تطالعنا (نزوى) بين صفحاتها دائما بموضوعات ثرية تستحق بلا شك وقفة طويلة أمام النهضة الثقافية التي تشهدها السلطنة الآن ليس من أجل مواكبة الركب الحضاري المتنامي فحسب بل إن عمان بالفعل استطاعت في فترة وجيزة أن تجتاز هذا المد وتتغلب على قضايا فكرية مازالت تعاني منها بعض البلدان الأخرى بالمنطقة العربية.
هكذا تشي الموضوعات والمقالات التي تطرحها (نزوى) بعمق وجرأة، والحقيقة أننا لا نشعر إزاء صفحاتها التي تربو الى الثلاثمئة صفحة من القطع الكبير بأنها مجلة فصلية وأيضا لا نشعر بأنها مجلة محلية بحتة حيث إنها تستقطب كافة الاتجاهات والمدارس الفكرية والثقافية المتباينة من مختلف الأقطار وفي ذات الوقت الحفاظ على خصوصية عبق التراث العماني الأصيل الذي نكاد نتنسمه من أريج دقة الطباعة والاخراج الفني الراقي عبر صفحاتها وعبر تفاوت أبوابها الثابتة ما بين الدراسات والمتابعات وقضايا السينما المعاصرة والمسرح والشعر….إلخ.
ونجد أن تلك الأبواب هي التي محورت منهج المجلة لتحدد بدقة اتجاهها الفكري من أجل إنقاذ وجدان وعقل المتلقي لمواجهة قضايا واهنة فرضها عصر الخصخصة والمؤتمرات التأمرية ورجال الأعمال المشبوهة حتى كاد المثقف العربي أن يتوارى خلف أطلال عصور الأدب السامي والفكر المستنير.
من هذه الأبواب نجد باب "نصوص" الذي يطرح نماذج من القصة القصيرة خير دليل على ثبات موقف (نزوى) الأدبي ولكن قبل الدخول في تفاصيل التحليل والنقد تجاه العدد الثامن – اكتوبر 96- ثمة ملاحظة أخرى هامة فلقد تميزت (نزوى) عن غيرها من الدوريات المتخصصة بالاهتمام الشديد بروح الفن التشكيلي حيث اننا نجد القصص والقصائد تصاحبها دائما اللوحات الفنية الراقية وكأننا نكاد نلمس. على سبيل المثال – من أية قصيدة منشورة أعماق روح الشاعر من خلال ألوان وخطوط اللوحة المقرونة بقصيدته وكأنها تجسد الأوزان والقوافي تجسيدا يتفق وارهاصاته الذهنية وفي نفس الوقت يتهافت ومعاني مفردات القصيدة لتشكلا في النهاية اللوحة والقصيدة – تناغما وجدانيا يستشعره القاريء والمبدع معا.
كان لابد من التنويه الى هذه الملحوظات إذ إننا نجد معظم المجلات الأدبية الأخرى لا تعنيها كثيرا إتاحة مساحات للفنون التشكيلية بشكل لائق وقد يرجع ذلك ربما لمبررات التخصص ولكن ذلك لا ينفي مبررات عدم قبول التلقي مما جعل القاريء الآن يمل وينفر من (روح) الكلمة الأدبية حتى وان كانت موضوعية وجادة.الا أن (نزى) تفادت تماما هذه الهنات وفي ذات الوقت أثرت جماليات الفن التشكيلي.
فاعلية عنصر المكان على متغيرات السلوك الانساني
يطرح العدد الثامن / اكتوبر 96 إثنتى عشرة قصة وليس من باب المصادفة أن يدور معظمها حول تأثير عنصر المكان على تقلبات الدوافع والرغبات وحميمية الحنين للأرض والطبيعة مما ينعكس على ذاتية الطقوس شديدة الخصوصية بصورة أو بأخرى لفرض تابو انساني يمكنه من الاستمرارية والتواجد الدائم بعد أن انقرض الكثير من فطرية الانسان الأول.
وتبدأ هذه المجموعة بقصة (عشرة أيام في اليمن) لخليل النعيمي ذاك الطبيب السوري الذي يقيم في فرنسا ويكتب عن اليمن ولولا التنويه عن تخصصه لعرفنا أيضا نظرا لدقة أسلوبه وبلاغة سرده انه يتخصص في الجراحة، وقد تبدو القصة للوهلة الأولى تجربة ذاتية للكاتب ازاء زيارته لليمن إذ أنه قد أفرد جانبا كبيرا لوصف معالم الوهاد والجبال والوديان عبر بقاع اليمن المترامية بحيادية وصدق شديد ولكن من الغبن أن نؤطر محور القصة تحديدا ضمن أدب الرحلات والأقرب الى الصواب اننا بصدد تجربة يرتكز محورها على صراع نفسي تجاه محاولة الانسان للبحث عن هويته ووجوده أمام نواميس الطبيعة الصارمة وتحولات الكون ليلا أو نهارا. شروقا أو غروبا. تلك النواميس التي فرضت عليه طقوسا محكمة تهيمن على مصيره وقدره.
يتألف النص من أربعة مقاطع سبقها إهداء رقيق مختصر (الى أصدقائي في صنعاء) وصنعاء – كما هو مبين بالقصة – لا صديق فيها ولا ونيس حتى فندقها الوحيد (سبأ) على ذكر الكاتب – تجرد من الأصدقاء ومن قبل كانت الطائرة تكشف عن وديان وأحجار عظمي وجبال مترامية عبر فضاء مفتوح تغمره شمس حارقة ويكتنفه الغموض والوحشة فيفقد الانسان إحساسه بروح الألفة. ومن خلال طرح المؤلف لمدائن وقرى اليمن نكتشف أنها الوحشة الضاربة في جذور النفس البشرية بكل متناقضاتها وان معالم التحضر للمدنية المعاصرة ما هي الا وهم وزيف أمام مجامل الطبيعة بصرامة جدبها الشديد. ومنذ بداية المقطع الأول من القصة نجد "خليل النعيمي" يرصد هذا الجدب رصدا فنيا:
(الشمس تلامس مباشرة جسد الأرض. في هذا الخليط الملتهب أبحث عن الماء. عن نطفة خضراء تخصب العين. عن مرقد أو مسيل. ولكن دون جدوى لكأن الطبيعة التي وهبت اليمن كل شيء أخذت منه أيضا كل شيء. ماذا بقي لي غير أن أنظر وأن أتمتم. غير أن أتبصر. وأن أتحسر: أرض بلا ماء!).
فإذا كان الماء هو العنصر الرئيسي للحياة والاستمرارية والنهل الحضري. فستظل هنا فلسفة الكون قائمة إزاء طقوس الطبيعة التي تعد لغزا محيرا أمام الانسان ولن يستطيع هذا النهل أن يروي عطشه كلما فك رموز هذا اللغز.
أما "طالب المعمري" فينقلنا الى وهم الادراك بصورة ساخرة في قصته (الرأس) وأقرب الظن أنه يمتلك أدوات السرد التلقائي. (طالب المعمري) يمتاز باللغة الطلقة المباشرة التي تؤهله ككاتب روائي فالإفصاح عنده يمكنه من ذلك عن القصة القصيرة إذ أن الرؤية التخيلية عنده يستطيع أن يبلور بها عدة أحداث ومواقف وشخوص عبر لغة سردية مسترسلة يفهمها المتلقي دون جهد وغالبا ما تكون هذه اللغة مناسبة للرواية بينما لغة القصة القصيرة تعتمد على التكثيف والتلميح والايحاءات غير المباشرة.
(ملجأه الوحيد غرفته القابعة في حوش بيت الأسرة. آلات التكييف بحفيفها الخفيف تجعله أكثر حرصا في مشيته وتحركاته. بهدوء تام فتح باب غرفته. زوجته وأبناؤه الأربعة نيام خصوصا وانهم غير متوقعين لحركة مشبوهة في تلك اللحظات التي بدأت فيها أولى تحركات الديكة لعزف كونشيرتاتها الفجرية.
تململ النائمون وأحسوا بشيء بدا لهم على غير عادته. رفعت زوجته رأسها بتثاقل واطمأنت أنه هو. لا أحد غيره يعملها في مثل هذه الساعة. وحتى لا يبلبل الموقف ويزيد الأمر تعقيدا انصهر في ملابسه من وقفته.).
ويذكرنا "طالب المعمري" في قصته هذه برائعة جون شتاينبك (اللؤلؤة) ففي رأس خور الملح يلجأ أحمد عمر وصاحبه أحمد خالد الى هناك تاركين وادي دقال بعد أن يئسا من انتظار أصدقائهما دون جدوى.. وفي خور الملح يتوهمان وجود لآليء كثيرة تطفو مع زبد بأمواج الخور وتنتشر تحت أقدامهما فيهيمان بالخيال الى عوالم اللامعقول ويشطح هذا الخيال بهما الى آفاق الثراء والنعيم بفعل تأثير اجتراعهما الخمر التي لعبت برأسيهما.
وفي قصة (أبجدية البوح.. علياء) لآمنة بنت ربيع سالمين نجد عنصر المكان أيضا له دلالات شتى في تأثيراته الوجدانية لشخوص الكاتبة والحقيقة أن هذه القصة تعد من أفضل قصص المجموعة فبرغم أسلوب الكاتبة الذي يشي عن حداثة تكوينها الأدبي الا أن هذه البداية تشير وتبشر بخطوات ثابتة راسخة نحو الطريق الصحيح وان الكاتبة بصدد تجاوز المراحل الأولى لـ (أبجدية البوح):
(الى أي مدى يمكننا أن نحكي حكاية ؟!
ربما للمدى الذي لا نعرفه والذي يجب الا نعرفه (البقعة) أحد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في مدينة عمان العاصمة. وتحديدا فيما بعد مدينة صويلح بقليل. في المخيمات تكمن تفاصيل الحياة المختلفة. المرغوبة واللامرغوبة وتظهر من بين أزقة شوارع المخيمات غير المسفلتة رائحة مختلفة لكل شيء حتى القاذورات تكتسب رائحة يصعب تحديدها).
هكذا تبدأ آمنة سالمين أبجديتها بحذر ازاء محاولة الاجابة على نفس السؤال الذي أطلقه،. "علي شلش" في يناير 1978 عبر الفقرة الأولى من كتابه النقدي الأول (عالم القصة) فدخل به (عالم النقد) من أوسع الأبواب لكن السؤال ظل معلقا وسيظل بلا اجابة.
أما المدى الذي لا نعرفه فهو ذاك المكان الذي تحاول الكاتبة أن تؤسس عليه البناء الدرامي حيث تطرح في سطور قليلة موجزة معالم (البقعة) بمخيماتها وأزقتها القذرة الضيقة والخليط المتناقض للنفايات التي فرضها لا إراديا تفكك الكيان العربي. ومن هذه الهلاميات والتناقضات تنسج الكاتبة تدريجيا ملامح وهوية اللاجئة "علياء/المحور" التي ينعكس عليها بالتالي خليط متضارب غير محدد لتكوينها النفسي. فهي شخصية زلالية متناقضة الانفعالات أقرب الى شخوص "كولن ويلسون" التي لا تنتمي الى وجود حقيقي.
فمن مخيمات (البقعة) بالأردن تولد الأجنة بلا هوية محددة حيث لا أرض. لا أب. لا أم. لا وجود وكأن مصطلح (البقعة) قد فرض معناه على كل شيء حتى على الأطفال الذين تلوثوا ببقعة شاذة لا بلازمية والذين يرفون يقينا أنهم لم يولدوا إلا ليموتوا فبعد أن فقدوا الأرض والأهل والأمان فقدوا أيضا الاحساس بالزمن.
إذن فهذه التجربة القصصية تنسج دائرة محيطها الخارجي وصف للمكان بأسلوب تقريري أما مركزها المحوري فهو وصف للشخصية بسلوكها المتضارب وانفعالاتها بأسلوب فني بعيد عن التقريرية حتى تستطيع الكاتبة الحفاظ على المسافة بين المحيط والمركز. وخلال هذه المسافة بين هذا وذاك تمور الأحداث والمواقف بين الأسلوبين التقريري والفني بصيغة ضمير المتكلم. وهنا لنا وقفة ازاء عدم قبول بعض النقاد للنص الأدبي عندما يلجأ الكاتب أو الشاعر الى الأسلوب التقريري. وقد شغلت هذه الناحية الكثير من الآراء النقدية ما بين مؤيد ومعارض. والحقيقة أن هذا النوع من الاسلوب لا يعيب مرح الكاتب لأفكاره وارهاصاته وفقا لبنية المضمون ذاته طالما استطاع أن يوظف أسلوبه لبلورة رؤيته فنيا. فعلى سبيل المثال نجد أن ثمة تجارب قصصية كثيرة مضمنة بفقرات كاملة من صفحات الجرائد التي تعد شديدة التقريرية ذلك حتى ينمي بها المؤلف تدعيمه للحدث والبناء الدرامي خاصة حيال اختياره لمكان له فاعليته على المتغيرات السلوكية للشخصيات المطروحة.
الحنين الى العيش في زمن غير هذا الزمن
ينسج "يحيى بن سلام المنذري" مضمون قصته (رماد اللوحة) بصيغة ضمير المخاطب التي تغلب عليها مفردات فعل الأمر. ولقد ألفنا هذه الصيغة عند يحيى حقي في رائعته (البوسطجي) ثم عند يحيى الطاهر عبدالله وخصوصا ان ازاء تجربتين هامتين الأولى مجموعة (أنا وهي وزهور العالم) والثانية رواية (تصاوير من الماء والتراب والشمس) والآن يأتي كاتبنا "يحيى المنذري" ويبدو – ولا أدري سر هذه المصادفة البحتة – ان هناك علاقة ما بين هذا اللون من القصص وبين الموسومين بـ(يحيى حقي/يحيى الطاهر / يحيى المنذري) فمثلما وجه يحيى الطاهر السرد المخاطب لاسكافي المودة كما وجه يحيى حقي نفس الصيغة لعباس حامل بريد "كوم النحل" نجد يحيى المنذري يوجه خطابه لسلمان الذي عاني شظف العيش في مرحلة طفولته بالقرية ازاء عنت وجبروت أبيه له والفقر المدقع الذي كان يحيق بأسرته مما أدى الى عدم استمراره لاستكمال دراسته فينتقل الى المدينة للعمل كمراسل بأحد الدواوين الحكومية الا أنه يظل محاصرا بنفس العنت والجبروت ازاء سخرية زملائه ومديره منه واستهجانهم قدراته وأفكاره. والكاتب هنا يستخدم رنين الجرس المتوالي في هذا الديوان الحكومي دلالة غير مباشرة كمعادل موضوعي لرنين الجبروت الزمني سواء في مرحلة الطفولة أو مرحلة الرجولة، فلا مناص من الحصار والخضوع لذاك الرنين. كما يستخدم أيضا تهرؤ الجدران في الغرفة التي يعيش بها دلالة على تهرؤ التكوين النفسي والحياتي لسلمان. حتى باب (الحمام) المخلوع لا يكشف عن سلمان فحسب بل يجرده من أبسط الحقوق الانسانية ونواميس الحياة العادية بكل ماضيها وحاضرها ومستقبلها ان كان هناك بالفعل بادرة أمل لمستقبل يتراءى في الأفق.
إذن فعنصر الزمن في قصة (رماد اللوحة) لا يتحقق إلا من خلال لجوء يحيى المنذري الى إظهار موهبة بطله، فسلمان لديه امكانات راسخة لتوظيف مشاعره عبر لوحاته ورسوماته فإذا لم تتوافر قدرته على تجاوز حصار الزمن لما يحيق به فهو يتجاوز هنا من خلال وعيه بالفن التشكيلي، فاللوحات رمز لاستمرارية الحياة. وسلمان يدرك أن هذا الوعي يمكنه من تحقيق التوازن بين محاولة الحد من الضغوط النفسية والأيديولوجية وبين محاولة التوصل الى زمن رمزي آخر يختلف عن الزمن الواقعي المفروض عليه. الا أن الكاتب في النهاية يعمق دلالة الحصار أكثر.
عندها تتساقط طبقات الجدران شيئا فشيئا وتتسع هوة فتحة الباب المخلوع للحمام ويسخر الزملاء من رسوم سلمان كما يعنفه مديره أكثر فهنا يدرك سلمان أن امكانية تحقيق التوازن مستحيلة وترجح في داخله كفة الضغوط إذ سيظل شبح جبروت الأب جاثما على أنفاسه وممثلا في ظلف الزملاء والمدير والزمن.
أما قصة (الموتى لا يرتادون القبور) لحسن رشيد فهي كما هو مبين بالعنوان – تجربة تطرح رصدا فلسفيا متحجرا لحالة انطوائية تعيش معلقة بين اجترار الذكرى وبين الخضوع لما آلت اليه من مصير ولم يتعمق حسن رشيد في النفاذ الى الشخصية او البنية الدرامية لهذا المصير أو الشخصيات الأخرى الكثيرة التي وردت بالقصة ولكن أتى كل ذلك مهمشا ومسطحا، ولم نعرف بالقدر الكافي مدى أبعاد الاغتراب الحياتي أو النفسي للحارس الليلي "سلوم" الذي كان يعمل في البحر عند سيده «النوخذة بو خليفة » وأيضا لم نعرف طبيعة عمله بالضبط سوى أنه كان يساوم على ارتقاء الصاري المرتفع في هرج ومرج ولقد حذره سيده وزملاؤه أكثر من مرة كي يكف عن مزاولة هذه التصرفات الصبيانية العابثة لكنه لم يمتثل وظل يتمادى لأنه كما ذكر الكاتب – (كان يعشق المخاطر والتحدي) بنات هجرن الوطن ليبحثن عن مستقبلهن فتنداح من دموعهن ماسي الذكريات الغابرة عبر ترانيم فيروز أو إيقاعات الجلوة في الأمسيات الدافئة. وحينما تطرح الكاتبة حالة فراقها بعلياء أثناء موتها تذوب المشاعر وتتفتت، فبعد هجران الوطن من أجل المستقبل تتهاوى تدريجيا الآمال والطموحات فتبدأ بالتالي تتغير الصورة الرصدية للمطر الذي كان يحمل دلالات التوحد حيال نفوس البنات المغتربات إذ أصبح يأخذ دلالات أخرى تحمل في طياتها علامات التفكك والانزواء والهروب من جديد الى خندق المشكلات اليومية العادية لكل فتاة على حدة بعد أن انهارت قضية الشعور بالألفة والاستيطان والأمان الوجداني. ولعل الكاتبة تلوح من بعيد براية إنذار تحذر من سرابية المستقبل مادام الوطن لا قيمة له. وفي هذا المعنى لنا وقفة تجاه اللفة القصصية عند آمنة بنت ربيع سالمين وهي تعبر عن حالة التفكك الوجداني إذ أنها نجحت في توظيف هذه الحالة حين استعاضت موت بطلتها علياء/الشخصية المحورية باللجوء الى استرجاع مآثر طيور الصدى التي كان نواحها وعويلها يجتاح تراثنا العربي القديم. كانت تلك الطيور تملأ الفضاءات كلما زهقت أرواح الشهداء تباعا فتنطلق من الرؤوس النازفة ليس تعبيرا عن حالة تمرد أو غضب إنما تحذير لتردي الكيان الوجودي للعوب وهذا ما نلمسه بالفعل الآن فبعد أن انتهت عصور النخوة والتآلف القبلي تذوب الآن نخوة التآلف القومي العربي ومازال يرفرف في الفضاء طائر الصدى الذي يعرف في الشرق الآن بعصفور النار.
أما في قصة (رماد اللوحة) ليحيى المنذري فنجد رصدا لعصفور النار في صورة رمزية غير مباشرة:
(ذات يوم رسمت شجرة أوراقها سوداء وثمارها رؤوس آدمية منها ناضجة ومنها ما لم ينضج بعد وتبدو الشجرة في اللوحة أكبر من المدينة وانها غائرة في سماء مليئة بالغربان وطيور أخرى غريبة الأشكال. وبعد رسمك لها تمعنت فيها جيدا مما أثار في نفسك الكثير من الأسئلة ولأنك رسمتها بعد يوم كئيب وحارق انتهت ليلته بكوابيس كثيرة حاولت أن تستغيث بكل قوتك وحاولت أن تنادي أمك كي تحضنك وتقرأ عليك آيات من القرآن الكريم تحفظك من كل سوء.
لكن أمك الآن بعيدة عنك في القرية).
وغياب الأم في هذه القصة يعادل غياب الوجود الذاتي فهي الصديق الحقيقي للابن فالجميع يسخرون من سلمان ويشتمونه ويركلونه بحجة الدعابة البريئة ولعل تلك السمة الجديدة نجدها تستشري وتتفاقم الآن عند الأجيال المعاصرة فلقد فرض عصر زغللة الستالايت والسيارات الأتوماتيك طبيعة غريبة عن طبيعة الشرق إذ أصبح الاستهتار والتراشق بالدعابات السمجة الاستفزازية من اعراض التكوين النفسي للشخصية العربية التي كانت منذ زمن ليس ببعيد تتسم بالجدية والصلابة ولكن ما إن ذاقت طعم الرفاهية تغيرت وتبدلت.
وأخيرا نأتي الى ما كتبه محمود الريماوي تحت عنوان (أرواح أكثر عددا) وهو نموذج لا يختلف كثيرا عن آلاف النماذج التي تنشر ضمن ما يسمى بأدب الخواطر أو بالأحرى أدب جبر الخواطر الذي تلاشى واندثر بمرور الوقت مع ظهور المناهج النقدية المقاهرة التي تحاول الانفتاح الموضوعي على التجارب والنصوص الأدبية الحديثة بحذر شديد. وبلا شك ان التلاحق المستمر لهذه النصوص الفكرية الجادة واختلاف تميزها وتنوعها قد أثر بالتالي تأثيرا شديدا على أصحاب الأقلام النقدية والتحليلية ودفعتهم لطرح مفاهيم جديدة على الساحة وبالتالي أيضا انزوى أدب الخواطر فهو لا يمس بأي مستويات التلقي المعاصر ولا ينتمي لجنس أدبي ثابت. لا هو بالقص أو الشعر أو النثر أو النص الأدبي الموضوعي:
(واختلينا تحت عزيف الاجراس
نسترجع المستقبل معا
ونحتسي من كأس واحدة
ولكم هالني كم تخطيء
.. ويحها نفسي كم تخطيء
وقد خبرتني من قبل
إن ضقت بصمت
من دخان وحديد
أبدلته بصمت.)
فكما هو مبين من هذه الكلمات المرصوصة لمحمود الريماوي لا نجد سوى مفردات غثة غير ثابتة تفتقد الموضوعية والتريث من قبل الكاتب الذي يحتاج الى قطع مشوار طويل جدا مع نفسا ليقرأ بعمق ويتفهم بوعي التجارب والنماذج القديمة والمعاصرة معا من خلال الكتب والتراجم والمصادر التراثية الدسمة لا من خلال ما يطرح في الصحف أو المجلات غير المتخصصة.
المرأة.. لها ألف ظل
قالوا عنها أنها الكائن البريء الغامض.. وقالوا انها النور والنار. الثمرة والجمرة.. والحديث عن النساء حديث شيق وممتع ولا ينتهي عند رؤية ثابتة كمدلول جسدي يتمثل في عنصر انثوي ننتظر منه ما يمن علينا به من خلف أو مدلول حياتي عابر يحول الفراش الى بستان نرتع فيه ليلا بعد عناء النهار لنلتهم ثماره بنهم ونتنسم أرائجه الوردية العبقة. ليس الأمر كذلك فلقد تغيرت هذه المفاهيم ولاشك أن من يكتبون عن المرأة من منظور جنسي فحسب مازا لوا يدورون حول أنفسهم بغية التحرر من ضيق ما يعانون منه. أما في الأعمال الأدبية فلقد تحولت المرأة الى كائن رمزي يعكس صورا شتى لأكثر من مفهوم.
ولا يعشق الكفاح والعمل من أجل لقمة العيش والسعي للرزق حتى ذات مرة انزلقت قدمه من الصاري فسقط على ظهر (الدقل) فكانت تلك السقطة هي التي أعجزته فاضطر الى العمل كحارس ليلي يعيش على بقايا زمن وذكريات ونفايات حياتية لا استقرار فيها ولا أحد يتعاطف معه حتى الكاتب نفسه لم يبلور هذا النموذج بلورة مقبولة إذ جاء مضمون القصة متناقضا متضاربا فالكاتب يقول في فقرة:
(سلوم عرف الحياة. ولم يكتشف فيها سوى الجانب المظلم… أصدقاء؟! هذه الكلمة لا تعني له أي شيء. بيت ؟! وأسرة ؟! أم أولاد؟! لا يشكل هاجسا حقيقيا له.. ومع هذا فهو يتنفس ويأكل ويشرب. في المساء يضع رأسه على المخدة وينام هل ينام سعيدا ؟! لا يعرف أحد هل يبكي ؟ هل يتألم ؟ لا يعرف أحد.. سلوم سر غامض لم وفي فقرة أخرى يقول:
(إنه حارس ليلي وأحب هذه المهنة.. فهو قد قطع صلته بالماضي.. ولا تشغله صداقات هذا العصر. وهو لم يرتبط بزوجة.. وأولاد.. يتحدى ذاته والحياة.. محصور داخل الاطار الذي يعيشه ولا يحب الخروج منه).
فكيف يتفق من هاتين الفقرتين معنى حب سلوم للمهنة كحارس ليلي ومعنى (في المساء يضع رأسه على المخدة وينام) وأيضا معنى عدم اكتشافه للحياة سوى الجانب المظلم وهو نفسه بعيد تماما عن تقدير الأمور دون مبرر.
أما بالنسبة للسرد عند حسن رشيد فاللغة كذلك. سطحية هشة تفتقد الاسلوب القصصي الفني شكلا ومضمونا. ولجوؤه الى الرصد الفلسفي الكثير أثقل الرؤية الدرامية وهرأ مفردات الطرح التلقائي.
وتأتي قصة (كشكانو) لجبار ياسين التي تعقب مباشرة تجربة موتى حسن رشيد خير درس للأخير وخير دليل على توظيف الطرح التلقائي توظيفا فنيا دون اللجوء الى الرصد الفلسفي إذ أننا نستشف من خلال تلقائية السرد مدى الأبعاد الفلسفية عند الكاتب دون حاجة الى الى التصريح بذلك لأن من أهم عناصر أسلوبية القصة القصيرة – كما أسلفنا – يعتمد على التلميح لا على التصريح.أيضا نجد الحوار عند "جبار ياسين " مكثفا وموجزا لا يفاق في التفاصيل الزائدة التي قد تحيل المتلتقي الى فرض رؤية الكاتب عليه.
(-صباح الخير،،
قال لي وقد انفرجت شفتاه عن ابتسامة جميلة. حييته دون أن أحيد ببصري عنه فقد كنت غير متأكد مما حصل بالأمس. خامرني انطباع بأني قد حلمت بهذا في يوم ما. لكني لم أتذكر تفاصيل الحلم.
– هل نمت كما ينبغي؟! لقد رأيتك متعبا وانت تعود هذه الليلة.
كنت ما أزال أبحث عن الكلمات فلم أجبه. انصرفت الى المطبخ وبدأت بشرب قهوتي محملا بشعور الغضب والحرج لما يحدث في بيتي).
فقصة (كشكانو) ترصد حالة التوحد مع الزمن بماضيه وحاضره ومستقبله سواء في المدن البعيدة حيث الغربة أو داخل الوطن ليظل يلاحقنا – هذا الزمن – في أي مكان ويطالعنا دائما بصوره الكثيرة حتى يرغمنا على تناولها واجتراعها ويترك لنا في بيوتنا حقائبه ومعاطفه الجوجولية قسرا أو ارتضاء.
واذا كان الزمن قد أخذ شكلا من أشكال الرمزية في (كشكانو/ شجرة الحياة المزروعة عند التقاء النهرين). فإنه في تجربة جمال أبو حمدان (عودة الى مسقط الرأس) يأخذ شكلا ميتافيزيقيا يدور حول جدلية ثنائية الموت والميلاد أو ثنائية فلسفة صرخة الفراق الأخير في مواجهة صرخة اللقاء الأول حيث يرصد الكاتب مشهدا لرجل يكتشف في مثواه الأخير أن ميلاده لا يختلف كثيرا عن مماته وأن الخط الرأسي الممتد الجنائزي. وعندما يتقابل الخطان في نقطة ارتكاز واحدة سواء كانت في القبر / النهاية. أو الرحم /البداية تذوب مفردات المشاعر التي تدفعنا الى الحزن أو الفرح فلا قيمة حقيقية لمعاني الدمعة الأخيرة أو الضحكة الأولى:
(قام اليه أبواه فاحتضناه مودعين، وقام هو الى ابنائه فقبلهم مودعا. ثم ارتقى الى نعشه وتمدد فيه. وما وجد حاجة الى اعلان موته إذ أن واقع الحل ينبي عنه.)
جدلية البحث في الذات عن مكفوفات الذات الأخرى
تلتحم أجساد الطالبات عند مجمع العبدلي وتتوحد نفوسهن أمام جامع الحسين الزاوي بنفس المكان. ومجمع أو ميدان العبدلي سوق كبيرة تزخر بشتى أصناف البضائع واللوازم داخل السوبرماركتات وعند مكتبة دار الفكر يرحن يبحثن بشغف عن المراجع التي يعتمدن عليها في تحصيل العلم وأثناء هطول الأمطار يأخذ الالتحام شكلا آخر من أشكال التوحد الروحي عندهن. ترصد "آمنة سالمين" بعمق أكثر هذا التوحد وهي برفقة خليلتها "علياء" في محاولة للانصهار داخل بوتقة التغرب الجماعي فكان رذاذ المطر يتحول الى شعائر طقوسية تطهر وتغسل أجسادهن من علق المشكلات اليومية العادية. ووصف المطر في قصة (أبجدية البوح) لم يكن وصفا نمطيا تقليديا يعبر عن صورة عابرة من صور مناخ الطبيعة لكنه كان يحمل دلالات حسية لرصد مشاعر واحدة تتألف حيالها النفوس وتتطهر وتتعانق تحت ظلال مصير واحد وقدر واحد قد شمل الجميع وفرض صقيع الاغتراب والألم تجاه لقد تراءت عند نجيب محفوظ رمزا للحارة وعند حنا مينه رمزا للحرية المتمثلة في هدير أو سكون البحر، وعند عبدالرحمن الشرقاوي رمزا للأرض، كما تناولها نزار قباني رمزا للثورة وتراءت عند يوسف ادريس رمزا للتمرد على نواميس الجسد بينما كانت الروائية توني موريسون تعمق هذه النواميس من خلال الترميز بالطقوس الزنجية لا من خلال الترميز بالجنس كما فعل يوسف ادريس.. وما أكثر الدلالات التي تناهض العنصرية عند المرأة.
ولكي نقترب من هذه الدلالات لما بين أيدينا من نماذج سنجد على سبيل المثال تجربة جريئة جدا لمرهون العزري الذي يقتحم أسرار عالم الخدم والحشم عبر نسوان (خاش باش) المرهونات بسلطة وسيادة الرجل عليهن ولأن تلك النسوة كن يرضخن بسرعة لأي ظل يطوي تأججهن فلقد سن رجالهن نفس شريعة هارون الرشيد عندما لجأ الى إخصاء خدامه وحراسه حتى لا ينالوا من جواريه ومحظياته. وفيروز في قصة (بضاعة المقبرة) لمرهون العزري أحد عبيد خاش باش الوحيد الذي نجا من الخنث في هذه القرية الظالم أهلها التي تشهر قمم أبراجها العشرة فوق الرؤوس وكأنها الوصايا العشر فكل من يخالف أحدى هذه الوصايا فرأسه لا تسلم من السيف وجثته لا ما كان لها في القبور خاصة النساء والعبيد.
والقصة تتألف من أربعة مشاهد متناسقة وفقا لوحدة مضمون كل منها ففي مطلع المشهد الأول يركز الكاتب على طرح (بضاعته) بوصف "خاش باش" وصفا سينمائيا بأبراجها العشرة وشكلها الدائري وكأنه حصار طروادي يفرض نواميسه القاسية على النساء والرجال الأسياد منهم أو العبيد بلا استثناء. بينما في المقطع الثاني يلجأ مرهون العزري الى الوصف النفسي لبطله فيروز بلغة تحليلية بحتة تختلف عن الأسلوب السينمائي، أما في المقطع الأخير من المشهد الثالث فيصف الكاتب حالة فيروز مع اصطدامه بالحلم /الذات الأخرى المتحررة من قيود سيده والتي تشارك الطموحات الجسدية لزوجة مخدومه الأولى غير عابئة بنواميس الأبراج العشرة أو نواميس الحصار الدائري. فالمرأة هنا رمز لقهر النفوذ حتى وان كان نفوذ الموت المتمثل في نصل السيف (لاحظ دلالة الاسم المشترك "فيروز" أي الحجر الكريم الأملس رغم انعدام شفافيته).
أما بالرجوع الى تجربة طالب المعمري ( الرأس) سنجد المرأة ترمز الى عنصري الحلم والواقع معا في مواجهة الصدام بالطموحات الذاتية حيث لا فائدة من امتلاك يخت اليزابيث الثانية، عندما يخيل لأحمد عمر أحقيته في الثراء المفاجيء – ولا فائدة أيضا من امتلاك الكيان الأبوي عندما يواجه أم أولاده الأربعة الغارقة في النوم. فالمرأة هنا – سواء كانت اليزابيث أو الزوجة – تهيم بظلالها فوق الرغبة الدفينة داخل الرجل الذي يظل يبحث عن أي كيان مادي يحقق له الوجود والاستقرار: (سأشتري بهذه اللآليء يخت الملكة اليزابيث الثانية. لن أكون أنانيا. سأجعل اليخت يرسو في الواجهة المقابلة لي في المياه الدولية).
ونلاحظ في هذه القصة أن طالب المعمري يتعمد الايماءة بالأسماء المشتركة حيث يضعنا أمام "أحمدين" للدلالة على مزج سمات متقاربة بين "أحمد عمر" و "أحمد خالد" ثم يتلاشى هذا المزج شيئا فشيئا إزاء مواجهة الطموحات الفردية لكل منهما عندما يلوح شبح المرأة الرمزي، فالقصة إذن تجربة تشكل قوائم متقابلة متناظرة تتفاوت خلالها نسب الصدام بين الوهم والحقيقة أو بين أحمد الطامح وأحمد الشاعر أو بين اليزابيث والزوجة.. وهكذا.
(الظلام مازال ممسكا بخيوطه على الرغم من بهجة القمر الخجولة في مثل تلك الليلة من شهر أكتوبر. وعلى عجالته التي تناسب مثل هذا الموقف. أسرع أحمد خالد الى بيته حيث أخرج أكبر كمية من تلك اللآليء يحاول أن يخفيها عن زوجته وأهله، فالبيت مشترك لاكثر من أسرة، ضربات قلبه تتسارع من أن يصطاده أحد على تصرفه. المكان الآمن صعب وجوده).
أما عن عنصر الأمومة الطاهر الذي يحنو بظلاله الوارفة على الانسان فنجد يحيى المنذري -صاحب السرد بصيغة ضمير المخاطب – عندما يلوح براية التجرد والتداعي فهو في ذات الوقت يرسم صورة صادقة غاية في الرقة والشفافية حينما يتطرق الى رصد معالم تلك الأمومة /الكيان فهذه اللوحة هي التي تبعث فيه الحياة والاستمرارية من جديد بعد أن أسقطته عوالم التجريدية المتمثلة في تناحرات الآخرين.
(أشعلت عود ثقاب فركضت ناره تلتهم اللوحة. احترق جميعهم وصاروا وهادا إذن ليتجرأ الصباح مرة أخرى أن يركلك ناحية الشارع. وليتجرأ مرة أخرى هذا الجرس أن يعلن عن شبحه القاتل. سوف ترسم لوحات كثيرة وتحرقها كي ترتاح من الجميع ما عدا لوحة لأمك.)
وأخيرا تجدر الاشارة من خلال ما قدمه هذا العدد من نماذج فمن الملاحظ أن القصة العمانية المعاصرة تخطو خطوات متقدمة على الساحة وأنها أتاحت لأسماء جديدة رسوخا وثباتا مثل طالب المعمري ويحيى المنذري وآمنة ربيع سالمين ومرهون العزري وسالم الحميدي وبلاشك أن هناك العديد من الأسماء الأخرى. بلا شك أن جمال وروعة الطبيعة العمانية تساهم في صقل التجربة تجاه المبدع عامة كلما رنا الى الجبال المتفاوتة الاخضرار كل صباح وندف السحب الهادئة تنساب على قممها. أو كلما استرق النظر عند الغروب الى الساحل الخليجي الممتد والشمس تقبل مياهه الرقراقة قبلة الوداع البرتقالية.
عبدالغني السيد ( كاتب من مصر)