إعداد وتقديم: محمد شاهين
أكاديمي ومترجم أردني
صدرت حديثًا سيرة إدوارد سعيد بعنوان: أماكن العقل: سيرة حياة إدوارد سعيد. كاتبها تيموثي برنن، طالب أعجب بمعلمه منذ أن بدأ ينهل من علمه في جامعة كولومبيا في بداية ثمانينيات القرن الماضي. وظل الإعجاب المتبادل بين المعلم وتلميذه إلى ما لا نهاية. حظيت السيرة التي صدرت عن دارين للنشر معروفتين إحداهما في بريطانيا Bloomsbury والأخرى في أمريكا Farrar باستقبال ملحوظ من قبل وسائل الإعلام الغربية التي أشادت في غالبيتها بالمعلم والتلميذ معًا. دعت مؤسسة جامعة كولومبيا في عَمَّان -وهي امتداد لجامعة كولومبيا في نيويورك- تيموثي برنن لإلقاء محاضرة حول كتابه. حظيت بقضاء وقت لا بأس به مع تيموثي الذي خصني في كتابه باعتراف مميز بالفضل نظير مساعدتي له عندما كان منهمكًا في إعداد السيرة. بينما كنا نتمشى في قلب المدينة عَمَّان توقفنا أمام مكتبة بيع اللوازم المكتبية التي أقامها أولاد عمومة إدوارد سعيد بُعيد النزوح من القدس إلى القاهرة إلى عَمَّان عام 1948، واسمها الذي يرد في سيرة إدوارد سعيد “المكتبة العلمية”. كان إدوارد يزورها كلما حطت به الركاب في عَمَّان، بل كان يطلب مني أن أبلغ سلامه عندما أقابله في نيويورك إلى أبناء عمومته في المكتبة. في إحدى زيارات جابر عصفور إلى عَمَّان طلب مني نفس طلب برنن وفعلًا قمنا بزيارة المكتبة. ما أسعى إلى قوله هنا في هذا السياق وبعد هذا التقديم هو السؤال التالي الذي طرحته على تيموثي برنن ونحن نقف أمام المكتبة العلمية: ما الذي جعل إدوارد سعيد يبني جسورًا مع عظماء رجال الفكر والثقافة والفلسفة من مختلف المنابت والأصول في العالم ويدخلهم أماكن عقله بيسر ويجعلهم جزءًا من تراثه ليصبح هو الآخر بدوره جزءًا من تراثهم؟
بداية ما سأقوله هنا إجابة على تساؤلك، ينسحب على ما قمت أنا شخصيًا به من كتابة السيرة. بالنسبة لإدوارد، كان يقول على الدوام إذا أعجب بشخص كانت أمنيته أن يكون مثله: وبما أن الفرضية تظل أمنية فلا يبقى سوى أن يكتب عبارته المشهورة (write back) بمعنى أنه لا يقف موقف الحاسد ولا الحاقد حتى ولا الغاضب بل موقف الذي يسبح بحمد عبقرية غيره، إن صح التعبير، وبالمفردة الإنجليزية: (veneration)، وترجمتها التبجيل والتوقير، وهي المفردة التي استخدمها باوند في النشيد (القصيدة) الأول مخاطبًا التراث الذي جعل منه شيئًا جديدًا في التاريخ كما توضح أناشيده (Cantos) التي عكف على كتابتها ما يزيد على نصف قرن. موقف إدوارد سعيد هذا هو الذي جعله يقول في مقابلة مع صحيفة هاآرتس الإسرائيلية: إنه (إدوارد سعيد) آخر المثقفين اليهود. بمعنى أنه يقف في مصاف أولئك المثقفين اليهود أمثال كافكا وأورباخ وأدورنو وآرنت وتشومسكي وشيحاك وأمثالهم، لأنهم لا يتحيزون لدين أو لقومية أو لأي اتجاه خارج إيمانهم بالثقافة الحرة والعدالة والديموقراطية لكل الشعوب بدون استثناء.
هذا هو جابر عصفور. يقدر الكِبار لأنهم كبار في عقولهم وثقافتهم وأخلاقياتهم ويسعى دائمًا أن يكون في صحبتهم. عندما حضر محمود درويش المؤتمر الأول بدعوة خاصة من جابر عصفور والوزير فاروق حسني وجهت إليه من خلال رسالة حملتها إلى الشاعر، كان طقس المؤتمر يقضي بأن يقوم كل شاعر من الشعراء المدعوين بإلقاء ما يختار من شعره أمام الجمهور شريطة ألا يتجاوز وقت الإلقاء ربع ساعة. همس جابر في أذن محمود درويش أنه يستطيع أن يستمر في إلقاء شعره إلى أن يتوقف هو دون مراعاة للوقت المحدد. ما كان من محمود درويش إلا أن توقف بعد مضي ثلاث عشرة دقيقة، كان بإمكانك أن تستمر فالجمهور تواق لسماع المزيد من شعرك، قال جابر عصفور لمحمود درويش، أنا شاعر مثل بقية الشعراء، كان رد الشاعر، لكنك قامة كبيرة، أجابه جابر، إذا كنت أنا كذلك فأنت قامة أكبر، رد عليه محمود درويش. وبينما كنا نخرج من مدرج «الهناجر» حيث كان الشعراء يقرؤون شعرهم، علّق جابر: “الكبير يظل كبيرًا”.
وفي إحدى زيارات جابر عصفور لعَمَّان، طلب إليَّ جابر أن اصطحبه في زيارة لمحمود درويش في بيته قائلًا: هل تعتقد أنني جئت إلى عَمَّان فقط لألقي محاضرة في مؤسسة شومان الثقافية! استغرقت الزيارة ما يقرب من ساعة. كان من الواضح لي أن حديث جابر في تلك الساعة يختلف تمامًا عن حديثه العادي الذي أستمع إليه عادة. قدم لنا محمود القهوة وعلى الفور بدأ جابر يقرأ “قهوة أمي….” ما إن فرغ جابر من احتساء فنجان القهوة حتى قدم محمود فنجانًا آخر، وكاد جابر يعتذر لولا أن محمود استبقه بالقول: ذاك الفنجان الذي شربته قهوة أمي وهذا قهوتي، فرد جابر لولا الابن ما كانت قهوة الأم أصلًا، تلك القهوة التي تجاوزت مناسبتها زيارة الأم إلى السجن في حيفا عندما حرم السجان الإسرائيلي الابن من قهوة أمه التي حملتها إليه في زيارتها له- عندما أصبحت قهوة أمي أشبه بنشيد يومي.
جلسنا في بهو الفندق (حيث كان يقيم جابر) بعد زيارتنا لمحمود درويش. وهذه كلمات جابر استعيدها قدر الإمكان من الذاكرة: في حضرة الكبار يكبر الوعي في حضرتهم؛ إذ ينساب من اللاشعور إدراك غير عادي نحو المرء من حيث لا يدري. أيضًا تكبر الحياة وتتمدد أبعاد اللغة فيها خصوصًا بعديها الجمالي والمجتمعي. في حضرة الكبار تبرز صورة أو (تمثيل) المثقف: عنوان محاضرات ريث “Reith Lectures” التي دعي إدوارد سعيد لإلقائها من قبل هيئة الإذاعة البريطانية وصدرت في كتاب عام 1983. استذكرت على الفور أول لقاء لي بجابر. فبينما كنت في طريقي إلى مكتبي في كلية الآداب لمحت جمهورًا يدخل المدرج وعلمت أن المحاضر هو جابر عصفور الذي لم أحظ بمقابلته من قبل قد دعي لإلقاء محاضرة عن إدوارد سعيد. دلفت إلى المدرج على الفور، كان سروري بالغًا بتلك المناسبة إذ إنني كنت أتوق لمقابلة جابر، وكنت في الوقت ذاته دائمًا أتمنى أن يجد إدوارد سعيد حضوره في الجامعة الأردنية. نشأت بيننا صداقة العروة الوثقى التي لم تعرف الانقطاع.
كانت محاضرة جابر في الجامعة الأردنية تدور، على ما أذكر، حول صورة (تمثيل) المثقف. وأذكر جيدًا أنه تحدث عن المثقف العضوي ولا أذكر إن كان قد تطرق إلى غرامشي الذي هو مصدر هذه الأطروحة. أكد جابر في محاضرته تلك على أن المثقف العضوي له دور هام في مجتمعه بوصفه مثقفًا عضويًا حرًا يعمل خارج سلطة الحكم وتؤرقه قضايا مجتمعه ومستقبله، على النقيض من المثقف المهني الذي يؤدي دوره من خلال مؤسسات الدولة. وظل جابر مستمرًا في الإشادة بإدوارد سعيد إلى أن تتوجت هذه الإشادة في كتابه “تحديات الناقد المعاصر” الذي صدر عن دار التنوير للطباعة والنشر عام 2014. ويعلق محمد الشحات في مساهمته المتميزة التي نشرت في عدد خاص أعدته “أخبار الأدب” تكريمًا لذكرى الراحل جابر عصفور- يعلق الشحات على كتاب جابر المذكور قائلًا: “بيد أن اللافت للنظر في كتاب جابر عصفور يستدعي إدوارد سعيد في أغلب مفاصله ومباحثه، استدعاء لروح العقلانية والاستنارة وخطاب المساءلة؛ ولذلك فلا ريب أن يكون الكتاب كله مهدى “إلى روح إدوارد سعيد، مثقفًا ثوريًا، وناقدًا عظيمًا، وصديقًا عزيزًا” (أخبار الأدب، 9 يناير 2022، ص23).
وفي هذا السياق لا بد من توضيح نقطة بالنسبة لتقاطع منظور جابر عصفور مع منظور إدوارد سعيد وغرامشي:
كثيرًا ما كان جابر يتهم بولائه للسلطة وعمله مع مؤسساتها، وقد سمعت نفرًا من النخبة يوجه اللوم الشديد لجابر بسبب موقفه هذا. في اعتقادي أن مثل هذه التهمة أو اللوم لا يزيد عن كلمة حق يراد بها باطل. صحيح أن جابر يؤمن أن التغيير لا بد وأن يأتي من خلال مؤسسات الدولة، مثل هذا التوجه هو ما قدمه غرامشي (بل وكبار رجال الفكر والنقاد)، بمعنى أنه لا يقصي المثقف المهني (غير العضوي) تمامًا من درجة المثقف العضوي؛ إذ إنه يعتقد أن المثقف المهني يقوم ولو بشكل محدود وغير كاف بمهنة الثقافة كما هي الحال في المدارس والجامعات والمؤسسات التعليمية الأخرى، وهذا ما يجعلنا نتجنب حسب تصور غرامشي إغلاق الباب في وجه المثقف المهني في وجهه وتأمل أن يتغير أداؤه عندما تزول الهيمنة التي وضعته في ذلك الموقف المهني المؤقت وهنا يبرز مفهوم هام نحته غرامشي وترك أثرًا كبيرًا على أرباب الثقافة من ريموند وليمز إلى إدوارد سعيد، وهو ما أود ترجمته بـ “الهيمنة الناعمة”، والمفردة الإنجليزية هي hegemony التي ارتبطت كمصطلح بغرامشي، ومفادها ذلك النوع من التصالح السلمي الذي تقيمه الدولة مع مؤسساتها وشعبها كبديل عن القوة والعنف الوسيلتين التقليديتين اللتين ترضى بهما في الوقت ذاته تلك المؤسسات وذلك الشعب. و”الهيجوموني” التي ذهب النقاد في ترجمتها مذاهب شتى أشبه بهدنة دائمة.
ولو كان جابر على سبيل المثال تابعًا للسلطة بالمعنى الذي اتهم به، لما كان صديقًا لإدوارد سعيد. هاتفت إدوارد سعيد بعد المحاضرة التي ألقاها جابر في الجامعة الأردنية وقلت له إن “رفيقًا” ناقدًا قام بالواجب نحوك هنا في الجامعة الأردنية، فأجاب: جابر صديق عزيز وناقد مستنير وأحرص أن ألقاه كلما سنحت لي فرصة لزيارة القاهرة.
ولو شئت أن أوجز ما تركه محمود درويش من أثر في وعي جابر عصفور لاستذكرت صيحة محمود درويش “أنا لغتي”. هذا هو جابر عصفور الذي أحسّ منذ بداية مسيرته أن اللغة عنصر وجودي في الحياة والفن مجتمعين. أما بالنسبة لما تركه إدوارد سعيد من أثر عميق في نفس جابر عصفور فهو أيضًا يجعلنا نستدعي تأكيد إدوارد سعيد “اللغة تفرض نفسها علينا”.
ومن يعرف جابر عصفور من خلال كتاباته وأحاديثه ومحاضراته يدرك أن أثر هذين العالمين الكبيرين الصديقين عند جابر ما هو إلا امتداد لما تركه “العميد” من أثر طوق وعي التلميذ منذ أيام الصبا.
ولو قدر لجابر عصفور أن يكون بيننا هذه الأيام لأيقن أن اللغة يمكن أن تكون سببًا رئيسيًا في حرب ضروس في العالم كالتي تجري رحاها بين روسيا وأوكرانيا أو لنقل في العالم الغربي.
هذا هو جابر، عاش في صحبة الكبار ولغتهم ورحل مع الراحلين الكبار بعد أن خلف مثلهم تراثًا لا يرحل ولا يترجل.