في عددها الصادر شتاء عام 2000, نشرت مجلة الدراسات الفلسطينية الفصلية التي تصدر بالفرنسية في باريس حوارا مطولا مع عالم الاجتماع والاناسة المعروف بياربورديو الذي رحل منذ بضعة أشهر. يتضمن هذا الحوار, الذي قام به الياس صنبر وفاروق مردم بك وكاترين ليفي, ما يشبه جردة الحساب بجوانب عدة وبارزة من تجربة بورديو ومساره ونظرته الى العديد من القضايا السياسية والفكرية التي كانت تشغله, أهمية هذا الحوار تكتسب دلالة إضافية لأن بورديو يتحدث فيه, قبل عامين على وفاته, عن تجربته في الجزائر وعلاقته بالموضوع الجزائري, كما يتحدث عن نظرته الى القضية الفلسطينية والصراع العربي- الاسرائيلي. وغني عن القول ربما أن بورديو يعرب في هذا الحوار, بلغته المعقدة واستطراداته الطويلة, عن اعتقاده بضرورة التحرك من أجل بناء أممية جديدة لمقاومة العولمة المستندة الى النموذج النيوليبرالي. ويرفد اعتقاده هذا بشواهد وأمثلة مأخوذة من مشاركاته في النضال الاجتماعي في فرنسا. فيما يلي ترجمة للحوار, ونعتذر من القارئ العربي في حال ما لاقى بعض الصعوبات في القراءة بسبب أسلوب بورديو الذي ارتأينا أن نحافظ عليه قدر المستطاع.
من نافلة القول إن ثلاثيتك, المؤلفة من »الورثة«, »فن متوسط«, و»حب الفن« والمتبوعة بكتاب »إعادة الانتاج«, وذلك غداة أيار 1968, وسميت بقوة سوسيولوجيا الثقافة. حين ترجع اليوم إلى هذه الكتب, كيف ترى مسارك والنتائج التي توصلت اليها, قياسا بتطور المدرسة والمؤسسات الثقافية, مع الأخذ بعين الاعتبار كذلك, المناظرات الراهنة حول تطورك أنت بالذات? هل ستقول دائما بأن ناقدي أعمالك اليساريين, والماركسيين منهم تحديدا, يصدرون عن فكر »لا طائل منه«, عاجز بسبب نزعته الاقتصادية عن الاحاطة بعلاقات السيطرة?
– نعم, الأزمنة تغيرت, كما يقال في عالم المثقفين خصوصا, ولكي نقيس مقدار هذا التغيير يكفي أن نفكر في كل الزعماء »الثوريين« القدامى لحركة 1968 الذين يسكنون الآن أروقة السلطة أو الذين يبشرون في وسائل الاعلام بالانجيل الجديد للنيوليبرالية أما الوقائع والآليات التي كنا نصفها آنذاك, فانها لم تتغير قط. المكتسبات النظرية والتجريبية حول المساهمة التي تقدمها المؤسسة المدرسية لاعادة انتاج بنية الفضاء الاجتماعي (الصياغة ليست أنيقة, لكنها دقيقة) لا تزال تجد ما يؤكدها في الواقع, والأمر كذلك في فرنسا وفي جملة المجتمعات المعاصرة, في الولايات المتحدة أو في اليابان, في مالي أو في تشيلي. ينبغي على كل باحث جدير بهذه الصفة ان ينطلق من هذه المكتسبات كي يتقدم في عمله, وينبغي على كل سياسي مهموم بالفعالية أن يأخذ في حسابه وجود الآليات الجاري تفعيلها, خصوصا عندما يزعم التحرك والعمل في اتجاه »الدمقرطة«.
– ليس المقصود بهذا القول بأنه لم يتغير شيء في طريقة اشتغال المؤسسات المدرسية والجامعية منذ مطلع السبعينيات, وأنا لم أتوان عن معاينة ورصد هذه التبدلات لكي أحاول فهمها وشرحها. ويستلزم الأمر أن نتحدث عن كل سلسلة المقالات والكتب التي نشرتها أو التي نشرت في مجلة »أعمال البحث في العلوم الاجتماعية« والتي كانت تهدف الى ضبط, والى تنقية أو تنظيم تحليلات لا يمكن اختزالها في »أطروحة« (»أطروحة اعادة الانتاج« العتيدة التي يجري في معظم الأحيان تقديمها بطريقة كاريكاتورية). أفكر مثلا بكتاب »نبالة الدولة« الذي يضع جردة حساب لعشرين سنة من الأبحاث والذي توافق نشره عام 1989 مع قيام كوادر الاشتراكيين المتخرجين في المعهد الوطني للادارة بالاحتفاء المظفر بذكرى ثورة عام 1789 م, فهذا الكتاب يصف بالتفصيل كيف يحصل انتاج واعادة انتاج النبالة (فئة النبلاء) المعاصرة, المتمتعة بكافة الخصائص الاجتماعية للنبالة في النظام القديم, ومعها, زيادة على ذلك, الاعتقاد الراسخ يقينا بأنها لا تدين باصطفائها إلا لجدارتها وذكائها. لدينا مثال آخر, وهو الوصف الذي يقدمه كتاب »بؤس العالم« للأشكال المختلفة التي اتخذتها مع مرور الزمن العلاقة بين الأولاد المتحدرين من الطبقات الشعبية وبين النظام المدرسي: فبعد أن كانوا خلال زمن طويل جدا (حتى سنوات الستينيات تقريبا) عرضة للاستبعاد من المدرسة في عمر مبكر (ما بين 12 و14 سنة), صار هؤلاء الأولاد يصلون بكثافة وبأعداد كبيرة الى المرحلة الثانوية مكتشفين أثناءها صفة أو وضعية المراهق التي كانت حتى ذلك الوقت حكرا على أبناء العائلات البورجوازية; إلا أنهم سرعان ما يجدون أنفسهم, خصوصا عندما يكونون متحدرين من عائلات مهاجرة, منذ زمن قريب, في وضعية المحكوم عليهم أن يصبحوا منبوذي الداخل, أي أنهم حاضرون وغائبون في آن معا داخل مؤسسة مدرسية تفتقد الى العدة المناسبة لاستقبالهم. كل هذه التحليلات, المحفوفة بالمصاعب في أغلب الأحيان, وذلك لأنها كانت بالضبط تستند الى معطيات وطرائق احصائية معقدة, كان لها بالطبع تبعات سياسية أحدثت صدمة بالقدر ذاته, إن لم يكن أكثر, لدى أهل اليسار (الذين كانوا يتشبثون بأسطورة »المدرسة المحررة«) ولدى أهل اليمين.
فيما يتعلق بالقسم الثاني من السؤال, فمن المؤكد أن الأمر الذي أثار أكثر من غيره مقاومات وسدودا, من هذه الناحية بالذات, وكما يوحي سؤالكم, انما هو الجهد الذي بذلته من أجل انتاج نظرية مادية للسلع (أو الأشكال) الرمزية, قاطعا بذلك الصلة مع النزعة الاقتصادية, المسيطرة حتى أيامنا هذه في التراث »التقدمي« والتي تحول دون القيام بتحليل قوي (وبالتالي دون المكافحة الفع الة) لمفاعيل السيطرة الرمزية, وتحول في صورة أوسع دون فهم البعد الرمزي بامتياز وبالذات للعلاقات الاجتماعية (أفكر هنا, على سبيل المثال, بالنزعات القومية, في بعديها اللغوي أو الديني): وحدها دراسة الاقتصاد الحقيقي للبضائع الرمزية, أي معرفة الأكلاف والأرباح الفعلية, وإن تكن غير مادية, والتي تتصل بفقدان أو استرداد الشخص للغته, لديانته أو بكل بساطة لهويته واسمه (وللحق في أن يقول إنه ايرلندي, أو كاتلاني, أو فلسطيني) أقول وحدها تسمح بفهم أن الحروب الدائرة على الديانة, في الماضي أو في الحاضر, أو أشكال النضال من اجل التحرير الوطني, ليست مجرد انفجارات صادرة عن الهوى أو عن الاعتقاد التقليدي كما يرى الناس في معظم الاحيان. فهي (الحروب والنضالات) تمتلك شكلا من العقلانية, على أنه يختلف عن ذلك المتعلق بالاقتصاد أو بالسياسة في المعنى العادي للكلمة.
من الواضح أنني, من خلال اقتراحي لمثل هذا الاقتصاد المادي للوقائع غير المادية, كنت أنذر نفسي للتحول الى هدف لانتقادات الماديين الذين كانوا يجدونني مثاليا, خصوصا في مجال الاقتصاد, ولانتقادات الروحانيين الذين كانوا يجدونني مغرقا في المادية, خصوصا في مجال الفن والأدب.
* لقد واصلت هذه المعالجة النقدية بعمق في كتاب »التمايز«, إذ تفصح فيه عن كونك ربما أكثر كلاما واطنابا فيما يخص مفهومك عن الطبقات الاجتماعية, ثم في كتاب ؛الانسان الأكاديمي«, وهو عبارة عن تحليل يتناول المؤسسة الجامعية, وأخيرا في كتاب »نبادلة الدولة« الذي يكشف من بين أشياء أخرى, انطلاقا من حالة المعاهد العليا, عما تخفيه كلمة »الكفاءة«. على أن النهج الذي سلكته كان في بعض الأحيان مدعاة استنكار باعتباره عملية تنظير للنزعة القدرية الحتمية, وباعتباره بالتالي, بمثابة دعوة الى الجمود وعدم التحرك. هل اصلاح التربية الوطنية يشكل, في نظرك مهمة مستحيلة, وهذا ما يدحضه اسهامك في نهاية الثمانينيات, في مشاريع الحكومة الاشتراكية?
– أنا لم أساهم أبدا, كما تقولون, في مشاريع الحكومة الاشتراكية في مجال التربية, لقد قمت فقط في عام 1986 بتنشيط وشحذ أفكار أساتذة »الكوليج دو فرانس« لدى دعوتهم من قبل رئيس الجمهورية الى تقديم رؤيتهم لمستقبل نظام التعليم. المبدأ الأولي للمشروع كله كان يتطلب عدم اقتراح أي شيء غير قابل للتحقق ضمن حدود نظام التعليم. الأمر الذي كان يعني, عمليا, استبعاد أي عمل يهدف الى »دقرطة« المسالك المؤدية الى النظام المدرسي الذي لم يكن في وضعية جيدة تسمح له باحتلال هذه الوظيفة, وهذا الامر ينبغي أن يؤخذ في الحسبان. يمكننا القول, على وجه العموم, بأن كل ما يسعنا توقعه من هذا النظام, هو ألا يقوم في احسن الأحوال, بمضاعفة مفاعيل الآليات الاجتماعية التي تميل الى ضمان تناقل الرأسمال الثقافي, والتي تساهم, بهذه الطريقة, أكثر فأكثر في اعادة انتاج اللامساواة.
أقول هذا, مع التذكير بأنني كنت دائما وما أزال مقتنعا بأنه يمكن بل ينبغي اصلاح المؤسسة المدرسية والجامعية. على انني حسبت دائما كذلك بانه نظرا لغياب معرفة حقيقية بهذه المؤسسة وبأولئك الذين يقومون بتشغيلها, فان الحاكمين ظلوا كلهم وعلى الدوام يقللون من شأن قوى الجمود, وهي قوى هائلة, يقللون في الوقت ذاته من شأن عوامل التغيير, التي هي أيضا شديدة الأهمية, الأمر الذي يفضي على هذا النحو الى تعزيز القوى المحافظة, المنتفشة بتدابير متعثرة وفي معظم الاحيان صلفة, والى تثبيط همة القوى الحية, التي ينبغي التعرف عليها واحترامها لمعرفة كيفية تحريكها (المؤسسة المدرسية, مثلها مثل المؤسسة الاستشفائية ومثل الكثير من المرافق العمومية, تعج كلها بأناس مستعدين لتقديم إخلاصهم وحماستهم, الأمر الذي من شأن مفاعليه أن تحد, في يومنا هذا أيضا من مفاعيل التدابير الهادفة إلى إدخال منطق حساب الأكلاف والأرباح, وبالتالي الى احداث التأثير القوي, والمدمر في معظم الأحيان, لشواغل المردودية والفعالية, وهي شواغل قابلة للتحديد بهذا القدر أو ذاك, إلا أنها في معظم الأحيان في غير محلها). ان السياسة التي تهدف الى احداث تحول جذري في المنظومة لا يمكنها أن تنجح إلا إذا كان تخليها عن فكرة الاصلاح نفسها كما تفهم عادة, أي باعتبارها مجموعة من التدابير الشاملة والتي يحبذ أن تكون استعراضية (وذلك لاحداث انطباع قوي لدى وسائل الاعلام, والجمهور العريض, الأمر الذي يؤدي في معظم الأحيان الى التضليل الديمانموجي), أقول لا تنجح الا اذا راحت تعمل بطريقة تدريجية جدا أي بطريقة خفرة بالتالي, على أن تضع في الأمكنة الاستراتيجية, للمنظومة, عاملين وآليات مؤسسية من شأنها توليد التغيرات الايجابية, وأن تتخذ, بموازاة ذلك تدابير خفرة, أيضا وغير مرئية بحيث تكون قادرة على اضعاف الآليات والمؤسسات المسؤولة عن اختلال عمل المنظومة.
ينبغي لمثل هذا العمل بأن يجمع بين الرؤيا المنهجية الشاملة التي تقدر وحدها على اعطاء معنى للتدخلات المحلية والموضعية, وبين الاهتمام بالتفاصيل, أي بأصغر أمور الحياة اليومية للمؤسسات, والتي لا تهم المصلحين الجهلة, المستعجلين والمغرورين.
لقد حاولنا, في اطار »جمعية التفكير في أحوال التعليم العالي والبحث«, وهي جمعية أسستها مع بعض الزملاء من علماء الاجتماع, من مؤرخي التربية, ومن الاقتصاديين, المحيطين جيدا بمختلف ملامح نظام التعليم, حاولنا أن نقترح ؛بعض التشخيصات والعلاجات العاجلة لجامعة في حال الخطر« (هذا هو عنوان الكتاب الجماعي الذي نشرناه ضمن سلسلة »أسباب للتحرك«), وهي محاولة لتقديم التوجيهات الكبيرة لعمل ناجع ومتواضع في مجال التربية, إن لم يكن برنامجا منهجيا للعمل. وها هو مثال على الآلية التي من شأنها أن تحدث تجديدات إيجابية: انه برلمان الجامعات, الذي اقترحنا انشاءه, والذي يسمح للأساتذة, وللطلبة وللموظفين الاداريين بأن يخوضوا علانية في مناظرة حول غايات ووسائل التعليم. وغني عن القول أننا اقترحنا على وزير التربية الوطنية أن نناقش معه هذه المقترحات الصادرة عن مناظرة ديمقراطية بين جامعيين أكفاء من مشارب ومواقع متنوعة جدا . غير أنه فضل تفويض المسألة الى لجان من خبراء قام هو بتعيينهم (نظرا لانصياعهم المفترض أو لحضورهم الاعلامي أكثر مما هو بالنظر الى كفاءتهم, التي لا يسعه بالمناسبة الحكم عليها) وطلب منهم قبل أي شيء ان يمنحوا ظاهريا صفة شرعية لقراراته الانفرادية (أوتوقراطية).
** كتابك الأول, إن لم يكن أحد كتبك الأولى, يدور حول »سوسيولوجيا الجزائر«. ولم تتوقف منذ ذلك الوقت عن الرجوع الى »أرض حقلك« الجزائرية, وصولا إلى كتابك »السيطرة الذكرية« الذي تتناول فيه تقاليد منطقة القبائل باعتبارها »تحقيقا نموذجيا للتقاليد المتوسطية«. كيف غذت الجزائر عملك كعالم اجتماع, حتى هنا في فرنسا? وما هي الصلات التي عقدتها وواظبت عليها مذ ذاك مع الدراسات العربية والاسلامية عموما?
– الجزائر كانت بالنسبة الي بمثابة أول غرام علمي, وشخصي كذلك. اللقاء مع المجتمعات العربية- البربرية ترك لدي آثارا عميقة, وذكريات لا تمحى; فهناك تعلمت مهنتي, في الشروط الصعبة (والمحفوفة بالمخاطر) لحرب التحرير; ولاشك كذلك في أنني هناك تعلمت الحياة, كما يقال أحيانا, لدى الاحتكاك برجال ونساء بسطاء يثيرون الاعجاب ومن كل الشروط. عملي الأول كعالم اجتماع, المنشور في عنوان »سوسيولوجيا الجزائر«, كان يهدف إلى تعريف الفرنسيين, خصوصا المثقفين, على مجتمعات كانوا يجهلونها بالكامل تقريبا, حتى وان كانوا يحتضنون بسخاء قضاياها, وكانت بحوثي الأولى ذات الطابع الاناسي تحديدا تحمل أهدافا علمية وسياسية لا تنفصل عن بعضها البعض: كان الأمر يتعلق بفك طلاسم »ثقافة« ساحرة وملغزة (الطقوس الزراعية, تقاليد المصاهرة, اقتصاد الشرف), ويتعلق من خلال ذلك بإعادة الاعتبار الى حملة هذه الثقافة المعرضين للتجريح العنصري. في تلك الفترة بالذات التقيت كذلك بالاسلام الذي كان ينسب إليه كل »المتخصصين« تقريبا, لا سيما علماء الاقتصاد (كان هناك كما يحصل دائما بضعة استثناءات مهمة) دور شيطاني بامتياز, جاعلين منه عامل التفسير الوحيد لكل معالم التأخر ولكل النزعات الماضوية البالية. رحت إذن أواجه الموروث الاستشراقي بالأسلحة التي كانت في حوزتي آنذاك, وقد فرحت عندما تعرفت, في فترة لاحقة ومتأخرة جدا, من خلال عمل ادوارد سعيد, على ما كنت أكابد في نزاعاتي ضد عدد لا بأس به من زملائي في كلية الجزائر, وهم محافظون جدا في أغلب الأحيان, كيلا أقول اكثر من هذا (لقد علمت بهذه المناسبة, من بين أشياء أخرى, أن التنافسات الفكرية يمكنها عندما تتوافر الامكانية أن تحاول فض الخلافات بالوسائل العنيفة جدا, وعلى هذا النحو اضطررت الى الاختباء, حوالي 13 أيار عام 1958, لأن اسمي سجل, بمبادرة من بعض زملائي بدون شك, على »اللائحة الحمراء« للأشخاص الذين يجب »التخلص منهم«).
أعتقد بأن هناك عددا من المشكلات التي انقدت الى طرحها, كمشكلة منطق الممارسة, بل حتى المفاهيم التي توجب علي صنعها لحل المشكلات, مثل فكرة »الاعتياد«, تولدت من الجهد الذي بذلته لفهم رجال ونساء وجدوا أنفسهم مرميين داخل كون اقتصادي غريب وأجنبي, جلبه الاستيطان, ولديهم عدة ذهنية وجاهزية, لاسيما اقتصادية, مكتسبة في عالم ما قبل رأسمالي.
** في كتابك حول هايدغر, ومن ثم في كتابك »تأملات باسكالية« نراك تجدد الصلة بطريقة واضحة مع الفلسفة, ولكنك تفعل ذلك من أجل القيام »بنقد للعقل المدرسي« كيف تحلل من هذه الزاوية الحقل الفلسفي الفرنسي, منذ سارتر حتى أيامنا هذه?
– لن أجازف بالطبع بأن أقدم تلخيصا فحسب لوصف الحقل الفلسفي الفرنسي وتطوره, منذ سارتر وحتى أيامنا هذه. كل ما أستطيع قوله هو أنني لم أفهم إلا مؤخرا مبدأ القلق الذي كنت اشعر به دائما أمام (أو داخل) هذا الحقل, وهو المبدأ الذي أفصحت عنه في كتابي »تأملات باسكالية«: أعني بذلك ما أطلقت عليه اسم »وجهة النظر المدرسية«, وهي وجهة نظر المتفرج الذي نظرا لجهله بحاله هذه, يروح بطريقة لا واعية يبسط نفسه عالميا, فارضا نفسه محل ومكان وجهة نظر الفاعلين المنخرطين في الممارسة العملية. ولأنني بدون شك لجأت الى »موضعة« وجهة النظر هذه كي أكون على مستوى فهم الممارسات (الطقوسية تحديدا) التي حاولت ان أموضعها وأن آخذ (فكريا) وجهة النظر العملية للفاعلين المنخرطين في العمل, فقد استطعت إنشاء هذه النظرية حول الوضعية النظرية التي تفصلنا عن منطق الممارسة, وعن ممارستنا بالذات, مستعيدا بهذه الطريقة وفوق ذلك تجربتي الأصلية بالذات مع العالم الاجتماعي, وهي التجربة التي أبقتني دائما في منأى عن الانغماس السعيد داخل الوهم المدرسي.
** القليل من مجلات العلوم الاجتماعية حظي بالانتشار وبالتأثير اللذين عرفتهما مجلة »أعمال البحث في العلوم الاجتماعية« أي المجلة التي أسستها أنت عام 1975. بعد خمس وعشرين سنة تقريبا, ما هو تقييمك لتجربة النشر هذه, وماذا بدلت, على نحو خاص, في مهنة عالم الاجتماع?
– أشعر بالسرور لأنكم تتحدثون عن مجلة »أعمال البحث في العلوم الاجتماعية«, وذلك لأنني أعتقد بأنها, من بين كل مشاريعي (ومعها ربما مجموعة »الحس المشترك« التي أشرفت عليها خلال سنوات كثيرة, في دار نشر »مينوي« والتي أواصلها اليوم لدى دار نشر »سوي« في عنوان »ليبر« هي التي تعطي الفكرة الأكثر صوابية عن المجموعة العلمية المتضافرة التي سعيت الى تفعيلها. أولئك الذين لا يعرفون عين سوى الكتب او حتى, كما هي حال معظم الصحفيين, الكتاب الأكثر نحافة والأكثر ظاهرية من بينها, وهو »حول التلفزيون« الذي يخلطون غالبا بينه وبين كتاب سيرج حليمي »كلاب الحراسة الجدد«, الصادر ضمن السلسلة ذاتها), كل هؤلاء لا يستطيعون تكوين فكرة صحيحة عن المشروع الجماعي, وعن المساهمة الجماعية, التي جلبها رهط بكامله من الباحثين الشيوخ والشب ان خصوصا, المعروفين وغير المعروفين (على الأقل لدى نشر أول كتاب لهم), فرنسيين وأجانب, وقدموها من أجل تصور وتفعيل تعريف جديد لعلم الاجتماع, وهو تعريف راح يفرض نفسه شيئا فشيئا على جملة الحقل العلمي (خصومنا يقولون غالبا بأن هذا التعريف بات »مسيطرا«, بدون التذكير مرورا بأن مبدأ هذه »السيطرة« لا يعود الى السلطة الأكاديمية, التي تكاد تكون معدومة, وهذا ما آسف عليه, خلافا لاعتقاد يجري الترويج له, ولا يعود إلى السلطة الاقتصادية). ومع أن المجلة تحفل بعبارات الشكر والامتنان لمؤسسات جامعية مرموقة, كالكوليج دو فرانس, ومعهد الدراسات العليا, وبيت علوم الانسان, والمركز الوطني للبحث العلمي, فإنها عاشت حصرا, وحتى وقت قريب جدا, من مداخيل مأخوذة من المبيعات (حتى من أجل شراء تجهيزات مثل جهاز طباعة البطاقات خلال فترة أو الكمبيوترات اليوم) ومن تفاني عدد صغير من الأشخاص التابعين إداريا للمؤسسات التي ذكرتها, لا سيما بيت علوم الانسان الذي لم يبخل, منذ أيام فرنان بروديل وكليمانس هيلير, بتقديم الدعم المعنوي. وقد أدخلت المجلة الكثير من التجديدات (جرى غالبا نسخها الى حد بعيد منذ ذلك الوقت) في مجال بلاغة الخطاب العلمي في العلوم الاجتماعية: النسخ الطباعي لوثائق, تأطير عبارات, »مقاطع« مبرزة على سبيل الاشهار, صور فوتوغرافية, إلخ. على أن الأمر الأكثر أهمية هو أنها فرضت كتحصيل حاصل اختيار مواضيع علمية يتجاهل منهجيا التراتب الاجتماعي للمواضيع (لاسيما التمييز بين مواضيع شريفة وأخرى وضيعة), وفرضت خصوصا طريقة في التناول تقوم على رفض القطيعة بين النظري والتجريبي (أو كما يقول الانكلورساكسون في أولئك الذين يتلقفون رؤيتهم, بين النظرية والمنهجية). أو أنها, في صورة أكثر دقة, جعلت مبدأ الاصطفاء الواضح هو البحث في أعمال تطرح مشكلات نظرية مهمة بصدد مواضيع تجريبية ذات سمات بارزة تحديدا, وهي أحيانا تافهة من الناحية الاجتماعية أو السياسية (كالورق الذي كان يطرح السؤال المعهود, خصوصا في فترة انتصار المعتقد الماركسي, حول »الفيتيشية« (الضمية), وكان يستند الى تحليل يتعلق بسوق خياطة وتصميم الأزياء الباذخة), وباستثناء بضعة توضيحات تربوية حول بضع أدوات شائعة الاستعمال ضمن المجموعة, كما هي حال فكرة الرأسمال الثقافي او الرأسمال الاجتماعي, فإن المجلة لم تتهاون وتخضع قط أمام المحاباة الأكاديمية للخطاب النظري في ذاته ولذاته (وهذا من دون شك هو أحد أسباب نجاح مبيعاتها). باختصار, وكما كان يقول (المؤرخ الفرنسي) فرنسوا فوريه أيام كان يفصح حيال مشروع المجلة عن تسامح أكبر مما فعل في السنوات الأخيرة, فان مجلة »أعمال البحث.. « هي ثمرة »محترف« يحصل فيه عمليا اكتساب ترسيمات للادراك والاستساغة, واكتساب أدوات بناء للموضوع, ومهارات تقنية وطرائق تحليل (نحن نحضر الآن عددا خاصا سوف نكرسه لترسانة الطرائق التي قمنا بصياغتها أو بتطويرها الى حد الاتقان, بدءا بتقنيات التحليل الاحصائي للمعطيات كتحليل التراسلات المتعددة أو تحليل النكوص, وصولا إلى تقنيات للوصف والتحليل السوسيوغرافيين, المبرزين في المجلة على يد باحثين مثل ايفيت دلسو, عبدالملك صياد, أو ميشال بيالو, أو أيضا بالطرائق الجديدة لاجراء وتقديم مقابلات يقصد منها أو يؤمل منها, مرة أخرى أيضا, كسر التقسيمات, التراتبية دائما, بين تقنيات يقال عنها بأنها كمية, وتوضع في خانة العمل الجدي, الساخن, الذكرى, وبين تقنيات يقال عنها بأنها نوعية, أو وضعية). على هذا النحو قيد لمجلة »أعمال البحث« أن تلعب دورا رئيسيا كوسيلة لتعليم البحث. ثمة مقالات يسعنا اعتبارها ممتازة, من زوايا أخرى (كنظرية الدولة عند هيجل ودوركهايم على سبيل المثال), لكنها مستبعدة بمقتضى اتجاه المجلة, وذلك ليس باسم ارثوذكسية نظرية ما, كما يظن البعض في أغلب الأحيان, أو بسبب عقلية كنسية ضيقة أو عقلية الفرقة المعزولة, بل لأن هذه المقالات لا تغني حقا, على ما يبدو, ؛علبة الأدوات« التجريبية- النظرية التي نريد اعطاءها للقارئ (والتي نضعها كذلك من أجلنا نحن, بعقلية تتوخى الاعداد المستديم والمتصل).
** لقد شاركت بقوة في حركة الاضرابات الفرنسية ما بين تشرين الثاني (نوفمبر) وكانون الأول (ديسمبر) من عام 1995. رأيناك تترأس اجتماعا نضاليا مع مستخدمي السكك الحديدية الذين كانوا في طليعة حركة الاضراب, ورأيناك تمهد عام 1996 لاجتماع يضم سائر مكونات الحركة الاجتماعية (نقابات, جمعيات نضال, باحثون وأساتذة), كما رأيناك تلقي خطابا في الشارع في غمرة التحرك الذي قام به العاطلون عن العمل في شتاء 1997. لدى قراءة كتبك يظهر أن التفكير العلمي في الواقع الاجتماعي, من كتاب, »الورثة« الى كتابك »بؤس العالم«, هو الذي قادك الى الخوض في وقت واحد في الخطاب العلمي والخطاب السياسي. هل يمكنك تحليل هذا المسار المزدوج?
– بقيت دائما أتصو ر عملي باعتباره عملا لا ينفصل فيه العلمي عن السياسي. وهذا الأمر صحيح منذ سنوات اقامتي في الجزائر إذ أن الكتب التي نشرتها مثل »العمل والعمال في الجزائر« أو كتاب »الاقتلاع« كانت ترمي إلى تقديم شهادات علمية حول أوضاع سياسية ساخنة (وهي طريقة تشبه بعض الشيء طريقة عالمة الاجتماع المتحدرة من أصل هندي والتي قامت مؤخرا بدراسة حول أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان), أو في صورة أكثر دقة, الى تقديم أجوبة علمية على مسائل تطرح تقليديا على أرضية السياسة, كما هي حال مسألة الشروط الاقتصادية والاجتماعية لبزوغ الوعي الثوري (وهي مسألة طرحت آنذاك من خلال امتداح الثورة الفلاحية على الطريقة الصينية), أو أيضا, في صورة مشابهة بعض الشيء, مثل مسألة الاختلاف بين البروليتاريا والبروليتاريا الرثة. وهذا الأمر كان صحيحا كذلك فيما يخص البحوث التي قمنا بها, عشية حركة عام 1968, حول التربية, وهي بحوث لم يمنعها اعتراضها على الرؤيا الهادفة الى تصوير »الطلبة« كما لو أنهم »طبقة« والتي كان بعض الطلاب يريدون فرضها, لم يمنعها ذلك من تقديم الأسس لرؤيا نقدية حيال نظام التعليم والتي استلهمها عدد من التيارات في الحركة الطلابية. كان لدي دائما هاجس الانشغال, ذو النزعة العلموية شيئا ما بدون شك (إذ أنني كنت أعمل داخل حقل تعتبر فيه الصفة العلمية رهانا مهما, وتعتبر كذلك, على الأقل في مقياس معين, شرطا للفعالية السياسية), هاجس أن أوفر لنفسي وأن أوفر للآخرين كل الضمانات العلمية الممكنة. على هذا النحو قمنا في عام 1968, كما هي الحال اليوم مع جمعية »أسباب للتحرك«, وبذلنا جهدنا للتدخل في المعارك السياسية الناشبة آنذاك, ولكن بأسلحة علمية- وقد عثرت مؤخرا على أنواع من البيانات المنسوخة طباعيا التي أصدرناها آنذاك حول مواضيع مناقشة في تلك الفترة, مثل النظام الجامعي الأمريكي, أو حول اصلاحات ممكنة, مثل الاشراف المتصل, الذي صدر عن هذا الاقتراح »الاصلاحي« في صورة نموذجية. يمكنني أن أواصل على النحو هذا تعداد الأنشطة التي من شأنها أن تبرهن على أن الاهتمام بالسياسة, او حتى التدخل السياسي, لم يتولد لدي على حين غرة, وفي وقت متأخر, مقاصد كتاب »بؤس العالم« يمكن توصيفها بذات العبارات التي كنت أستخدمها للحديث عن بحوثي في الجزائر.
لقد خضت في معظم الأحيان في مواضيع ساخنة سياسيا, على أنني كنت أبذل جهدي لمقاربتها ومعالجتها بالطريقة الأكثر برودة, الأكثر علمية ممكنة. لقد أنجزت مثلا تحقيقا حول الاستهلاك, وفقا للاجراءات الأكثر ثقلا والأكثر صرامة للمنهجية المعتمدة لدى المؤسسة الوطنية للاحصاء, وذلك في مراكز تجمع الجزائريين: كان في هذا العمل شيء من الجنون بسبب طرح السؤال عديد المرات على الأشخاص ذاتهم حول مشترياتهم خلال اليوم الفائت وهم أشخاص معدومون تقريبا من كل شيء, ويحصل الاستجواب عبر استعراض كل العناوين والتبويبات المتوقعة, من الخبز, الى عيدان الثقاب, إلى الشموع.
بقيت أعلم دائما, بدون القدرة على الافصاح عن ذلك, مخافة استبعادي مجانا من »الطائفة العلمية« الدولية, المنقادة آنذاك لايديولوجية »الحياد في المسلمات النظرية«, كنت أعلم بأن علم الاجتماع هو علم سياسي من أوله إلى آخره. ولا يعين هذا, بأن علم الاجتماع يستلهم الفرضيات السياسية أو بأنه يتخلى عن كل تطلب علمي من أجل اعلاء شأن القضايا السياسية, بل على العكس من ذلك. كانت لدي ومازالت القناعة بأن المساهمة الأكثر قيمة والتي يمكن للباحث أن يقدمها للنضال السياسي, إنما تقوم على العمل, بكل الأسلحة التي يوفرها العلم في اللحظة المعتبرة, على انتاج وتفعيل الحقيقة.
ما تبدل, من دون شك, وما يجعل أولئك الذين لا يعرفونني يظنون بأنني أنا الذي تبدلت جذريا, منذ بضع سنوات- منذ مطلع سنوات الثمانينيات, سيقول البعض, مع اصدار بيان المانيفست حول بولندا الذي كتبته مع ميشال فوكو, أو بحسب البعض الآخر, منذ التظاهرة التي حصلت عند محطة قطارات ليون في كانون الأول (ديسمبر) عام 1995, ما تبدل قبل أي شيء هو أن تدخلاتي أصبحت أكثر ظهورا للعيان, خصوصا في نظر وسائل الاعلام وبواسطتها. وما تبدل كذلك, هو أنني, وكما يوحي كلامكم, كنت منقادا عبر منطق عملي البحثي ذاته الى اكتشاف أشياء كانت تمنعني من السكوت, أو أشياء لا أستطيع السكوت عنها- أفكر هنا على نحو خاص بالنتائج البعيدة المدى للسياسة النيوليبرالية والتي يسعنا أن نرى منذ الآن مقدماتها. لقد تمسكت لفترة طويلة بالمبدأ القائل بأنه عندما يتعلق الأمر بشيء لا أعرفه, ولا أعرفه بصورة كافية, يتوجب علي أن أسكت, وبأنه لا شيء يجيز لي أن أحاول فرض مشاعر استيائي أو تمردي (وهذا ما قادني لفترة طويلة الى النأي بنفسي عن المعارك الاضطرارية للمثقفين, الذين لم يكونوا يعبأون بواجب المعرفة المسبقة, وفي الأمر مفارقة).
ظهر لي شيئا فشيئا بأنه حتى عندما لا أمتلك دائما كل المعرفة الضرورية, فانني لا استطيع التزام الصمت أمام الأخطار القصوى التي تحملها السياسات الموضوعة اليوم على قدم وساق في العالم كله باسم العقلانية الاقتصادية والتي تتهدد المكتسبات الأكثر أهمية في نظري لحضارتنا, سواء في المجال الثقافي أو في المجال الاجتماعي, لاسيما من خلال المساعي الحثيثة والمنهجية التي تبذل بهدف تحطيم كل أنواع الحواجز أمام المنطق الأكثر فظاظة للسوق. ربما لأنني كنت أشعر بأنني لست في موقع أسوأ من غيري لمعرفة الأمور بالرغم من كل شيء, خصوصا بعد قيامي ببحوث مثل تلك التي أثمرت كتاب »بؤس العالم« والتي أتاحت لي أن ألمس لمس اليد المفاعيل الأكثر ضررا وشؤما, سواء في أوروبا أو أمريكا, للسياسات النيوليبرالية, وربما لأنني كنت مقتنعا بأن الأخطار الأشد هولا , والتي تظل اليوم غير مرئية إلا لدى صاحب العين المتيقظة علميا, هذه الأخطار لن تتكشف إلا شيئا فشيئا, في المدى البعيد, عندما يكون فات الأوان لمقاومتها, ربما بسبب هذه الأمور كلها, شعرت باضطراري للتدخل, مستخدما كل القوة الاجتماعية التي كانت في حوزتي, الى جانب قوى المقاومة الأكثر وضوحا والأكثر فعالية داخل الحركة الاجتماعية.
** أنت لا تقصر تحليلك النقدي على السياسات المعتمدة في فرنسا. فقد كتبت مقالات لاذعة ضد السياسة النقدية الألمانية وضد البنك المركزي الاوروبي, ونشرت في سلسلتكم الصادرة عن دار »سوي«, أي »أسباب للتحرك«, صفحات شخصية ضد »الداء النيوليبرالي« وانتقادات عنيفة ضد السياسة الأنكلوساكسونية (المبشرون بإنجيل السوق للسيد ك. ديكسون), وأنت تقوم بمحاضرات حول هذه الموضوعات في ألمانيا, في اليونان… الخ, وقد كتبت مؤخرا مقالة (في صحيفة لومونددبلوماتيك) حول مستقبل الحركة الاجتماعية الأوروبية. كيف ترى دور المثقف الملتزم, وهل يتعلق الأمر بالتماهي مع أولئك الذين يضطرون الى النضال وباعطائهم بهذه الطريقة شيئا من النفوذ, أم أنك تشعر أنت بالذات بأنك مضطر للنضال لا من أجل التوقف عن الكتابة والتحليل, بل من أجل تغيير الواقع الاجتماعي.
– التدخل على المستوى الدولي, الأوروبي وغير الأوروبي, بات أمرا يفرض نفسه لأن السياسة التي ينبغي مواجهة مفاعليها لم تعد محصورة في الاطار الوطني, إذ أن الحكومات الوطنية تتحرك أكثر فأكثر بوصفها مجرد أدوات لقوى السوق. احدى المفارقات المدهشة للسياسة الحالية, تكمن في هذه النتيجة الغريبة لتقسيم العمل بين فئة كبرى وفئة صغرى لنبالة الدولة التي سبق أن وصفتها في كتابي الصادر عام 1989, »نبالة الدولة«. صرنا نرى هكذا كبار متنفعي الدولة (السيد كامديسوس, رئيس صندوق النقد الدولي, هو واحد من هؤلاء, مثله مثل نظرائه تريشه, تيتماير, هابرير وشركاه, وكلهم يبشرون وينفذون على حسابنا في معظم الأحيان, فكرة ؛أقل ما يمكن من الدولة«, علما بأنهم موظفون من قبل الدولة) صرنا نراهم يتولون بأنفسهم تصفية الدولة الاجتماعية, اي تصفية النبالة الصغيرة للدولة.
نرى كل هؤلاء الموظفين الكبار الذين يدينون بكل شيء للدولة, نراهم يعملون على تقليص دائرة تدخل المرافق العامة, تاركين للموظفين الموضوعين في الخط الأمامي, من أساتذة ومربين, وعاملين اجتماعيين, ومستخدمي المستشفيات, ورجال الشرطة… الخ, مهمة الاعتناء بأقل كلفة بالتبعات الاقتصادية والاجتماعية (الجريمة, الانحراف… الخ) للسياسات غير المسؤولة من الناحية الاجتماعية والتي يفرضونها عليهم.
** تقول في مقدمة كتاب »مسائل سوسيولوجية« بأن علم الاجتماع هو »علم يضع على المحك رهانات اجتماعية (…) تمس مصالح حيوية«, وبأنه »لا يمكن التعويل على أرباب العمل, والمطارنة أو الصحفيين لامتداح علمية الأعمال التي تكشف عن الأسس المخفية لسيطرتهم«. هل يتعلق الأمر بالنسبة إليك بكسر »الحقول« ومفاعيل الحقول, وبتفكيك آليات السيطرة بطريقة تسمح »للمناضلين« بالحصول على منهج معين في التفكير?
هذا مع العلم بأنك أنت تواصل كتابة مؤلفات صعبة, مثل »تأملات باسكالية«, وتريد كذلك أن تحظى نظرتك باستخدام »غير علمي«, استخدام سياسي مباشرة, كما يستدل من مضامين الكتب الصادرة ضمن مجموعة دار »سوي«. وقمت من ذي قبل في عام 1874, وأدنت في جملة واحدة مجلة »أل« وجريدة »لوموند« في سياق مساهمتك في تحليل الصنمية (الفيتيشية) والسحر. متى وكيف أدركت ضرورة التدخل المباشر لتناول دور وسائل الاعلام عموما?
– سأقصر حديثي على الحقل الصحفي, إذ أن الفحص المنهجي للعلاقة بين مختلف الحقول المستقلة نسبيا بذاتها, كالحقل القانوني, العلمي, الأدبي, الفني أو حتى السياسي, وبين الناس البسطاء (الذين يجب في كل مرة أن يشتملوا كذلك على أعضاء الحقول الأخرى) هذا الفحص يتطلب توسعات طويلة جدا ومعقدة جدا. من وجهة النظر التي تصدرون عنها, أي التي تتعلق بتوصل المناضلين الى التحكم بأدوات معرفة يجري إنتاجها داخل حقول ضيقة, وبتحليلات آليات السيطرة على وجه الخصوص, فان الحقل الصحفي يحتل موقعا استراتيجيا. يمكن القول, بخطوط كبرى, أن وسائل الاعلام تشكل في صورة مزدوجة شاشة او عائقا لنشر مكتسبات العلم الاجتماعي, خصوصا عندما يمكن أن تنطوي هذه المكتسبات على مفاعيل نقدية. الصحفيون الذين يدفعهم ادعاء التدخل في صورة شخصية في بناء التمثيل الصائب للعالم الاجتماعي, وهذا بدون امتلاك الحد الأدنى الضروري من أدوات المعرفة, الصحفيون هؤلاء ينذرون أنفسهم, في معظم الحالات, للمساهمة في الحفاظ على النظام الرمزي القائم, من خلال قيامهم بطريقة واعية أو غير واعية باعادة انتاج خطاب أولئك الذين يسيطرون على العوالم الاقتصادية والسياسية أو خطاب الناطقين باسمهم داخل الحقل الفكري, ولا يسعهم القيام بلعب الدور الذي يقدرون على لعبه, جاعلين من أنفسهم بتواضع محطات ترويج ونشر عمل الباحثين. ثم انهم يملكون نوعا من الاحتكار نظرا لقدرتهم على النفاذ الى الفضاء العمومي: لكونهم قادرين على قطع الطريق أمام كل رسالة ناشزة أو خارجة عن المعهود, فانهم يمارسون رقابة أشد فداحة لأنها غير مرئية. يمكننا القول, مقلدين بهذا معادلة قديمة, بأن الشعار الأكثر إلحاحا لهو اليوم, بالنسبة إلى المثقفين, النضال, جماعيا من أجل امتلاك أدواتهم للانتاج والنشر, أي الاشراف على كل وسائل التعبير مثل الكتاب, الصحيفة, الاذاعة, التليفزيون, الإنترنت أو السينما (مجموعة ؛أسباب للتحرك« إنما هي خطوة صغيرة جدا في هذا الاتجاه). هناك العديد من التدخلات الفكرية التي تخنق في مهدها لانها لا تستطيع النفاذ إلى الوجاهة العمومية التي يحصل عليها كاتب المحاولة المتملق والأقل شأنا ويحصل عليها بدون مشقة من أمثاله المتواطئين معه اعلاميا.
كل هذا يجعل من انتاج ونشر معرفة صارمة (وبالتالي نقدية) بالآليات الخفية للحقل الصحفي أولوية مطلقة بالنسبة إلى عمل البحث, وبالنسبة كذلك إلى كل المواطنين وكل الصحفيين المهتمين بالحرية والديمقراطية: عبر الأحزاب, النقابات أو الجمعيات, ولكن كذلك عبر النظام المدرسي والوسائل الصحفية التي تفلت من الرقابة الموضوعة على الحقل, ينبغي السعي حثيثا إلى أن توزع بأوسع قدر ممكن على جماع المواطنين وسائل ممارسة اليقظة النقدية حيال الخطاب الاعلامي وحيال الشروط التي يجري في كنفها إنتاج هذا الخطاب. (النجاح الباهر للكتب الصغيرة الصادرة ضمن سلسلة »أسباب للتحرك« والتي انخرطت في هذه الوجهة, لهو شهادة دامغة على أنه يوجد طلب اجتماعي هائل ينبغي تلبيته لأنه, كما كان يقول جاك بوفيريس, لكي يشرح المرء حيثيات تدخله مستخدما أسلحة المنطق فوق أرضية متروكة عادة للتلاعبات البلاغية, فمعنى هذا أن الأمر يتعلق بطلب للديمقراطية).
** انتصار اسرائيل, وهزيمة العرب عام 1967, شكلتا بالنسبة إلى الوعي الغربي بداية حقبة طويلة راح خلالها النزاع العربي- الاسرائيلي يحتل صراحة واجهة المشهد السياسي. كيف كنت ترى الأحداث عام 1967? وماذا كنت تعرف آنذاك عن المسألة الفلسطينية? وكيف تراها اليوم? هل المناظرة المتعلقة خصيصا منذ ذلك الوقت بقضية فلسطين, وانبثاق الفاعل الفلسطيني, وتطلعاته والطبيعة الخاصة جدا لمعركته, هل هذه الأمور غذت تفكيرك?
– لم اتوان قط عن الانتباه إلى المسألة الفلسطينية, لأنني كنت ألاقي على وجه التحديد مفاعيلها ونتائجها في البلدان العربية التي كنت على صلة بها (كيف يمكن بالفعل, ألا نرى بأن الاصولية, وهي نوع من الارهاب الرمزي الذي يمكن أن يقود الى الارهاب العاري من أي صفة أخرى, تتغذى في ظل اليأس الكبير لكافة العرب »المتن ورين«- والصفة الأخيرة لا تعني القول بأنهم »متفرنجون« أو خاضعون ذليلون للقيم الغربية- أقول تتغذى من هذا التحدي المستمر الذي يشكله التعاطي مع المسألة الفلسطينية?). عبر هذا الجانب, بدون شك, بقيت أشعر بأنني معني, وأحيانا بطريقة مباشرة جدا, بالنزاع العربي- الاسرائيلي, ومن ثم بالوضعية المفروضة على الفلسطينيين في اطار مختلف الاتفاقيات المتعاقبة التي كان مطلوبا منها أن تحل المسألة والتي بقيت دائما أقف حيالها موقفا في غاية التشكيك والتشاؤم. على أنني ترددت دائما في اتخاذ مواقف علنية (مع ذلك فإنني وقعت بضع مرات على عرائض أطلقها أصدقاء اسرائيليون أو أمريكيون ضد هذا الشكل أو ذاك من اضطهاد الفلسطينيين), وذلك لأنني أولا لم أكن اشعر بأنني مؤهل بما فيه الكفاية لجلب توضيحات صائبة حول المسألة هذه التي تبقى بدون شك الأكثر صعوبة, والأكثر مأساوية, في زماننا (اذ كيف نختار بين ضحايا العنف العنصري بامتياز وبين ضحايا هؤلاء الضحايا?), ومن ثم لأن هذه المشكلة, خصوصا بالنسبة الى شخص معروف مثلي بمواقفه المتعاطفة حيال البلدان العربية, كانت محاطة بالكثير من الممنوعات التي من شأنها أن ترعى حالا حقيقية من الارهاب الرمزي.
وبديهي أنني لا أجد نفسي قادرا على الايحاء بأدنى حل, أو حتى على الاختيار بين مختلف الحلول الممكنة. لكنني أعتقد بأنه بات ملحا أن تقوم جملة القوى التقدمية في العالم كله وأن تتجرأ على انتهاك المحرم (تابو) المصون بدراية وعلم والذي يحيط بالمشكلة الاسرائيلية- الفلسطينية وذلك لوضع يدها على هذه المشكلة, على الأقل من أجل كسر المواجهة الخادعة بين الطرفين وحمايتهما, الأمريكيين والعرب, إذ انها غير متكافئة في صورة جد مأساوية. أعتقد أيضا بأنه ينبغي على هذه القوى التقدمية, ولمصلحة الاسرائيليين بقدر ما هي لمصلحة الفلسطينيين, أن تدين بلا هوادة كل تعسفات السلطة التي يرتكبها الاسرائيليون, كمصادرة الأراضي واستخدام ضروب العنف أثناء القمع… الخ.
وأن تخوض النضال الرمزي ضد محو التاريخ الفلسطيني وضد الدعوات المعادية للعرب والمعادية للاسلام, أي الدعوات التي تستحوذ دائما على وسائل الاعلام بدعوى وذريعة أنها تناضل ضد الأصولية الاسلامية (والتي تتسبب بنتائج مشؤومة ومضرة في أوروبا, فيما يخص العلاقات مع المهاجرين, كما في اسرائيل أو في الولايات المتحدة). وأعتقد في النهاية, وان كنت مدركا بأنني أجازف هاهنا بتجاوز حدود معرفتي بالمشكلة, أعتقد بأنه بدلا من الانفصال بين الاسرائيليين والعرب (كما يريد الاسرائيليون على ما يبدو), سعيا الى نوع من النقاء أو من التطهير العرقي العبثي جدا (خصوصا بطبيعة الحال بالنسبة الى الفلسطينيين الذين تختزل أراضيهم الى مجمعات محصورة وبائسة, وخاضعة على الدوام لارادة القوة المسيطرة) بدلا من هذا سيكون من الأفضل, كما يشير ادوارد سعيد, أن يحصل دمج للشعبين, أو أن يصنع ما هو أفضل للافلات من منطق »الجماعات« (القائمة على الدم? على العرق? على الديانة? وهذه كلها أسس لا تحمل الكثير من الوعي والأنوار) وهو أن يجتمع المجموعان المؤلفان من مواطنين أحراز ومتساوين في كنف ديمقراطية علمانية, متحررة من المعايير الاثنية والدينية وقادرة على ابتكار الوسائل الكفيلة بتنظيم التنافس الديمقراطي (والتعايش السلمي بالتالي) بين المصالح والمثل التي توحد وتفرق في آن معا المشتركين في المواطنية, طوباوية, ربما, ولكن يا لها من مثال لكل الشرق الأوسط
** الجزائر, فلسطين, حرب الخليج, يوغوسلافيا, إلى ما هنالك من المسائل والنزاعات التي تعنيك اليوم. قد شرحت علانية, في مرات عديدة, نظرتك إلى هذه القضايا. وفعلت هذا أيضا من خلال تفكير أكثر شمولية, حول الرؤية الأمريكية للعالم. هل يسعنا اليوم أن نتحدث عن مقاومة ضرورية على مستوى الكوكب كله, وهل نشوء أممية جديدة أمر ممكن وضروري?
– أعتقد بالفعل بأن نشوء شكل جديد من الأممية, متحرر جذريا من أي نوع من أنواع الامبريالية, يستطيع وحده أن يتصدى للقوى, ذات الطابع الدولي جوهريا, المكونة من كبرى الشركات المتعددة الجنسيات ومن الأسواق المالية, الموصولة بالتناوب بمؤسسات مثل البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي, والتي تحاول أن تفرض عالميا رؤية للعالم يجري تقديمها على أنها علامية, باسم سلطة العلم الاقتصادي, النموذج النيو-ليبرالي الذي يمكن أن يتلخص ويتكثف في بضعة مبادئ أساسية (الاقتصاد هو ميدان منفصل, تحكمه قوانين طبيعية وعالمية لا ينبغي حيالها على الحكومات أن تتدخل ولا أن تشارك; السوق هو الوسيلة المثلى لتنظيم الانتاج بطريقة فعالة وعادلة في المجتمعات الديمقراطية, »العولمة« تتطلب تخفيض مصاريف الدولة, خصوصا في المجال الاجتماعي, نظرا إلى أن الحقوق الاجتماعية في مجال العمل والضمان الاجتماعي مكلفة وسيئة الاشتغال), هذا النموذج النيوليبرالي ليس بالفعل, وجوهريا سوى عملية تعميم عالمي لخصائص مجتمع تاريخي معين أي طارئ بالتالي, وهو المجتمع الأمريكي. فلنقدم, بسرعة شديدة, بعض ملامحه النموذجية: دولة, كانت من ذي قبل مختزلة الى أدنى حدودها, ثم راحت تتعرض لعملية إضعاف منهجي على يد الثورة المحافظة ذات النزعة الليبرالية المفرطة التي دشنها ريغان وتابعها أو مدد أجلها كلينتون (كما يشهد على ذلك واقعة أن احتكار العنف الجسدي, أي السمة الدنيا للدولة بحسب (ماكس) فيبدو (نوربرت) الياس, بات أمرا قليل التوافر, نظرا للبيع الحر للأسلحة… الخ, أو واقعة الاستقالة الاقتصادية للدولة, باسم الاعتقاد بفضائل مقولة »الخلاص الفردي«, الموروثة عن الاعتقاد الكالفيني بأن الله يساعد أولئك الذين يساعدون أنفسهم), تراث »للفردانية الميتافيزيقية«, بحسب دوروتي روس, نلقاه في قلب النظرية الاقتصادية, نزوع إلى التغني بمرونة ودينامية النظام الاجتماعي الأمريكي وهو نزوع يدعو الى ربط الفعالية والانتاجية بدرجة عالية من المرونة, والى جعل انعدام الأمان الاجتماعي مبدأ ايجابيا للتنظيم الجماعي… الخ. قبالة الفرض العالمي لهذه الرؤية الخاصة للعالم, والتي يمكن أن تبدو منفرة جدا في نظر كل الذين يتمسكون بأشكال من الفكر والعمل الجماعيين المطرقين في الجماعية, أو لنقل لمن يخاف من هذه الكلمة, الأشكال ذات الطابع التضامني, الموروثة ليس عن »التراث اليهودي- المسيحي« العتيد, كما يقول البعض أحيانا مخطئين, بل عن الحركة الاجتماعية الاوروبية في القرن التاسع عشر التي ابتكرت, ضد التقاليد الخيرية للكنائس, أشكالا متنوعة لنزعة »التضامن« العلمانية, الدولتية او المتعلقة بجمعيات, قبالة هذا الاملاء المفروض لا نستطيع بالفعل سوى تقديم أممية مؤسسة على التضامن بين كل »المستعمرين« في كل القارات, من أمريكيين جنوبيين, وأفارقة, وهنود, وكوريين, ولكن كذلك ومن زاوية علاقات كثيرة, من الأوروبيين. يبدو لي انه في هذا الاطار الموسع للنضالات الجماعية ضد الاستراتيجيات النيوكولونيالية القائمة على نقل أمكنة الانتاج والمتصلة بتكاثر التوظيفات المباشرة في الخارج وبفرض قانون الأسواق المالية فرضا عالميا تقريبا في هذا الاطار يمكن لكافة حركات المقاومة ضد ؛الداء النيوليبرالي, من فلسطينيين, وتشيليين, وهنود أو فرنسيين, ان تجد القوة الفكرية والمادية الضرورية كي تفرض داخل الوقائع, وضد كل قوى التذرير وشرذمة الهيئات الجماعية التي تحملها الرؤيا النيوليبرالية, التضامنات الدائرة على اقتصاد اجتماعي حقيقي.
ترجمة وتقديم: حسن الشامي