(سر الكتابة
انها حرة
تعصى اذا الححت
وتابى اذا اقسرت
وتناى اذا اشركت)
من- محيطات- عزلة الرمان-
"عزلة الرمان" جديد توهجات الشاعرة البحرينية حمدة خميس. المجموعة الشعرية تبدا بالسرائر وتنتهي بالافتنان.. بين طياتها يتنافس قلق اشكالي مشروع ، يعكس واقع تسعينات القرن العشرين الذى تسارعت فيه الاحداث، المفارقات، الفواجع، دون ان تعطى فرصة لالتقاط الانفاس.
(هذة الكابة
لا ينوء
بثقل وطاتها
بلد!!
زبد.. زبد!)
تقدم لنا حمدة خميس في "عزلة الرمان" رؤى غير تقريرية تنتهي بتساؤلات متشابكة، باحتمالات متعددة، تبدا بالصوت الواحد حتى تصلنا معها بالصوت الجمعي- نا- الذي يمثلنا جميعا متجاوزة- نون النسوة- كعادتها وراغبة في الحوار الديمقراطي الهادئ مع الاخر.. وان اختلفت وجهات النظر.
(ناتلف
قلت لي
ناتلف
قلت لكننا
في مسالكنا للهوى
نختلف!)
تبدا اغلب القصائد في تنغيمها المنخفض او المستوى- بالجمل الاثباتية- ثم يتصاعد هذا التنغيم رويدا رويدا ليتصاعد معه الايقاع، واحيانا تضع بعض الفقرات التنفسية في اوسط واغلب الاحيان تختم هذا التصعيد دون حسم تضميني مضيفة اليه (اشارات التعجب) تاركة المتلقي امام احتمالات قد لا يجد حلا لها ايضا، هكذا تحض المتلقي على التامل وتثري التوتر الدلالي للنص:
(لتبق السلاسل
مشنوقة
على الجدار
والميزان متارجحا
بين العدالة
والغياب!!)
استثني من المجموعة قصيدة (احبك كل هذا الحب) واخص نصفها الثاني فقد طغى التنغيم المنخفض والتكرار لبعض المقاطع- اجل امي.. نعم امي..احبك كل هذا الحب. ربما ارادت الشاعرة بتكرارها التاكيد على موقف لن تتراجع عنه. لكن التضمين الاثباتي والتكرار عادة ما يؤديان الى خفوت التوتر الدلالي ويخففان من تامل المتلقي.
لم تكتب حمدة خميس الحنين المحايد، بل بخصوصية شديدة كتبت تجليات- الانسان البحريني المنفي- كانها صقر يكابد ويعاند هذا- المنفى- الفعل المفروض عليها، والخيار الذي لا بديل عنه.
هذا التناقض بدا واضحا في النص الشعري. الوجع المسطور على الورق والمشطور في داخلها في ان معا. في قصيدة (اسئلة الكمد) تطرح تساؤلا مرا وجريئا:
(ما الذي يجعل الاوطان
على نكرانها
اغلى
ويجعل اهلنا فيها
على جفوتهم
احلى…..)
ثم تطرح تساؤلا صراعيا ذاتيا مؤلما، رغم خصوصيته يحمل بعدا انسانيا يزيد غنى التوتر في النص:
(لماذا كلما عدنا الى الاوطان
ينازع روحنا فيها
حنين جارف كالسيل
للهجرات؟)
في نهاية القصيدة تستكمل عمق الصراع الداخلي في ظل وحدة المحور الواحد لتصل بنا الى تعارض حتمي ينتصر فيه (الواقع المفروض) المؤسي والمحزن حتى غدونا نهلل لخسائرنا؟
(ونهتف من غربة تشتد
ومن غربة تمتد
ومن هول ما يثقل الارواح
اذ تصبو الى الاسمى
نهتف من فدائحنا
الله!
ما اجمل المنفى ؟!)
تميزت (اسئلة الكمد) عن باقي قصائد المجموعة من بدايتها الى نهايتا بتنغيم صاعد، وصدق عميق مؤثر، وصل الينا صوت الشاعرة قويا جسورا. نجحت في اخراج تعب الصراع الجواني الممتد في داخلها.
تجلى تناص المجموعة مع الطبيعة في الخليج العربي البحر باعماقه بشطوطه وسماواته، النباتات الصحراوية، النخيل، الطيور، الزهور.. وتماهي الشاعرة معها في كثير من الاحيان، مما اضفى على تضمين النصوص بعدا رومانسيا رقيقا سار بتواز مع ادواتها الفنية المستخدمة فهي تتحدث الى زهرات الفل في ساعات الوحشة.. والواحدة.. بعدها تبلغنا في
(ياس الندى):
(هذي انا
وليس يبلغ
منتهاي
سوى ما شادت الروح
من ياس شفيف
كالندى
واستانسته!)
الا ان القصائد رغم شفافيتها ورومانسيتها مليئة بروح الرفض، بالتساؤلات الحارقة، بالهم الخاص المرتبط بالهم العام.. بهذا التيه الزمكاني والروحاني للمبدع العربي الحر:
(وانت
الى اي ارض تؤوبين
اذا لاح ظل الهجير
على تيهك المر:
وضاقت عليك الحدود
وضاق
بخفق الجناح الفضاء ؟!)
استطاعت حمدة خميس كمبدعة ان تعكس همومنا.. مواجعنا بوعي جمالي اخاذ، استخدمت لغة بسيطة غير مراوغة تقترب من تكوين اللغة العادية لكنها تقبل الاحتمالات وتبتعد عن الالتباس المترف. حتى الترادف نادر، ورد بوضوح في قصيدة (ميلودي الى ملوكي) المكتوبة في امريكا.
(وهواء مدينتهم
الطف من خطو صبايانا
اذ يثقل كاهلها الغض
ما تحمل من طلسمنا الفظ:
حاء
راء
الف
ميم
ثمة حرف اخر في روح الطلسم
حينا يصبح ياسا
وحينا تاء للتحريم!)
بدات هذه القصيدة من خلال دراما وصفية للمدينة الامريكية وهالتها الحضارية، طرحت حمدة خميس من خلالها ومن موقع الندية مفهوما انسانيا عميقا نابعا عن وعي اجتماعي وسياسي لمفهوم الاستغلال ولفكرة الخوف: الخوف هنا سيد هذي المدن الحرة!
(حيث يرابط في الطرقات
وفي الشرفات
وعند رتاج الابواب
خوف القتل
وخوف النهب
وخوفالفض.)
ثم تستكمل فكرتها رابطة ببراعة بين خوفنا وخوفهم، مدننا ومدنهم لتؤكد وان تعددت المخاوف فالمسبب واحد:
(الخوف تصنعه المدن الشاهرة الانياب
وتصدره
عبر البحر وعبر الجو
وعبر البر
الى مدن اتراعها الخوف
فقفت ترقب لقمتها
مثل صغار الهرة!)
لتصل الى نتيجة ان تلك الحرية صنف من اصناف التطويع
(ليس لك في مدن الحرية
الا وهما يتهاوى
وصدى يرتد اليك:
ا..ا..ا..ا..ه)
احيانا يشوب الجملة الشعرية اصطبار الياس المؤقت، العزلة الاسى، لكن التمرد بائن في حروف السواد، دون عنف ظاهر كانه نزف داخلي كانه صرخات في عتم الليل.
(… واكور الصصال والنعناع
بين الليل والغبش الشفيف
وارى استدارات
النهار!)
هكذا بروح الامل من جديد.. عن طريق الفن والابداع تستعاد.. ترى العالم.. الواقع.. الحياة.. مفعمة بحرارة الرفض لكل ما هو موحش ومحزن.
(فتبتل وحشتنا بالندى
كان لم يمر
علينا القتام.)
فنراها لا تكتفي بالندى رغم الام الواقع ورغم الصعوبات، فهي تمتلك وعي الضرورة:
(ها حبة حب
تشهق في تربتها،)
من "عزلة الرومان" من حبر الروح! تملك قوتها:
(في مجرى التيه هي
في البحر المائج
في الوقت الصعب
في السعفات
وفي….
حضرتها!)
نضال حمارنة (كاتبة من فلسطين)