة المكان وعراقته “كل شيء لامع ونظيف بالرغم من أن لا أثر يرى لأعمال صيانة حديثة..” وبساطة عيش الناس وانشغالهم باليومي “أولئك النسوة لا ينظرن إلينا، هناك ما يشغلهن من شؤون حياتهن اليومية المقدسة..”، ويستنجد بأعلام ومعالم التاريخ البعيد والقريب (سيدي علي المنظري، محمد شكري، محمد المليحي، البرج، القصبة، فندق فيلا دو فرانس، الزقورة السومرية..) لتبئير الموصوف وتجسيد دلالاته التاريخية والحسية والأسطورية. ولهذا، لا يعني من انتقالات الفضاء إلا ما يوحي به من قيم جمالية وحضارية تدل على المشترك الإنساني: من تطوان التي استجار بها الهاربون من القتل على الهوية، إلى طنجة المغامرة البصرية التي حجّ إليها رسامون وشُذّاذ آفاق مغامرون ورواة. وإذا كانت الأولى مرّتْ أمام عينيه مثل حلم أو حالة شعرية، فإنّه يجد في طنجة ألفة أكبر ويتعلق بفضائه الممتدّ: “ينظر المرء من خلاله إلى طنجة باعتبارها جنة الرسام (…) التي يمتد خيط سحرها من ساحة الأمم إلى مقهى الحافة، هناك حيث يكون في إمكان المرء أن يرى الساحل الإسباني”.
4.1.3.
ينقل الشاعر أحمد الشهاوي صورة أخرى لأمكنة المغرب، عبر لغة عرفانية تكشف عن ارتباطه الصوفي والوجداني به، مأخوذًا بهذا المكان أو ذاك في انتقالاته الداخلية التي تحتفظ بإرثها التاريخي: “ملآن أنا بهدير الموج المتتالي المصافح للساحل؛ كأنه يذكِّرني بسفن طارق بن زياد التي أمر بحرقها..”، والروحاني: “وأنت كلَّما سرتَ رأيتَ طبقاتِ الحضارةِ باديةً تتساقطُ بردًا وسلامًا على رأس رُوحكَ كمطرٍ قديمٍ آتٍ من سديمٍ يعرفُكَ، أنتَ فيه دائمًا”.
لا يفصل ذاكرة المكان عمن عبروه وتأثروا به؛ مثل طنجة التي “سطعت بمتْنِها وظلالها في نُصوصٍ عالميين ولعوا بها، وكانت مصدرَ إلهامٍ وتجلٍّ لهم”، أو سلا التي “كانت أمًّا لشعراء وكتّاب وسياسيين، ومُتصوّفة ونُسَّاك..”، بيد أنّ ما يعنيه أكثر هو ما يختزنه هذا المكان من دلالة حضارية وثقافية عميقة تنطبع بعلامات سيميولوجية خاصة؛ مادية وروحية، وبالتالي يشعر كأنّ هذا المكان الحميمي هو امتدادٌ لروحه وشجرة نسبه، بقدر ما هو أثرٌ عليه تَعقُّبه واسترجاعه.
5.1.3.
بما أنّ نص الشاعر منصف الوهايبي أقرب إلى المقالة منه إلى الرحلة، فقد ربط المكان ليس بمفردات فضائه الطبيعي، بل بحيوية مجاله السياسي والثقافي الذي يتحرك فيه ويقود إلى عملية التغيير. وقد بنى استنتاجات التحليل من صميم الرحلات العديدة التي قام بها إلى المغرب منذ ثمانينيات القرن العشرين: “كنت أقول لأصدقائي كلّما عدت من المغرب، إنّ ما يشدني حقّا هو نظافة مدنه. وهي جزء من الطابع الغالب على ما نسميه مجازًا ‘روح العصر’ وهو البعد الثقافي”.
ويؤكد على هذه الحيوية من خلال ما اكتشفه ووقفه عليه من مجموع الخصائص أو التبدلات التي تطبع المكان في أبعاده الثقافية ومرافقه العصرية الضرورية؛ ومن ذلك أن البلد يزاوج بين ثقافته العريقة وتقاليده السمحة وبين حداثة العصر، على نحو يثري وجود المغاربة ويطبع ثقافتهم بطابع الاختلاف والتعدّد، وأن الفعل الثقافي يتسم بـ”الاستقباليّة” وقدر من الحرية، وهو ما يُهيّئ الحاضر للمستقبل. كما أن المكان نفسه يستوعب مرجعيته الثقافية من قرار اقتصادي واجتماعي يُغلّب “قيمة الاستعمال على قيمة التبادل”، ومن ثم يعمل على دمج جميع الحواضر في العمل الثقافي باعتباره رافدًا لا غنى عنه في عملية التحديث وإعادة تقييمه منذ الاستقلال.
وداخل هذا التحليل، فإنه يشرط هذه التبدلات الحادثة في الراهن الثقافي ومدى فاعليّتها وديمومتها، بتحقيق المواطنة في العيش الكريم والمساواة والعدالة من جهة، وبتخطيط ثقافيّ يكون الكتاب محوره في كلّ إصلاح مجتمعي: “وهذا ليس قولًا إنشائيًّا وإنّما هو حاصل مقارنة عشتها في كلّ رحلاتي إلى المغرب، ومقايسة مع الأمم المتقدّمة في الحضارة والمدنيّة”.
2.3. “النبوغ المغربي”: إشكالية مشرق- مغرب وتشظّي المركز:
يظهر من رحلة إلى أخرى، حركة الثقافة المعاصرة التي يعيشها المغرب وتطبع أمكنته الممتدّة في الزمان، ويقدمها كل شاعر من زاويته؛ فهذا سيف الرحبي يلفت إلى الشغف بالمعرفة والفنون الذي تحول إلى أسلوب حياة وخطاب يومي شفوي، وبات يرفد الثقافة والفكر العربييّن بكل ما هو جديد. ويتحدث فاروق يوسف عن “المزاج المغربي الذي يمهر المكان بتوقيع زمانه غير التاريخي” عند صانعيه ورسّاميه ورواته، وذكر أحمد الشهاوي أصدقاءً له نبغوا في الشعرِ والرواية والفلسفة والنقد والتصوف والموسيقى والفن التشكيلي والمسرحِ ، وفيهم من كتب عن تجربته الشعرية. ويُقرّظ منصف الوهايبي الثقافة المغربية في محيطها المغاربي والعربي، ويعتبرها مزيجًا بين الأصالة والحداثة و”صورة استعارية للقاء بين الشرق والغرب، أساسها العلم وتبادل المعرفة”. كما يجد في الأدب المغربي تجسيدًا لمقولة الكونيّة؛ حيث تنهض بهذا الأدب “ذات إدراكيّة” تنخرط في ما يسمّيه علاقة “التذاوت” الذي يضاعف العالم ويفتح باستمرار أفق المعنى. ويشيد أمجد ناصر بالتحول الثقافي الذي عرفه المغرب، إلا أنه يربطه ضمن إشكالية مشرق- مغرب، أو ثنائية “المركز” و”المحيط”.
تأخذ هذه الإشكالية في تحليل أمجد ومرافعته أهمية قصوى، نظرًا إلى ما تستدعيه من رؤى متقاطعة وحجج متدافعة لا تخفت نبرتها إلا لتحتدم من جديد، وبالنتيجة إلى فهم بصير بها، يمكن أن يتجاوز دعاوى المركزية المشرقية التي لا تفكر إلا بنفسها، ويفتح جسورًا ممكنة بين ضفتي الثقافة العربية المعاصرة. ولهذا، يلتقي ثلاثة أجيال متعاقبة من المثقفين المغاربة لهم اهتمام واضح وموقف شبه جذري من المسألة، يريد أن يسمع آراءهم ويساجلها؛ هم: محمد بنيس، وحسن نجمي وهشام فهمي.
يعتقد أمجد ناصر -مسبقًا- بهذا الرأي، بل إنّه يحمله معه من هناك: “هناك في المشرق العربي، على كل حال، رأي قوي يقول، منذ وقت، بتشطّي ‘المركز’، وهناك من يتطرف إلى حد القول بـ’موت المركز’ “. هذا الاعتقاد بناه على ما شهدته الحياة العربية من خلخلة وتحوّل في الأعوام العشرين التي سبقت رحلته، وما صاحبها من تصدّعات أضعفت جاذبية “المركز المشرقي” وبنيته التحتية الخاصة بالإنتاج الثقافي وحرية التعبير، وقدرته على العطاء والتأثير، أو الاستقبال والاستيعاب. من هنا، سيتغيّر مفهوم المركز نفسه، وتتغير طبيعة وظائفه، في مقابل صعود “المحيط” أو “الهوامش” في بلدان المغرب أو الخليج العربي بسبب ما تمتلكه من خبرات معرفية مؤثرة أو وزن مالي كبير يتحكم في وسائل الاتصال والطباعة والنشر.
وهو في سجاله مع هؤلاء الثلاثة تباعًا، يريد أن يختبر هذا الاعتقاد الذي يحمله معه، ويُقيّمه في ضوء معطيات قد تتوافر له في عقر بلد أساسي من بلدان “المحيط” التي شهدت تحوّلًا ثقافيًّا.
فمن جهة أولى، يرى أمجد أن محمد بنيس، كواحد من هؤلاء، شديد الحساسية في موضوع نقد “المركزية المشرقية” إلى حدّ أنه يمزج تحليله العقلاني بـ”التفكير التآمري”، وأنّ شكواه منها “لم تعد وجيهة تمامًا” في ظلّ الخلخلة التي أصابت المركز. ويردّ على نقد هذا الأخير للمركز، بأنّ المغرب نفسه أدار ظهره للعالم العربي نحو الضفة الغربية من المتوسط، ولاسيما في عهد الحسن الثاني الذي كان يخشى الخطر الداهم من المشرق في زمن الدكتاتوريات القومية والعسكرية، أو بسبب تأثير المقربين منه ذوي الميول الفرنسية، الذين غذّوا ثقافة فرنكفونية أثرت في التربية والثقافة والإعلام، داعمًا رأيه باعتراف محمد بنيس نفسه، وبشاهدٍ من إحدى محاضرات محمد عابد الجابري عند حديثه عن “الاستراتيجية الاستعمارية الفرنسية”. كما يرجع عدم اهتمام المشارقة به، إلى تقليدية الثقافة المغربية التي لم يسمع صوتها في المشرق إلا في منتصف السبعينيات، بعد أن تحررت من بنيتها المحافظة التي تجترّ القديم ولا تضيف إليه.
ولدعم حجاجيّته، يحصر أمجد دفوعاته داخل الحقل الشعري بحكم معرفته واطلاعه الواسع عليه، ويثبت أن شعراء المغرب المحدثين، ابتداء من محمد الخمار الكنوني الذي درس بالقاهرة، كانوا على اتصال برموز الحداثة الشعرية في المشرق، وتحت تأثيرها نقلوا أسئلة القصيدة المغربية إلى “أفق الشعر العربي الحديث”، وإن كانت حداثة هذه القصيدة -في نظره- بدت “متأخرة دون شك عما كان يعرفه “المركز” من تعدد وتنوع واصطخاب في “الحداثات”: من “قصيدة التفعيلة” إلى “قصيدة النثر” ومن “الواقعية الاشتراكية” إلى “الشعر التموزي” ومن النزعات الوجودية والميتافيزيقية إلى “شعر المقاومة الفلسطينية”، وذلك قبل أن يحصل ما يسميه بـ”الانفجار الشعري” الذي وسع دائرة إنتاج هذه القصيدة وتلقّيها منذ مطلع الثمانينيات من القرن العشرين.
بيد أنّه، بوصفه قادمًا من الأردن أحد أطراف المركز، بل وعاني بدوره من عقدته إبان عمله في بيروت، يتضامن أمجد مع “صيحة” محمد بنيس في وجه تعالي هذا “المركز”، ويرى أنها كانت “ضرورية” للفت نظر كثيرين في المشرق إلى الحساسية التي أخذت تنشأ بين المثقفين المغاربة حيال الموقع الهامشي الذي يجدون أنفسهم فيه داخل الثقافة العربية المعاصرة. وبفضل نشاطيّتهم بوّأوا الثقافة المغربية موقعًا متقدّمًا، بحيث صارت تمتلك إشعاعًا ثقافيًّا وتساهم بدورها في إنتاج نموذج مغاير، بله “نموذج مضادّ” لنموذج المركز المشرقي (بغداد، القاهرة، بيروت)، وهو ما أوجد -في نظره- “مراكز نسبية” أو أكد على نسبية “المركز” من خلال “بروز أدوار عواصم أخرى”. لكن مشكلة هذه الثقافة تكمن في ضعف قدرتها على التوصيل من خلال شبكة توزيع مؤثرة (دور نشر، مجلات، وسائل إعلام..). ومن جملة “المراكز” الجديدة، يذكر أمجد “المهجر” العربي الثقافي في الغرب ويصفه بكونه عابرًا للحدود الوطنية، ومحايدًا لأنّه خليط من المغرب والمشرق ويحاول أن يقدم مشهد الحياة الثقافية العربية بـ”تحيُّز أقل”؛ بل إن الثقافة المغربية استفادت منه لأسباب موضوعية أو انحيازات إيديولوجية، يسارية وقومية، للتأثير في بلاغة الجمهور المغربي.
ولئن كان بنيس يطرح إشكالية العلاقة بين المشرق والمغرب في فرضية “المركز والمحيط”، فإنّ هناك آخرين يطرحون هذه الإشكالية من وجهات نظر مختلفة، ويستعيد أمجد من جملتهم المفكر محمد عابد الجابري الذي عاد بالإشكالية مع المشرق إلى متون التراث الكثيرة، ابتداء من كتابه (نحن والتراث)، وتَركّزت أطروحته على وجود فارق معرفي كبير بين المشرق (الغنوصي والعرفاني) والمغرب/ الغرب الإسلامي (العقلاني والبرهاني)، وكذلك المفكر سالم يفوت الذي يتحدث عن القطيعة بين “الفكرين” المشرقي والمغربي تاريخيًّا، كما في كتابه (ابن حزم والفكر الفلسفي). بيد أنّه يجد في هذا المقابلة تعميمًا مبالغًا به، لأن كان بين مفكرين فردين أو اتجاهين فكريين، وليس بين جناحي العالم العربي الإسلامي، بل إنّه ينفي -مستدلًّا برأي مغاربي للمفكر التونسي أبو يعرب المرزوقي- أن يكون هناك صراع بين المشرق والمغرب، “فكلاهما -في نظره- يمثل وجها من الذات العربية الإسلامية ومن الوعي بها انفصل عن الوجه الآخر لأسباب تاريخية”، وينفي وصف “اللاعقلانية” عن المشرق لأنه وصم نتج عن رد فعل بإزاء تعالي المركز وتجاهله لثقافة شعب، ووصل هذا الرد إلى حدّ القول بمقاطعة المشرق ثقافيًّا من طرف كتاب تقدّميين وحديثين.
كان لفرضية محمد بنيس (المركز والمحيط) مُبرّرتها في ظل الأوضاع المركبة والمتباعدة شرقًا وغربًا، فيما هي تُنبّه إلى ضرورة التفاهم والتقريب بينهما داخل شرط التعدد الثقافي وخارج فرض سلطة “نموذج ما” كما كان سابقًا؛ عندما كانت كتب الأدب العربي لا تذكر اسم المغرب حتى جاء عبد الله كنون ورافع من أجله وضدًّا على تهميشه من خلال كتابه الشهير “النبوغ المغربي في الأدب العربي” الذي يتردّد ذكره عند الثلاثة في سياق وآخر. لكن أمجد يزعجه اتّهام بنيس حين يحشره في زمرة من يصدرون عن “متخيل” تبخيسي لحقوق المغرب: “فليست هذه الرحلة في المكان والثقافة المغربيين سوى محاولة من مشرقي لمعرفة المغرب الذي استهللت كتابتي هذه بالاعتراف، المخجل، بجهلنا به”، وزاد: “.. آملًا أن تتكفل مقاصد هذه الرحلة بهذه المهمة”.
ففي حواره مع محمد بنيس الذي تمّ في أمكنة مختلفة من زمن الرحلة وخارجه، ولم يخلُ من طابع استفزازي، كان أمجد لا يجامله فيما هو يستحضره أقواله ويساجلها بما لديه من حجج عليه، بل يستغرب من طبيعة تحليله الأيديولوجي للثقافة المغربية، ومن موقفه السلبي من القوى الوطنية واليسارية في المغرب. وأما حواره مع حسن نجمي، فكانت حدّته أقل بسبب شروط ذاتية وموضوعية (الصداقة، الانتماء اليساري، قصيدة النثر، العمل في الصحافة الثقافية، التقارب في السن، الخلفية البدوية لكل منهما)، وإن كان هو بدوره يتخذ الموقف نفسه من إشكالية مشرق- مغرب.
ينظر حسن نجمي إلى صورة المشرق في تعدّدها، بما هو أصل من أصول الهوية المغربية، وركام من التعالي والعجرفة، وخليط غريب بين التنوير والعمى الأيديولوجي الذي يُصوّر الدول التي تعاقبت على حكم المغرب كأنّها “جحافل عسكرية”، ويتهم الفكر المغربي بأنه “مستعار أو مسروق !”. وحتى إذا خصص منبرٌ من المنابر المشرقية أحد ملفّاته عن الأدب والثقافة المغربيين، فلا بد أن يكتب المغربي عن نفسه. ويتّفق معه في أن المشرق ليس كتلة واحدة متجانسة، فداخل المشرق نفسه هناك مركز ومحيط.
كما أنّ حواره مع هشام فهمي؛ أحد أصوات التجربة الشعرية الجديدة بالمغرب، التي انحازت لقصيدة النثر وتجاوزت الانتماء الوطني بالمعنى الأيديولوجي للكلمة، يكتسي حالة خاصة لأنّ فهمه للثقافة المغربية يصدر من “موقع رفض السائد”، ولأنه ينتمي إلى الهامش وليس في “صدارة المشهد المغربي” كما الشأن بالنسبة إلى بنيس ونجمي. يغمز هشام فهمي إلى وجود خطاب مشرقي أحادي متمركز حول ذاته، ومتألّه أحيانًا. ولكن لا يجاري صيغة الإشكالية كما تُطرح، بل يحترس منها، ولا تعنيه إلّا من زاوية “حوار الذات مع نفسها وتمثيل صورها المختلفة”، إذ لا تعدو أن تكون “مظهرًا لتنفُّجٍ ثقافي سائد في الحياة العربية” ونتاج قِـرانٍ “بين الفساد السياسي والثقافي” الذي يشيع وجوه الاستبداد والتعصب والطاعة والولاء، ويقطع مع الحقّ في الاختلاف التعدّد واجتراح مغامرة “الدرس الأوربي” في قراءة الثقافة الأوروبية ونقد أوهامها.
وهو يساجل واحدًا تلو الآخر، يرسم أمجد لكلّ واحد من الثلاثة “بورتريهًا” يعكس تعبيرات وجهه ومزاجه وهيئته، وقد يتعداه إلى شكل تفكيره ومنزلته وسلوكه الاجتماعي. ولا يأتي هذا الرسم اعتباطًا، بل هو يؤدي وظيفة تفسيرية وحجاجية؛ فهو يعرض لنا متغيرات الخطاب الثقافي بين ثلاثة أجيال متعاقبة وشكل تفاعله ومدى حساسيّته من مسألة شائكة مثل إشكالية مشرق- مغرب، كما يصير جزءًا من شبكة إنتاج المعنى الذي يبني الخطاب وغيريّته في علاقة الأنا بآخرها، ومن ثمة يسهم في فاعلية التأويل حين يرتدّ إلى فقرة أو تلك من خطاب المساجلة، ويريد أن يستميل متلقّي الرحلة لجهة التأثير فيه.
يقول عن بنيس: “جاء بنيس في موعده. شعر رأسه ولحيته طاعن في البياض. ولكن رُغْم هذا البياض فإنّ له سحنة طفولية لم تُستدرج إلى شَرَك البياض الذي إليه باكرًا، استدرج شعره الأكرت. له عينان ذكيتان وماكرتان وراء نظارتيه الطبيتين وابتسامة مراوغة لا تلبث -إن صادفت هوى- أن تتحول إلى ضحك متفجر. إلى عربدة”, وفي مكان آخر، يقول عن حسن نجمي: “بدا خجولًا، له سحنة أخوية تعكس نوعًا من السلام مع النفس، متحفّظًا إلى حد ما عن المشاركة في ليالي المهرجان. لا يدخن ولا يشرب. ولا تلوح عليه علائم الشبق أو الشهوات الحسّية (…) سيصبح أقلّ خجلًا وأكثر طموحًا، خصوصًا، على صعيد لعب دور أكبر في الحياة العامة”. وأما هشام فهمي، فيقدم عنه صورة كاتب شابّ متمرد قادم من الهامش، بل يمثل نموذج جيل أضرب عن الأيديولوجيا لمزيد من الحرية ومغامرة الإبداع.
هكذا تتحوّل إشكالية مشرق- مغرب، التي أثارها أمجد ناصر، إلى استراتيجية للفهم وتبادل الرأي، بل تحولت أكثر من ذلك إلى استبطان مظاهر اللاوعي الثقافي والسياسي الذي يحكم جناحي العالم العربي الإسلامي، ويلقي بظلاله الكثيفة على لغة التواصل المعطوبة، وأشكال الخطاب والترميز التي تتبادل التُّهم الصريحة والألاعيب الخفية. وفي قلب هذا السجال الثقافي والإعلامي، لا نتلقّى صورة المغرب الثقافي “المظلوم” وحسب، بل كذلك صورة المشرق “المتعالي” بعيون مثقفين وشعراء مغاربة أنفسهم.
4. شعرية السرد وتشكيل الخطاب:
تشتغل داخل متن الرحلة أو تلك بلاغةُ الخطاب ضمن أشكال وأساليب متعددة ومتساندة، تنقل وعي الشاعر الرحالة وخطاب استيهاماته، وهو يحاول رصد صورة البلد الذي يتنقلّ بين أمكنته وتواريخه وروائحه في لحظة مفصليّةٍ من تاريخه المعاصر، إلا أنه يمكن إجمالها في ثلاث صور:
– بلاغة الاستهلال، التي تتجلى وظيفته في تنظيم النص وتجنيسه في آن، كما في رحلة أمجد ناصر وسيف الرحبي بصورة أوضح.
فالكاتب يبدأ نصّه الرحلي ويريد أن يضع قارئه، المشرقي تحديدًا، في قلب الصورة، حين يأخذ بيده في سفرة إلى بلد “محاط بهالة غامضة” من أجل التعرُّف عليه عن قرب؛ ولهذا تعج بمعلومات تاريخية وسياسية قديمة وحديثة مفيدة ومنتقاة بعناية لجهة أيديولوجيا هذا الكاتب ذي الميول الجمالية أو السياسية، أو لطبيعة سياق النص وتأويله في آن (الفتح الإسلامي، الأندلس، ابن بطوطة، ثنائية المشرق والمغرب، الاستعمار، الفن التشكيلي، البحر..).
– بلاغة التصوير، التي يرفدها كلّ رحالة من خبرته الكتابية ليس كشاعر أساسي في المتن الشعري المعاصر وحسب، بل باعتباره كذلك كاتبًا تجريبيًّا زاوج في ممارسته الإبداعية بين الشعري والسردي. ولهذا، يستثمر الشاعر -هنا- هذه الخبرة في شعرنة السرد الرحلي وتذويته أثناء وصفه للعمران والعادات وحركة المكان والناس، ووصف شكل تأثره بذلك فنّيًا، وقد سقنا نماذج من ذلك سلفًا. بل يتجاوز الأمر حيّزَ العبارة ليشمل مقطعًا أو نصًّا بكامله كأنه نصٌّ شعريٌّ قائم بذاته، كما في قول أمجد ناصر: “كانت السماء صافية، مطرزة بنجوم وكواكب يندر أن يرى المرء مثلها في سماء لندن في هذا الوقت، نجوم اهتدت بنورها ومواقعها قوافل وعابرو ليالٍ وسَمَرَ تحتها قرويّون روّضوا وحشة الليل بالحكاية، وعدّها على أصابعهم صبيةٌ كان أهلوهم ينهرونهم عن عدّها كيلا تطلع الثآليل في أيديهم. نجوم وكواكب، لكل واحد اسم، وحكاية، ونسب..”.
بيد أن هذه البلاغة التصويرية التي توائم طبيعة الجنس الرحلي، تتلوّن بحسب اتجاه الشاعر وأسلوبه المهيمن في الكتابة، وتبعًا لمقتضيات النص نفسه: بين أسلوب بصري تشكيلي- سينمائي عند فاروق يوسف، وآخر وصفي جمالي عند أمجد ناصر أو سيف الرحبي، وثالث عرفاني عند أحمد الشهاوي، ورابع تحليلي استقرائي عند منصف الوهايبي. ووفق هذا التنويع الأسلوبي، يتلوّن المعجم الموظّف من نص إلى آخر (تشكيلي، صوفي، مكاني..)، ويتلون شكل تنظيمه في الخطاب بكيفيّات تسمح بتمثيل الصورة من أبعاد ومنظورات مختلفة، ولاسيما إذا تجاوزت تلك البلاغة وجوهها البيانية (تشبيه واستعارة) في أحياز محدودة ومتفرّقة، لتصير ذا قيمة إيحائية أكبر داخل نسيج النص في علاقتها بالذات المتلفظة.
فعلى سبيل المثال، يستثمر سيف الرحبي تقنية التمثيل الكنائي حين يعبر عن ذاته في حيرتها وتأملها بعصفور الدوري الذي يحط على إفريز نافذته المطلة على المحيط وتلال رأس سبارطيل الخضراء. ويوظف أحمد الشهاوي أو فاروق يوسف تقنية السرد المتماهي والمفتون بذاته، سواء سرد الفضاء الخاص بسلا، الذي يتمثّله الأول كبحث عن سرّ ضائع يحاول استرجاعه وتجديد العهد به: “وعلى الرغم من أنَّ سلا تمنحُ مُحبَّها مفتاحَها منذ اللقاء الأوَّل، فإنها تبقي أسرارًا محفوظةً للقاءات الأخرى، رُبَّما لجيولوجيةِ تركيبها، ونوم الأزمنة على وسادتها، وتزواج اللهجاتِ واللغات والبشر”؛ أو ذلك الخاص بتطوان حيث يلاحق الثاني تاريخها الجمالي بصريًّا: “يمكنني من مكاني أن أمد يدي لألمس عسل الشعر الذي كنت أراه يسيل على خشب ذلك الباب العتيق. (هل حمله الأجداد معهم في رحلة ضياعهم الأخيرة؟) غير أن أحدهما حاول الفرار من الصورة حين انتبه إلى وقفتي الذاهلة”. وفي ناحية أخرى، يرسم الكاتب نفسه بورتريهًا قصيرًا لمحمد المليحي في مرسمه: “ينظر إلي ليحثني على الاعتراف. مثل تطوان، لوحته لا تقول الشيء نفسه حين يراها المرء ثانية”، أو بورتريهًا لهنري ماتيس في فيلا دو فرانس، بصورة شبحية تعكس بدورها شكل تماهٍ للذات مع آخرها عبر فتنة الغيريّة: “كنت أمشي بين أروقته وأشعر أن ظلّ ماتيس، قبله ديلاكروا يرافقني (…) لقد رأيت كرسيه الذي كان يجلس عليه متأملا طنجة من فوق. يمكنك أن تراها من هناك كما لو أنها خفقة طائر يستعد للغياب”.
بلاغة الحجاج ومقارعة الرأي بالرأي الآخر، التي تتأكد بصراحة في سياق مساجلة أمجد ناصر مع المثقفين المغاربة بخصوص إشكالية مشرق- مغرب، حيث يستخدم تقنيات متنوعة (السرد، الاستشهاد، المقارنة، القياس والمماثلة) لدعم وجهة نظره واستمالة مخاطبه وإقناعه. وفي طرف من هذه البلاغة، يحضر الخطاب الحواري عبر تقنية سؤال- جواب، التي تكشف حساسية الإشكالية وترامي أطرافها في الوعي واللاوعي، الغياب والحضور، الروح والجسد.
كما تحضر بلاغة ضمنية من هذا الضرب، نتبيّنها عبر الجهد الإقناعي- الجمالي (اللوغوس) الذي تبذله الذات وتكشف من خلاله وضعها الاعتباري وصورتها (الإيتوس) بين الافتتان والمماهاة والمرافعة (الباتوس)، في سياق تصحيح أو تعديل الصورة الثقافية والجيوسياسية التي يتمثّلها أو يحملها هذا الشاعر أو ذاك عن المغرب كنموذج يُحتذى به في محيطه العربي المعاصر. يقول منصف الوهايبي: “الثقافة المغربيّة كانت ولا تزال ذات رمزية عميقة الغور، بل هي منذ تاريخ الأندلس، وهو مغربي بالأساس، صورة استعارية للقاء بين الشرق والغرب، أساسها العلم وتبادل المعرفة. وفيها يتم اللقاء بين آسيا وأفريقيا والمتوسط وأوروبا، عبر بحث لا ينقطع ولا يمكن إيقافه، تتضافر في صياغته شعوب وأقوام شتى”.
وإذن، فإنّ هذا التنوع في السجلّ اللغوي والبلاغي أَثّر بدوره في شكل الخطاب وطرق تمثيله لصورة المغرب الثقافي؛ صورة حية تنبئ من خلال فسيفسائها المتنوعة بمغرب جديد يودع عَهْدًا ويستقبل آخر أكثر تحدّيًا وطُـموحًا.