يوم دافيء هاديء ، أرخى أول ظلال الأصيل على الطريق .كنت على بعد عشرين كيلومترا من مدينة بوردو. وحين مررت في "كروا دي وان" لفت نظري على الجانب الأيمن للطريق منظر الأعمدة الشاهقة لمحطات البرق اللاسلكي .. أبراج معدنية كشباك العنكبوت ، ناعمة مثل الدانتيل عتيدة كالمدن .
أثناء الطريق كنت أفكر باستمرار، بالشبه بين أبراج الكاتدرائيات من قديم الزمان ، وبين هذه ا لأبراج الفولاذية للبرق اللاسلكي . ثمة من يخدم هذه الأبراج باستمرار، مثلما يخدم الكهنة معابدهم . وتضيئها مصابيح حمراء أو خضرا تحذيرا للطائرات شبيهة بالشموع والقناديل في الكنائس . على أن أبراج البرق قد شيدت على أساس عقلاني ، لكي تكون بخدمة هدف عملي محدد واضح ، بينما باتت أبراج الكنائس اليوم ، مجرد كماليات ورمز. أفلم تشيد، يا ترى، أبراج الكنائس فيما مضى لضرورة ما وعلى أساس عقلاني ؟ لكن هذا الأساس العقلاني قد ارتحل وضاع الهدف وصار منسيا.
رافقتني فكرة التشابه هذه ولم تتخل عني لحظة واحدة طيلة الطريق . وترابط في ذهني ، ترابطا واضحا ومقنعا، ما ندعوه بالقريب وما ندعوه بالبعيد، و"بالممكن " و "اللاممكن ". ولئن لم يفارق عيني منظر هذه الكنائس العصرية، التي تحدث
فيها العجائب كل لحظة، فقد شعرت أن فكري وخيالي قادران على سبر الزمن الماضي واحياء موتاه .
فلقد استحوذت على تفكيري ، قبيل المساء، إذ وجدتني جالسا في مقهى بإحدى ضواحي مدينة النبيذ الكبيرة، وكنت منهكا من طول تجوالي فيها، هذه الكاتدرائيات المعاصرة، الضخمة، غير المنجزة تماما، التي شاهدتها في أصيل هذا اليوم في "كروادي وان ". إن لجميع مدن الدنيا أريافا ما تزال مجاريها بدائية، وطرقها ا لمزفتة نادرة . وشوارعها تحمل أسماء شعراء وأطباء محليين لم يسمع بهم أحد خارج هذه الضواحي . ففي هذه الأحياء التي ماتزال في طور النشوء ولم تكتمل ولم تتخذ شكلها النهائي بعد، تسرح الأفكار حرة، طليقة، وهذا ما يلائم غريبا ينشد الراحة والتأمل .
بالقرب من المقهى وعلى فسحة واسعة، جانب المواد المتبقية من أعمال البناء الأخيرة، كانت تنصب خيمة سيرك ، وتسمع فربات المطارق وأصوات العمال ، وبين الفينة والفينة عواء ضبع أو زئير السباع في أقفاصها.
إن هذه المقاهي الصغيرة هي بسيطة الأثاث وبدون زخارف ، متشابهة ولا تواكب العصر. ولقد إعتادت أجيال وأجيال من رواد هذه المقاهي ، على منظر الطاولات والمقاعد، وعلى شكل القوارير الزجاجية واسعة الفوهات والكؤوس من الزجاج المضبب ، وعلى هيئات أصحاب المقاهي المشمرين عن زنودهم ، وعلى أزرهم النيلية . ففي إطار هذه الصورة، يمكنك استحضار الأشخاص والأزياء والعادات من مختلف الأزمان ، دون أي إخلال بالصورة ودون مفارقات تاريخية قد تؤذ ي المشهد أوتجعله غير قابل للتصديق .
– وهو كذلك . . .
قال هذه العبارة رجل كان يجلس قبالتي ،مؤيدا أفكاري ، وكأنني أفصحت عنها بصوت عال . رجل مسن ، صوته أبح خفيض ، متدثر بعباءة خضراء داكنة غريبة الزي ، وعلى رأسه قبعة سوداء يتدلى من تحتها شعر أبيض متفرق ، وعيناه متعبتان لكنهما ما تزالان تشعان بالحياة كان يجلس قبالتي الدون فرانسيسكو دي غويا لوسينتس ، الرسام الأول الأسبق للقصر الاسباني ، الذي استقر في بوردو منذ 1819 .
– اي نعم ..
واصلنا الحديث الذي كان في الواقع حوارا أحاديا لغويا حول نفسه وحول الفن وحول قضايا عامة تخص مصير البشرية . فإذا بدا لكم هذا الحوار، للوهلة الأولى، مفككا وغير مترابط ، فكونوا على يقين بأنه ينطوي على تلاحم داخلي ، تربط بين أسديته حياة غويا ولوحاته .
– إي نعم أيها السيد! إن البيئة البسيطة والفقيرة هي صرح العجائب والأمور الكبيرة . فالمعابد والقصور الغارقة في عظمتها ورونقها، ليست في الحقيقة إلا احتراق ما كان يشتعل وإزهار ما كان ينبت ، في ظل البساطة والفقر. ففي البساطة تكمن بذرة ا لمستقبل ، وفي الجمال والبريق يكمن الأفول والموت .
لكن البشر بحاجة الى البريق والى البساطة على حد سواء. إنهما وجهان للحياة ، يتعذر إدراكهما معا. فعندما ينظر المرء الى أحدهما، لابد أن يفقد الآخر من مجال النظر. ومن وهب القدرة على رؤيتهما معا، يصعب عليه ، إذ يرى أحد الوجهين ، أن يتناسى الوجه الآخر.
أنا شخصيا، كنت في أعمق أعماقي ، الى جانب البساطة، الى جانب الحياة الحرة والصعبة الخالية من البريق والشكليات . وبصرف النظر عما جاء على لسان الناس ، وعما كان يجول في رأسي من خواطر، وعما كان يبدر عني من كلام ، في وقت ما، في عنفوان الشباب ، فهذا ما كان ، وهكذا أنا، وهكذا هي "أراغون "
التي أنبتتني .
كنت استمع الى حديثه ، ونظري لا يحيد عن يده اليمنى المستلقية على الطاولة، ككائن منفصل يعيش بذاته ، يد عجيبة مثل جذر سحري ، مثل تميمة، يد رمادية مليئة بالعقد، قوية، جافة كأكمة في صحراء. إن هذه اليد تحيا حياة حجر غير مرئية، إنها ليست يدا للمصافحة أو للمداعبة، أو للأخذ أو العطاء. إنها يد لا يجري فيها دم وإنما مادة أخرى لا تعرف خواصها. ويتساءل المز مذعورا إذ ينظر إليها: هل كانت هذه اليد يد إنسان ؟
لم أستطع طيلة الفترة التي استغرقها حديثه ، أن أغض الطرف عن يده المستلقية بسكون على الطاولة، كبرهان محسوس على صحة ما يبوح به الشيخ بصوته الأبح الصادر من أعماق صدره ، الذي كان يصل على دفعات الى حنجرته ،
كلهب يأبى الخمود والإختباء.
وهكذا واصل حديثه عن الفن وعن الناس وعن نفسه ، متنقلا بين موضوع وآخر، براحة ودون تكلف ، بعد فترة صمت وجيزة، لم أقطعها إلا بنظرة تنم عن سؤال ، إذ كنت أخشى أن تتبدد صورته ويغيب فجأة، كما تغيب الأطياف .
– لاحظ ! إن الفنان هو "شخص مشبوه " انسان مقنع في وقت الغسق مسافر يحمل جواز سفر مزورا. الانسان المقنع صورة رائعة، مكانته أرفع بكثير مما هو مكتوب في جواز سفره . ولكن ما أهمية ذلك ؟ إن الناس لا يرتاحون لهذا الابهام
ولهذا التحجب . ولهذا السبب يدعون الفنان شخصا مشبوها، منافقا مرائيا. ومتى ولد الشك ، فإنه يستفحل ولا يعرف الحدود. وحتى ولو استطاع الفنان ، بشكل أو بآخر، أن يكشف للناس عن شخصيته الحقيقية ولقبه الفعلي ، فمن سيصدق أن
كلمته هذه هي كلمته الأخيرة بخ وفيما إذا أبرز جواز سفره الحقيقي ، فمن سيصدق أن ليس في جيبه جواز سفر ثان وثالث ؟ وفيما إذا نزع قناعه ، رغبة منه في أن يبتسم ابتسامة صادقة وأن يطل بنظرة حقيقية، سوف يوجد من يطالبه بأن يكون صادقا وأمينا بمنتهى الصدق والأمانة وبأن ينزع هذا القناع الأخير الذي يشبه شبها كبيرا وجها بشريا. إن مصير الفنان ، كما ترى، هو أن ينتقل من حالة نفاق الى أخرى، وأن يجمع ما بين التناقضات . فمن يتيسر له إخفاء ذلك بقدر أو بآخر، فإنه ينعم بهدوء وسعادة، مع أنه يعيش صراعا داخليا مستمرا من أجل الجمع بين حدين لا يمكن لهما أن يجتمعا البتة . أثناء إقامتي في روما، قال لي صاحب (هو رسام صوفي الميول ) في إحدى المناسبات إن بين الفنان والمجتمع بونا هو نفس البون الكائن بين العالمين الإلهي والأرضي ولكن على نحو مصغر وأن البون الأول هو رمز للثاني ، ليس إلا.
لاحظ ! هذه هي طريقة تعبيره ، ومع أنه يمكن التعبير عن الحقيقة بطرق شتى، لكن الحقيقة واحدة وأثرية.
هكذا عبر "باولو" عن فكرتنا المشتركة مستخدما صورة خيالية .
وأسائل نفسي أحيانا: ماذا هو هذا اللقب ؟ (أنه لقب حقا. وإلا كيف تسنى له أن يملأ حياة إنسان بكاملها، وأن يجلب له كما هائلا من الرضا والعذاب ؟) وما هي هذه النزعة النهمة التي لا تقاوم ، والتي تدفعك لأن تسلب من ظلمات اللاوجود أو من ذلك السجن الكبير الذي يكونه ترابط كل ما في الحياة . . أن تسلب من ذلك العدم ومن تلك الأغلال ، قطعة تلو القطعة من الحياة ومن حلم الانسان لكي تعطيها شكلا تثبته ،(الى الأبدا بتمرير طبشورة هشة على ورقة عابرة) ما قيمة بضعة آلاف من الأيدي والعيون والأدمغة، مقارنة بالملكوت الذي لا حدود له ، الذي ننهش منه إربا صغيرة بجهد غريزي متواصل ؟ ومع هذا، فإن هذا الجهد، الذي يبدو لمعظم الناس ، مسعورا وغير مجد، يحتوي على قدر من الإصرار الغريزي الهائل الكائن لدى النمل عندما تنشيء كثيبها على قارعة الطريق . إن قدره محتوم سلفا: سوف يداس وينهار.
في هذا العمل المضني اللعين ، والممتع الى حد لا يضاهى، ندرك إدراكا واضحا باننا نسلب من مكان ما، نسرق من عالم مظلم ، لنعطي ما س قناه لعالم آخر لا نعرفه ، لننقل من اللاشيء شيئا لا ندري ما هو. لهذا السبب يعتبر الفنان خارجا على القانون ومرتدا من الدرجة الأولى، حكم عليه ببذل جهد يفوق طاقة البشر، جهد ميؤوس منه ، لكي يكمل صفا أعلى غير مرئي مخلا بالصف الأدنى المرئي الذي يفترض أن يعيش فيه بكل كيانه .
إننا نخلق أشكالا وكأننا طبيعة ثانية . نوقف الصبا، ونجمد نظرة، تكون قد تبدلت أو إنطفأت في "الطبيعة" بعد دقائق ، إننا نلتقط ونعزل حركات سريعة كلمح البصر، لا يمكن لأحد أن يراها، وندعها، بكل ما تنطوي عليه من معان مستترة،
لكي تراها أعين الأجيال القادمة وليس هذا وحسب . إننا نعزز كل حركة وكل نظرة تعزيزا لا يكاد يلحظ ، بخط أو بلون إننا لا نبالغ ولا نزيف ولا نبدل جوهر الظاهرة عندما نعرضها، وإنما نرفقها ببرهان دامغ ، دائم ، لا يلحظ ، على أن هذه الظاهرة قد حدثت للمرة الثانية من أجل حياة أطول وأهم ، وعلى أن المعجزة
قد حدثت في ذاتنا نحن . ففي هذا الفائض الذي ينطوي عليه كل عمل فني ، كآثر للتعاون الخفي بين الطبيعة والفنان ، يلوح المنشأ الشيطاني للفن . ثمة أسطورة تحكي بأن المسيخ الدجال عندما يجيء الى الأرض سيخلق كل ما خلقه الرب ، ولكن بمزيد من المهارة والكمال . فنحله لا يلدغ ، وأزهاره لا تذبل بنفس
السرعة التي تذبل بها في طبيعتنا. وعلى هذا النحو سيغري الشرهين والطماعين وضعيفي الايمان . قد يكون الفنان هو البشير بالمسيخ الدجال . أو لعل الآلاف والآلاف منا تلعب دور المسيخ الدجال ، كما يتلهى الأطفال بألعاب الحرب في وقت السلام .
إذا كان الإله قد خلق الأشكال ورسخها، فإن الفنان هو الذي يخلقها لحسابه ويثبتها من جديد. إنه مزيف ، مزيف غير مكترث بالفطرة ولهذا السبب فهو خطر. وهكذا يخلق الفنان ظواهر جديدة، متشابهة، لكنها ليست نسخا عن بعضها البعض ، وعوالم مخادعة تتملاها أعين البشر بمتعة وزهو، وما إن تقترب منها حتى تسقط من خلالها في هاوية العدم .
هذه هي نظرية "باولو" وهو إيطالي في عروقه يجري دم سلافي . إذن ينبغي أن تكون ميالا الى التخيل والصوفية كما كان هو لكي تستطيع التعبير بطريقته . وقد استحوذ على انتباهي ، أن أحدا يستطيع أن يخلق عوالم ويلاشيها، فوق وتحت المستوى الذي يعيش فيه . فأنا ، كما أنا عليه ، وأنا من عجينة مختلفة، لم أستطع أبدا سبر عالم مشاعره وطريقة تعبيره . لأنني كنت آنذاك أيضا، أشعر كما أشعر الآن ، بأن كل ما هو موجود، هو الواقع الوحيد الذي لا واقع غيره ، وأن غرائزنا وردود فعل حواسنا، تجعلنا نرى في الظواهر المتعددة التي يتجلى فيها هذا الواقع ، عوالم منفصلة مختلفة من حيث ملامحها وجوهرها. لا شيء من ذلك كله . ثمة واقع واحد، له بدون شك قوانين ثابتة على الدوام ، لا نعرفها الا جزئيا، خاضعة لمد وجزر أبديين .
لو أردت أن أرتكب خطأ، بأن أستبدل بشكل اعتباطي الأسباب بالنتائج ، لاستطعت إيجاد براهين جديدة وذات أهمية لنظرية "باولو" حول تسمية الفنان – الخلاق بالمسيخ الدجال . إلا أنني لا استخلص من هذه الحقائق استنتاجات مشابهة الاستنتاجاته ، وبالأحرى، أنا لا أكون أية استنتاجات بل أرى الحقائق . لقد قال ،"باولو": الفنان هو لعين ، لأنه كيت وكيت . إنني أقتصر على القول بأن الفنان هو كيت وكيت ، وهنا أتفق معه كلية .
– كانت هناك بنية صغيرة تعيش مع أمها في منزلي ، تدعى "روساريتو". (عندما ذكر اسمها، خفض نظرته الحادة، ومر حول أهدابه المطبقة ما يشبه الضباب ) ذات يوم ، وكانت في الخامسة من عمرها، سمعت حديثا دار بينها وبين صبي ، لم تمض إلا أيام معدودة على دخوله المدرسة فكان يتباهى أمام البنية بمعارفه الجديدة – أتعرفين من خلق البشر؟
– البشر ؟ العم فرانسيسكو.
أجابت الطفلة وهي تشير الى لوحاتي ، صور أشخاص في مرسمي .
أما الصبي فقد استمر في تباهيه وهو يتلعثم:
– الله . . . الله هو خالق البشر.
لكن نظره لم يحد عن اللوحات التي كانت الطفلة تشير إليها الواحدة بعد الأخرى ، مركزة على الوجوه المرسومة عليها، مكررة عند كل وجه بإعتزاز:
– العم فرانسيسكو .. العم فرانسيسكو. كانت أصوات البوق والطبل تعلو من السيرك المجاور للمقهى. فتوقف الشيخ عن الكلام برهة من الزمن ، وأصغى
السمع ، ولم تبد عنه بادرة تأفف أو امتعاض . غابت الأصوات إلا صوت بوق ناعم . فتابع العجوز حديثه بصوت خفيض:
إن السيرك في نظري هو أليق أشكال المسرح . إنه يمثل الحد الأدنى للبؤس في هذا الشقاء الهائل . إن الظهور أمام الجمهور ينطوي على أشياء محرمة ومخجلة. ففي أيام الشباب كنت كثيرا ما أحلم بأنني أمثل دورا على خشبة المسرح ، أمام جمهور غفير صارم ، وكنت أتساءل مذعورا، كيف صعدت على خشبة المسرح دون دعوة ودون تحضير مسبق ، كان على أن أمثل دورا لم أقرأه من قبل ولا أعرف كلمة واحدة منه .
يستحيل في وصف العذاب الذي كنت أعانيه أثناء الحلم . وقد تكرر الحلم نفسه مرات ومرات .
كنت أثناء حياتي على اتصال بالمسرح والممثلين . وكنت في كل مناسبة ازداد قناعة بأن المسرح هو أعقم الجهود التي نبذلها. ومن خلال تماسي بالمسرح والممثلين كان صدري يجيش بمشاعر اليأس والعبث وأتساءل: أليست تفاهة المسرح مجرد صورة لما ينتظره جميع البراعات آجلا أم عاجلا؟ عندما أرى
قرص عسل مصنوعا من ""الكرتون " ومرسوما بطريقة بدائية، يستخدم في أوبرا ما، لتقديمه الى حورية الغاب ، فانني أفقد في اليوم التالي ، شهيتي للطعام والرغبة في الرسم . وتلاحقني طيلة أربع وعشرين ساعة صورة ذلك الشيء الميت ، وياليته ميت ، إنه شيء لم يولد وليس له علاقة لا بالوهم ولا بالحقيقة. وإذا كان
على إيجاد رمز لفن المسرح ، فإني أختار قرص العسل من "الكرتون ". فهو عبارة عن أداة تعيسة حاولت مئات المرات أن تغدو في أعين ا لمشاهدين عسلا، وأعيدت مئات المرات الى صندوق لوازم المسرح ، موسخة، خائبة لا ضرورة لها.
وفي أفخر المسارح ، كل شيء مغبر ومتسخ . إن مهنة التمثيل أصعب المهن وأتعسها، لذا فالممثلون بحاجة الى حياة اللهو والمجون والأكل والشراب ، كالمحكوم عليهم بالاعدام دائما وأبدا .
كانت لي علاقة بممثلة .. (هنا، همهم العجوز بشيء وكأنه يردد اسمها لنفسه وحسب ، وإنطبقت أهدابه وتموج الضباب حول عينيه مرة ثانية).
كانت امرأة رائعة، جريئة رحبة الصدر في كل الأمور، ما خلا الأمور المتعلقة بالمسرح . كنت أرتاد المسرح من أجلها مع أنني كنت أعاني كل العذاب حين أراها على خشبة المسرح . ذات يوم كنت جالسا في الصف الأول . فرأيت كيف علق طرف ثوبها الطويل الأبيض بمسمار على الأرضية، أثناء تأديتها لدورها.
شعرت بأنها تعثرت . لكنها واصلت إلقاءها وحاولت بحركة نزقة من قدمها تحرير طرف ثوبها. إن هذه الحركات اليائسة التي كانت تقوم بها مثل حيوان وقع في الفخ ، وهي تلقي أبياتا حماسية والعرق البارد يبللها، والذعر يتطاير من عينيها شررا، خشية حدوث ""زلة" وفضيحة بينت لي في لمح البصر، لا جدوى هذا الفن . ولقد أفسد عين ذلك ، لفترة طويلة السعادة التي كانت تفيض بها علاقتي بهذه
المرأة الرائعة التي لا أنساها.
– كانوا يقولون لي مرارا وتكرارا، يقولون ويكتبون بأنني ميال الى حد مفرط ومؤذ، الى الموضوعات الكئيبة والى مشاهد العنف والغموض ، كانوا يكررون ذلك شفاهة وكتابة، ببرودة أعصاب وبدون تفكير ، كما يقوم الناس بمعظم الأمور.
في فترة ما ، في مدريد، قبل اندلاع الحروب ، كان الناس رجالا ونساء، أثناء الحديث ، يسترقون النظر الى يدي كي يتأكدوا هن أن هذه اليد هي تلك اليد التي ترسم ، أثناء الليل ، بعون إبليس . هكذا كانوا يعتقدون ، وكانوا يقولون إن أثامي
التي لا يعرف ما هي اسماؤها وماهيتها إنما هي من فعل الشيطان . في ذلك الزمان ، ما كان لك أن تجد في اسبانيا كلها. انسانا أكثر مني تواضعا وتخوفا واستواء. إي نعم ، إستواء. ليس المهم أظن الناس بي كيت وكيت ، أو قالوا عني كيت وكيت ، إنما المهم هو أن ظنونهم وأقوالهم دليل على عدم فهمهم للفن . ولا يصعب قي شرح ذلك .
إن جميع الحركات التي يقوم بها البشر، تنبع من حاجتهم الى الهجوم. أو الدفاع . وحاجتهم هذه ، هي المحرض الأساسي والفعلي والوحيد، لكنه ينسى في معظم الحالات . والفن بطبيعته عاجز عن تصوير آلاف الحركات الجزئية. فإن عزلت عن حركة عن الأخرى، لما كان في هذه الحركات كأبة أو شؤم . ولكن على
كل فنان يريد أن يصور ما صورته أنا، عليه أن يقدم لنا حركة تجمع وتلخص جميع تلك الحركات التي لا تحصى. إن هذه الحركة المتراصة. لابد لها من أن تتضمن ، بالضرورة، وبالحتم ، منشأها الحقيقي ة الهجوم والدفاع ، والغضب والخوف . وبقدر ما يزداد عدد الحركات التي تنسج وترص في هذه الحركة، فإنها
تزداد تعبيرا، وتزداد الصورة قوة على الاقناع . هذا هو منشأ المسحة الكئيبة على شخوصي وعلى مواقفهم وحركاتهم ، وهي في الغالب مرعبة ومروعة. لأن ليس هناك ، في الواقع ، حركات مغايرة.
ويمكن القول أن هناك رسامين اقتصر تصويرهم على مناظر من حياة الريف والرعاة، التي يفوح منها الرضا، وعلى وجوه سلة خالية من الهموم وهذا واقع موجود. فلقد سبق لي أن صورت أحيانا عين هذه المناظر. لكن كل موقف من هذه المواقف المتحررة من الخوف والحذر الغريزيين ، يتطلب ملايين الحركات القلقة، الدموية حتى يتسنى لنا دعم هذا الموقف والدفاع عن جماليته المصطنعة وحريته العابرة . إن الجمال محفوف دائما، اما بظلام مصائر البشر واما ببريق دماء البشر. وينبغي ألا ننسى بان كل خطوة إنما تقود الى القبر. وهذه الحقيقة كافية لتبرير سلوكي ولا يمكن لأحد أن يدحضها.
ذات مرة، كنت أتسلى، فرسمت سطحا مائيا تؤلقه أنوار المساء، وعليه زورق ، ووراء الزورق أثره المتموج على الماء. فإذا نظرت الى الرسم من بعيد، لا يتضح لك أي شيء ، لا ترى التفاصيل ، أعطيت هذا الرسم لصديق ، بشوش ، مرهف الحس ، وتركت له مهمة إيجاد اسم له . وبدون تلكؤ، أطلق عليه: "الرحلة الأخيرة " ، مع أن الرسم لا يوحي بذلك لامن قريب ولا من بعيد.
إن مهمة رسم الأشخاص ، مهمة شاقة للغاية، عذاب مرير بالنسبة للرسام ، عندما يعزل الشخص عما يحيط به وعما يربطه بالآخرين وبالبيئة. إن " تحرير" هذا الشكل ، هو على حد تعبير صديقي "باولو" نوع من أعمال المسيخ الدجال . . عملية غير خلاقة . إن الطريق الطويلة التي يقطعها الانسان – "الموديل "، إنما نجتازها نحن مرة أخرى، ولكن باتجاه معاكس ، الى أن نخرج الشخص الذي ، " صطادته " أعيننا الى العراء، ونبقيه وحيدا مع نفسه وكأنه ينتظر سقوط المقصلة عندها، نخلقه من جديد .
أما في الفنون الأخرى، فإن الانسان يعرض دائما، وهو على صلة بالآخرين .
وكلما ازدادت النزعة الى إظهار أصالته وخصوصيته استدعى ذلك المزيد من تجديد علاقته بالغير لكي تتجلى خصوصيته وبالعكس فإن الشخص موضوع اللوحة، هو وحيد، مقيد، معزول الى الأبد، لأنه بلا أب وبلا أم وبلا أخت وبلا ولد، وليس له منزل ، وفاقد الأمل ، وفي كثير من الأحيان دون اسم . فحين ينظر إلينا بعينيه الحيتين ، فهو يمثل حياة سابقة، أطفئت ، لكي يتسنى لها الديمومة، إنه الكائن الأخير، لا ليس الأخير بل الكائن الحي الأوحد في العالم ، في لحظته الأخيرة . إنه ينظر إليك دون حراك ، نظرة حزينة، مذعورة، نظرة
المريض الى الطبيب ، وبهذه النظرة، وهي الوسيلة الوحيدة لديه للتعبير، يقول لك: ("إنك سوف تمضي ، لتحيا وتعمل وتنقل نظرتك من شخص لآخر، أما أنا فسوف أبقى هنا، محكوما علي ومقيدا، كشاهد لا يعرف عنه إلا اسمه ومهنته وعمره ، وفي جل الأحيان لا يعرف كلها.. . سوف أبقى الى الأبد مجرد صورة، ياليت هي صورتي ، بل هي صورة كما رأتها عيناك . "
إن الوحشة التي يعانيها الشخص على اللوحة، هي كبيرة الى حد، تدعو الرسام أحيانا، الى إضافة شيء ما، له علاقة بالشخص ذاته ، كرمز يساعد في تفسير نفسيته . ولقد لجأت بنفسي ، بضع مرات الى هذه الطريقة، لكنني سرعان ما أدركت عبثها. لأن الأشياء والأدوات والدمى، يتبدل مع الزمن ، ليس شكلها وحسب بل ومغزاها أيضا ويتجاوزها الزمن ، ولا تعود مفهومة وتغدو هي ذاتها مستوحشة، وتسهم في المزيد من عزل الشخص موضوع الصورة.
مررت بمرحلة كنت أحس فيها إحساسا شديدا بهذا الأطر وبعجز الشخص الذي ثبت على اللوحة، عجزا أبديا عن السماع أو الكلام ، فأغواني ذلك وبدأت أضيف على الصورة، كلمة أو كلمتين ، أو اسما، أو عبارات تسم ذلك الشخص . فتفسره فيما بعد ، بقدر أو بآخر، وتصله بالناظر. وسرعان ما أدركت سماجة هذه الطريقة وعبثيتها. ومن ثم بدأت تطاردني في الأحلام ، تلك الكلمات التي وضعتها باستخفاف . وكنت عاجزا عن محوها، لأن اللوحة لم تعد بحوزتي . كنت أنظر
أمامي ، فأرى ما ستثيره تلك الكلمات من ضحك لدى الناظر، إن كانت تقوى على الاثارة لأنها ستفقد، عبر القرون معناها السابق وستصبح غريبة حتى عن النطق ، بل وستجعل ذلك الشخص التعيس على الصورة أكثر بعدا وغرابة وعزلة.
وفي النهاية توصلت الى قناعة بأن لا دواء لذلك ولا عون . إننا إذ نصور شخصا، فإننا نقتله ببطء ، بكل نظرة من نظراتنا، مثلما يقتل البيولوجيون الحيوانات عند تحنيطها. وعندما نميته تماما، يبعث حيا على لوحاتنا. لكن وحشة الانسان على اللوحة أمر من وحشة العظام تحت التراب .
هذه هي البراعة في رسم الأشخاص . ولهذا السبب لا يتوفق الرسام المبتديء والرديء في رسم الأشخاص ، لأنه لا يستطيع فصل الشخص وعزله و ا"تحنيطه " هكذا يمكنك اكتشاف الرسم الرديء . فالشخص على اللوحة، متشابك ومقيد
ببيئة، وكأن جزءا منه يسعى الى أن يواصل حياته فيها، لأن الرسام لم يوفق في تأدية المهمة الشاقة، وهي عزل الشخص وتحريره و"" قتله " و" تأبيده " .
– كان الشك يخامرني دوما، عندما كنت أسمع ، أثناء حديث عابر، أن هناك ألف أسلوب في الرسم . من أين هذا الأف ؟ ولماذا هو ألف بالتحديد؟ فإذا كان ثمة أكثر من أسلوب واحد، فثمة اكثر من ألف . فليس لذلك حدود. وما الفائدة من وجود ألف أسلوب طالما يلجأ كل منا الى أسلوب واحد لا يعرف غيره .
وهذا يعني أن لكل رسام أسلوبه . أما الذين يقولون بوجود ألف أسلوب ، فإنهم لا يرسمون . إذن أنا في حل من أمري .
كنت في أيام الشباب في جلسات المساء، أحاول شرح هذا الموضوع للذين يرغون بالكلام ، الذين لا عمل لهم ولا شاغل . لكنني حتى هذا اليوم ، لا أحسن التعبير كما ينبغي ، عندما كنت شابا كنت افتقد تماما القدرة على التعبير الواضح والمقنع أثناء الحديث . ومع ذلك ما كان يمكن لأحد إقناع هذا النوع من البشر. ومازالت أذكر، ج نني كنت أقول لهم حينها، بأن لي أسلوبا واحدا في الرسم ، وهو أسلوب المرحومة خالتي /عمتي "أنونسياتا من فوينتا دي تودوس ". ففي طفولتي ، كنت أراقب خالتي /عمتي كيف تعتم ابنتها (وكانت أكبر مني سنا بقليل ) الحياكة على النول . كانت الطفلة الصغيرة تجلس على النول وخالتي /عمتي بجانبها. وكان المكوك يطير يمنة ويسرة وخشبة النول تطرق . لكن صوت خالتي / عمتي كان يطغى على كل تلك القرقعة، إذ كانت تردد عند كل طرقة:
رصي ، رصي . كلما ترضين أكثر فهو أفضل ! رصي ولا ترحمي .
كانت الصغيرة تطيع صاغرة، وتضرب خشبة النول بكل قوتها، لكن الخالة/ العمة لم يكن يعجبها العجب ، وكانت تعتبر أن رص الصغيرة غير كاف ، وتصرخ بأعلى صوتها:
– رقي أكثر! كثفي ة أنت لا تنسجين منخلا!
طيلة حياتي ، كنت أرسم تحت شعار هذه المرأة البسيطة والصارمة . (فكل عمل قيم صاحبه صارم ). فمهما هزأ نفاجو وإصلاحيو مدريد، بوصفة "الخالة / العمة من فوينتا دي تودوس "، إلا أنني أعرف بأن كل مرة كنت أطلق فيها لخيالي
العنان ، ولا أرص ولا أكثف ، كانت صوري رديئة، هذا لا يعني أن رسومي الأخرى كانت ناجحة لكنني بذلت كل ما بوسعي لكي تكون ناجحة.
كانوا يقولون إنني أتجنب الصعاب من الأمور، وأؤثر بسهولة في النظارة، حيث أبرز حيزا معينا بصورة أقرب الى الرسم الكاريكاتوري . الشطر الأول ليس بصحيح ، والثاني صحيح جزئيا. انني لم أكن أتجنب الأمور الصعبة، إنما كنت
أوجد لها حلولا، بكل أمانة. وعندما أوجد لها تلك الحلول ، كنت أنسجها وأرصها في ذلك الحيز ""المبرز". عليك أن تلاحظ أن كل صورة تشتمل دائما على حيز واحد فقط يستحضر رؤيا الواقع ، واقع الناظر. إن هذا الحيز فحسب ، هو الحيز الهام والحاسم ، شأن التوقيع على سند. وقد يقتصر هذا الحيز على العينين أو على يد أو على زر معدني بسيط مضاء بطريقة خاصة.
-إنني أشفق على نفسي إذ أتذكر كيف خضت الحياة بكم ضئيل من المعرفة، وبكم كبير من الأحكام المسبقة والمطالب الخطيرة. لقد كان مجرد التفكير بالأمور الأساسية للحياة، إثما لا يغتفر. هكذا كان المجتمع . وقد لاءمني ذلك كوني دون خبرة ولي رغبات جمة. ولكن فيما بعد عندما أصغيت الى صرير مفاصل
المجتمع ، ورأيت شتى العجائب والمحن . بدأت أفكر واستنتج حتى الحيوان ، أي حيوان لو كان مكاني لفعل ما فعلت .
لقد رأيت في لحظات مريرة جهل العظماء " أصحاب المآثر" ورأيت أيضا عجز وضعف وإرتباك "أصحاب وأولي العلم " ورأيت المباديء والنظم التي كانت تبدو أصلب من الجلمود، كيف تتبدد كالضباب أمام أعين الناس اللامبالين أو الحقودين ، وكيف أن هذا الضباب الذي كان ضبابا حقيقيا منذ برهة، بدأ أمام نفس تلك العيون يتصلب ويتكون مرة أخرى كمباديء مصونة، أمتن من الجلمود. ومن ثم رأيت الموت والأمراض والحروب والثورات ، وكنت أتساءل عن مغزى هذه التبدلات وعن الخطة التي تجري تبعا لها، وعن الهدف الذي تصبو إليه وبالرغم مما شاهدت وسمعت وتفكرت ، فإني لم أجد مغزى أو خطة أو هدفا لكل ذلك .
لكنني توصلت الى استنتاج سلبي: إن فكرتنا في مسعاها لا تعني شيئا كبيرا ولا تستطيع فعل شيء كما توصلت الى استنتاج إيجابي: فرورة استراق السمع الى
الأساطير ، أي متابعة آثار الجهود الجماعية البكلثرية عبر القرون واكتشاف مغزى حياتنا بقدر المستطاع .
فالأساطير تتكون عبر جميع الأزمنة، ببطء كرواسب ، حول بضعة طموحات تصبو البشرية إليها. ولئن كنت في حالة من الارتباك ، فترة طويلة من جراء ما جرى حولي مباشرة، فإنني توصلت في النصف الثاني من حياتي الى الاستنتاج
التالي: من العبث ومن الخطأ البحث عن المغزى في الأحداث غير الهامة التي تجرى حولنا والتي تبدو هامة في ظاهرها، وإنما ينبغي البحث عنه في تلك الرواسب ، التي تكونها القرون حول بضع أساطير رئيسية. إن هذه الرواسب ، تجدد شكل تلك الذرة من الحقيقة، التي تتفق حول أصالتها (مع أن الأصالة تتضاءل باستمرابى عند كل عملية تجديد) وتمزره عبر القرون . ففي الخرافات يكمن تاريخ البشرية الحقيقي ، ومن خلالها يمكن التكهن بفحوى هذا التاريخ ، إن لم يكن با لمستطاع اكتشافه تماما، هناك بضع أساطير أساسية تبين ، أو على الأقل تضيء الطريق الذي إجتزناه ، إذا لم يكن بإمكانها تبيان الهدف الذي نعدو وراءه: أسطورة الخطيئة الأولى، أسطورة الطوفان ، أسطورة مجيء ابن البشر وصلبه ليخلص العالم ، أسطورة بروميته واختطاف الروح من الصاعقة . .
نطق العجوز الأطرش كلماته الأخيرة، بصوت عالى جدا، ثم صمت ونظر في البعد، كما ينظر البحارة في عرض البحر. وبدا وكأنه من خلال هذا الصمت ، يسترق السمع لصوت الأساطير التي لا تحصى، والتي لا يتذكر أسماءها ولا يستطيع تعدادها. صمت طويلا، ثم أرخى نظره أمامه على الطاولة . بدا وكأنه عاد من مكان بعيد. وفي هذه اللحظة، لاح حول أهدابه ضباب خفيف ، كل ما تبقى من ابتسامته المعهودة في أيام مضت ، وواصل كلامه بأدنى طبقة صوتية يمكن للطرشان التكلم بها.
أيام شبابي ، كان الحديث حول هذه الأمور يجري همسا، بين أناس يأتمن أحدهما الآخر. أما اليوم ونحن في عام 1828، فيستطيع الكلام من يشاء وبمايشاء. وهذا لايعني ، بالطبع أن ليس لدى الناس اليوم موضوعات يتحدثون عنها همسا وعلى انفراد.
– كن على ثقة بأنني رأيت كل شيء ، وأنني لست عديم الشعور أو غبيا، إذا كنت لا استغرب ولا أثار بما أشاهد. فهذا من حقي . ولقد تملكت هذا الحق لأنني رأيت "كل شيء . عليك أن ترى الكثير لكي تدرك كل شيء شاهدت الطبيعة وأمعنت النظر في المجتمع . إي نعم في المجتمع إنني أعرف جميع قوانينه الخاصة بالتبلور. إنها تربكنا ببساطتها، ولسوف تربكنا حتى اللانهاية . إنني أسمع خطوات المجتمع ، وهي مجرد تراوح في المكان ، رغم صخبها وضجيجها. إنني أعرف الجماهير الكادحة الصبورة المسالمة، أعرف المتمردين الذين يسيرون بعكس
التيار، وأعرف المجرمين ، والمتسولين ، والعاهرات . وأعرف ملوك وأمراء إسبانيا وبلدان أخرى. أعرف جنرالات ووزراء إسبانيا وفرنسا، والأكثر من ذلك فإني أعرف رقباء ورائحة نطقهم والمراهم التي يدهنون بها شواربهم. إنني أعرف كافة كل هذه الأمور، وليس يصعب معرفتها وفهمها (لقد رسمت عددا كبيرا
من الأشخاص من كافة الصنوف . وعندما أرسم شخصا، فإنني أرى لحظة مولده ولحظة موته . إن هاتين اللحظتين قريبتان إحداهما من الأخرى، بحيث لا تسمحان ، فعلا بأن تدخل بينهما، نفسا أو حركة) غير أن هناك عالما يتوجب عليك التوقف عنده ، لا يمكنك فهمه ، بل ستبجله بصمت ، هو عالم الفكر. لأن عالم الفكر، هو الواقع الوحيد في خضم هذه البهلوانية للرؤى والأشباح ، التي تدعى بالعالم الفعلي. فلو لم يتوافر الفكر، فكري أنا، عندما يكون ويدعم شكلا أرسمه ، لانتهى كل شيء الى العدم الذي جاء منه ، ولكان أكثر بؤسا من الألوان التي جفت وتساقطت ، ومن القماشة التي لا تعرض شيئا.
كنت قد عبرت الثلاثين ، وقبل أن أمرض وأفقد سمعي ، بوقت طويل ، رأيت حلما عجيبا: غرفة، دافئة، مريحة رائعة تنم عن ذوق النبلاء من حيث مفروشاتها والمزهريات والتحف الأخرى من الخزف الصيني . كان ورق جدرانها ضاربا الى الصفرة، مزخرفا. وعندما أمعنت النظر في الزخرفة، وجدت أنها تتألف من حروف كلمة واحدة MORS ، مكتوبة هكذا:MORS، كلمة تعني الموت ، مكررة بعدد لا يحصى، ومخططة بأحرف صغيرة بمنتهى الدقة. لكن ورق الجدران هذا،لم يعكر جو الغرفة ولم يضف عليه أية كآبة، بل بالعكس ، وكنت أتمنى أن يبقوني فيها أطول مدة، كنت أتحسس بيدي المنسوجات والتحف من الخزف الصيني وتمتليء نفسي سلاما ورضا وهو أمر لا يتوافر إلا في غرفة تلائم رغباتنا.
كان قد مضى على ذلك الحلم ثماني سنين أو ربما تسع ، مرضت ، وطالت أسفاري ، ورسمت كثيرا، ونسيت تماما ذلك الحلم العجيب . كنت أعيش وحيدا في دار منعزلة بالقرب من مدريد، وكنت مهجورا، أعاني كبير العناء. لم أكن أعاني من الشر الذي يملأ العالم، وإنما من تفكيري بهذا الشر. كان كل تماس مع الناس ، يلقي بي في جو من الخوف رهيب ، لا يمكن تفسيره . كنت كل يوم أرى أشكالا جديدة للشر والتعاسة لا يمكن حدسها. كان كل منها يشد على بطني ويضغط على قلبي ، طيلة أربع وعشرين ساعة، ويسمم نهاري وليلي ، ثم تتلاشى، كأنها لم تكن ، لتحل مكانها أشكال جديدة. كان يولد هذه المخاوف كل تماس ، أو كل محاولة تماس مع الناس . وعندما كنت أتوحد، كانت تبزغ من مكان ما داخل نفسي .
ولكي أتغلب على المخاوف ، مع إدراكي بأنها وهمية. وكان إدراكي هذا أكثر ما يعذبني ، بدأت أرسم على جدران الغرفة الكبرى رسوما "ضد الخوف " . غطيت جميع الجدران بصور ورسوم ولم تبق مساحة فارغة حتى لموضع إبهام ، باستثناء مساحة صغيرة جدا فوق نافذة، على شكل مثلث غير منتظم ، وكانت بهذا الشكل: – (لأن الغرفة قد أعيد بناؤها وأحدثت النافذة في وقت لاحق ). كنت قد نسيت منذ أمد بعيد حلمي الذي أبعدتني عنه سنين وليال بأحلامها التي تهيم عندما "ينام العقل ". ومع هذا، لم أرسم في هذه المساحة الصغيرة المتبقية، لا وجها ولا زخرفة، وإنما خططت كلمة "Mors" وكأنني قمت بذلك بناء على اتفاق مسبق ، أو بأمر من جهة ما، خططت هذه الكلمة كما فرض الحيز، وكما رأيت ذلك في
الحلم: " Mors". وكانت هذه الكلمة بمثابة تميمة أبعدت عني المخاوف ، الى أن تعافيت ورجعت الى صوابي ، حيث لا حاجة للتمائم .
– كنت أتساءل دوما، عندما أخالط الناس ، عن سبب عجز الفكر وعدم قدرته على الدفاع ، ولماذا هو مفكك في ذاته ، ومنبوذ من المجتمع في جميع الأزمنة، وغريب عن غالبية الناس ، فتوصلت الى هذا الاستنتاج: إن عالمنا هو عالم القوانين المادية ومملكة الحيوان ، لا مغزى له ولا هدف ، الموت هو نهاية كل
شيء . فكل ما يمت الى الفكر والتفكر بصلة، وجد هنا بمحض الصدفة، كما تلقى الأمواج بمن نجا من ركاب سفينة غارقة، ركاب متحضرين ، بملابسهم وأدواتهم وأسلحتهم ، الى شواطيء جزيرة نائية، مناخها مختلف تماما، تقطنها وحوش
ضارية ومتوحشة. لذا فإن أفكارنا جميعها تحمل سمات عجيبة مأساوية، سمات الأشياء التي أنقذت من السفينة الغارقة. انها تحمل أيضا سمات العالم الآخر المنسي الذي انطلقنا منه ، في وقت مضى، وسمات الكارثة التي أودت بنا الى
هنا وكذلك الصبوات الامجدية المستمرة للتكيف مع العالم الجديد. فهي في صراع دائم مع هذا العالم الجديد الذي هو خصم لها في جوهره ، وجدت نفسها فيه ، وتحاول في ذات الوقت التلاؤم والتكيف معه . لهذا السبب فإن كل فكرة عظيمة ونبيلة، هي غريبة ومعذبة ولهذا السبب أيضا يخيم الحزن على الفنون والتشاؤم على العلوم .
كان الظلام قد خيم كاملا، ولم ألاحظ ذلك . لكن محدثي ، كسائر الكهلة كان حساسا إزاء تبدل أوقات النهار والزمن . وكانت جميع الأصوات حولنا قد غابت في نفس اللحظة. ومع هذا الصمت الذي خيم ، غاب صوت "غويا"، نهض عن كرسيه وغادر بكل هدوء. حتى أن زحزحة كرسيه لم يصدر عنها أدنى صوت . غادر ببساطة، كما يغادر المدمنون على ارتياد المقاهي ، قائلا: الى اللقاء، كانت قبعته طيلة الوقت على رأسه وكانت يده اليسرى تقبض على عصاه .
وبعد قليل غادرت أنا أيضا.
أمضيت النهار التالي ، منفعلا، بانتظار المساء، لمتابعة الحديث مع السيد العجوز. وعندما غاب آخر شعاع شمس عن أول الصواري ، هرعت الى تلك الضاحية النائية . كان السيرك قد بدأ يستقبل زواره من عمال ومتفرغين وجنود من زنوج
المستعمرات وكان يمع هسيس المصابيح الغازية التي أضيئت عند ا لمدخل ، مع أن النهار كان ما يزال في الشفق. وكانت الفراشات تحوم حولى المصابيح ، ومن تحتها الأطفال يمرحون .
وكان المقهى خاليا من رواده تقريبا، فجلست الى طاولة الأمس ، وطلبت مشروبا من مشروبات المناطق الحارة التي تبرد الى حد يثير العطش ،والتي لا تترك في النفس ذلك الرضا الذي يعد بها لونها وبايجاز مشروب ، اسمه هو أجمل
خصائصه .
جلست بعض الوقت هاديء الأعصاب ،ولكن مع مرور الوقت بدأ يقيني بقدوم شيخ الأمس يتزعزع ، وبدأت خيبة الأمل تعذبني رغم أني لا أملك حق العتاب . تذكرت كل ماقاله العجوز مساء البارحة ورددت في نفسي كل ما أنوي طرحه عليه من أسئلة آنئذ، فكرت لأول مرة، بأن أسجل ما رواه علي.
هبط الظلام ، وأضيء أول مصباح بجانب المرآة،فوق درج النقود. ولكي أتغلب على لحظات الانتظار الضانية،طلبت حبرا وورقا. وبدا الأمر وكأنني طلبت وجبة طعام غير مألوفة، وقرأت في وجه النادل وكأنه يريد أن يقول: إننا لا نقدم مثل هذه الوجبات . ثم دار نقاش بينه وبين صاحب المقهى، فأرسله هذا الى منزله المتصل بالمقهى من باب خلفي ، وأحضر ما كنت أحتاج إليه . كانت الأوراق من الحجم الكبير، مشتراة " بالرخصة " من محل أعلن افلاسه ، والمحبرة ضخمة لا يوجد لها الآن مثيل ، وريشة سوداء صدئة، رفيعة كلسان أفعى .
غادرت المقهى في ساعة متأخرة بعد قضاء ساعتين في الكتابة بانتظار مجيء محدثي العجوز الذي جالسني مساء أمس . وكان صاحب المقهى قد تعشى وبدأ يلعب الشدة مع بعض من زبائنه على طاولة فرشها بقماشة خضراء.
كان الشارع مقفرا. أما حوالي السيرك ، فقد تجمع جمهور صاخب ، تحت كل
المصابيح الغازية التي صبغ نورها الوجوه بلون شاحب ، والعيون ببريق زائف ، فبدت ناعسة. ولاح لي ، في نهاية هذا الجمع ، عجوز مقؤس الظهر يرتدي عباءة غريبة الشكل ، يتكيء على عصا، وعلى رأسه قبعة كبيرة. وفجأة غاب عن نظري. فعدوت في ذلك الاتجاه أشق طريقي بين جمهور المتفرجين المسمرة عيونهم فيما يجري في حلبة السيرك . تسللت بين الناس وكنا نتدافع ،وجلت المكان كله ، فلم أعثر على العجوز. غير أن رجلا قصير القامة، يرتدي لباس الرياضة، كنت قد توقفت بجانبه وأنا ألهث ، انهال علي مؤنبا:
– ماذا تفعل يا رجل ؟ أنشال أنت ؟
لم يكن أمامي إلا أن أتخلى عن فكرة البحث عن انسان يتعذر العثور عليه .
عدت الى المدينة منهكا، وفي صباح اليوم التالي غادرت بوردو الى الأبد.
ترجمة: زهير خوري (مترجم سوري مقيم في يوغوسلافيا سابقا)