وبعد أن أديت فروض ارتشاف مياه الوحل من عينه الضحلة واحتضنت ألوان الخزي المستلقية على رموشه المتورمة من الكذب علي منذ أكثر من عام.
ارتميت جثة كاذبة كاذبة على الكون وعلى الروح، ارتميت في مهز أمي القديم وهي تطوحه في الهواء بيديها الناعمتين ليعانق الهواء جيئة وذهابا وتفني بصوت الحياة تفني.. تغني:
– يا نين ناه… يا نين ناه.. يا نين ناه.
والأجفان تتحرك حتى أسدلت ستائرها لتقبل بشغف لحظات الحلم وكأني بأصداء أغاني أمي العذبة تحملني رويدا رويدا لأراه في اطار هلامي يعارك.. يعرك ويهدي انتصارات كثارا بلون الهزيمة.. يطلبني فاذا ما جئته نحيلة ظامئة تركني بلا طعام أو كساء.. رأيته يحطم مراياي لكنه لا يهوى تحطيمي.. رأيته يضرب أخاه الصغير لكنه قط لم يقبلني شتاء.. فقط يزرع الياسمين ليزهر في الصيف لأشعر بكوني أحببت الرجل الأعظم.. لا يبدو وسيما مهذبا حين يكون مستعجلا.. ربما لا يدري بعد ما الصلاة ولم يحفظ التراتيل.. وأنا لم أعجن من قبل.. بدا لي عجينة كما لو جلب من أجلي.. فقط أعجنه أنا..
فقط أعجن له هو.. لم ينتظر حتى أخبزه في الصباح فقد رحل قبل ثوان.. سمعت البارحة أصواتا كثارا تنبعث بلا عقل من فوهة رأسه الصغير.. لم يكن هو لأنه غادر قبل الضجيج أيضا بثوان.. صديقه لا يزوره ليلا.. ربما القطط عبثا تعلم الصغار الوفاء للصباح وأناشيد الوداع.. لم أهو فارسا.. لكنه عندما هرب كان يحمل سكينا مثلمة ربما ليجتث عروقه التي تحضن هواي.. ظانا بأنه فارس كريم.. لم يأكل من خبزي الأبيض.. ولم يسأل نفسه ما سأصنع بالعجين لو فسد؟؟ هل سيصلح ليكون خبزا طيبا للآخرين ؟
فقط هو من يملك تمرا حلوا حلوا أذاقني اياه في شتاء واحد ومن ذلك الشتاء لم تثمر نخلته القصيرة.
ولم يعد يجلب لي ولا حتى سعفا قليلا ليدفئني شتاء ربما لأن غاليتي استكثرت علي تمرات تلالا كان يسرقها لي بعد الخامسة والعشرين.. وصفير ته تخبي، في حصالتها المعطرة سنين عمره الباقيات متجاهلة بأنه ليس ثمة بنفسجة عذبة بلوني في هذا الوجود وما من اشراقة طفلة في عيون الرجال، متنامية لعنة الجوع والخوف التي ستظل تسكن الروح وتحرم الحشايا من روائح التمر وتحرم الصبايا من الشروع في العجن خوفا من المطر. متجاهلة صنيع جدارها الهزيل حين قرر ادفاءها لأن خطيئتي مع البنفسج حين أودعته سري جلبت لي اللعنة في هذا الوجود وخطيئتي حين شرعت في العجن دون اذن أمي جعله يعلم بأنني مازلت صغيرة صغيرة كما ألوان العهود.
رأيته بجانبي وأنا قابعة في زاوية مظلمة من بيتنا الكبير (الخبز أبيض والوجه أبيض) وأرتل اسمه صباح مساء.
رأيته وأنا عاكفة على خبزي وأحلم بتمراته القلال.. رأيته يوافيني بأوراق كثار يخبرني فيها بأني لم أزل في بلاد النخيل ويرحل.. ثم يعاود الخطيئة ويحرق المساجد ويقتل الصغار، ويهدد بفك ضفائري.. رأيته يلعق الأرصفة ويجمع الشوارع في جيبه المثقوب وفي الصيف يتزوج من كل نساء الأرض ليبدو في الشتاء أعزب ضئيلا فقلبه خواء وجوفه خواء. رأيته عائدا من حيث لم يكن لأن مشطته مع هذا العالم بأنه صغير وقلبه صغير لتعود أصوات كثار تنبعث بلا وعي من فوهة رأسه فأصرخ ليرحل، ويرحل وأرحل وأعود أعود بطعم الدموع ولون السبايا لأصرخ.. أصرخ.. أصرخ…..
– آه.. يأرب لماذا صورته المرقعة تسكن الدار منذ رحيله. يا الله، هزيل ضئيل هذا الفتى عن احتواء الدار فهذه دار يذكر فيها اسمك.. يأرب انه يسكرني يسرقني بوحشية فعذبه يا الله عذبه بلظى كاللظى الذي أرغمني على شربه يوم رحيله، وأبعده أبعده أبعده يا الله.
وأعود ويعود ليتمثل في صورة شيطانية رائعة كما أعوام الدفء الأولى. وأصرخ – آه.. يأرب انه فتى ملحد فلا ترزقني منه ذرية أحلام تنهش الروح وتجلب المزامير في البيت التائب منذ زمن كذا مهز أمي طاهر لا تدنسه الشياطين.
وأعود ويعود صورة أحلى كما النور يرضع الصفار الاشراق وأبكي.. أبكي أبكي وأرتل.. "قل أعوذ برب الفلق.. قل أعوذ برب الفلق".
– يا له من شيطان حبيب لم يقاوم (كعادة الشياطين) سورة الفلق، فأحمله يا الله أبعده،، ولكن يا اله الرحمة أرحمني وأرنيه حقيقة قبل رحيله – ولو للحظة.
عائشة الشيدي (قاصة من سلطنة عمان)