عبدالرزّاق الربيعي*
قد تختزلُ البلدان بشارع، أو زاوية معيّنة، بما ينسجم مع قول شوقي:
قد يهون العمر إلّا ساعة
وتهون الأرض إلّا موضعا
وإذا وسّعنا المنظور، فبحارة صغيرة، تتجلّى من خلالها خصائص المكان، بكلّ أبعاده، ودلالاته، ورمزياته، كما فعلت د.غالية آل سعيد في روايتها “حارة العور” الصادرة عن دار نشر رياض الريس ببيروت، فحين تكبر دائرة المكان، الذي تجري على ساحته أحداث الرواية”حارة العور”، في السبعينيات، وهي إحدى حارات مسقط القديمة نرى أنفسنا نتجوّل في تلك الشوارع الضيقة المضاءة بقناديل المحبّة، بقوّة دافعة من حنين جارف، في حارة اختصرت تاريخ منطقة، وباستعادة المكان، نستعيد الزمان، فكلاهما مرتبطٌ بالآخر يقول مارسيل بروست، صاحب (البحث عن الزمن المفقود)” عندما يحنّ الشخص إلى مكان ما، هو في الحقيقة يحنّ إلى الزمن المرتبط عنده بذلك المكان، وعليه، فالحنين هو ليس إلى الأمكنة، وإنّما إلى الأزمنة”، لذا، فالكاتبة تهدي روايتها” لمن رحلوا من الماضي، ولكنّ الماضي لم يرحل عنهم”، مفصحة عن رحلة داخل الزمن، في خضمّ تحوّلاته، وتبدّلاته، في مجتمع يخطو خطوات أولى نحو دخول عصر الحداثة، كالمجتمع العماني خلال السبعينيّات، لذا استعان بمعلّمين، ومعلّمات من دول عربيّة لتعليم أبنائه، وحين عادوا إلى بلدانهم، حملوا معهم ذكريات لا تُنسى، وهو ما يتّضح للقارئ، عندما يسقط نظره على الجملة الأولى من الرواية ” أرجع بذاكرتي إلى الوراء، إلى أيام المدرسة، والجامعة، فألاحظ كم كنا غير مدركين ما يخبئه لنا القدر في مسيرة حياتنا”، وحين نتوغّل في أحداث الرواية، نجد أنفسنا في قلب “مسقط” القديمة من خلال يوميات معلمة عربية اسمها”غنوة” ابنة مفتش اللغة العربية حبّب إليها اللغة، إذ” كان يحثُّنا على التحدّث باللغة العربية الفصحى، أكثر من الحديث باللهجة العامية، لأنّها الأقوى تعبيرًا عن النفس”، وبهذا تلقي الكاتبة مفتاحا عن علاقة “غنوة”، الراوي العليم، بالكتابة، فهي لم تمتهن الكتابة، لكنها تحاول من خلال الكلمات التعبير عن ذاتها، رغم أنّ تلك العلاقة عادت وبالا عليها لاحقا، كما سنرى من خلال تسلسل الأحداث، التي عاشتها “غنوة” في سلطنة عمان حين أقامت فيها منتدبة للعمل معلّمة في إحدى مدارسها، ولم تكن كأيّة معلّمة، لأنّ لديها مَلَكة الكتابة، والتقاط التفاصيل، التي تخصّ عالمها، فحين عرفت اسم “حارة العور” تقول ” كأنه اسم لرواية قاتمة التفاصيل، ولم أستطع طرد اسمها من ذهني لغرابته، بدأ خيالي يصوّرها، كما يحلو لي، تخيّلت أناسها يمارسون طقوسهم اليومية، من الأعراس، والأتراح، وغيرها، ولا يرون الحقيقة كاملة، عيونهم العوراء تحجب نصفها الثاني”، وفي تلك اللحظة تقرّر أن يكون اسم الحارة عنوانا ليومياتها، بهدف “التعبير عن محاولاتي لتغطية الحقيقة كاملة، ربما ليس من جميع جوانبها، لكنني لم أغفل شيئا مما رأيته أو اطلعت عليه. في النهاية، هي مذكرات عن أيامي في عُمان، وعن أناسها، وغالباً ما يؤخذ اسم أي كتاب من البيئة التي كُتب عنها”، وبذلك أعطتنا الكاتبة مفتاحا آخر لدخول “غنوة” المجتمع العماني، الذي يبدو كجبل الجليد الغاطس، في نظرها، فهي لا تريد أن تقول كلّ شيء، ولا تريد أن تدع ما شاهدته يمرّ بسلام، مكتفية بالنظر بعين واحدة، وهنا تبرز دلالة عنوان الرواية، الذي هو أصلا عنوان اليوميات، وكلاهما في النهاية واحد، ففي تلك اليوميات ترصد تفاصيل دقيقة للحارة التي تبدأ خارطتها جغرافيا، كموقع للأحداث، من مركز العلم، ومايحيط به، وقصر العلم، وانتهاء بباب المثاعيب، لكن لا حدود لذاكرة تجتاز الجغرافيا، وتنشر عطرها ليضوع في ثنايا المكان، وتعقّب أسراره، فتسلّط الكاتبة الضوء على العلاقات الاجتماعية، التي لم يكن الحب دائما عنوانا عريضا لها، لكنها تبدو مبهورة ببساطة الحياة في “مسقط”،التي كان الطلبة القادمون من عمان الداخل يجتمعون فيها للدراسة، وما يصاحب ذلك من تفاصيل، يجدها الدكتور ضياء خضير من أساسيّات كتابة الرواية التي مهمّتها” التقاط التفاصيل اليومية، وإذكاء الوعي الجمعي عبر تسجيل مقطع، أو مقاطع من عالم الحياة المحسوس، وذبذبات الوجع الفردي، والوضع البشري الراهن في لحظة تاريخية معيّنة”، وقد وضعت د.غالية أصبعها على موضع الألم، ولم تقف بعيدة عن منطقة التابوهات التي توغّلت فيها برواياتها السابقة التي نشرتها منذ روايتها الأولى”أيّام في الجنّة2005″ التي تدور أحداثها في لندن، من خلال حكاية شاب عربي يعيش فيها و”صابرة وأصيلة” 2007 التي تتحدث عن فتاة عانت من الظلم الاجتماعي خلال الستينيات، وأعقبتهما بـ”سنين مبعثرة”2008، و”جنون اليأس” 2011 حتى “سأم الانتظار” بجزءيها (2016-2017)، فواصلت عزفها على وتر “الوجع الفردي”في تلك اللحظة التاريخية، فخرجت بمقطوعة موسيقيّة من خيبات أمل، ومفارقات لم تكن البطلة قد وضعت لها حسابا، لكنها وجدت نفسها تخوض التجربة بكلّ ما فيها من تفاصيل، بمكان رغم أنها ألفته بسرعة، وحاولت الاندماج بساكنيه منذ أوّل يوم لوصولها مسقط ” راودتني فكرة غريبة، أمام هذه الجبال، وصمتها المروّع، وهي أن أتسلّل إلى المسجد ذي القبة الصغيرة. أقف خارجه، وأنتظر خروج المصلين. أرفع يدي، وأصافحهم فردا فردا، فأحقّق أوّل تواصل لي مع أفراد المجتمع العماني، الذي نويت دخوله، ومعرفته، والاندماج فيه”
وهذا ما جرى من خلال الزيارات التي قامت بها إلى عائلات الناس القريبين من دائرة عملها بالمدرسة: سائق الباص المكلّف بنقلها، وبقية المعلمات من السكن إلى المدرسة، وحليمة، وسليمة، العاملتين فيها، وتدوّن انطباعاتها، فعندما جمعت المديرة في بداية اليوم الدراسي، المدرّسات، ومعهن العمانيات، ظلّت تحدّق ” بالحناء الذي خضّبن به أيديهن، وبامتلاء معاصمهن، وأصابعهن بالأساور، وخواتم الذهب، فلبس الحليّ في مجتمعي مؤشر قوي على تعافي الاقتصاد، وارتفاع الرواتب. بُهرنا أنا وزميلاتي، بالأموال المتراكمة على هيئة أساور، وخواتم في معاصم زميلاتنا، وأصابعهن، لكننا كتمنا انطباعنا، واكتفينا باختلاس النظر إلى ذلك المعدن الأصفر وتلك الفصوص البرَّاقة، وخصوصًا أنني لا أعرف شيئًا عن الذهب، لأنّي لا أقتنيه مطلقًا”، ولم تستمر حياتها بهذا الهدوء، بعد دخولها في علاقة عاطفيّة مع”غالب” العماني ذي المركز المهم، الذي استعان بها لتعليم أحد أولاده من خلال إعطائه دروسا خصوصيّة، ومن ثمّ تطوّر الأمر لتعمل في مزرعته، وتترك المدرسة، ولكن تلك العلاقة تواجه الكثير من المطبّات التي تحول دون اكتمالها، فعاشت تلك العلاقة في الظلّ، في مزرعة، لكونه متزوّجا، ولديه أولاد، ومع ذلك تخطّط منه للزواج، بعد رحلة قصيرة لبلدها، والعودة للإقامة الدائمة في عمان التي أحبّت، وكان يمكن للعلاقة أن تستمرّ، أطول مدّة ممكنة، لكنّها تهاوت، بمجرّد عثور”غالب” على المذكرات التي دوّنت فيها تفاصيل عن الحياة العمانيّة، فيثور معتبرا أنّ ما قامت به خيانة للأمانة، ونوع من كشف الأسرار، في دلالة رمزيّة على عقوبة من يقترب من عوالم قد تبدو طبيعيّة للآخر، لكنّها سرّيّة، بنظر فرد من مجتمع محافظ، يعيش مرحلة من مراحل التحوّل، وهو ما دأبت عليه د.غالية، في رواياتها، ولم تنفع توسّلات”غنوة” به لتبسيط الأمر، فالمذكّرات ليست ضدّ أحد، بل هي، كما قالت له ” مجرّد خواطر عن أيّامي هنا بدأت قبل معرفتي بك.. لم أرد لذكرياتي معهم أن تتبخّر بمجرد عودتي إلى بلدي من فرط مودّتي لهم” ولم تجد أذنا صاغية لتوسّلاتها، فظهر الوجه الآخر، لغول كان مختبئا بقمقم مدفون، فقام بتمزيقها، وطلب من العامل الآسيوي رميها في المزبلة، لكنّها تمكّنت من استعادة أوراقها الممزّقة، وحملها معها في حقيبتها التي عادت بها من حيث أتت، حتى تهدأ الأجواء، وتعود لتكملة حياتها، وكم كانت سعادتها كبيرة عندما تواصلت مع “غالب”، لتبلغه بوصولها بالسلامة، فسألها عن الأهل، وبدا الأمر طبيعيّا، لكنّها قبل السفر فوجئت باستخدام نفوذه لمنعها من دخول عمان، فلم يبق لها منها سوى ذكرياتها المدوّنة ترافقها في حلّها، وترحالها، حتى عندما ذهبت إلى الصين، وتعرّفت على بروفيسور، وتزوّجت منه، لم تنسها، وهناك نشرت مذكّراتها التي لاقت اهتماما كبيرا حتى من أصدقائها في عمان ” كم كان سروري عظيمًا عندما وصلتني رسائل من عُمان عبّر مرسلوها من معارفي عن سعادتهم باستعادة ذكريات الأيام التي أمضيتها بينهم، وطلبوا المزيد من نسخ الكتاب، حياتي في عُمان لم تضع هباءً ” وإذا كانت الكاتبة قد رصدت في أعمالها السابقة، معاناة المهمّشين الذين طحنت أحلامهم الحياة الاستهلالكية، لأنّهم يعيشون في مجتمعات غربيّة تهيمن عليها المادة، فتستنزف قواهم، وطاقتهم، ففي “حارة العور”، قدّمت صورة معاكسة من خلال رسم صورة للحياة في مسقط القديمة، بعبق الماضي الذي يضوع في أسواقها، وبيوتها، وأزقّتها، وناسها البسطاء بعاداتهم، وتقاليدهم، من خلال النظر بعين عربية، لتكشف عن تفاصيل الحياة العمانية، وهي عين مختلفة عن العين التي نظرت بها للغرب في روايتها “سأم الانتظار” من خلال عين الآخر، بينما في “حارة العور” عكست نظرة الآخر لعمان، والعمانيّين، وعلى امتداد عدد صفحات الرواية الـ(334) تبدو بطلتها “غنوة” مبهورة بمسقط خلال جولات لها فيها، وتاريخها الذي يمدّ عنقه ما بين السطور” نطوف في حواريها ذات الأسماء الغريبة، سألت غالب لماذا سُمّيت مسقط القديمة، أليست كل مدن العالم قديمة؟ قال: لم تكن تُعرف بهذا الاسم الإضافي، أي القديمة. سُمّيت به بعد أن نزح سكانها سنة 1970، في بداية النهضة المباركة. ويمكن القول إن أهل مسقط فرّوا منها طمعاً في بيوت كبيرة، بأفنية واسعة، وحدائق خضراء، وكما ترين، لا متسع فيها لبيوت كبيرة، كالتي يرغبون فيها، ورقعة الأرض الصالحة للبناء صغيرة جداً، ومحدودة بسبب كثرة الجبال. غادرها سكانها، فسار عليها اسم مسقط القديمة”
وخلال ذلك تتطرّق إلى العديد من الأحداث التاريخية التي مرّت بها عمان ، والعادات، والتقاليد السائدة في المجتمع العماني، لتثبيت المكان في ذهن القارئ، فحين تتحدّث عن الحواري في مسقط، تقول” كانت في العهد القديم ميناءً مزدهراً تسافر منه السفن إلى بقاع العالم، ومنه أبحرت الحملة العُمانية إلى شرق أفريقيا، وإلى زنجبار، التي تحوّلت إلى مستعمرة تابعة لعُمان. وأيضاً ثمة حارة ولجات، وحارة المدرسة السعيدية، وحارة التكية، وحارة سداب البحرية، وحارة الطويان، وأغربها حارة العور” وحين تزور البيوت تدون مشاهداتها من خلال وصف دقيق ” دخلنا فناءً كبيرًا، في أحد جوانبه مقصف لبيع الأطعمة، والمشروبات الساخنة، والباردة، وفي الجانب الآخر مكتبة صغيرة لاستعارة الكتب، وشرائها… دخلنا مع تجمعات النساء قاعة كبيرة زُخرفت بمرمر ثمين على شكل طيور وخيول وأشجار”
كلّ تلك الوقائع سجّلت في مدوّنة بضمير المتكلم (الراوي العليم) لترسم الشخصيات، والأحداث، وما يدور من أفكار من خلال تتابع الأحداث المتسلسلة، المكتوبة بلغة لا تتعالى على القارئ، بل تشدّه إليها لمواصلة صفحاتها، حتى السطور الأخيرة .