خليل صويلح
لوهلةٍ خاطفة، بدت الحشود التي رافقت جثمان المخرج الراحل حاتم علي (1962 – 2020) كما لو أنّها مشهدٌ من أحد أعماله الدراميّة، وبتوقيعه الشخصي. كوادر مشبعة، وشجنٌ أصيلٌ، وفجيعة جماعيّة؛ ذلك أنّ الموت في الشارع السوريّ لم يعد حدثاً مثيرًا لفرط تكراره. سنتذكّر جنازة مشابهة شهدتها دمشق قبل أعوام، هي جنازة الشاعر الراحل نزار قباني. الجنازتان أهليّتان، لا جهة رسميّة وراء الواقعة، إنما رصيد الشخصين في الوجدان العام وحسب. كانت الصدمة بالنسبة لغياب حاتم علي أقوى، وبجرعة أعلى، نظراً لتأثيره في صناعة صورة لطالما أثثت لتاريخ مضادّ يُخاطب الذائقة العامّة، لا يستلهم مفرداته من أرشيف التّاريخ الرسمي، سواء فيما يخص سيسيولوجيا المجتمع السوري، أو ما يتعلّق بالتاريخ بوصفه متوالية حكائيّة، إذ أدرك حاتم علي باكراً الوصفة السحرية للسّرد البصري الموازي لسرديّة «ألف ليلة وليلة»، مستلهماً بأدواته بصيرة الجدّة الأولى شهرزاد، وبمعنى آخر الانتقال من الشفوي إلى المكتوب، أو الحكي نحو الخطاب، بتفكيك الحكاية وإعادة صوغها بما يكفي ثلاثين حلقة درامية، هي مسافة النجاة من سيف شهريار (الريموت كونترول) وذلك بإغلاق محطة المشاهدة أو الانجذاب إلى لذة السرد. تكمن أهمية المنجز البصري لحاتم علي بالحذف لا الإضافة، مخفّفاً إلى أقصى الحدود ما يقع في باب الثرثرة التلفزيونية، ورفض الأعمال التي تقوده إلى مشية عرجاء، بناء على وعي معرفي متراكم، سواء من الميراث المسرحي أو قراءة التاريخ بعين مضادة. في استعادتنا لمشهد الجنازة المحمولة على الأكتاف مسافة ثلاثة كيلومترات، سندرك أن من شيّعوه كانوا يردّون دينًا له بحقهم، هو الذي أهداهم حكاية مشذَّبة من الأعشاب الضارّة، تلك التي تُغرق حقول الآخرين. اشتغل حاتم علي على سكتين متوازيتين في تأصيل قطار الحكي: فحص المجتمع السوري وتشريحه، خصوصاً في «الفصول الأربعة»، و«أحلام كبيرة»، معوّلاً على الطبقة الوسطى في تصدير القيم النبيلة والأفكار التي تحميها من الاحتضار، وبمعنى ما إطلاق صفارة الإنذار كي لا تهوي إلى القاع أمام زحف طبقة هجينة ومتوحّشة بسبب خللٍ بنيويّ أصاب المجتمع بتحوّلاته المُتسارعة إلى الدرك الأسفل، وإن غابت الأسئلة عن هذا العسف الطارئ. على الأرجح لأسباب رقابيّة في المقام الأوّل، لكنّه سيزيد جرعة المواجهة في عملٍ لاحق هو «عصيّ الدمع» بفتح ملف الأحوال المدنية، وأحوال المرأة في الشرع والقانون. أما السكّة الثانية فتتعلّق بقراءة التاريخ من موقع الضدّ، كما في «ثلاثية الأندلس»، و«صلاح الدين الأيوبي»، و«عمر». أعمال إشكالية تجاوز فيها التابوهات التقليديّة للدراما نحو حوار جدلي بين الحاكم والمحكوم. ففي «ثلاثية الأندلس» التي حملت عناوينها «صقر قريش»، و«ربيع قرطبة»، و«ملوك الطوائف»، نقع على جدارية سرديّة عن حضارة الأندلس، بدءاً من سيرة «عبد الرحمن الداخل» مؤسس الدولة الأموية في الأندلس، مروراً بسيرة المنصور «محمد بن أبي عامر» وطموحاته العلمية وصولاً إلى حكم قرطبة، ثم انهيار الأندلس وتحوّلها إلى ممالك للطوائف بعد أن كانت مركزاً حضارياً راقياً للعلوم والفنون والتعايش الديني، على خلفية بصرية أخّاذة بكوادر متقنة تعكس الروح السجاليّة لتلك الحقبة العربية المشرقة، فها هنا ينأى وليد سيف مؤلفاً وحاتم علي مخرجاً عن الدروس التاريخية المعلّبة نحو الأسئلة الشائكة والراهنة إلى اليوم. يجيب حاتم علي عن سؤال كتابة التاريخ للتلفزيون بقوله «كل ما نقدّمه في المسلسلات التاريخية ليس إلا وجهة نظر خاصة، مع ملاحظة أنها تستمد قوتها من خلال تماسك خطابها الفكري والفني الذي لا يقل أهميةً في إقناع المتفرّج بأن ما تقوله هو الحقيقة، فإذا كنت تعتبر هذا كذباً، فإن جزءاً من الكذبة الأساسية يكمن في التاريخ نفسه». أما المحطة المفصليّة الأولى لبصمة هذ المخرج فكانت مع مسلسل«الزير سالم» عن نصّ كتبه ممدوح عدوان، في مغامرة جريئة سرديًّا وبصرياً، وذلك بسحب البساط من تحت أقدام حكواتي المقهى إلى الشاشة بفرجة آسرة تتعدى الحكاية المسلّية إلى الحكاية الموقف، باستدعاء «حرب البسوس» ووقائعها من حقبتها الجاهلية إلى اللحظة الراهنة، وإذا بحروب القبائل في الأمس البعيد مرآة لحروب اليوم، ونسخة معاصرة عن «جسّاس»، و«كليب»، أما بالنسبة لـ «ناقة البسوس» فلا نحتاج إلى ذرائع في اختراعها لإشعال شرارة حربٍ ما بين قبائل اليوم. وعلى عكس ما كان يرويه حكواتي المقهى عن بطولات الزير سالم إلا أن صنّاع العمل التلفزيوني جعلوه- في نهاية المطاف- رجلاً مهزوماً. وعلى الرغم من محاولات حاتم علي في التجريب بقصد نقل الدراما التلفزيونية إلى لحظة بصرية أرقى إلا أنه يعترف أن معظم الأعمال التلفزيونية التاريخية هي بلا أنياب، نظراً لتعدّد الرقابات، فقد خضع مسلسل «عمر» مثلاً، لأكثر من رقابة دينية وسياسية، ورغم ذلك تمكّن مخرجه بمهارة أن يصنع وثيقة بصرية لافتة عن حياة عمر بن الخطاب وعصره، ناقلاً صورة مجسّدة عن شخصية مقدّسة، بصرف النظر عن موضوعه الإشكالي. لن نهمل بالطبع أكثر أعمال صاحب «على طول الأيام» تفرّداً، وهو «التغريبة الفلسطينية»، هذا العمل الذي وثّق درامياً لقضية نزوح الفلسطينيين من ديارهم بعد نكبة 1948 بشحنة إنسانية مشبعة عاطفياً، أعادت صوت النشيج إلى أقصاه من دون أن يتكئ على الهتاف والشعار بقدر عنايته بوجع الناس العاديين وملحمية اقتلاعهم من بيوتهم في مشهدية شكسبيرية عن معنى التيه. وتكمن أهمية هذا العمل سرديًّا (كتبه وليد سيف) بتقشيره طبقات الألم، ورصد أوجاع النزوح، ومحاولة لردّ هذه النكبة ليس فقط إلى مشروع استعماريّ، وإنما أيضاً إلى أسباب ذاتية خاصة بالمجتمع الفلسطيني نفسه لجهة الأعراف الصارمة والنزوع العشائري، وانكسار الأحلام. تنطوي «التغريبة» إذاً، على سرد روائي يقارب المناخات التي اشتغل عليها غسان كنفاني قبلاً، بالإضافة إلى النزوع الذاتي لدى المؤلف الذي عاش وقائع النكبة عن كثب، وآلام المخرج الذي نزح من الجولان ليشتبك مع الهمّ الفلسطيني في المخيمات السورية. هكذا امتزج السّرد الأدبيّ بالسّرد البصريّ نحو أقصى حالات التّطابق الإبداعيّ لإنعاش الذاكرة بقصصِ المهمّشين وإعادة تركيبها على نحوٍ خلّاق. وسوف يجد حاتم علي نفسه في موقع من يتذكّر سيرته الشخصية، عندما لعب دور «رشدي» الذي اختار فكرة الكفاح المسلّح انسجاماً مع الصيرورة التاريخية للقضية الفلسطينية. ولكن لماذا وُضعت صورة حاتم علي في إطارٍ خاص لدى متابعيه على الشاشة الصغيرة؟ على الأرجح لأنّه لم يقدّم للمشاهد بضاعة مغشوشة، إنما عمل على تقديم وجبة تنويريّة دسمة كتعويض عن ندرة حضوره السينمائي، وذلك بتطوير الصورة التلفزيونية المحمولة على ثراء معرفي، إذ درس التّمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، وكتب نصوصاً قصصيّة وتلفزيونيّة من وحي المسرح (اقتبس شكسبير في كتابة مسلسل «القلاع»)، ثم اتّجه إلى الإخراج مشبعاً برؤية مضادة لبضاعة التسلية، ومعوّلاً في الوقت نفسه، على سدّ الثغرات بالتوافق مع كتّاب نوعيين مثل وليد سيف وممدوح عدوان، وأمل حنا، وتالياً، فإن مشروعه نضج على مراحل بوصفه رواية تلفزيونية تجافي أنماط الخفّة بقوس مفتوح على أسئلة الشارع اليومي حيناً، وأمراض التاريخ طوراً، بالإضافة إلى قدرة استثنائية على إدارة المجاميع بما يملأ الكادر بأكثر من احتمال وتأويل ومتعة وغواية.