خوفي من أن يكون بعض التراث الفكري العماني عائقا لتقدمنا معرفيا
بدأ خالد بن محمد العزري دراسته بمعهد القضاء الشرعي والوعظ والإرشاد «معهد العلوم الشرعية حاليا»، حيث تحصل على المرتبة الثانية في قسم القضاء لكنه رفض الالتحاق بالمحكمة الشرعية التي التحق بها زملاؤه نهاية عام 1992. حاول بعدها متابعة دراساته العليا بجامعة الأزهر بمرافقة الشيخ خلفان الحارثي رحمه الله، لكنه، غادر إلى تونس لإكمال دراسة الماجستير التي تحصل عليها من جامعة الزيتونة في عام 1998 بتقدير امتياز عن رسالته «رؤية الشيخ السالمي السياسية في مسألة الدولة العمانية».
تابع بعدها العمل متنقلا ومنقولا بين وزارتي العدل والأوقاف والشؤون الدينية، قبل أن يتم ابتعاثه إلى أستراليا في رحلة علمية تكللت بالحصول على درجة الدكتوراة في القانون وعلم الإجتماع السياسي. كان موضوع البحث « التطور والتقاليد ومعضلة المساواة في المجتمع العماني المعاصر: من خلال التركيز على دراسة مسألتي الزواج والطلاق». واصل العزري رحلة البحث العلمي بعد أن نجح في الحصول على «الزمالة البحثية»أو ما بعد- الدكتوراة كباحث في دراسات الخليج العربي بمركز أكسفورد للدراسات الإسلامية وهو مركز مستقل بجامعة أكسفورد. نشر الدكتور العزري مجموعة من المقالات الصحفية والدراسات من بينها دراسته الأخيرة (2010) المنشورة بمجلة الدراسات البريطانية بعنوان «المجتمع العماني المعاصر: التقاليد وصراع التغيير من خلال التركيز على دراسة مسألة الكفاءة في الزواج». نشرت له عام 2009- كذلك – بمركز «تريكونتيننتال» ببلجيكا دراسة قصيرة عن «المجتمع المدني في عمان»، ونشرت له الجامعة الكاثوليكية» في ايطاليا، في عام 2007 دراسة عن «الدولة والمرأة والخطاب الديني في عمان». لكن بدايات خالد العزري في الكتابة كانت قد نمت في السلطنة حيث تطور من كتابة مقالات تأخذ منحى ديني إلى كتابة القصة القصيرة قبل أن يتجه إلى كتابة البحث العلمي المتخصص، لكنه عاد في عام 2009 إلى كتابة المقالة.
شارك العزري في العديد من المؤتمرات البحثية الدولية المتخصصة في شؤون الخليج من بينها المؤتمر الأخير عن الخليج العربي الذي عقد بجامعة كامبريدج صيف 2010م، حيث قدم دراسة عن «الدولة العمانية المعاصرة والمسألة الدينية».
وعلى اثر زيارة قصيرة له الى وطنه للمشاركة في ندوة (الكاتب.. المجتمع .. القانون) التي نظمتها جمعية الكتاب والأدباء العمانيين أكتوبر الماضي، أجرينا مع الدكتور خالد العزري هذا الحوار ليبوح عن ما تختزله الذاكرة والوعي المجتمعي والثقافي والاقتراب من بعض القضايا التي تحدث عنها وناقشها..
إصدار الحكم غيابيا
v في مقدمة تعريفية لك ذكر انه (لم يجد في الأزهر علما» فتركه، على إثر ما جرى له في عام1994) ما الذي جرى؟
تعرضت في عام 1994 إلى محاكمة متعسفة وظالمة بسبب بعض الأفكار التي كنت وما زلت أعتنق بعضها وتتعلق بالفكر الديني والحداثة والتطور، وقد تحدثت عن تلك التجربة للمرة الأولى بصورة صريحة وربما «فجة» في الندوة التي أقامتها جمعية الكتّاب والأدباء مؤخرا وهذا بحد ذاته مؤشر على التطور الحاصل في بلادنا. كان لابد من الحديث عن الموضوع بكثير من الصراحة والذاتية (وهو حديث لم أطلبه بل ألح عليّ بعض الأصدقاء في ضرورة طرح ما حدث) لأن أناسا كثر تحدثوا فيه وأصدر بعضهم فتاوى وكتب غيرهم في الانترنت بصورة غير مدركة لما حدث، أو لنقل فقد كتبوا وتحدثوا من خلال ما وصلهم من معلومات من غيري. كانت فرصة لأن يسمعوا ما حدث من صاحب القضية أي المدعى عليه بلغة القانون قبل اصدار الحكم غيابيا كما حدث. كانت كذلك فرصة للتأريخ ولتوثيق ما جرى لنتعلم منه ولكي لا يتكرر لآخرين، لأنه كان مؤلما بكل ما تعنيه الكلمة.
فكما تعلمين فقد تخرجت من معهد ديني وجدت فيه أشياء حسنة كما وجدت فيه غير ذلك. وكان الأمل كما أراد لي بعض شيوخه أن أكون جزءا من مؤسسة لا تنتمي لزمننا ولا علاقة لها بتطور البلد (كما رأيت)، لكني خرجت عليها، فكان ما كان! كنت فتيا في الثالثة أو الرابعة والعشرين من العمر، صغير السن والتجربة، ولم أكن مدركا – وكيف لي ذلك – بخطورة ما كنت أقول وصعوبة أو استحالة تقبله أو حتى التعامل معه من قبل المكان الذي درست فيه، وكذلك من قبل المكان الذي قادني إليه سوء حظي ودراستي حيث كنت أعمل. حدث أمر مشابه لآخرين من الأصدقاء الكتّاب– في أماكن أخرى- ومن زملاء الدراسة كذلك. بعضهم واصل طريقه الفكري وبعضهم تراجع وانطوى مجبرا أوأخذته الحياة إلى مسارب أخرى ففقدنا امكانيات أناس لعلهم لو وجدوا بيننا فاعلين ومؤثرين لكان أفضل لنا كأفراد وللمجتمع الذي نحبه.
أما على الصعيد الشخصي فقد قادتني تلك التجربة إلى عوالم لم أكن أستطيع حتى التفكير فيها. كانت عزيمتي أمضى من هول ما جرى فدفعني ما حدث إلى تحدي الذات والبحث عن أماكن جديدة لتطوير أفكاري وكان العلم والمعرفة والأخلاق والصدق خير الأسلحة التي جاهدت – وما زلت – من أجل التسلح بها. ذهبت إلى الأزهر في عام 1994 برفقة الشيخ الجليل القاضي خلفان الحارثي رحمه الله، لكني لم أفعل ما فعله خلفان، فلم أواصل الدراسة فيه، بل فعلت ما فعله طه حسين فتركته. في الواقع لأنني كنت أبحث عن علم أفضل مما تلقيت في معهد القضاء والوعظ والإرشاد سابقا، وكنت كذلك أبحث عن فضاء أرحب من الحياة، أبعد من حياة التزمت التي عرفتها، ولذلك فقد ذهبت إلى تونس البلاد التي أحببتها، وأحببت ما تلقيت من علم فيها وأحببت كذلك صحبة بعض أساتذتها. كانت تونس هي من حرضّني على مواصلة الدرب وعلى التحليق بعيدا إن كان لأفكاري أن تتطور وتثمر فيما بعد وهكذا واصلت الرحلة إلى ملبورن البلاد الأسترالية التي لم أجد مثيلا لها إلى اليوم، ومن ثم إلى أكسفورد بلاد المعرفة والمكتبات والتقاليد الجامعية العريقة، وهي رحلة شيقة جدا، رغم المعاناة المادية والمكابدات النفسية الصعبة التي رافقتها، وهي رحلة مستمرة إلى الآن وكأني أصعد جبلا لا نهاية له. هذه فرصة لأن أشكر من وقف معي خلالها من مسؤولين يصعب ذكر أسمائهم اليوم وبعض الأصدقاء القلائل الذين ساندوني ولو بالكلمة وأذكر منهم هنا الصديق المفكر المسلم المتواضع حميدة النيفر الذي كان لجلساتي ونقاشي الفكري المطول معه حول الإسلام والتطور والماضي أكبر تأثير في تصويب بعض أفكاري الراديكالية يومها.
لم أتوقف عن الكتابة أبدا
v «هذيان الدمى» مجموعة وحيدة أصدرتها رغم انك تعد من جيل الثمانينات لكتابة القصة، لماذا توقف خالد العزري هل كان السبب السابق له تأثير على هذا التوقف؟
للتصويب صدرت «هذيان الدمى» في نهاية التسعينات، وبالتالي فأنا أنتمي لجيل التسعينات من كتّاب القصة، وعلى الأدق واحقاقا للمصداقية فأول قصة قصيرة أنشرها كانت في بداية النصف الثاني من التسعينات أي في العام 1995 وكانت بعنوان «هذيان الدمى». لكن القصة التي نشرت في «نزوى» ليست هي «هذيان الدمى»، التي صدرت ضمن نصوص المجموعة التي تفضلت بالإشارة إليها. وللإضافة فقد كنت قد كتبت قصة أخرى بذات العنوان وأنا في تونس في العام 1998 أي قبل صدور المجموعة بأقل من عام واحد تقريبا، لكنني لم أضمنها المجموعة وليتني فعلت! كانت «هذيان الدمى» التي كتبتها في تونس بعيدا عن الأجواء الشخصية المشحونة بمسقط – وقتها- أكثر نضجا من الناحية الفنية وأكثر اقترابا مني، ومما أردت التعبير عنه. كتبت كذلك بعض النصوص القصصية بعد صدور المجموعة ونشر بعضها في مجلة «نزوى» مثلا.
وللتصحيح فأنا لم أتوقف عن الكتابة أبدا. أما إن كنت تقصدين كتابة القصة على وجه التحديد فمحبتي للقصة لا تزال باقية، إذ أن الحياة قصة طويلة، ورحلتي العملية والعلمية في حد ذاتها – رغم تواضعها – هي قصة أخرى ينبغي أن تكتب يوما ما، ولو كتبت فستكون تعبيرا عن جزء من تاريخ اجتماعي معاصر. وبهذا المعنى لم أتوقف عن النشر عن قصد، بل أخذتني مشاغل الدراسة والبحث الأكاديمي. والبحث – فيما أرى- هو ما تحتاجه بلادنا اليوم كما تحتاج لكتّاب القصة والشعر والمسرح والسينما والفنون وغيرها من صنوف الإبداع. أظن أن البحث الجاد هو أكثر الحاحا الآن وهذه فكرة شخصية، فنحن كدولة فتية نحتاج لأن ننخرط اليوم في البحث العلمي بصورة جادة.
بلدان تختلط فيها الحقوق والسلط
v من وجهة نظرك هل يحق لأي سلطة أن تصادر فكر أو رأي الكاتب وهل هناك حدود فعلية بين حرية التعبير والمسؤولية ؟
أنت تسألين عن «حق سلطة» في مصادرة «فكر» أو «رأي» وهما بمعنى ما سلطة كذلك. لكن يبدو أن «سلطة» الفكر والرأي ليست بذات الوقع والقوة التي هي عليه في بلدان أخرى أكثر تقدما من الناحية المعرفية ومن الناحية الحضارية. أما في البلدان التي تختلط فيها الأشياء والسلطة والحقوق والمسؤوليات فوضع «الفكر» وقيمة «الرأي» من المسائل المشوشة، خاصة حين تنعدم أو تقل الدراسات التي يمكن أن تعطينا مؤشرات واضحة لمسائل من قبيل السلطة والرقابة والمصادرة وحدود وجودها في المجتمع. نحن في كثير من الأحيان نتحدث عن أمور ضبابية لكننا نتحدث عنها بيقين غريب.
الأمر ليس منتظما بذات الصورة والطريقة التي عليها الحال في الدول الأكثر استقرارا من حيث البنية السياسية والاجتماعية والفكرية على الأقل. وبهذا المعنى فالإجابة على سؤالك تغدو معقدة بتعقد الوضع في بلادنا. لكن دعيني أوضح أن طرحك للسؤال في حد ذاته يعني أن ثمة «مشكل حقيقي» كما يقول اخواننا في المغرب العربي الكبير، ولو كانت الأمور كما ينبغي أن تكون لمّا وجدنا أنفسنا بحاجة لطرح أسئلة كهذا السؤال. فطرحه يعني أن ثمة شعور – على الأقل- بـ «سلطة» تراقب الكاتب وثمة معضلة في مسألة « الحق» أو حق استخدام الـ « سلطة « كيفما كانت هذه أو تلك السلطة ؛ أهي سلطة مجتمع أم سلطة دولة أم سلطة مؤسسة أم سلطة كاتب يرى العالم من منظوره الشخصي أو الفكري الضيق ! ثمة مشكلة وثمة تداخل يعقّد المشكلة وثمة خوف أو مخاوف من البحث في المشكلة، لعلّها ناتجة من تجارب مرّ بها بعض الأفراد.
وباختصار كلا لا يحق لأحد الغاء فكرة ما عبر قمعها أو مصادرتها عبر منعها قانونا أو عرفا. معالجة الأفكار المثيرة للجدل لا ينبغي أن تتم عبر قمعها أو تخويف قائلها أو التقليل من قيمتها، بل ينبغي أن يتم عبر انتاج مزيد من الأفكار المقابلة والدخول في حراك مجتمعي – معرفي – ديناميكي – حضاري حول ما يطرحه أصحابها وبهذا وحده تتقدم المعرفة ويتعلم الناس احترام بعضهم وبهذه الطريقة يستطيع المجتمع الانتقال من مرحلة إلى أخرى أفضل منها.
المعنى الانساني المشترك
v (الخوف من المختلف) كما جاء في ورقتك التي قرأتها بندوة الكاتب والمجتمع والقانون، هل المختلف هو المثقف وهل نربط العنوان بمقولة جوزيف غوبلز (كلما سمعت كلمة مثقف تحسست مسدسي)، ما هو او من هو المختلف (حسب رؤيتك) ؟
هذا سؤال شيق وذكي للغاية وأشكرك على طرحه. هو شيق لأنه يجمع الخاص / المحلي / العربي بالعالمي، وبهذا المعنى الإنساني المشترك بيننا كبشر وكأوطان وتواريخ. وهو ذكي لأنك تسألين عن موضوع يمثل الثيمة الرئيسة لمقالاتي التي بدأت كتابتها منذ حوالي العام في جريدة «الرؤية»، حيث أركّز دوما – كما فعلت في محاضرتي الأخيرة بكلية الحقوق – على ضرورة احترام الإختلاف في مجتمعنا. وأقصد بالتحديد الإختلاف على الصعيد الفردي، فنحن أفراد قبل أن نشكل مجتمعا، وبهذا المعنى فأنا أطمح إلى احترام الفرادة والخصوصية قدر الممكن (حاليا على الأقل). سـوف أعود إلى هذا، لكن اسمحي لي بداية من فضلك بالتعليق على سؤالك بشيء من المباشرة والتفصيل.
المختلف ليس المثقف وإن كان المثقف مختلفا باعتبار ما ينتجه من أفكار ومن ابداع قد يكون متقدما وسابقا على كثير من الناس المجاييلين له، ولذلك فهو داخل ضمن اطار المختلف الذي دعوت إلى عدم الخوف منه؛ أي من أفكاره كيفما كانت تلك الأفكار. لكن المثقف – وأظن أنك تقصدين الكاتبة أو الكاتب- فهو ليس المختـلف وحده الذي دعوت وأدعو إلى احترامه بغض النظر عن الاتفاق والاختلاف معه. أنا أقصد الاختلاف الأكبر في المجتمع وعلى صعيد الخيارات الفردية. وللتوضيح فاحترام المختلف لا يعني عدم نقده، بل أقصد قبول تواجده والعيش بيننا بصورة فيها قدر من الاحترام. المختلف إذا قد يكون فردا عاديا امرأة أو رجلا. مثلا شخص يلبس بطريقة لا تعجب المجموع، أو يحب ما لا يرتضـيه أغلب الناس، وهكذا فمثلا ينبغي قبول تواجد المرأة التي تلبس الأسود، لكن في المقابل عليها وعلى من يشجّع السواد في اللباس أن يـتقبل وجود سافرة الرأس أو من تختلف فتلبس ملابس زاهية. وكذا الحال مع الرجل الذي يحب الموسيقى ويحب أن يملأ جدران بيته بالتصاوير واللوحات التي قد يراها أكثر الناس مثلا غير ذات جدوى أو حتى غير مقبولة عرفا أو لا تعجب المجموع طالما أن الأمور لم تخرج على القانون الحضاري الذي ارتضته الدولة، وليس كما يقال دائما وفقا لأعراف الناس. أعراف الناس ليست واحدة وليست جامدة، ولذلك فعلينا تقبل بعضنا البعض دون وصاية. بهذا المعنى فالمختلف صاحب فكرة أو توجه أو قيمة أو حتى مزاج لا يرضخ للسائد في المجتمع.
لماذا أدعو إلى قبول تواجده؟ وماذا أعني بالقبول؟ التواجد هنا قد يكون جسدا (physical) أو من الممكن أن يكون فكرة (Abstract). إنني أدعو إلى قبول تواجده لأنه يمثل اضافة على (Homogenous) أو الـ(Sameness) اي ما يظهر لنا أنه حالة تساو بين أفراد المجتمع في الطباع واللباس والمأكل والحركة ! المجتمع العماني مجتمع متعدد الثقافة بكل ما تعنيه كلمة ثقافة في (Anthropology) أي علم الإنسان. وبالتالي فمن الظلم لنا كمجتمع وكأفراد أن نقلل من قيمة هذا التعدد والإختلاف الموجود باعطائه صبغة شرعية فنقول إن عرف المجتمع وعاداته لا تسمح! أو أنه مخالف لأعراف وتقاليد الناس التي ارتضوها. صحيح كل مجتمع له تقاليده وأعرافه التي – ان تعارف الناس على قبولها- فإن على الأقلية المختلفة احترامها. لكن من الصواب القول كذلك بأن الأعراف والتقاليد هي من الأمور المتحولة دوما. وثانيا أنه لا يوجد لدينا ما يجعلنا على ثقة تامة ويقين جازم بأن من لا تلبس غطاء رأس مثلا هي بالضرورة مخالفة للأعراف والتقاليد. وثالثا فإن عالمنا المتطور والمتغير باستمرار يفرض اليوم قبول المختلف دينا وثقافة ! نحن نستقبل في بلادنا من يختلفون عنّا لكننا نحترمهم ولا نفرض عليهم أن يكونوا مثلنا والحال كذلك معنّا حين نسافر فمن باب أولى أن نعطي احترامنا لأبناء وطننا الذين يحملون أفكارا وتوجهات قد لا نقبلها في بعض الأحيان طالما أنها تتماشى وقوانين الدولة ونظمها الموجودة. إن قبول المختلف هو جزء من التسامح الذي ينبغي أن ننشده.
في مرحلة أولى من مراحل بناء الدولة العمانية الحديثة كان هذا الأمر ؛ أي محاولة تجميع المختلفين وضمهم في نسيج متحد (في كل شيء) ممكنة وربما جيدة لخدمة الترابط الاجتماعي الذي لم يكن موجودا كما نعلم. أما اليوم وبعد أربعين عاما من عمر بناء الدولة الحديثة في عمان، وكذلك في ظل عالم المعرفة الواسع من سفر وتكنولوجيا وسياحة وتعليم واختلاط بالعالم، فإنه ينبغي البحث عن وسائل أخرى للمحافظة على لحمة الوحدة الاجتماعية في بلادنا (ان كنّا بحاجة إلى البحث)، وبالتالي فمن هنا ينبغي ترك التعدد المجتمعي يأخذ طريقه بصورة سلسة. وإذا فإنني أدعو إلى قبوله لأنه من غير الممكن (وحتما غير المقبول) الغاؤه. هذه النقطة الأخيرة تأخذني للحديث عن الشق التالي من سؤالك والذي ضربت فيه مثلا بمقولة وزير الدعاية في عهد هتلر النازي.
كان جوبلز واسمه بول جوزيف جوبلز مثقفا ويحمل درجة الدكتوراة من إحدى الجامعات الألمانية، لكنه صار «نازيا»، وكان أحد قراراته الأولى التي اتخذها حين صار وزيرا حرق الكتب التي تختلف وتوجه حكومة هتلر! تخيلي إلى أين وصلت شمولية الدولة الهتلرية! ليس إلى منع الكتب فقط، بل إلى حرق الأفكار التي تختلف وتوجه الدولة، والأكثر رعبا في الموضوع هو قبول أكثر الألمان وقتها لما فعله هذا الوزير «المثـقف» ! لأنه تمكن من « غسل « أدمغة البشر الذين يحكمهم، في توجه وصل ذروته إلى حرق الأقليات التي تختلف مع حكومته مع أنها ولدت وعاشت في ألمانيا وتحمل جنسيتها! طبعا نحن نعرف اليوم أن حرق اليهود لم يكن نهاية التوجه بل بدايته فقط، فدعوى العرق النازي الأصيل والثقافة المتفردة الحقيقية كانت هي تمثيل لشمولية الدولة الألمانية وقتها! انتهى المطاف بـ «جوبلز» وزوجته كما نعلم إلى الانتحار وقد حملا معهما نهاية حياة أولادهما الستة! إنه درس قوي ومؤثر في الطريق الذي يمكن للمجتمعات الشمولية أن تصل إليه، لذلك تعلّم الأوروبيون الدرس القاسي فامتثـلوا لحكم الديمقراطية التعددي ونسبية الحقيقة وإلى ضرورة النقد لتصحيح الأخطاء قبل استفحالها. ويا له من درس مؤلم لمن يريد أن يتعلم! شمولية الدولة ألغت وظيفة المثقف والثقافة في ألمانيا النازية، فأصبح الدكتور المثقف «جوبلز» (الذي كان قد ألف بحثه في الدكتوراة حول «الرومانسية في الدراما» ونشر بعده بعض الروايات والمسرحيات) فأصبح دكتاتورا يأمر بحرق الكتب، ومعاداة كل ما هو مختلف مع الفكر الشمولي النازي الذي صار هو أحد أكبر دعاته!
سؤال مقلق
v لماذا لا يوجد في عمان رغم التاريخ الفكري والانساني لا يوجد منجز فكري ومفكر عماني يستطيع ان يلفت نظر العالم العربي –على الأقل- بأطروحاته وايدلوجياته المغايرة؟
طيب هذا سؤال جميل وجماله في أهميته، وهو سؤال سمعته يطرح سابقا من قبل بعض المثقفين وبعض المسؤولين وهو سؤال مقلق حقا. إنني أفهم أن الإجابة عليه لها شقان: قديم ومعاصر. نعم يوجد في عمان – كما في أكثر بلدان الكون- تراثا فكريا هائلا خلفه الأقدمون، وهو تراث يتوجب علينا احترامه وتقدير من أنجزه. لكننّا إلى الآن على الأقل، لم نصل إلى مستواهم من الإنتاج والإبداع المعرفي. وبالتالي فما معنى احترامنا وتقديرنا له ولهم؟! ولهذا فهو سؤال مقلق للمثقف وربمّا للمسؤول كذلك. نحن إذا نتحدث عن أجيال سابقة أنتجت فكرا، وعن أجيال معاصرة غير قادرة على البناء عليه وتقديم فكر جديد يتفق مع الزمن الذي نعيش فيه، وهذه إشكالية كبرى. ما يخفف من قسوة هذا الوضع المؤلم هو معرفتنا بأمر مهم وهو أن الانتاج الفكري لا يتم دون مقومات أهمها اليوم اكتساب المعرفة العميقة (القديمة والمعاصرة) والمهارة اللازمة لانتاج الفكر الحديث وكذلك توفر عاملي الزمن / الوقت والمال. العاملان الأولان؛ أي اكتساب المعرفة والمهارة أو القدرة على بناء الأفكار يرتبطان بالعاملين الأخيرين: الوقت أو الجهد الفردي والمال الذي ينبغي أن تقدمه الدولة والمؤسسات الأخرى الموجودة في المجتمع خاصة المؤسسات الخاصة، التي لا يعقل ولا يفهم أمر تقاعسها عن المشاركة في عملية بناء المعرفة وتقديم الأفكار، حتى تلك المرتبطة بعملها من استشارات وتصنيع وانتاج تلقى أهمية كبيرة في الدول المتقدمة.
أعود لما سبق قوله من وجود تراث عماني هائل وبعضه في غاية الغنى والثراء، لكن من يعرفه؟ ومن يستطيع تقديمه – اليوم- إلى الأجيال الجديدة في ثوب يناسب هذا الزمن؟ ومن يستطيع غربلته ونقده إن دعت الضرورة وهي تستدعي ذلك. أكاد لا أعرف الإجابة. وما يمكن لي قوله هنا هو خوفي من أن يكون بعض ذلك التراث عائقا لتقدمنا معرفيا، وذلك لأننا لا نطمح إلى أكثر من التغني بوجوده وبقيمته، ونحن نجهل معظمه في الواقع. إننا نبدو وكأننا قد وقعنا في أسر ذلك التراث. وإن كان علينا الانتقال من تكرار التراث إلى بناء معرفة جديدة قائمة على الاستلهام والتفكر فيما تركه الأقدمون وما تعلمناه اليوم فإنه لابد من وجود استراتيجية جديدة للمعرفة تقوم على احترام المثقف المعاصر القادر على تقديم أفكار جديدة، وهذا الاحترام يعني دعم هذا المثقف ماليا ومعنويا وفق تخطيط واضح ودقيق يفهم ماذا نريد اليوم كدولة من الثقافة، وكيف لنا أن نتحرك دون الغاء التراث القديم، لكن من دون أن نفقد قيم العصر الحاضر ومتطلباته التي هي حتما مختلفة عن متطلبات العصر السابق. أي أننا نريد اليوم ثقافة تساعد على بناء دولة حديثة بمؤسسات معرفية قوية. وبكلمة لابد من وجود مؤسسات معرفية حرة. نحن لا نريد أيدلوجيات جديدة بل نحتاج إلى أفكار ورؤى وطروحات تساعد على نقلنا كمجتمع وكأفراد من ضيق الأيدلوجيات، إلى رحاب التفكير الحر المبني على مناهج المعرفة المعاصرة. هذا بالنسبة إلى البحث أو المعرفة.
أما بالنسبة إلى وجود الباحث فإنه يصعب – إلى الآن على الأقل – إن لم يكن يستحيل وجود مثقف عماني قادر على انتاج أفكار خلاّقة ومواكبة للزمن وما فيه من تزاحم فكري هائل من دون فهم للعوامل المعيقة – التي ذكرت أهمها – لنبوغ مفكر عماني معاصر في فكره ومسؤول عن أفكاره أمام المجتمع. لكن المشكلة – كما أراها- في بلادنا هي أن المجتمع لا يساعد على وجود مثل هذا الشخص الذي نريده أنت وأنا وبعض الناس الآخرين، وذلك لأن المثقف أو المفكر هو فرد بالأساس، وآلية التفكير والحراك الموجود لدينا أي البنية المجتمعية هي بنية شمولية في عمقها مثل «غزية سابقا» لا تمنح الفرد فرصة أن يستقل برؤاه وبتصوراته في الحياة والأهم بقدرته على الإنفصال عن المجتمع والانكباب على البحث والمطالعة والانتاج وحدها. علينا أن نفهم – كما أرى- أن البحث هو مسألة فردية بالأساس – بما في ذلك البحوث العلمية التطبيقية التي تتم في المعامل – وهو مسألة صعبة ومعقدة جدا، لأن انتاج الأفكار وهزها وإعادة بنائها وكتابتها ونشرها مسائل تحتاج إلى توفر عوامل أخرى خاصة بالباحث (مثلما هي خاصة بالبحث كما ذكرت سابقا) منها الهدوء والمصادر القديمة الحديثة، ومنها العزلة والاختلاء المانحان للافكار التي ينتجها الباحث. أي توفر البيئة المساعدة للباحث على قضاء وقته دونما تدخلات خارجية من مسائل اجتماعية واقتصادية ترهق الباحث وتشتت تفكيره وقدرته على التفرغ لمشروعه البحثي. نحن هنا نسمع عن باحثين ونقرأ لبعضهم، لكننا لا نعرف المعاناة الحقيقية التي يمر بها الباحث الحقيقي، ولا نعرف عن الظروف التي أسهمت في تكوين الباحث الذي نقرأ له أو البيئة التي ساعدته في انتاج افكاره ونشرها، أو كم المعلومات الهائل الذي كان عليه كباحث أن يوفره قبل أن يشرع في الكتابة. لهذا فنحن لدينا اليوم أناس بشهادات عليا لكن لا يوجد لدينا باحثون. إنني كما تلاحظين أتحدث عن عملية معقدة جدا ولا تشبه كتابة القصيدة أو القصة أو العمل في الوزارة او الشركة أو حتى في الكليات التي لا تنتج بحثا. وفي البداية والنهاية فحين نتحدث عن وجود مفكر فإننا نتحدث عن صناعة كاملة تشبه وجود المصانع الضخمة التي تنتج الأدوية والطائرات والسيارات، والفرق هو أن المفكر ينتج أفكارا تتحول لاحقا إلى مشاريع ضخمة!
العقل يحول القمعي إلى انساني
v لماذا نربط الفكر بالتدين والتصوف لدرجة انه يقال (القليل من الفلسفه كفر والكثير منها يؤدي الى زياده الايمان)، هل الخوف من التكفير والسلطة الدينية سبب وراء تراجع الفكر والفلسفة؟
هذا سؤال اشكالي وهو كذلك مشوش. فأنا لا أعرف من هم الذين يربطون التدين بالفكر أو العكس وما علاقة التدين بالتصوف أو ما هي علاقة التصوف بالتدين؟! لذلك سأتجه إلى الجزء الأخير من السؤال وهو العلاقة بين التكفير والسلطة الدينية والفكر والفلسفة إن سمحت لي.
لست واثقا من أن الخوف من التكفير والسلطة الدينية هما وراء تراجع الفكر والفلسفة بالضرورة. أي ليس من الحتمية ربط هذا بذاك. لكن من المؤكد أن السلطة الدينية في أي مجتمع كان تشكل – كما هو اسمها- سلطة. أي أنها تشكل قيدا. وقد حدث هذا سابقا في حضارات متقدمة ويحدث إلى اليوم في بعض المجتمعات المتمدنة؛ أي أن السلطة الدينية شكلت عائقا أمام تقدم المعارف الأخرى (ويبدو أن هذا طبيعي) أو كانت سببا في تراجعها. لعلك قد قرأت الرواية العظيمة «اسم الوردة» للإيطالي امبرتو ايكو، أو شاهدت الفلم المستقى منها. إحدى الثيمات المركزية في الرواية تعالج موضوع الرقابة الدينية على المعرفة التي تختلف عن الفكر الديني، أو كما توهّم القساوسة في الكنيسة يومها أنها كذلك. وفكرة الرواية (كما أتذكرها اليوم) هي البحث عن كتاب فيه أفكار لا تتـفق مع الرؤية الكنسية، وهو كما نعلم كتاب للعالم المسلم ابن رشد حيث كانت الحضارة الإسلامية متقدمة على غيرها. ولكي لا تصل أفكار الكتاب إلى الناس– وأنا أتحدث عن مخطوطة وعن عصر تصعب فيه انتقال المعرفة وليس كيومنا هذا– لكي لا تصل تلك الأفكار التي تراها الكنيسة كفرا فقد تمّ تسميم صفحات المخطوطة (التي خبئت في واحدة من أكبر مكتبات كنائس الفاتيكان)، بحيث أن من يصل إليها ويبدأ في تقليب الأوراق سيتسمم ويموت. لكن للمفارقة فقد أدى موت كثير من المثقفين والمصلحين (ومن بينهم متدينون كبار) إلى إثارة المزيد من التساؤلات حول المخطوطة وقيمتها وما تحتويه! وصار الناس وخاصة المسؤولين والمثقفين يتناقلون أخبار الوفيات الفجائية لعلمائهم بلهفة وشوق لمعرفة سر الكتاب/ المخطوطة وقيمتها الفكرية!. الخلاصة من هذه القصة هي أن الحجب والمنع والتكفير؛ دينية كانت أم سياسية، لا تمكث للأبد، وهي وسائل قد تعيق تقدم المعرفة في مرحلة من المراحل لكنها وسائل كانت عقيمة وهي اليوم أكثر عقما لأنه ثبت ويثبت اليوم عدم قدرتها على الغاء المعارف التي تختلف مع المعارف الدينية. الدين في جوهره فلسفة كبرى، لكن المشكل الكبير أننا نتحدث ونهتم كثيرا في البلاد العربية عن « المتدينين» أو عن بعض من يدّعي التدين لأغراض أخرى أغلبها سياسي، ولذلك نهمل فهم ومعرفة الفلسفة الدينية وعمق المعرفة الدينية. وأخشى أن يؤدي تدخل المتدينيون في شؤون الناس في المجتمعات المسلمة إلى ما حدث لدى بعض المجتمعات الأخرى حيث ترك الناس الدين ومزاراته وأماكنه وحولوها كما هو الحال في أكثر مدن بريطانيا إلى مشارب وأماكن لهو تقدم للناس ترفيها أفضل مما قدمته بعض الكنائس من جهل وقمع.
وبالطبع ثمة عوامل كثيرة لهذا التداخل بين التدين والدين في بلادنا العربية، ليس المجال للحديث عنها هنا. لكن ثمة أمر آخر من الضرورة الإشارة إليه في ظل التفريق الذي ذكرت بين الدين والتدين وهو ضرورة عدم تمكين الأيدلوجيات الدينية المتعسفة من تقويض قدرة الإنسان على التحرك وعلى تقديم ما في وسعه من طاقات هائلة ليست بالضرورة عن طريق الكتابة لكن بوسائل أخرى تخدم المجتمع. يوجد لدى الإنسان طاقة هائلة يمكن له ان يستخدمها تلك الطاقة الهائلة هي العقل.
عالم يتسع للجميع
v «إننا نعيش في عالم وفي ذهننا عالم» ماهو العالم الذي يحلم ان يعيشه خالد العزري؟
شكرا على سؤالك الشخصي هذا الذي يتوجب الاختصار في اجابته. أحلم بعالم يتسع للبشر جميعا أن يعيشوا فيه كبشر متساوين وقادرين على خدمة بعضهم البعض أينما كانوا وفي الزمان الذي يتواجدون فيه. وأحلم أن أعيش لأرى بلادي كما أحببت أن أراها دوما تتقدم وتتغلب على التحديات التي تواجهها، وأحلم أن أكون أحد المحظوظين الذين يمكن لهم تقديم مساهمة ما داخليا أو خارجيا وإن كانت متواضعة في هذا الزمن الذي يشهد تحولات خارقة للعادة وبصورة يومية وحيث لا مكان إلا للمعرفة.
تدعيم ركائز تقدم المجتمع
v يمثل الحوار أحد أهم آليات تطور ورقي الشعوب وتقدمها، في رأيكم ما هي أبرز معوقات الحوار، وكيف يمكن تدعيم ثقافة الحوار من أجل تأسيس حوار حقيقي يتناول كافة قضايا المجتمع التى تثير اهتمامات الأفراد؟
يتم الحوار عادة بين الأنداد، ويتم كذلك برغبة مشتركة من طرفين ويتم أيضا لأجل هدف أو أهداف واضحة وأحيانا استراتيجية تخدم المستقبل والتطور، وهي أهداف ليست دوما نبيلة وان ادعت ذلك. أقول ليست دوما، وهذا يعني أنها قد تكون من السمو والنبل بمكان إن صدقت النوايا. أظن أننا بحاجة إلى الحوار لتدعيم ركائز تقدم المجتمع، وبالطبع فإن منبع الحوار هم أفراد المجتمع الذين يرون بأن ثمة قضايا بحاجة إلى التحاور وإلى ايجاد آليات وأفعال لحل معضلات موجودة أو تحديات راهنة في قضايا ومسائل معينة مثلا: مسائل قانونية، صحية، سياسية، اقتصادية إلى غيرها من المسائل التي يعني حلها بناء لبنة في تطور المجتمع ونهضته. نعم توجد قضايا في بلادنا يرى كثير أو قليل من المواطنين من مثقـفين وغيرهم الحاجة إلى معالجتها بصورة مشتركة وشفافة وبمصداقية تطمئن الناس، وتذهب عنهم الشكوك التي يحملونها حول تلك القضايا. مثل هذه الحوارات تتم في مجتمعات كثيرة ونسمع ونقرأ عنها. لكنها كما أفهم لا تتم إلا حين تصل مطالبة المجتمعات تلك إلى مرحلة الضغط من أجل الحوار الوطني الشفاف، أي حين تكون ثمة حاجة للحوار الذي تتحدثين عنه. وبالتالي فالمجتمعات الديناميكية هي من تصنع الحوارات التي تحدث عادة حين يشعر الناس بالحاجة إلى إجراء الحوار مع سلطة ما أو مع مؤسسة ما. وباختصار فإن الحوار يحتاج إلى وجود عوامل تدفع بوجوده وفي غيابها يبدو وجود الحوار صعبا أو عقيما رغم أهميته. ينبغي أن نكون واعين لماذا نريد الحوار؟ من أجل ماذا؟ ومع من؟ وكيف يمكن أن يحدث؟
بعض التوحش ما زال موجودا
v رغم التطور الذي لحق بمسيرة المرأة العمانية واعطائها حقوقاً ما كانت تحـلم بها أي من مثيلاتها، هل تعتقد ان انتقال الوصاية الذكورية المتوارثة على المرأة له علاقة بكونها (ناقصة عقل ودين) وهل هناك ما يلوح في الأفق بتغيير ما في هذا الأمر؟
هذا سؤال في التخصص، أشكرك على طرحه، خاصة أنه يأتي من أنثى، وهو يحمل إجابته بداخله وفي هذا إشارة لمن شاء أن يفهم أن المرأة لدينا رغم ما تحقق ما زالت تشعر بأن ثمة تغييرات مطلوبة في سبيل الوصول إلى احترام قيمتها كامرأة بغض النظر عن أي شيء آخر، وإلى تقدير عقلها لأنها بالتأكيد ليست ناقصة عقل ودين، ولو كانت كذلك لما تفوقت بامتياز وفي مجالات عديدة، ولما أمكن لها أن تتبوأ المناصب القيادية ذات المسؤوليات الرفيعة ومنها المناصب السياسية والعلمية التي تحتاج إلى جهد ذهني كبير. المرأة خارج بلادنا تقود الجامعات كجامعة هارفارد وجامعة كمبريدج. أما لدينا في عمان وفي الخليج فإن نتائج الطالبات العمانيات والخليجيات خلال العشر أو الخمس عشرة سنة الماضية تدلل على صحة ما أذهب إليه. وهي تدلل أن المرأة – رغم الصعاب- تسير في الطريق الصحيح وإن كان سيرها كما يبدو لبعض الناس بطيئا.
لكن وضع المرأة ومكانتها برمته فيه من المشاكل الكثير ومشكل فكرة «نقص العقل والدين» ليسا الا مكونين من مكوناته. بهذا المعنى فإن الإشكالية الموجودة لدينا هي اشكالية مجتمع وليست المرأة سوى أحد تجليات هذه الإشكالية. هي كذلك في الواقع اشكالية ثقافة متوارثة لم يعد بعض معالمها يصلح لهذا العصر، وهنا يأتي موضوع تجديد الفكر وإعادة هيكلة البنية الإجتماعية والسياسية لبلداننا وبالتالي ضرورة وحتمية تجديد الفكر القديم القائم على أفكار كالتي تفضلت بطرحها حول المرأة وحول الشراكة الإجتماعية بين الجنسين، بل كذلك حول الأسرة وتوزيع الأدوار فيها. يأتي هنا موضوع المساواة كأمر ملح للغاية، والمساواة لا تعني الحقوق فقط ولا تعني الكلام عنها فقط، بل تتحقق المساواة بتحقق التغيير الجوهري في البنية المشكلة للأفكار. أي أنه بقدر أهمية وجود بنية قانونية تلغي التمييز بين الجنسين، إلا أن المرحلة المقبلة تفرض البدء بنقد الأنساق الثقافية والبنيات المشكلة للتمييز على صعيد الثقافة الماضية وعلى صعيد العقل الحاضر وعلى صعيد الممارسة اليومية.
على المرأة أن تفهم بداية بأن وجود اكليشيهات أو أفكار أو أفعال تمييزية، كالتي تفضلت بطرحها هي مسألة غير مقتصرة على بلادنا أو على المسلمين فقط، بل هي مسألة تاريخية وعالمية. وهذا يعني أن ثمة دوما فكرة أن المرأة أقل ودون؛ لأن الرجل (سابقا) ظلّ لفترة طويلة غير قادر على التعامل مع الأشياء بالعقل والمنطق وحدهما، بل كان يرى أن حلّ معظم المصاعب يتم بالعضلات، أو بالقوة. وكان ذلك في عصر التوحش (وبعض التوحش ما زال موجودا). وبالطبع فالمرأة أقل ودون مستوى عضلات الرجل وقوته البدنية، ولذلك حاول تسخيرها لمصلحته كما سخر أشياء أخرى في الوجود لمصلحته فأعطاها من الأوصاف والنعوت ما رآه مناسبا لشخص أقل منه وغير قادر على منافسته بدنيا، ولذلك حبسها فكرا وعقلا وجسدا، وصار وصيا عليها وبمرور الزمن أصبحت فكرة القبول أنها «ناقصة « وأن «طبيعتها الفطرية» لا تعادل طبيعة الرجل الفطرية من المسائل المقبولة عرفا والممارسة بصورة عادية وهي للأسف مقبولة من قبل بعض النساء. وهكذا فتمّ اختصار المرأة كما كل شيء آخر وقياس قدراته بمستوى قواه العضلية / البدنية وحدها. وهذا امتحان تسقط فيه المرأة! لكننا لا نعيش اليوم في زمن التوحش والبداوة بحسب تعبيرات العالم العربي الكبير ابن خلدون، بل القوة هي قوة المعرفة، وقوة العقل وقوة القدرة على التعاطي مع العالم وفق معطيات جديدة وقوة القدرة على الاقناع وقوة تقديم الأفكار الخلاّقة، وقد أثبتت المرأة الجديدة بتعبير قاسم أمين (قدم كتابه المرأة الجديدة قبل مائة عام تقريبا) وتثبت أنها عاقلة وقادرة على الإسهام في كافة المجالات دونما دونية عن المستوى الذي يقدمه الرجل الجديد.
لكن هذا لا يعني أن الإشكال قد انتهى وأن النظرة البدائية حول المرأة قد تغيرت تماما. كلا فنحن نتحدث عن قرون طوال من تراكم تلك النظرة إلى الدرجة التي تم فيها ابتكار وصناعة تفاسير وتآويل وعادات وأحكام وقوانين تمييزية رسخت في بنية المجتمعات ؛ أي في هيكل تكوينها ونسيجه الاجتماعي والثقافي، إلى درجة أن تغييرها صار معقدا وصعبا للغاية. من تلك الأفكار فكرة أن المرأة عورة أو أنها نجسة في بعض الأيام أو كما تراها بعض الديانات هي نجسة دوما. على المرأة والرجل الذي يساندها أن يعيا هذه الحقائق التاريخية، وبوعيها يمكن البدء بحلحلة المسائل الاجتماعية الأخرى العالقة. أي أننا في بلدان الخليج كما هو الحال في بلدان شرقية أخرى بحاجة إلى فهم العوائق التاريخية والثقافية وليست القانونية والسياسية وحدها لتغيير وضع المرأة. وكما يأتي التغيير لدينا الآن من أعلى الهرم السياسي وبإرادة سلطان البلاد، فإن فهم ما أشرت إليه سابقا سيدفع بالضرورة إلى تغيير من الداخل، أي من المجتمع ذاته.
المشكلة الأخرى المرتبطة بهذا الموضوع هي أنه في الوقت الذي تخلصت فيه بعض المجتمعات من قوانين القبيلة القديمة القائمة على الصراع من أجل الكلأ (العيش) والماء، فإن مجتمعات أخرى لم تخرج كثيرا من منطق وفكر القبيلة القديمة. لقد خرجت بعض المجتمعات من قبليتها شكليا، لكنها في العمق وفي الداخل هي تتحرك بفكر وعقل وثقافة القبيلة، وما دام الأمر كذلك فستظل المرأة ووضع المجتمع يراوح مكانه يتقدم مرة ويتأخر مرة ثانية بحسب الطلب السياسي والاقتصادي، إلى أن يتم حسم مسألة القوة التي بدأت تاريخيا وكانت في صالح الرجل أو القوة العضلية. أي الى أن يتم التعامل مع موضوع المرأة باعتباره أكبر من طلب وقتي يلح علينا الآن إلى اعتباره مسألة مصير وطن وقضية وطن ينشد المساواة والتقدم.
هذا يعني أن ما نشاهده اليوم من صراع أفكار حول المرأة وعنها هو صراع قوة وسلطة. لقد بدأ هذا الاحتكاك حين بدأت المرأة منافسة الرجل ومشاركته في السلطة التي كانت له وحده، ولا أقصد هنا السلطة السياسية وحدها فقط، بل كذلك في الجوهر هي سلطة تقرير مصير. المرأة اليوم رئيسة مستشفى ورئيسة جامعة ورئيسة دولة وهكذا وهذه وغيرها من المناصب كانت وإلى وقت قريب مسؤولية لا يتولاها ولا يتشرف بالحصول عليها سوى الذكور الذين حبسوا المرأة في البيت وقالوا لها أنك لا تصلحين لهذه الأعمال وتلك. لكنها ما ان خرجت حتى بدأت المعركة بين الطرفين وهي مشتعلة من يومها. علينا أن نتذكر مثلا حين ذهب رجال أوروبا إلى الحرب العالمية الثانية، اضطرت دولهم إلى اخراج النساء من بيوتهن للعمل، وحين عادوا قالوا لهن عليكن العودة إلى المنازل من جديد، فرفضنّ وكان رفضهن بداية للإحتكاك المعاصر الذي فوّر قضية المرأة وحقوقها والإشكاليات الاجتماعية والفكرية الأخرى التي لم تنته إلى الآن رغم ما تحقق على صعيد الحقوق والحريات الممنوحة للمرأة في مجتمعات كثيرة من بينها السلطنة.
وللإجابة على الشق الآخر من سؤالك حول المستقبل والتغيير في وضع المرأة وفي النظر اليها في مجتمعنا، فإنني أقول نعم الأمور تتحول إلى الأفضل، لكن أكبر مشكلة قد نواجهها في المستقبل وبالتحديد فسوف تواجهها المرأة وأنصارها، قد تكمن في القدرة على استمرارية المكتسبات التي تحققت وعلى ضرورة البناء عليها. وهذا لا يتحقق الا بوجـود عاملين متـرابطين جدا: الأول شخصي – نسوي، والثاني موضوعي- اجتماعي. فالشخصي يكمن في وصول المرأة إلى قناعة داخلية بقوتها وامكانياتها وقدرتها على تحقيق الذات، وعلى الثقة في النفس وعلى القدرة على اتخاذ القرارات التي تهمها هي ومن بينها القرارات المتعلقة بالأحوال الشخصية من طلاق وزواج وغيرها. أي من كونها لا تقل أهمية وقوة وقدرة عن أخيها وزوجها، وبالتالي فعليها رفض ما يجعلها في مستوى أقل من أفكار وأقوال وأعمال. والثاني يكمن في وقوف الرجل بقناعة إلى جوار المرأة. الوقوف يعني قبوله لها مكمّلا وشريكا ومنافسا وصاحب رأي مستقل، على قدم المساواة ومن دون أفكار متخلفة زمنيا ولا تنتمي لهذا العصر. أي عصر الدول ذات الطابع المؤسسي المتحضر الذي نطمح إليه. على الرجل ان يقف مع المرأة لا من باب الشفقة، أو تبعا لما هو سائد من دعاية، بل من باب أن مصلحته هو لا تكتمل بالأساس إلا بوجود المرأة قوية وواعية وشريكة ومساوية له عقلا وفكرا وقدرة على تحمل مصاعب الحياة. ذلك أن أزواج المستقبل وربما بعض أزواج الحاضر لن يقبلوا بنساء متخلفات في الزمن أو في القدرة على تحمل مصاعب الحياة وانهاء المعاملات اليومية التي يقوم بها الرجل بدءا من دفع فاتورة الماء والكهرباء.
ليس كل عادة سيئة
v هل الأفكار والعادات تقف ضد كل تقدم اجتماعي،وهل انت مع قول روسو (خير عادة ان لا يكون للمرء عادة) ؟
لم أتعرف على قول روسو الذي ذكرت، لكني أفهم أنه لا يمكن التعميم. ليس كل عادة سيئة، كما أنه لا توجد مجتمعات بدون أفكار وعادات سيئة. نحن نعرف الجيد من العادات والأفكار من خلال تعاملنا مع السيء منها. بهذا المعنى لا توجد عادات رائعة على الدوام ولا توجد عادات بذيئة مستمرة. العادات والأفكار هي مسائل نسبية يصنعها الأفراد والمجتمعات، ضمن حراك اجتماعي تاريخي، ولذلك فهي متغيرة على الدوام. بعض ما نراه اليوم عادات حسنة قد لا تكون كذلك في زمن سابق، والعكس صحيح. وهكذا فما نراه من عادات سيئة وما نسمعه من أفكار غير مقبولة لإنسان القرن الحادي والعشرين هي تعبير عن مدى تقدم أو تأخر الشخص وأحيانا هي تعبير عن مدى قدرة المجتمع على مواكبة الزمن الذي هو فيه، وهذا ما قد يولد الصراع ومن بينه صراع الأفكار.
شاعرة من عُمان