قبل أن تعتب قدمي عتبة الباب الكبير، يدركني صوتها وتظهر في الحوش من قلب غمامة الغبار المتصاعد من حركة مكنستها السعفية، تهتف محذرة كالعادة.. (إياك أن تلعب عند خرابة خدوج)..! طمأنتها وفي سري شيء آخر !
أهدتني نظراتها الحنونة متدفقة من عينين مبتسمتين وقالت: (حبيبي حمّود تعال.. هاك خذ). تركت في كفي مائة فلس وعلى خدي قبلة. لكثرة ما حذرتني من بيت خدوج، أصبحت مهتماً باكتشافه، ومعرفة سره، فتوجهت إلى هناك عامداً، أصلاً كل أطفال الحي يعرفون المكان.
تجاهلت تحذيرات أمي المتكررة، وانطلقت مهرولاً كبلبل رشيق الجناحين، يطير في هذه الأزقة الترابية بفرح، أريد أن أراها.. هل هي مجنونة كما يقولون؟ وهنا وجدت ثلة من الصبية تلعب قرب البيت الخرب، كرتهم البرتقالية اللون قفزت في الهواء عالياً من ركلة سريعة، عبّود صديقي صاحب الظل الطويل هو السبب.
توقفوا عن اللعب، أجمعوا أمرهم.. (يا عبّود، اجلب الكرة). ولا أحد منهم يريد المغامرة والدخول، عبّود ترجاني كثيرا ووعدني بخمس من كراته الزجاجية الملونة حينما ألحّوا عليه، وإلاّ فعليه أن يغرم ثمن الكرة !
لا أحد ييد أن يفعلها، هذه الخرابة حوّلتها الأمهات إلى بيت أشباح ترتعب من ذكره الأطفال، أما أنا فقد قررت، والآن هذه هي فرصتي، سأراها الآن. خطوة.. خطوة، خطوتين، ثم توقفت وهم خلفي صامتون وأنا قلبي يتدفق إليه الخوف، تحضرني تحذيراتها الحنونة: (خدّوج مجنونة.. تأكل الأطفال) !!
أكيد أمي تبالغ في كلامها، سوف أتأكد، يجب أن أفعل. لحظة خاطفة وآخذ الكرة من وراء هذا السور الطيني، الأمر عادي جداً، هؤلاء الصبية جبناء، أما أنا فسأكتشف اليوم سرّ خدوج، باب خرابتها حيث تسكن، نصفه مكسور، خرجت من ورائه فجأة قطة سوداء، صاح أحد الصبية مرتعباً: (حمّود، حمّود، لا تدخل.. البيت مسكون بالجنّ، سنشتري كرة جديدة).
لكني دخلت المكان، أبحلق خائفاً وأخطو بحذر وإصرار ثم.. على حين غرّة وطأت لوحاً خشبياً به مسمار ناتىء، اخترق الفردة اليمين ونهش قدمي بشراسة. صرخت متألماً، نزعت قدمي من المكان، تلوثت النعال البلاسيكية ببقع دمي وعادت إليّ أصواتهم تكرر تحذيري، لم آبه لهم وواصلت التقدم وأنا أعرج.
ها أمامي سلّم حجري وغرفتان، الغرفة الثانية على اليسار تقبع عند بابها الكرة، حملتها فسمعت همهمة غامضة جعلت شع رأسي يقف، وفكرت في الهرب من شدة الخوف. لكني ثبت في مكاني، بحلقت في الغرفة المظلمة وثمة كوة في السقف، يتسرب منها ضوء النهار مختلطاّ بالهمهمات المخيفة والرائحة العفنة للمكان.
اقتربت أكثر من كوة الضوء ثم ظهرت فجأة… خدوج المجنونة، نعم هكذا وصفوها، قامتها طويلة ولها عينان عسليتان، بشرة بيضاء كالسكر، وشعر.. شعرها طويل ومخيف. كانت مستلقية وثيابها المهلهلة غارقة بالدماء والسوائل ! وهي.. وهي تحمل بين ذراعيها طفل يضجّ بصراخه، أنا أمامها الآن ولم تكن تراني ! وجهها في مساحة الضوء بدا مصفراً وغارقاً في عرقه، انفجر رعبي وهرولت مسرعاً وأنا أصرخ.. (خدوج تأكل الأطفال) !!