المرأة بمكانها (في ) – ومكانتها (لدى) الشاعر تجعل الخيال يثار وينطلق يرسم عوالم فريدة وغريبة وحلمية: حيث تتكون الصور، وتتركب الأبنية, ويتوحد الزمان بالمكان, ويدخل الشاعر حالة وجدانية يمكن أن أسميها بـ" لذة الانتشاء" أو "العلو" أو "الارتقاء نحو سدرة المنتهى", في هذه الحالة يكون كل شيء واضحا وغامضا وشفيفا في آن, ومن ثم لا تتكون دائرة أو دوائر مغلقة, بل يتكون فضاء رحب له سموات وأرضون .
هذا الفضاء الذي يتخلق تحت سطوة الألغة والحميمية ولذة المكان كالغرفة أو الشارع أو السرير أو البيت بشكل عام, يتمازج فيه الأرضي بالسماوي، الأسطوري بالواقعي، المقدس بالعادي، اليومي بالمطلق, ثم يولد النص الشعري.
هذه الولادة, هي تحقق الوصول, بعد الوصل واللقياء واندفاق الماء بعدا لتشوق, والتدرج الى العلا بعد الحياة الأرضية .
واذا كانت للنص لذة بحسب قول رولان بارت, هي لذة الولادة, فللوصول لذة لا تعادلها لذات أخرى سماوية أو أرضية, لأن الروح هنا تصعد في مدارجها.
هنا يتحقق المكان – النص بفضائه الوسيع, وهو معادل لامرأة متعينة أو قد تكون كونية أو معنوية تمثل مكانا روحيا أو شبقيا للشاعر، أي تصير له سكنا بحسب التعبير القرآني، إنها البيت, الستر والغطاء، بحسب تعبير العامة, ويحق لنا أن نتساءل بما أن " الشعر كلام مركب من حروف ساكنة ومتحركة " – أبو حيان التوحيدي – وبعا أن المرأة هي أيضا نص فريد من الحروف الساكنة والمتحركة, فهل تحدث الوحدة . وحدة الحركات والسكنات, هل الصلة – هنا – صلة خارجية أم من الداخل ؟
تلاقي الحروف بينهما يولد فتحا للوجود المعنوي والمكاني. فالمرأة باعتبارها نصا مشغولا سلفا، يزيد باتحاده مع الشاعر ويرقى، ويترقى، تتداخل الى حد الاندماج مع النص المشغول من قبل الشاعر الذي كتبه بمائه وماء المكان (المرأة )، فيعيد خلقها وتعيد هي خلقه .
ونحن لسنا أمام نصين, إلا في حالة الفراق, بل أمام نص واحد، حتى ولو كان هناك طلل للوقت وطلل للمكان معا.
فلو اعتبرنا المرأة ( 1) والشاعر (2).
وسمينا المرأة محيطا والشاعر محاطا به .
واعتبرنا المرأة جسما حاوية وهي كذلك بقداستها وتجلي روحها وعلوها ومكانتها في الديانات والحضارات . واعتبرنا الشاعر جسما محويا خرج من رحم المرأة, ويعود اليه مرة ثانية ولكن تحت مسمى أنها السكن, البيت, المكان أو الجنة بطقسها, وفردوسها.، ستكون النتيجة الحتمية هي وحدة ( 1) مع (2).
لأن ( 1) ستؤدي الى (2) وفي ذات الوقت (2) ستؤدي الى ( 1) ووحدة المرأة بالشاعر هي " وحدة الوجود".
والشاعر هنا كـ(الصوفي ) تماما، فالصوفي عبر نصوصه سواء النثرية أو الشعرية, المرأة فيها لها قداسة تعادل قداسة المحبوب الأسمى الأعلى المتجلي والمتجسد في الله, حيث يتوحد الصوفي في مكانه (المرأة ) فيما يمكن أن نسميه بوحدة المكان, أو بوحدة الوجود، لأن الزمان يذوب في ماء المكان خالقا " الزمكان »، فالمرأة والشاعر ينصهران في علاقتهما في " كل واحد مدرك ومشخص . الزمان هنا يتكثف, يتراص, يصبح شيئا فنيا مرئيا والمكان أيضا يتكثف, يندمج في حركة الزمن والموضوع بوصفه حدثا أو جملة أحداث والتاريخ . علاقات الزمان تتكشف في المكان,والمكان يدرك ويقاس بالزمان " ميخائيل بختين .
و" لأن المكان والزمان شكلان ضروريان لأي معرفة بدءا من أبسط إداركاتنا وتصوراتنا » بختين – فتتحقق المعرفة, وتنبني وحدة الوجود.
ويكون المكان هو التقاء الأفقين ( 1) و (2) أي المحيط أو المحاط به ويصير تعريف أبي حيان التوحيدي صحيحا عندما يرى أن المكان أدهو ما بين سطح جسم الحاوي وانطباقه على الجسم المحوي».
هذا الالتقاء, مصحوب بلذة, ليست مؤقتة, ولكنها لها صفة الديمومة والأبدية, قد تصل الى ما بعد الانتهاء، الى ما بعد موت الجسد، حيث تظل الروح محلقة ومفعمة بالمتعة . ويحدث في زمان ما يظل الأفق (2) أي الشاعر يذكر الزمان طالما هو في حالة الوجد والسكر من "الالتقاء"، ويذكر المكان طالما هو يستعيد لحظة غافية أو ساكنة الى حين في اللاوعي.
الالتقاء، أي تلاقي جزءي ذرة منشطرين بعد انقسام وغربة وسنوات من النأي، يخرج المكبوت, والسري والغائم من اللاوعي في شكل صور غريبة وجديدة, ولغة طازجة فيها رائحة الأنوثة خارجة من الرغبة الساكنة, المسكونة في عوالم الشاعر، وهنا أقول مع ابن عربي " إن ما لا يؤنث لا يعول عليه »، سواء أعان مكانا أم لغة واللغة أنثى واللغة أنوثة لها سحرها وجذبها.
واللذة الأبدية الناتجة من التقاء الشاعر الحميم بالمكان – المرأة الأليف باعتباره حاوية للأشياء هي – في حد ذاتها – مكان, فالمكان من خصائصه اللاتناهي والأزلية والأبدية والقدم وعدم الفناء وهو أصل التجربة . والمرأة هي أصل التجربة داخل النص كمكان معنوي روحي، وداخل الحياة كمكان متعين جسدي، ولما كان للمعنوي الغلبة على مستوى النص الشعري، وروح الشاعر ونفسه كنص آخر مواز غير مكتوب, وأحيانا يكون نصا متلاقيا مع النص الكائن في فضاء الورقة .
إذن نحن أمام تجليات روح, وتجليات جسد. منهما يتخلق النص ويولد. والشاعر يحتفي بالروح التي هي كون, حيث تشغل زمانا لا نهاية له ومكانا لا حد له .
والمرأة متحركة, تتجدد وتتشكل من خلال الأشياء المحيطة بها، علاقتها بمحبوبها، بجسدها، بعالمها، بذاتها، بمكانها لا باعتبارها مكانا منفصلا، ولكن باعتبارها خارجة من مكان محمل بالاعراف والتقاليد السائدة له سمات وشكل البيئة .
واذا كان افلاطون قد قال إن المكان هو " بيت الرحم » أو " الأم المرضع » فهذا يعني ببساطة مركزية المرأة, ومحور الوجود، والمدخل الى العالم من منظور واسع حيث تملأ المرأة جميع انحاء المكان .
ويتلاقى افلاطون مع ابن عربي، في تأنيث المكان, أو ما أسميه أنا " بالمرأة المكان " ومن ثم مولد لغة وصورة وعلاقات جديدة من جراء هذا التأنيث .
وكما يمكن أن نسمي المرأة بأنها: الأين, والمحل والملأ، والحيز، والموضع, والخلاء فالمكان كذلك .
وأنا كشاعر أحل فيها وتحويني، وتميزني وتحدني عن بقية الأشياء، لأن لها علاقة بالحركة والزمان والأجسام, هي سابقة علي أم أنني سابق عليها, أم أننا تداخلنا في آن واحد، وخرجنا من رحم الكون معا.
فهي تحركني باعتباري فيها، ممتلئة بي, وهي مكان كلي لانهاية له, ومثلما قال الرازي: " كل ما لا نهاية له قديم, فالمكان قديم وأزلي" وهي باقية ببقاء الزمان والسماء.
وأنا أمام امرأة الآن, ليست ساكنة, أو مهمشة, بل خارجة من تراث الشاعر العربي الجاهلي . والشاعر الصوفي ؛ آتية لعصرنا عبر معارف وخبرات وتراكمات من الجدل والحوار، تشكل مساحات كبيرة في خريطة الشعر العربي، إذن كيف سأتوحد بها، كيف تصير رمزا معنويا – مثلا – للأرض أو الوطن أو المدينة أو القرية .ما شكل علاقتي بها، ما مدى التغيير الذي ستحدثه في علاقتي باللغة والبناء والتشكيل, فلكي أحيا كشاعر علي أن أكون مهيأ للاتحاد مع عمق المكان (المرأة ).
فأنا أمام جسد له ذاكرة, وله لغة, وله روح . يشكل قربا وبعدا، هو مكان, فيه قطبا الحياة " متى" و " أين": الزمان والمكان . أتآلف مع جوانيته حيث فتح الذات وتجلي روحها.
أما برانية الجسد، فهي هامش لا يشكل مركزا رئيسيا، قد يرسم ملامح جميلة لا تعبر إلا عن السطح, ولا تتم علاقة حميمة مع جسد نعرفه توا أو منذ بعيد، دونما الولوج الى الداخل . فالإيلاج لا يعني الولوج . لأن الخارج ليس هو الداخل وأيضا الجسد لا يعني الروح . لكن الوحدة بينهما قد تعني الاكتمال والالتقاء. ومولد عوالم شعرية جديدة يأتي من الإبحار في ذاكرة الروح .
المرأة, إرث, ميثولوجيا، بذء للخلق, مفتتح للتكوين, بذرة لأي حياة, أساس لأية تصورات, ومن ثم فهي مكان جاذب, سهلة الولوج تمثل الملجأ والحماية كرحم قديم جئت منه وأعود اليه من خلال بؤر أخرى جديدة تمثل أدلة على الأنوثة, آوي اليها بعيدا عن صخب الحياة وضوضائها.
والمرأة كمكان تدرك من خلال الحواس وعلى رأسها البصر. فالتو حد لا يكتمل إلا عبر قنوات متوالية ومتصلة تؤدي في النهاية الى الامتزاج والفناء وخلق وجود سام هو في الحقيقة مكان لنص معيش على مستوى الخبرة الحياتية الأرضية أو على مستوى العلو والارتقاء، أو مكان لنص مكتوب ومتحقق في المكان – الورقة, وهنا يتحقق وجود المرأة كمكان غني في القصيدة,وهي تكون مكانا متناهيا أو لا متناهيا حسب اتحاد الشاعر بها، ومعر فته, وتجانسه مع مفرداتها، باعتبار أنها، مكان والمكان مجموعة من الأشياء المتجانسة .
وفي هذه الحالة تشف وتذوب في ماء المتوحد بها. وتصير معادلا للكون, للعالم, وباعتباري أعرفها وأكونها داخلي والدها من جديد، فيمكن أن أبني صورة للعالم من خلال معرفتي بالمكان – المرأة الذي أعرفه وأصبح عنواني لأي شطح أو دخول, وحسب "يوري لوتمان " تصير " بنية مكان النص نموذجا لبنية مكان العالم ".
وبما أن المرأة مكان له تاريخ وحضارة ودين وعادات ومعتقدات وخبرات وثقافات, فهي تكشف عن تواصل زمني معها، فلا مكان بدون زمان وهنا أقول مع أبي حيان التوحيدي إن" المكان رديف الزمان ". والمرأة بناء فاعل ومفعول به, ولكنها أيضا اسم, واسم مكان, وظرف للمكان .
في بنائها أجد ظرف المكان متحققا: بين, فوق تحت وراء، قرب, تجاه, نحو دون, وغيرها من الظروف, فهي اسم مشتق للدلالة على مكان وقوع الفعل, ومتى وجد الاسم وجد الفعل ومتى وجد الفعل وجد الحرف, ومتى وجد الزمان وجد المكان, ومتى وجد الشاعر وجدت المرأة .
والظروف المكانية المتحققة في جسد المرأة المتعين أمام الشاعر من خلال البصر والتآلف مع هذا الجسد، هي نفسها المتحققة في اللغة, والشاعر في استخدامه لها " أنما يميل الى نوع من الدقة البصرية في التحديد وفي النظرة الى المرئيات, إنه يستثير فينا حاسة البصر كمنطلق للنظرة الشمولية في التصور" أحمد طاهر حسنين .
ومثلما يحب الشاعر ظروفا مكانية بعينها، يستخدمها في شعره, وتكثر في قاموسه الشعري، وتنتشر في لغته, فهو أيضا – يحب ظروفا مكانية في المرأة كمكان, فقد يحب فيها فوق أو تحت أو دون وهكذا، ولكن ثمة مكانا يمثل البؤرة في المرأة لككل, ككيان مكاني حاضر وفاره, هذه البؤرة هي العنوان أو العلامة الرئيسية, ما يدل على المرأة, هي الجوهر والاشارة, تدخلنا الى الجسد فيما بعد، ثم نلج الى الروح خفيفين شفيفين محملين برائحة الذكرى والتواريخ والثقافة والميثولوجيا، تكشف الفضاء لينبني النص ونتعرف نسيجه لنفترض أن المكان البؤرة بالنسبة للشاعر هو النهد، أو هو الفرج .
هذه البؤرة, الحلم الأسطورة تكون مدخلا حقيقيا للقرب والألفة ومن ثم الاتحاد واكتشاف العالم, لأن المكان في هذه الحالة سيتحول الى مرآة ترى فيها " أنا " الشاعر صورتها، وتتشكل شخصيتها، لأن المرأة طاغية ومؤثرة وذات حضور كثيف, ولأنها حقيقة يعيشها الشاعر فهي تؤثر بقدر أكبر مما يؤثر فيها الشاعر ولأنها مكان متسع وفسيح, فدفئها وألفتها وحمايتها لا متناهية .
وبقدر معرفتي بالبؤرة, سيكون تشكيلي للغة والأسلوب والصورة داخل الذهن ثم داخل النص بعاذلك . فالحوار الذي يحدث بين داخلي كشاعر وداخل البؤرة بما تحويا من تاريخ وطقوس وعادات, يتيح لي معرفة نفسي ومعرفة العالم . وأنا قصدت هنا بالتوقف أمام بؤرتين للمكان هما النهد والفرج . لما لهما من ارتباط تاريخي من الدفء واللذة منذ الطفولة, وحتى صارا مفتاحي لمعرفة العالم . فهما بؤرتان اسطوريتان يستدعي استحضارهما استدعاء الزمن الذي تشكل فيه وعي الشاعر وخبرته وثقافته ومعر فته بمكانة البؤرتين .
هذه المرأة المكان .
هي حبيبتي أوعشيقتي.
والياء هنا، هي ياء الملكية, وهي المكان الذي أمارس فيه سلطتي ليس بالمعنى الاستلابي،ولكن بالمعنى الايجابي حيث المحبة والشوق والوصل والتواصل, ولغة بين الشاعر والمرأة . والمكان يكون بالنسبة لي حميما وأليفا، حيث أخلق تجربتي الشخصية معه, وهذه التجربة بمدى صدقها تخلق معرفة وكشفا وأحوالا، وأنا أضيف الى المكان من عندي، من (ياء) بيئتي وعشقي وثقافتي وتاريخي ومعرفتي.
وتأتي خصوصية النص المكتوب من خصوصية العلاقة وفرادتهأ، ومدى تجذرها .والمرأة عامة تنتج ثقافة مغايرة, وخيالا جديدا،ولغة بكرا، بما تحمله من اختلاف وطزاجة وأسطورية فهي كمكان وفق رؤيتي هنا " حاضنة دافئة للأحاسيس والانفعالات وخفايا النفس, وانسيابية الصور وتجاورها وتحولاتها المعرفية, لذلك لا يخلق المكان التجربة بل تخلقه التجربة " – ياسين النصير -.
وأنا كشاعر مخلوق في حيز زماني ومكاني، مارست تكويني البيولوجي في رحم الأم (المكان الأول ) ثم خرجت منه الى المهد فالثدي فالصدر، ثم الى البيت فالمدرسة فالشارع فالنهر فالأرض فالقرية فالجامع فالقبر الذي هو نهاية المكان وبداية العالم . هذا التدرج المكاني هو الذي يخلق الشخصية ويبنيها، ويضح لنا هنا أن نقول " قل لي أين تحيا أقل لك من أنت ".
هذه الرحلة هي مغامرة وحرية وانطلاق واكتشاف وانفلات وابتكار قيم جديدة وامتحان قدرات الذات بحسب تعبير يوري لوتمان .
والمكان مجردا معزولا وحيدا نائيا لا قيمة له, طالما أن أحدا لم يكتشفه ولم يعش فيه .
فلو افترضنا أننا أخذنا طفلة وتركناها في إحدى القرى المهجورة من البشر، وعاشت بين الخرائب والأطلال الحيوانات الأليفة وأكلت مما تخرجه الأرض عشوائيا، ولما كبرت, اكتشفها إنسان ضل طريقه الى مكانها، هل يمكن أن تصير هذه المرأة مكانا أليفا في التو.
أقول إن " المكان لا ينهض الا بتجربة عظيمة فيه ".
ولكن كيف نتخلق هذه التجربة .أتصور أنها تبدأ في الأساس من معرفة الانسان بالمكان الذي حل فيه .
وعلى الانسان الذي اكتشف المرأة, أن يتخاطب معها أولا، يعلمها لغة التخاطب, يختبر روحها يؤنس وحدتها الطويلة, يروض جسدها الشارد الجامح, يرصد سلوكها، يعرف خصائصها، يكون على معرفة بحكايتها.
ولكي تكون مكانا أليفا له, لابد من المعرفة الكاملة بها، وفهم تاريخها فهي مكان بكر مازال في طور الاكتشاف, يحتاج الى تشكيل وفق ثقافة ونظرة وعلاقة المكتشف الذي يمكن أن يكون الشاعر هنا. وعليه أن يتعامل معها فيزيقيا وميتافيزيقيا ليسبر حالها، ويصل الى منتها ها، وهنا يتخلق المكان المرأة في" المكان ليس شيئا مطلقا بل هو نسبي خاصة عند الشاعر حيث الفاعلية النفسية تؤكد حضورها في الرؤية المعايشة للمكان " ياسين النصير -.
لاشك أنني كشاعر من خلال نصوصي الشعرية المتباينة والمختلفة, والتي تمثل في مجموعها وعبر زمنها نصا شعريا واحدا أليفا ومؤتلفا أعطي للمتلقي تصوري عن المرأة, والتي هي مكان بارز في شعري، باعتبارها تحتل مساحة كبيرة في جسد النصوص وبلغة الاحصاءات فهي تمثل نسبة مرتفعة, ويتجلى ذلك في الصور والفضاءات والأمكنة والأبنية واللغة التي تخلقها من خلال اتصالي بها، ومعرفتي بحالها، ووصلي معها.
فمنها أقدم – أيضا- رؤيتي للعالم, وموقفي من الحياة, وكيف أنظر الى المحيطات حولي, إنها لا تعزلني بقدر ما تعرفني نفسي واكتشف بها كل الغوامض والمجهولات .
والمرأة, لا يوجد شاعر في آداب العالم, احتفى بها، وشغلت مساحة كبيرة من نتاجه الشعري مثلما نرى لدى الشاعر العربي عبر سيرته الطويلة والممتدة منذ الجاهلية وحتى الآن, وأتصور أنه إذا كان الزمان والمكان هما مفتاحا الشعر العربي فالمرأة أيضا – هي مفتاح أساسي لهذا الشعر.
فالمرأة لما لها من سطوة آسرة, وتأثير شديد العمق, على الشاعر، فهي تكشف شخصيته من خلال نصوصا، وليست مجرد " امرأة " عابرة لا أثر لها في القصيدة أو في شعر الشاعر بشكل عام . ليس وجودها مجرد علاقة براجماتية نفعية تنتهي بانتهاء كتابة القصيدة مثلما نرى عند طائفة من الشعراء، وهذا الشعر غالبا ما يكون مصنوعا لا حرارة فيه ولا صدق, فيه من التكلف والصنعة أكثر مما فيه من الشعر.
فعنترة بن شداد مثلا كان ينظر الى المرأة نظرة فيها «التسامي والعشق الشديد والنزوع نحو المرأة – المثل " د. صلاح عبدالحافظ . على العكس من امريء القيس – كما تقول الباحثة نوال عبدالكريم – فكانت نظرته " نظرة حسية خاطبت المظهر، ولم تخاطب الروح ؛ فهو لا يرى في المرأة إلا متعة ". يقول: أدونيس " ينطلق الحب عند الجاهلي من الجسد ثم تأتي النتائج النفسية والذهنية, توفر اللذة الجسدية غبطة الاكتمال والتملك, ويجد الجاهلي فيها جنته الأرضية, المرأة له الواحة والماء والجمال كله, رمز الخصب والطمأنينة وما يطو ويتسامى" أي أنها المكان الذي هو المنازل والديار والصحراء والخيام والواحة وعيون الماء، وأدونيس يرى أن الجاهلي يبدأ حبه من الجسد ثم بعد ذلك يطو ويسمو داخلا الى روح معشوقته . وقد يرى البعض أن في هذا الرأي نفيا للشعراء العذريين, أو الذين اتصلوا بالمرأة عبر تلاقي الأرواح, ولم يستطيعوا أن يقيموا علاقة جسدية تحقق اللذة والمتعة . وهنا سيكون الفارق واضحا بين شاعرين هما عنترة وامريء القيس, الأول تعامل معها على أنها مكان معنوي لا حياة له إلا به والثاني راها مكانا متعينا, فيزيقيا. أي الجسد مقابل الروح وأرى أن المرأة تتحقق كمكان بشكل أساسي في امتزاج الأرضي بالسماوي، أو الشبقي بالعلوي أي الجسدي بالروحي. فلا اتصال خلاقا مع امرأة إلا من خلال عقلها وقلبها وروحها وبعث قيامة نفسها ثم الدخول الى وردة جسدها لقطفها بعد موسم النضج في طقس سحري إلهي.
أنا أتصور أن للمكان مفردات لها دلالات تدل عليه, وتوضح معالمه منها نعرف جغرافيته وتضاريسه وثقا فته وتاريخه وأهميته وموقعه, ومفردات المرأة هي أعضاؤها والشاعر بارع في وصف هذه الأعضاء، ويأتي الوصف حسيا أو قدسيا حسب علاقة الشاعر بالمرأة .
وتكثر مثلا في شعري المفردات المكانية للمرأة والتي هي في الأساس " ظروف للمكان " مثل: النهد، الشفاه, الشعر، السرة, الماء (بدلالاته ). العيون, الفرج …
لقد شكلت عالمي من خلال رؤيتي المتحركة للمرأة, أتت شفيقة, غير حسية معبرة عن اتحاد جسدين وامتزاج روحين, حيث لا وصول الى انتهاء، وأن المكان الأعلى في السماوات باق لوصلي بمن أحب وأتحد. هنا المفردات – الأعضاء باب الى سماء صوفية, ورؤية فلسفية للكون عبر تجلي المرأة باعتبارها رمزا للجمال ومدخلا الى كشف الشاعر لذاته ومعر فته بعناصر الحياة.
واذا كانت (المرأة مكانا), فإنها تتجل مرة أخرى في علاقة (المكان امرأة )، بحيث تتحول أرجاء المكان الى أرواح أنثوية باذخة, فيها وهج الأنوثة ور حابتها الخصيبة, يصبح للمكان نهد وخصر ورائحة,وتصبح الأنوثة – في هذا التجلي – روحا مشعة, وعطرا مضينا وساريا.
فالمرأة مثير أساسي للكتابة, تجعل سماء الشاعر تستجيب لمطر الشعر.
فالمكان الذي أوجد فيه يثير روحي ويضعني في حالة الكتابة . ولكن هذه الحالة تصبح دائمة ومتوقدة وسيالة وفياضة عندما أكون عائشا في المرأة باعتبارها المكان الأسمى الذي أوجد فيه .
هذان المكانان, بتوازنهما، أو بطغيان المرأة المكان, على المكان (البيئة ) أو المكان (المؤقت ) يخلقان المثير، ويفسحان مساحة للاستجابة فلكل مثير استجابة, وهنا تتحدد علاقتي بالبيئة التي أنتمي اليها، أو حتى أعيش فيها انتماء مؤقتا كالأماكن التي عشت فيها في بريطانيا أو ألمانيا أو الولايات المتحدة الأمريكية أو اليونان وشهدت كتابات كثيرة من شعري.
في هذه الحالة يتمازج المكانان, لأن المرأة ابنة بيئتها. ولكن هل النص كمكان جديد سيتغير.
المكان النص يأتي تأكيدا بصريا منظورا لمكان النص, بحيث يتحول المكان المعين في الخارج على فضاء الى أفق نمي، يتحرك ويتشكل حسب الحركات الداخلية للتجربة .. ومن هنا تكتسب صورة النص مكتوبا, دلالية مكانية هامة, حيث يصبح المكان النص وجودا موازيا لنص المكان .
ولعل نصوصا كثيرة لي خاصة في السفر الثاني من " الأحاديث » تداخلت فيه المرأة المكان مع المكان (المؤقت )، لتخلق نصوصا تمثل أمكنة جديدة في فضاء الكتابة: (حديث الأحاديث ) و(أحاديث الماء) بشكل خاص, حيث اللغة والعلاقات والموسيقى والتجلي والحزن والإحساس بالزمن الضائع ومصاحبة الموت جاءت بشكل مغاير ومختلف لمواقف وأحوال كثيرة لي عشتها قبلا.
المكان يذكر بالزمن .
والمرأة تذكر دوما بالزمن .
والمرأة كمكان لي تذكرني بالأماكن التي عشت وشفت, فأمي تذكرني بالبيت, التفاصيل الصغيرة التي حدثت قبل 1965، (لأنها ماتت في العشرينات من عمرها)، أقبض عليها, أذكر ماضيا بعيدا في الطفولة المبكرة, لأنني لا أريد لهذه اللحظات أن تضيع من بين عيني ومن ذاكرتي، فالذاكرة تستوعب المكان تفصيليا، ثم بشكل محيطي شامل .
وحبيبتي تذكرني بزمننا وأشيائنا الصغيرة ثم تجعلني استعيد تاريخا وأحداثا وقعت .
الأطلال حقيقة هي بكاء واستعادة لمحبوب رحل, وليس بكاء ديار أو خيام أو منازل .
وأنت لا تستطيع أن تعرف كيف أنا رأيت الزمن وتعاملت معه, ومدى إحساسي به, وسلوكي معه, دونما أن تسبر امرأتي داخل نصي الشعري.
فأنا أخلق زمنا مغايرا للزمن المتعارف (العمر أو الدهر) في قصيدتي، فعشقي وسفري ووصولي ووصلي وتجلياتي واتحادي وصلاتي هي زمني الذي أقاوم به سطوة القدر والدهر.
ومثلما كل امرأة كون بمفردها وعالم فريد لا مشترك فيه ولا متشابه .
فإن كل حالة عشق تخلق معها زمنها الخاص بها.
واختلاف الأماكن وتنوعها يؤثر على مدى علاقة الشاعر بمحبوبته . فالمكان الضيق قد يوحي بالألفة والحميمية والهدوء والسكينة والطمأنينة والتوحد. بينما المكان الوسيع قد يوحي بالضياع والتيه والشرود، والغربة والوحدة .
وبين المكانين تتواءم المرأة مع ما يتماس مع شخصيتها وتكوينها وثقا فتها باعتبارها مكانا أليفا، يبحث عن الآلفة والسكن في حضن من تحب (الشاعر)، أو المكان المتعين المحدد.
واذا كان الشاعر ينظر للمرأة على أنها سكن, فهي الأخرى تنظر اليه باعتباره سكنا. وبما أن السكن هو مكان أبرز سماته السكينة والدف ء والحميمية واللغة المشتركة ؛ فتلاقي السكنين (المكانين ) يخلق مكانا يستطيع أن يتواءم ويتكيف بل يمكن أن ينصهر مع (المكان الأم ) الذي أعني به هنا القرية أو المدينة أو الوطن . وهو يختلف عن " المكان الأم " وأقصد به " الرحم » الذي أراه هو أول مكان عرفه الانسان, وعاش فيه, وخبره منذ بدئه وتكوينه ثم عرفه في مراحل أخرى من حياته وهو مكان دوما صديق للشاعر العاشق أبدا.
والشاعر في اتحاده مع المرأة في مكان ما، يخلق مكانه الشخصي الحميم, وزمنه الخاص, الذي يكون مخلوقا ضد البعد أو الفراق لأن الزمن العادي الدهري يصير عدوا, خاصة أنه يسبب النأي والهجر ويفرق بين محبوبين عاشقين .
فإذا ما نأت المحبوبة, ووقع الانشطار بين قلبين نجد الشاعر كلما مر على مكانها القائم أو المهجور مصادفة أو عمدا، يبكي طللا ويتحسر على أيام خوال ماضيات حاملة ذكريات مشتركة وتفاصيل حياة عشقية حميمة وخاصة, وهو هنا يدخل صندوق زمنه الخاص عبر الذاكرة (القلب والعقل معا) ليستحضر زمنا فائتا، تكون فيه المرأة هي الزمن وليس مجرد امرأة في زمن ما، ومن ثم يستحضر في ذات اللحظة مكانا خاصا كان مأواه وملجأه وصندوق أسراره الصغيرة والكبيرة وحاملا لرائحة البكارة والتلقائية محتفظا لفطرة الوصل والدخول باتجاه الروح .
وهذه الحقيقة تؤدي بنا الى طرح سؤال .
أي الأمكنة أكثر إلحاحا وحضورا واستعادة في ذاكرة وروح الشاعر، ومن ثم تحققا في نصه الشعري المكتوب .
هل هو المكان الأول ولست أقصد به (المكان – الأم ) ولكني أقصد به المكان الذي يتواصل مع بيت الشعر العربي (نقل فؤادك حيث شئت من الهوى/ ما الحب الا للحبيب الأول ). أي المرأة الأولى, أو المكان الأول الذي فيه استطاع الشاعر أن يكتشف لذة المكان وسحره, ويقرأ حروفه, ويعرف أسراره, ويحمل كنوزه, ويشتم عطره .
أرى أن لهذا المكان تاريخته ووضعه في نص الذاكرة الشفوي، وكذا في نص الشاعر المكتوب تحت سطوة ذلك النص الشفاهي المتحقق في الأحلام وعبر باب صندوق الذاكرة الذي ينفتح بشكل دائم . وهذا المكان يمثل محورا رئيسيا في المكان النص لدى الشاعر، ويكون الأساس أو الارتكاز الأول لأية أمكنة قد يعيش فيها الشاعر بعد ذلك, أي أنه يكون أساس البناء، الذي لا يتشكل كاملا الا بوجود أمكنة أخرى تحقق الاكتمال ووحدة النص المكاني.
على الرغم من أنني مؤمن أن هذا البناء لا يكتمل ولا يتأسس نهائيا في مسيرة الشاعر لأنه يظل تواقا لأمكنة جديدة تتعدد، ولا أقصد هنا أن يعيش مع كثرة من النساء، ولكن في المرأة الواحدة مستويات عدة لأمكنة تتحقق وتنفير، وتبدو متباينة في صورها عبر مرآة الشاعر.
(فالمرأة – المكان ) التي أحبها تظل شرفاتها مفتوحة وأبوابها منفتحة على عالمي دائما، وحتى في انفلاقها علي يكون هو الاتساع والرحابة التي تفسح المجال الى تأويلات كثيرة, فهي كالوردة تتفتح ويتوزع عبقها في المكان الذي هو أنا، والمكان المحيط بي، بنا (أنا وهي) والكائنات الأخرى التي تدور في فلكنا، إنها بسهولة تتجه الى مختلف الأماكن, و" تتحرك نحو أزمنة أخرى وعلى مختلف مستويات الحلم والذاكرة » وأناديها بلغة الحلاج:
مكانك في قلبي هو القلب كله
فليس لخلق في مكانك موضع
وحطتك روحي بين جلدي وأعظمي
فكيف تواني إن فقدتك أصنع
أي أن المرأة حسبما رأيت ورأى الحلاج – أيضا – يمكن أن تحتل جميع الأمكنة خلال مسيرة الشاعر الزمانية والمكانية, وتسكن القلب كله, ولا يوجد موضع لأحد غيرها، وتحقق للشاعر أن يحل في أكثر من مكان وأن يعيش أكثر من زمان داخل سلكتها، بما تحمله من إمكانية وطاقة للعشق والعطاء.
لا أدري ما الذي سيحدث لأحلامي وروحي وذاكرتي وعقلي وجسدي عندما أفقد البيت الذي عشت, إثر فعل الزمن المادي؟ فعلى الرغم من أنني لا أعيش فيه حاليا، ولكنه حاضر دائما في الأحلام, والكتابة واتصال الروح بمنشأ عشقها الأول مع المكان الأم, وأيضا مع الأسرة وأصدقاء ورفقاء الطفولة .
أحيانا أتساءل ما الذي سيحدث لي عندما ينهدم بيتي الأساسي, الذي تكونت فيه معرفتي بي، وبالمرأة وبالشعر، كيف سأستعيد الذكريات والأحلام القديمة, أنا الآن لا أسافر اليه ماديا إلا على فترات متباعدة, لكنني أراه يوميا، وأشم رائحة غرفه, وأسمع حوار من فيا ومن كانوا فيه, أري فيه نفسي بعلاقاتها المتشابكة والبريئة .
عندما أفقد هذا البيت, من المؤكد أني سأخلق صورته داخلي, وأعيد بناءه في سيرته الأولى في الذاكرة حتى لا يضيع أثره, ويصير حيا يتنفس وينفسح عالمه . معنى ذلك أنه لو فقد – وهذا متوقع بفعل الزمن – سيظل حيا في داخلي . لأنه بيت الأسرار والذكريات والنساء الأوائل, وسيعاود الحياة بشكل قوي، لأن الذاكرة تريد أن تحفظ ما وعته منذ بدء عملها، من الاندثار والضياع, خاصة وأنها تعرف أنها تمنح أصحابها فرصا جديدة للحياة والكشف .
ولكن الأمكنة المؤقتة, الأمكنة العابرة, ماذا يحدث عندما نفقدها، وغالبا ما نفقدها. لا شك أن من بينها تبقى أمكنة بعينها نحاول الا تندثر أو تضيع من ذاكرتنا على الرغم من أننا نعرف أنا قد يكون من المستحيل أن نواها مرة ثانية .
وهذه (الأمكنة ) مع (المكان الأم ) تشكل وعي الشاعر بمكانه الواسع في هذا العالم, ومن ثم وعيه بمكان النص الشعري.
فزمن الأمكنة المؤقتة, زمن مادي قد يستغرق ساعات أو أياما أو شهورا أو سنة أو أكثر قليلا، وزمن الأمكنة الأم, الأمكنة الدائمة قد تستغرق عشرين عاما أو العمر كله . وهذه الأزمنة في نوعي الأمكنة تتقاطع وتتواصل لتشكل زمنا ماديا واحدا.
ولكن قد يحدث أن يكون للأمكنة المؤقتة تأثير فعال وقوي في بنية روح وخيال وأحلام الشاعر تعادل تأثير المكان الأم, وأحيانا قد تفوقها وأنا أتصور أن المرأة هنا هي التي تخلق هذا التأثير، فما الذي يجعلني أتذكر بيتا أو غرفة في سانتافى في نيومكسيكو أو برمنجهام أو سان فرانسيسكو، إن لم يكن هو في الأساس امرأة لها حضورها وتاريخها وتفاصيلها وذكرياتها، إنها تصير مكانا أليفا وحميما ودافئا في أوراق التاريخ الشخص, الذي يكتبه الشعر ويسجله بماء ناره .
وهذه الأمكنة المؤقتة, غالبا بعد وداعها والابتعاد عنها – قهرا أو اختيارا – ما نتحسر عليها، ونأمل لو كنا عشناها بعمق, ونندم على ما فاتنا من لذة وعشق, ونظل نطمح الى العودة لنعوض ما لم ندركه في الدخول الأول لعمق المكان ونعيش نستعيده عبر أحلامنا، يقول ريلكة متحسرا:
يا لذلك التوق الى . أماكن لم
تنل استحقاقها في تلك الساعة العابرة .
لكم أتوق لان أعيد بشكل أجود, عن بعد،
تلك الايماءة المنسية,ذلك الفعل الاضافي .
والشاعر وحده, هو الذي يحفظ الأمكنة من النسيان والزوال, فهو يضيف اليها روحه وعلاقته بها، وتأثيرها عليه, فالمرأة تظل عادية مثلها مثل ملايين النساء, لكنها حالما دخلت نص الشاعر كمكان تصير أسطورة, وتاريخا ووثيقة وتتشكل ملامحها بشكل مغاير لما كانت عليه, و إذا ذاع هذا العشق وعرف, فالناس يبصرونها برؤية مختلفة ويضفون عليها سمات وملامح أسطورية لم يكن لها لتتكون لولا أن الشاعر خلقها من جديد وأعاد تكوينها داخل مكانه النصي.
ولذلك نجد نساء كثيرات دخلن تاريخ الشعر العربي من خلال نصوص لشعراء منذ الجاهلية وحتى الآن, وهذا ليس متصورا على الشعر العربي ولكنه موجود في الآداب العالمية, ولكن المرأة باعتبارها أساسا في بنية الشعر العربي فإنها تحتل مكانة تفوق مكانتها في الآداب الأخرى.
هذه المرأة المكان, نبض العالم يخفق خلف باب بيتها الأليف, فهي الكلمات, الثمانية والعشرون حرفا التي بها أخلق عالمي، أبني قصيدتي وأشكل صوري، هي الرموز والدلالات, الاشارات والمداخل, المخارج, والأبنية, الأعشاش فوق أشجار الروح, هي الأبواب والنوافذ، الطرق والأنفاق, المقاعد، هي السماء والأرضون .
هي هي.
هي المكان, الذي أرى العالم من مركزه, من نقطته الأم, من خطوطه المستقيمة والمنحرفة . هي البيت الذي حلمت أن أسكنه, والبيوت الأخرى التي تتجدد لأسكنها كلما مررت عليها، ورأيتها سامقة تنظر لي أو أنظر اليها، وأكون أحلامي عنها، وأخلق أسطورتي الشخصية الفريدة حولها.
فكيف لي – أساسا – أن أختار المكان الذي أعيش فيه, وأتوحد.
هذا هو السؤال الأبدي المطروح في حياة الشاعر، وفي زمنه الفيزيقي.
نحن نختار الأمكنة التي تشبهنا.
ثمة علاقة وشيجة بين دم المكان ودمنا، فدفئها يؤدي الى الألفة, بساطتها، تلقائيتها، لغتها، مفرداتها، تفاصيل عمارتها، كيف تتبدى سيكولوجيا في مختلف المواقف, ما ردود فعلها.
ماضيها وحاضرها .. كيف كان, وما هو الان .
فأنا في جوف المكان أدخل كالنبي يونس, لي نبوءة, ومعجزة ولغة خاصة, أدخل لأرى، لأستكشف وأعيش التجربة,التجربة
– الحياة, أعيد الماضي الى نبض الحاضر، أو أدفنه في قاع مكان الذاكرة, في قوقعة النسيان, وربما يكون ذلك عمدا، لأستمتع بلذة الحاضر، وخلق ديمومة المستقبل .
أصير أنا الماضي والحاضر في المكان .
وفي هذه اللحظة بالذات أقول" أنا المكان الذي أوجد فيه " نويل أرنو.
هنا تبدأ وحدة المكان, وحدة الوجود.
أو ما أحب أن أسميه تلاقي جزءي الذرة المنشطرين منذ ازمان سحيقة, ويحدث الدخول … العشق .
أي أنه لا توجد امرأة, ولا يوجد شاعر.
فقط نحن أمام ماء غمامة, ووداع طائر في السماوات ما بعد السبع .
وقد يسأل أحد، ولكن كيف تصير المرأة مركزا للوجود، وكيف تحدث الوحدة بين الزمان والمكان والفعل .
هذه الوحدة, تتم عبر ممارسة الفعل في الواقع, وممارسة الفعل في الأحلام من خلال ميكانيزم الخيال .
فالمرأة تمشي في الشارع مثلا، أو نواها في أي مكان آخر، ويوصفها مكانا فهي تبحث في لاوعيها عن ساكن يقطنها وكذا الرائي بوصفه شاعرا أو إنسانا عاديا، فهو الآخر يبحث عن مكان يسكنه, أو على أقل تقدير يتمنى أن يسكنه إذا راق له, وأحس بالألفة والحميمية .
وجاءت سمات المكان وخصائصه موافقة لطبيعته, وتتواءم مع شخصيته, لأن شخصية الساكن تتواءم مع شخصية المسكن (المكان ) هذا هو ممارسة الفعل في الواقع .
بينما ثمة نساء نراهن أيضا في الواقع, ولا نقدر على إقامة صلات وصل معهن أو مجرد حوار بينهن, ونرى أنهن أمكنة ملائمة أو مطابقة لنا، لنسكن ونعيش, ولكننا نخفق لأسباب كثيرة في الوصول اليها، فنعوض هذا الإخفاق بالوصل عبر عملية الخيال التي نمارسها في أحلام اليقظة, ومن ثم تتم الوحدة المؤقتة التي ترضي طموحاتنا وأمانينا. فأنا في العمليتين: الواقع والحلم .
أغمض عيني وأدخل المكان متخففا بل مجردا من المعيش اليومي، شفيقا أتقدم, حاملا سماواتي معي، شاطبا كل تاريخي الشخصي، بادئا عالما جديدا، وتاريخا بديلا يكون له الديمومة بعد ذلك, (فيما عدا لحظات التذكر وسرد الأحداث المختفية في بؤر الذاكرة البعيدة).
في الإغماض, رغبة في النسيان, ومحو السابق, وكتابة لغة جديدة مع (المرأة المكان ) الجديد الذي أدخله .
ماذا أرى ؟
ماذا أسمع ؟
ماذا يفعل خيالي آنئذ؟
أرى عالما جديدا نائيا وقريبا، وأسمع صوتا جديدا ذد لغة جديدة, وتتشكل صور تتتابع أمامي تكون عالما قدسيا أتمنى أن أظل هكذا ساكنة, وأحلم أن أموت عند آخر نقطة في الشجرة العليا، آخر خط يتقاطع مع الصفر في البرزخ .
هنا يكون للصمت فعله, ولغته, ويصير سيدا، وما عداه عبيد، لأن الإغماض والدخول لا يتحقق الا بالصمت, فقط يكون لصوت المكان دف ء الماء وحنوه وسماؤه العليا.
في اللذة .
يعي الشاعر وجوده من خلال الدخول والخروج في المكان .
الآن فقط تبقى المرأة سكنا، كما كان العرب الأولون يسمونها فهي في حالة سكون بعد تحرك, أسكن اليها، قال تعالى " والته جعل لكم من بيوتكم سكنا". فبعد أن استوطنها كمكان تتحرك لتسكن ثم تتحرك بعد ذلك وهكذا.
فـ" سكن " حروف ثلاثة: السين والكاف والنون . أصل واحد مطرد يدل على خلاف الاضطراب والحركة .
ففي الفعل, تتم الكينونة, ويتحقق الوجود بدخول الكاف مع النون لتعمل "كن " عملها، هنا الوجود0يبدأ، وتصير السين مدخلا للولوج والإيلاج معا، ويكون السكن: كل ما سكنت اليه من محبوب قال كثير عزة:
" وان كان لا سعدى أطالت سكونه
ولا أهل سعدى آخر الدهر نازله "
فالسكن – إذن – هو كل ما سكنت اليه, واطمأننت به من أهل وغيره, وربما قالت العرب: السكن لما يسكن اليه, ومنه قوله تعالى: "وجعل لكم الليل سكنا".
والسكن: المرأة لأنه يسكن اليها.
إذن نحن أمام نص صريح على مستوى القرآن واللغة يقول إن المرأة هي سكن أي مكان أدخله وأستوطنه وأعيش فيه, بل – كما أسبقت – إن السكن أحد أسماء المرأة في اللغة العربية, لما لها من مكانة ومكان وكينونة وكمال ومكوث ومكنون .
وأحب أن أشير – هنا – الى أن المراجع الأساسية العربية والغربية حول المكان وجمالياته وعلاقة ذلك بالزمان, لم تشر الى أنه يمكن للمرأة أن تكون مكانا له جمالياته مثلها مثل: المدينة, أو القرية, أو البيت, أو الشوارع, أو الأعشاش, أو القوا قع, أو الأرض, أو السماء، أو البحار، أو الأنهار أو المحيطات, أو أية أمكنة أخرى التي هي بمثابة صناديق للروح, ومخزن للذاكرة, ووعي بالبيئة والتنشئة, على الرغم من أنوثة أغلب الأمكنة إن لم يكن جميعها، وهنا نعود الى قول ابن عربي إن " المكان الذي لا يؤنث لا يعول عليه ".
ومن ثم تأتي أهمية ما نحن بصدد محاولة إثباته هنا، من خلال معرفتنا وخبرتنا الشخصية بالمرأة كمكان (أرض ووطن ) نعود اليه ونحن, ونشتاق ونرحل لنعود، وندخل لنقيم, ونسافر لنعرف .
فهي الكون الأول لنا، الأرض التي نهبط فيها، أول مكان عرفناه وخبرناه, وكونا معرفتنا به, وعرفنا أسراره . منذ كنا ماء دافقا دافئا يسيل ويدخل الى عالمه, الى أن هونا أجنة نستعد لنخرج الى العالم الأكثر رحابة من الأم التي هي بدء المعرفة ومكان التكوين والسر.
ولذلك ارتباطنا بالمكان الأول (المرأة ) يظل أكثر وثاقة وحضورا في المخيلة والأحلام . فنحن ننتقل من المكان الأول الى المكان الذي نعتبره أولا على صعيد آخر من علاقتنا بالمرأة, فهي لا تكون سكنا بديلا، ولكن تصير سكنا حميما وأليفا ندخل فيها لنتحقق ونتحد. وتبقى مأهولة بنا، تحل جوهر القداسة, وفكرة الاتحاد. تعيش معنا طوال حياتنا، تحمل ذكرياتنا ونمارس معها أحلام يقظتنا، لأنها جسد وروح وهي عالمنا الأول الذي قرأنا لغته .
وبقار اتحادنا وصحبتنا تكون ذكرياتنا عن المكان الذي نعشقه, أكثر جلاء ووضوحا، وهنا تعرف الذات وعيها بذاتها، ويصير المكان" كتابا للسيرة ".
فالمرأة, مكان – كون لا نهائي وغير محدود.
متجدد، متحرك, لا يعرف السكون إلا بعد الفعل والحركة كأي كائن آخر، لكن سكونه يحمل الحركة داخله, لذلك فثباته فقط: لأن الشاعر يستقر فيه, واستقراره هنا لا يعني السكون بقدر ما يعني الحركة والطمأنينة والسكينة: فالمكان كما يرده ابن سينا هو «ما يكون الشيء مستقرا عليه" وهو "الشيء الحاوي للشيء كالدن للشراب, والبيت للناس وبالجملة ما يكون فيه الشيء وان لم يستقر عليه ".
فأنا أحس المكان ولا أتخيله, يثير خيالي عندما أكون فيه, لأنه وعاء روحي وجسدي، ونهر مائي:
" ما الذي رأت هذه المرأة
عندما فتحت باب جهنمها
وبصت لكتاب المفردات .
هل بكت تاريخ لذتها
هل صارت سلالم روحها نارا
هل خاصمت شوقا ينام في حقيبة قلبها
حطت المرأة في ماء الوجع
واستحمت في دماء الذكريات "
أحمد الشهاري – الأحاديث – السفر الثاني
هذه (المرأة – المكان ) التي: ترى، وتفتح, وتبص, وتبكي وتصير، وتخاصم, وتحط, وتستحم هل بفعلها المستمر تعطي كونها – وجودها في دفقة واحدة ؟
إنها بألفتها تعطي ولا تعطي.
ففي اتحادها تعطي نفسها كمكان بكل مفرداته دفقة واحدة .
وهل الشاعر هنا يستطيع أن يستوعب هذه الطاقة وهذا العطاء أم يكون في حالة دهشة وجذب مما يرى ويحس .
هل هي تكشف سر غرفها وما تحويه من مكنونات وكنوز وصناديق حاوية للذكريات والتواريخ والعشق والمياه وفنون اللذة وتجليات الجسد وأشواقه, إنها بلا وعيها تبوح بما تحفظه خزائنها من أسرار وتكون غرفة نومها كتابا للألفة والبوح والصمت والتجلي .
المكان هنا يكون شديد الوضوح, مفتوحا، بائنا، شمسه ونجوما معا، ونهاره وليله معا، وناره وجنته معا، أحواله ومقاماته معا.
ببساطبة يكون هو في خلقه الأول, ويتحقق الدفق بلا حدود.
وأيضا المرأة لا تعطي دفقة واحدة, ففي لاوعيها ووعيها معا، ترغب أن يكون نيلها فياضا، والا تأتي ازمان تعرف القحط والجفاف أو انخفاض منسوب مياهها. هذا ما يمكن أن أسميه بـ "مراوغة المكان " بقصدية أو بدون . لأن القصدية ستتلاشى كما وصل المكان ذروة اشتعاله وارتعشت سماواته من اللذة الأبدية .
إذن نحن أمام مكان متجدد.
ويتجدده هذا، يحقق لنفسه الاستمرارية والتواصل, فالملل والرتابة يخلقهما الاعتياد والوتيرة الواحدة, ولذا نقول إن المرأة كمكان تتراوح وتختلف وتتفاوت من واحدة لأخرى، وهنا تحديها مع عاشقها (شاعرها) الذي يرى الرتابة أعدى أعدائه لأن من صفاته التجريب والتجديد والتغيير والابتكار والخلق والابداع والتشكيل والتركيب والتكوين .
فهي إذن أمام كائن يألف الأمكنة بسرعة ويدخل فيها أليفا شفيفا، لكنه إذا ارتأى ثباتا، سيتحرك هو ليخلق مكانه الخاص, وحيدا منعزلا، أو يبحث عن مكان آخر يحقق له حركية الروح وديمومة اللذة بمفهومها الحسي والروحي.
وهو هنا يتوحد مع نصه المكان الذي يقول فيه كل شيء، فهو يريد لنصه دائما أن يكون جديدا ومختلفا ومغايرا لنصوصه السابقة, إنه لا يريد أن يكرر حتى لا يفقد شخصيته, وبالتالي يفقد نصه اضافته الحقيقية . فهو يعتبر نصه المكان الأسمى والأعلى على كل أمكنة أخرى، ومن ثم يوليه عناية خاصة ويطمح أن تكون مثيرات ذلك النص فائرة ومهيأة وفاعلة دائما.
فالمرأة بقدر ما تكون مكانا "حيا" يمكن أن تكون مكانا "ميتا".
فكم من نساء لم يكن لهن أي دور حتى ولو هامشيا في نصوص الشعراء على الرغم من أنهن عشن سنوات عديدة في حياتهم, ولم يستطعن أن يكن فاعلات, وهن في هذه الحالة أمكنة عقيمة لم تلا للشاعر مشاعر وأحاسيس ولم تخلق له عوالم أسطورية مدهشة ليكتب روحه من خلال تجليها.
وهنا فقط نستطيع أن نفرق بين النصوص الشعرية في مسيرة شاعر ما، وبين غيرها لدى شاعر آخر.
فالبقاء والخلود للفرادة والامتياز، الفرادة في الموهبة, والفرادة في كيف عاش الشاعر حياته وتجربته, وكيف أتاح لنصه أجواء لم يستطع غيره أن يخلقها لنفسه .
أحمد الشهاوي (شاعر وكاتب من مصر)